وحين دق الجرس نهض الملاكم من مقعده بسرعة. لم يكن يرتسم على وجهه المظهر البغيض الواضح على وجه خصمه، لكنه كان يعلم جيدا بحكم خبرته أن الضربات التي تلقاها على جسده قد أثرت على وعيه وقدرته على التحمل، وأن تشيكن على الرغم من مظهره المروع بفعل تورم شفتيه وخديه وعينيه شبه المغلقتين كان في حالة أفضل لاستكمال القتال من حالته هو نفسه.
تقدم تشيكن نحو العلامة بسرعة أقل من غريمه الضخم، لكن سواء أكان هذا بسبب الوهن أم عدم وضوح الرؤية لديه، فقد بدا متذبذبا في حركاته، فانقبضت قلوب مشجعيه حين رأوه يترنح إلى مكانه بدلا من أن يسير إليه في اعتدال.
وقبل أن يستفيق ذهن تشيكن ويدرك الموقف إدراكا تاما، اندفع الملاكم إلى الأمام وسدد إليه ضربة على صدغه كافية لأن تذهب بوعي رجل في حال أفضل من حال تشيكن. سقط الرجل من يوكشير في مكانه وكأنه قطعة من الخشب بلا حراك. ثم علم الملاكم درسا دب الرعب في نفسه. واكتسا الوجه الأرجواني للرجل الذي سقط على الأرض بالشحوب الشديد. لقد توقع الملاكم أن يدافع تشيكن عن نفسه، كما أن الضربة الفظيعة كانت أشد مما كان يريد. تهامس الجمهور فيما بينهم: «لقد قتله»، وسرعان ما تفرق الحشد الصامت في هدوء. في هذا الموقف، كان كل شخص مسئولا عن نفسه قبل أن تأتي السلطات وتتدخل في الأمر.
وقف الملاكم يترنح يمنة ويسرة وكانت نظراته مثبتة على الرجل المتمدد. رأى نفسه متهما بجريمة قتل وينتظر الإعدام نظير ذلك، فأقسم أنه لن يدخل الحلبة مرة أخرى إذا ما تعافى تشيكن من هذا. كانت تلك هي إحدى مراحل الملاكمة التكسبية التي لم تكن لديه أي خبرة بها على الإطلاق. صحيح أنه أردى بعض خصومه بالضربة القاضية في مواقف عدة، وقد أردي هو نفسه بالضربة القاضية مرة أو مرتين، لكن تشيكن كان يقاتل ببسالة حتى الجولة الأخيرة لدرجة جعلت الملاكم يضع في ضربته قوة أكبر من التي كان يعتزم أن يسددها إليه، والآن أصبحت حياة الرجل معلقة بخيط واه في وضع خطر.
حمل الملاكم الفاقد الوعي إلى غرفة مجاورة. كان هناك طبيبان يعتنيان به، كانت تقاريرهما متشائمة كثيرا في البداية، لكن مع بزوغ فجر اليوم التالي علم الملاكم أن احتمالات النجاة كانت في صالح خصمه، فشعر بالارتياح.
وقد استحث البعض الملاكم على الهروب، لكنه كان رجلا عاقلا وحصيفا للغاية، وكان يفهم تماما عدم جدوى هروبه. كان وجهه وهيئته مشهورين كثيرا في كل أرجاء البلاد. وربما كان من المستحيل له أن يتمكن من الهرب، حتى لو حاول ذلك.
عندما استفاق يوركشير تشيكن، سخر أصدقاء الملاكم من قراره بالتوقف عن القتال، لكنهم لم يستطيعوا أن يزعزعوا عزيمته. كان المال الذي ربحه في قتاله الأخير بالإضافة إلى المال الذي جمعه من قبل - ذلك أنه كان مقتصدا - كافيا ليعول به نفسه لبقية حياته، وقد قرر أن يعود إلى بلدة بوردر حيث مسقط رأسه، والتي لا شك أن سمعته قد سبقته إليها.
وضع الملاكم المال في حزام حول خصره، وأمسك بعصا قوية في يده وغادر لندن متوجها نحو الشمال. كان الملاكم شابا فتيا، ولم يسمح لنفسه بأن ينغمس في الملذات، كما فعل الكثير من الملاكمين المرتزقة من قبله وكما سيفعلون مجددا. كان الملاكم يكره أن يكون محصورا في كرسي ضيق لعربة تجرها الخيول. وكان يحب هواء المرتفعات العليل وهدوء الوديان وسكونها.
كان ذلك في أيام قطاع الطرق، ولم يكن السفر بالعربة التي تجرها الخيول آمنا إلى حد كبير. ولم يكن الملاكم يخشى أحدا على وجه الأرض إذا واجهه في العراء وفي يده عصا أو معه أسلحة الطبيعة، لكنه كان يخشى فوهة المسدس حين تكون موجهة إلى رأسه في الظلام ويمسك بها رجل مقنع. ولذا فقد شد حزاما إلى خصره يحوي كل ما يملك من ذهب، وحمل معه اسمه الذي كاد ينساه - وكان اسمه آيبل ترينشن - ثم وجه ظهره إلى الشمس ووجهه إلى رياح الشمال، ثم سافر سيرا على الأقدام على طول الطريق الملكي السريع. وكان يتوقف أثناء الليل في الحانات الموجودة على جانب الطريق ويتخذ منها مأوى له قبل أن تغرب الشمس ثم يغادر في وضح النهار في صباح اليوم التالي. وكان يجادل بشأن حسابه في الحانة وكأنه رجل لا يملك الكثير من المال، ولم يشك أحد أن ذلك المسافر القوي يحمل ثروة حول جسده.
وبينما كان وجهه متجها ناحية الشمال راح يفكر في بلدة بوردر التي قضى فيها طفولته. كان والداه قد توفيا، وكان يشك الآن في أن أحدا يتذكره هناك أو أن أحدا سيكون بانتظاره للترحيب به. ومع ذلك، لم تكن هناك على وجه الأرض بقعة أحب إليه من تلك البلدة، وكان يعتزم دوما أن يعود إلى تلك البلدة الصغيرة الهادئة حين يستقر به الحال ويتزوج.
Unknown page