الفصل الرابع
النكسة
1
كانت أغاني أم كلثوم الجديدة بمثابة دقات الساعة التي نحصي عليها السنوات، وفي يناير 1967، ونحن ما نزال نرشف من جمال ألحان عبد الوهاب في أغنيته الأخيرة لأم كلثوم («أمل حياتي») طلع علينا بليغ حمدي بتحفة لا مثيل لها وهي «فات الميعاد». وشغلنا في الغربة بالطرب الحزين، وبدأ العرب من حولي يرددون: «ياما كنت أتمنى أقابلك بابتسامة» و«عايزنا نرجع زي زمان/قل للزمان ارجع يا زمان!» وذات صباح بارد كنت في طريقي إلى العمل حين لمحت حشدا من العرب أمام مبنى الإذاعة القريب، فدفعني الفضول إلى التساؤل عما حدث، فلم أجد من الواقفين إلا إجابات مقتضبة مفادها أن أحد الزملاء واسمه «قيس» قد توفي، وأنهم سيتجهون للمشاركة في جنازته؛ فليس له أهل ولا أصحاب سواهم. ومن كان قيس؟
كان قيس الفلسطيني مذيعا نابها «وقع» في حب فتاة إنجليزية وتزوجها، وبدا للجميع أنه يعيش في سعادة غامرة، ولكن الفتاة لم تلبث أن قلبت له ظهر المجن، ويبدو أنها كانت على علاقة مع شخص آخر فطلبت منه الطلاق فرفض، ولم يكن القانون الإنجليزي يسمح بالطلاق آنذاك إلا في حالة من ثلاث حالات هي ثبوت الخيانة الزوجية (adultery)
أو الهجر (desertion) (لمدة عامين) أو القسوة النفسية (mental cruelty)
وكانت أيسر هذه الحالات عمليا هي الحالة الأولى إذ يذهب أحد الزوجين إلى فندق مع شخص آخر (
co-respondent ) ويسجلان اسميهما في دفتر النزلاء، مما يعتبر دليلا على وقوع الخيانة، وجريمة الزنا في ذاتها لا عقاب عليها، ولكن توابعها المالية باهظة، فالطلاق معناه اقتسام كل أملاك الزوج من عقارات ومنقولات وأموال سائلة بين المطلقين، إلى جانب تحمل مصاريف التقاضي وهي تبلغ آلافا مؤلفة. وقد تغير ذلك القانون عام 1969م فأصبح يسمح بالطلاق أو قانونا بإلغاء الزواج (
decree nisi ) في حالة انهياره دون أمل في الإصلاح (
irreparable breakdown of marriage ) ولكن القانون القديم كان ما يزال ساريا آنذاك، وامرأة قيس تريد التحرر، وهو يعارض، وذات صباح دهمته بسيارتها فأردته قتيلا.
Unknown page