وسألته إن كان والده قد أعطاه ملكية الدكان، فأجاب بالنفي، فسألته عن الشقة فقال إن كل شيء مكتوب باسم زوجة أبيه، وأنه لم يرث إلا بعض المال السائل، وهو يستطيع أن يبدأ به عملا في مكان ما. وعندما قررت أن أذهب إلى المرأة وأتبين حقيقة الأمر، وما إن شاهدتني حتى صاحت «أهو الدكتور شاهد!» ولم أفهم ماذا تعني إلا عندما أجلت بصري في الشقة فوجدت أشخاصا لا أعرفهم، ويبدو أنهم من أهلها، وأنها كانت تقص عليهم قصة ما، ولم تتوقف المرأة عن قصتها: «الولد ده مجنون! وإن ما كانش حيطلق بنتي بالسياسة حطلقها بالمحكمة! وأنا عملت له محضر تعدي في القسم! وعنده سكاكين وبلط عايز يقتلنا بيها .. إحنا الولايا اللي مالناش حد!» ثم انفجرت باكية وأمها تهدئ من روعها، وكانت أمها سيدة طاعنة في السن وما تزال بها مسحة من جمال الصبا، وتضع كثيرا من المساحيق والأصباغ! وقال أحد الموجودين: «قول له يا دكتور محمد يطلق وما يضيعش مستقبل البنت .. وهي حتبريه وتأجر له الدكان!» [تبريه: تبرئه من حقوق الزوجة المالية].
وجلست أستمع إلى قصص متناقضة؛ بعضها ينسب الوحشية ليونس الوديع، وبعضها ينسب الجنون لوالده المتوفى، وقدمت لنا إحدى الموجودات عصير ليمون، وأنا أخالس يونس النظر فأراه شاردا لا يقوى على النطق، وفجأة انشقت الأرض عن مأذون مثل الذي نراهم في السينما، ويبدو أنه كان قد انتهى من جميع الإجراءات ولم يبق إلا توقيع يونس على عقد الطلاق البائن، وعلى عقد إيجار المحل، كما قدم له المأذون ورقة تبرئة من الالتزامات، وبمجرد الانتهاء من ذلك، والذي لم يستغرق دقائق، انطلقت الزغاريد من غرفة مجاورة وانصرفنا.
واستأجر يونس شقة في شارع محمد شكري (الذي كان ماهر البطوطي يقيم فيه) فكنت أزوره أحيانا، فأرى السكاكين والهراوات معلقة على الحائط انتظارا ليوم الانتقام، ثم ما لبث جسده أن نحل وذوى، وغارت عيناه، ولكن الحظ ابتسم له فتخرج في قسم التاريخ، وعين في نفس العام (نوفمبر 1964م) مدرسا للغة الإنجليزية بإحدى قرى محافظة الجيزة، بالقرب من الصف، وكنت أراه لماما في الشهور الستة التالية قبل رحيلي إلى إنجلترا، والواقع أن وظيفة مدرس اللغة الإنجليزية، على معرفته الهزيلة بتلك اللغة، أكسبته رونقا وطلاوة، فكان حين يزور الحي (بعد أن تخلى عن دكان الألبان) يحادثني تليفونيا بالإنجليزية المصرية، وعندما أقابله لا يقول لي
glad to see you
أو حتى
How are your ؟ ولكن يقول لي
happy occasion (أي مناسبة سعيدة) وهذا تعبير لا يستعمل في اللغة الإنجليزية أبدا. وعندما عدت من إنجلترا عام 1975م كان الدكان قد اختفى، ولم أسمع عنه ولا عن أصحاب العمارة أي أخبار، على إلحاحي في السؤال والتقصي.
11
كانت الحياة من حولنا آنذاك مسرحا كبيرا، وكانت عيني تلتقط المشاهد وأذني تلتقط الأصوات، وكانت تعليقات سمير سرحان نفاذة لاذعة؛ إذ كان يتمتع بحس السخرية وروح الفكاهة الكفيلة بتحويل أي مشهد وأي مسمع إلى قطعة فنية. وكثيرا ما كان يستطيع بإضافة عبارة واحدة أن يحيل الحادثة الحقيقية إلى حادثة فنية! وذات يوم كنا عائدين من المسرح في وقت متأخر، وكنت أنتوي قضاء الليل في شقة الروضة للعمل في ترجمة «روميو وجوليت»، فقررنا استيقاف تاكسي لتوصيله أولا إلى الجيزة ثم الذهاب بعدها إلى الروضة. وعندما وقف التاكسي وهممنا بالركوب أضاء السائق نور السيارة الداخلي وتطلع في وجهينا مليا مما أثار دهشتنا، ولكنه أطفأ النور وقال: «لا مؤاخذة يا أفندية .. أصل امبارح ركب معاي جدعين وقالوا لي أوصلهم لمدينة المهندسين .. حتة مقطوعة بعيد عنكم ورا نادي الصيد! وأول ما وقفت مسكوني وسكعوني علقة وخدوا الفلوس كلها - فوق سبعة جنيه ونص!» وسألناه عن أوصافهما فانطلق يتحدث عن حياته وأحواله حتى وصلنا إلى الجيزة، وهناك قررت مغادرة التاكسي مع سمير وعبور كوبري عباس سيرا على الأقدام، فطلبنا منه الوقوف في آخر شارع الجامعة، وكان مهجورا تماما في تلك الساعة، ودفعنا له الأجرة (نحو 17 قرشا مع قرش للبقشيش) ثم انصرف. وهنا قال لي سمير، في نبرة ساخرة كأنما يضع اللمسة الأخيرة للقصة، «وهنا أعلن الراكبان عن اعتزامهما سلب نقود السائق، فصاح قائلا اتفضلوا اتفضلوا .. بس بلاش ضرب، وانطلق لائذا بالفرار!»
كانت فكرة تكرار السرقة، رغم احتياط السائق بإضاءة النور والتطلع إلى وجوه الركاب، قادرة على أن تحيل الحادثة «الإجرامية» إلى حادثة إنسانية؛ إذ يتحول عندها سائق التاكسي إلى «بطل» للقصة؛ فهو إنسان يجد ويجتهد في جمع النقود، وحياته لوحة كاملة الأبعاد لا تحتاج إلى المزيد من الرتوش، وبعد تكرار الحادثة تتحول حياته إلى «احتمالات» لا تتوقف؛ إذ يتحول هو أولا إلى إنسان يستريب بكل راكب، وتتحول رحلة التاكسي كل يوم إلى رحلة في عالم الخطر، وتصبح روايته لقصة الضرب وسلب النقود مونولوجا دراميا ينتهي نهاية مفجعة.
Unknown page