كان عبده قد انقطع عن الاتصال بي فترة طويلة، ولم أكن أتابع أخباره بعد أن ترجمت له ما جاء في خطاب كاثلين الأخير، وكانت حياتي حافلة بمشاغل الدراسة والعمل، فلم أشغل نفسي كثيرا بهذه المسألة؛ ولذلك فضلت الصمت. وبعد أن توغلنا في الحديقة ونحن نعلق تعليقات مقتضبة أو مسهبة على الزهور، جلسنا جميعا على مقعد خشبي، وبدأت كاثلين حديثا طويلا سجلت أهم نقاطه فيما بعد في مفكرتي، وسوف أوجزه هنا، قالت كاثلين: «صارحني عبده بأنه كانت له خطيبة في مصر وأنها سوف تحضر هنا بعد أن تزوجها بالتوكيل، وشرح لي موقف أهله من الموضوع، وتفهمت الموقف تماما، وقررت أن الإنصاف يقتضي أن أتركه، وإن كان ذلك يحز في نفسي، وقطعت على نفسي عهدا بألا أراه بعد اليوم، وبأن نزورك معا قبل الافتراق؛ فهو يعتبرك أخلص أصدقائه، وسوف أرحل إلى الجنوب حيث أعمل مع والدي، ولكنني لن أعطيكما العنوان أو التليفون، حتى نغلق الكتاب تماما.»
وأدركت أن هناك أشياء لا أعرفها، وكان حدسي يقول لي إن عبده قد كذب من جديد حين زعم أن له خطيبة وأنه تزوجها بالتوكيل، ولكنني قلت في نفسي: «لعل أهله قد زوجوه في غيبته فعلا.» ولذلك لم أعلق، وسألتها إن كانت حصلت على الدكتوراه أم لا، فقالت في غير اكتراث «الدكتوراه ليست عاجلة وأستطيع إكمالها فيما بعد.» واعترضت على ذلك فقالت بلهجة جادة «ربما لم أخلق للبحث العلمي. والأفضل لي أن أعمل!» وذكرت المشهد الأخير من مسرحية الخال فانيا لتشيخوف، حيث يعزي فانيا نفسه بالعمل، وتحلم سونيا بالسعادة في العالم الآخر، وتألمت. وكان أشد ما آلمني هو نبرة الهدوء والثقة التي كانت تتحدث بها كاثلين عما تنتوي فعله، ولم أكد أصدق أن هذه هي الفتاة التي كتبت تلك الخطابات الملتهبة. ترى هل نقلت بعض الفقرات من روايات أخرى لم أقرأها؟ وكنت أسترق النظر إلى وجه عبده أثناء حواري مع الفتاة فأجده جامدا لا يفصح عن أي انفعال، ولم أشأ أن أحادثه خشية أن يقول ما لا يريد، وبعد نحو ساعتين نهضنا وعدنا أدراجنا فاقترحت عليهما أن يتناولا الغداء معي ولكن كاثلين قالت إنها لا بد أن تدرك القطار (وإنها تركت حقيبتها في المخزن الخاص بالمحطة) مما زادني دهشة، فعرضت الذهاب معهما، ولكنها قالت إنها تفضل أن تذهب وحدها، تاركة «عبده» في صحبتي! ودون دموع أو انفعال صافحتنا ودارت ومضت. وتسمرت في مكاني ذاهلا كأنني أشهد مشهدا في رواية خيالية!
5
رحلت كاثلين، وسرنا بخطوات ثقيلة نحو المطعم، وبعد أن طلبنا الطعام وجدت أن تطلعي إلى معرفة ما حدث يكاد يذهب بشهيتي، فقلت له بطريقتنا المصرية المباشرة: «ماذا حدث؟» وأجاب وهو يتطلع إلى النادلة وهي تحضر الأطباق: «سأحكي لك كل شيء فيما بعد!» ولكنني ألححت، وتصورت أن مشاعره الجياشة سوف تغلبه فيبكي أو أن اللحظة غير مناسبة؛ فهو يصر على الصمت وقد خلا وجهه من أي تعبير. كان وجهه مصريا أسمر، به قدر لا بأس به من الوسامة، وقد زاده النحول جاذبية، وكان بيده منديل ما يفتأ يمسح به عينيه قبل إحكام وضع النظارة الطبية. ورسم لي خيالي أنه يمسح الدموع لا حبات العرق، فقررت إرجاء الحديث إلى وقت لاحق.
وعندما صعدنا إلى الغرفة قمت بإعداد الشاي، وفضلت أن أتيح له مزية المبادأة، لكن صمته طال فلجأت إلى الحيلة وقلت له: «لماذا لا تستأجر غرفة كبيرة هنا تقيم فيها مع العروس؟» وضحك فتفاءلت؛ ومن ثم بدأ يحكي في إسهاب تفاصيل محاولة هروبه منها (أي كاثلين) وكيف عثرت على مسكنه الجديد بعد يوم أو يومين، وكيف قبلت في الظاهر جميع الذرائع الواهية التي قدمها تبريرا لمسلكه، ثم أصبحت تقضي سحابة نهارها معه حتى أنسته العمل ولم يعد يذهب إلى الكلية، وكانت - كما يقول - «لا تشبع من حبه» وترسل إليه خطابات تقول له إنه «شمس الفراعنة وسر الحياة»، بل أتته من القسم المصري بالمتحف البريطاني بمطبوعات عن اللغة المصرية القديمة وفك رموزها، وبصورة كبيرة لحجر رشيد، ثم قالت له إنها تريد أن تتعلم العربية حتى تستطيع التفاهم مع أهله، وبعد نحو ثلاثة أسابيع قالت له إننا علماء وعشاق، وإذا كان العلم لا وطن له، فالعشق لا وطن له أيضا، وفي تلك الليلة «المنشودة» قالت له: «أعرف أن لديك سرا يمنعك من مبادلتي عاطفتي القوية.» وأكدت له أنه مهما يكن من أمر هذا السر فهي على استعداد لمواجهته «حتى لو كنت متزوجا!». وقال عبده: «داهمني الخوف منها، مثلما داهمني الخوف على مستقبلي، ولمحت طوق النجاة، وكنت كالغريق الذي يتعلق بقشة، فكررت ما قالته «حتى لو كنت متزوجا؟» وقالت: «أنت متزوج ولا شك.» ثم عانقتني وقبلتني والدموع في عينيها قائلة: «هذا هو العذر الوحيد الذي يمنعك من الانطلاق، ولطالما أحسست به في نظراتك الزائغة وترددك، فلا تخش شيئا وصارحني».» وقدمت لعبده كوبا آخر من الشاي فرشفه على مهل، وبدا عليه الانفعال لأول مرة، ثم أردف يقول إنها أخبرته أنها كانت دائما تحس أنه لم يكن «خالصا» لها، وأنها كانت تغافل نفسها وتخدع عقلها أملا في الاستيلاء عليه، وكانت تتصور أن الأيام التي قضتها معه أخيرا سوف تحقق غايتها، ولكن ذلك كان وهما؛ ومن ثم رحلت واتفقت معه على اللقاء بعد أسبوع.
وعاد «عبده» بعد ذلك إلى الكلية، وقابل الأستاذ المشرف، واتفق معه على بعض الخطوات الخاصة بالبحث، وقال إن المشرف أحس باضطرابه فطلب منه أن يمنح نفسه عطلة رسمية؛ فالفصل الدراسي كان قد انتهى يوم الجمعة 22 يوليو، ومن حق كل طالب أن «يعيش»، وسأله «عبده» ماذا عساه يفعل فقال له: «اذهب إلى حي البحيرات في الشمال، وتعلم الاستمتاع بالطبيعة.» وطمأنه على الدكتوراه قائلا إنه سوف يسمح له بكتابة الرسالة في أكتوبر؛ فالنتائج التي حققها في المختبر تكفي، وضحك قائلا: «نحن لا نتوقع منك بحثا يأتي بجائزة نوبل!»
وقال عبده إن كاثلين لم تبتعد عنه أسبوعا كما قالت، بل زارته في اليوم التالي وقالت له إنها عرفت أن المسلم من حقه الزواج بأكثر من زوجة، وأنه ربما كان يفكر في اتخاذها زوجة ثانية، ولكنها لن تقبل ذلك، ولن تقبل أن تكون في المرتبة الثانية (وقد كتب عبده التعبير الذي استعملته حتى يريني إياه وهو
second fiddle
قائلا إنه يظن أنها استخدمت فعل
to play
Unknown page