Usus Thaqafiyya Li Umam
الأسس الثقافية للأمم: الهرمية والعهد والجمهورية
Genres
يمكننا أن نجد في إسرائيل المعاصرة مزيجا لا يختلف عن ذلك، يجمع بين الرؤية العهدية، والأشكال الجمهورية، والهرمية العرقية. على الرغم من أن إسرائيل تعتبر في بعض أوساط المفكرين الغربيين مجتمعا استيطانيا استعماريا، فإن الرغبة الأصلية والرؤية الموجهة كانت عملية ونابعة من الكتاب المقدس أيضا؛ وهي فصل اليهود المشردين والمضطهدين عن مجتمعاتهم المضيفة، وإعادتهم إلى وطنهم القديم، وفقا لوعد النبوءة؛ ومن ثم، على النقيض من الأفريكان الذين احتفظوا بعبيدهم في مستعمرة الكيب، على سبيل المثال، سعى الرواد الصهاينة الأوائل إلى الجلاء عن أوروبا المعادية وتكوين مجتمع جديد منفصل يقوم على الاعتماد على الذات، وكرامة العمل اليدوي، ومحرر من الامتهان الذي خضعوا له هم وأسلافهم.
19
رغم ذلك، فمنذ فترة مبكرة نسبيا، تسببت الحاجة المدركة إلى توظيف العمالة العربية الأرخص، والظروف الاجتماعية الصعبة المديدة لكل من الأقلية العربية داخل إسرائيل، بعد إنشاء دولة إسرائيل، واليهود الشرقيين أيضا؛ في حدوث تفاوتات عرقية غير مرغوبة. إلا أن ذلك عادله إطار جمهوري-مدني قوي، والتزام بالديمقراطية، والحريات المدنية، والخطاب الحر، وكذلك حكم القانون الموروث من الانتداب البريطاني؛ لذلك، على الرغم من أن إسرائيل في بدايتها يمكن وصفها على نحو مستحق بأنها أمة عهدية تسعى إلى خلق مجتمع ريادي متساو فريد، فإن عملية «تطبيعها»، بوصفها دولة ومجتمعا قوميا، أولت عنايتها الأولى على نحو متزايد إلى تقليدها الجمهوري-المدني؛ ذلك التقليد الذي أضعفته التراتبيات الهرمية العرقية الناتجة إلى حد بعيد من الضغوط الخارجية المعادية، ولكن يشجعها أيضا مثال اصطفاء قومي ديني عرقي دائم.
20 (4) الأمم الجمهورية الحديثة
على الرغم من تساوي مثال المجتمع الجمهوري المدني في العراقة مع التقاليد الثقافية الأخرى، فلم يصبح منتشرا إلا بعد القدوم الكامل للحداثة والعلمانية. وحتى تلك اللحظة كانت البنى الهرمية المهيبة التي كافحها أتباع المثل الجمهورية وتحرروا منها في النهاية تلقي بظلها على المثل الجمهورية وتكتنفها. ويرجع حماس الأمة الجمهورية إلى حد بعيد إلى قسوة انفصالها المبدئي عن التراتبيات الهرمية التقليدية، الأصلية منها والاستعمارية.
في تلك الأيام، ظهر أكثر هذه الاضطرابات تأثيرا، وإن لم يكن أولها، في فرنسا أثناء الثورة، ورسخ المثل المدنية والعلمانية للأمة الجمهورية على نحو يفوق حتى ما في أمريكا. منذ العصور الوسطى، جسدت مملكة فرنسا المثال النموذجي للمجتمع الهرمي المقدس في ظل «ملكها الأكثر مسيحية». حقق هذا النموذج وضوحا لا نظير له من خلال إقليم المملكة المتماسك - الذي يطلق عليه السداسي - في بدايات العصر الحديث، بل حتى قدرا من التماثل بين سكان الحضر بسبب تزايد تغلغل الإدارة الملكية المركزية ولغة باريس وثقافتها، على الرغم من استمرار المناطقية والثقافات واللهجات المحلية الريفية. إلا أنه مع أواخر القرن السابع عشر، استلهاما من الوطنية الليبرالية في ثورة إنجلترا وأشكال التضامن السياسية في الدول المدن القديمة، بدأت مجموعة متعاقبة من المفكرين المؤمنين بالتحديث يشكلون إحساسا علمانيا جديدا بالهوية القومية الفرنسية. تبنت مفهوم الأمة الجمهورية حركة ثورية متنامية مكونة من الطبقة الوسطى، داعمة مثل «السيادة الشعبية» و«إرادة الأمة»، من أجل نزع الشرعية عن هرمية «النظام القديم» الملكية الكاثوليكية، والإطاحة بها. وأثناء مجريات الثورة، ما بين عامي 1789 و1794، ظهر لوقت وجيز نوع من العهدية الشعبية يعج بالقسم الجماعي، والطقوس، والمهرجانات، والشهداء، والتقويم الجديد. في هذه المراسم، تبنى الممثلون الشعبيون رمزية دراما خلاص الأمة وحركاتها الاستعراضية في عروض جماعية تعبر عن العبادة الدينية العلمانية ل «الوطن» الذي أصبحت أشكاله وعلاماته المميزة علمانية ورومانية وجمهورية على نحو متزايد.
21
إذا كان نظام نابليون اللاحق سعى إلى نظام جديد متسق قائم على مثل جمهورية مدنية، فإن انهياره أعطى الفرصة لقوى الرجعية الكاثوليكية والملكية لإعادة تشكيل فرنسا بوصفها مملكة كاثوليكية تتبع النزعة المحافظة الجديدة، وعلى النحو الذي روج له بونالد. إلا أن المحاولة باءت بالفشل، ومنذ ذلك الحين وحتى نظام فيشي، تذبذبت السياسة الفرنسية، على نحو عنيف في بعض الأحيان، ما بين نزعة جمهورية متزايدة العلمنة والراديكالية، وبين نزعة محافظة عسكرية ملكية كاثوليكية قوية. وأقرت هذه المصائر البديلة ل «فرنسا» على نحو واضح في الجمعية الوطنية، وفي المحاكم، وفي الشوارع أثناء قضية درايفوس (1894-1899) التي سبقت حل الكنيسة الكاثوليكية عام 1905. إلا أن الانتصار الجمهوري كان مؤقتا وحسب. ويمكن أن نشهد الازدواجية والانشقاق اللذين ظهرا أثناء تطور الهوية القومية الفرنسية في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين في آثارها وتماثيلها وعمارتها المميزة، وكذلك في المناقشات المتعلقة بدخول البانثيون واستخدامه . ويدل على هذا الانشقاق على نحو مماثل تنامي تقديس القديسة جان دارك التي طوبت عام 1920، وأصبحت أيقونة للقومية الكاثوليكية المتأصلة، بينما يعتبرها اليسار في الوقت نفسه بطلة شعبية للحرية والمقاومة الفرنسيتين. كما تجلت مصائر فرنسا البديلة مرة أخرى في القرن العشرين في الصراع بين قادة يتسمون بالقوة والسلطوية والكاريزمية، أمثال بيتان وديجول اللذين بدا أنهما يجسدان الرابطة بين التراب الفرنسي وموتى الأمة الأبطال الذين كانوا بمنزلة «آباء الأمة»، والحركات الشعبية الساعية إلى الحرية، والمساواة، والثورة، أمثال حركة الماكيز التي واجهت طغيان الاحتلال الألماني، أو ثورة الطلبة عام 1968 التي كانت موجهة ضد النظام البيروقراطي للدولة الرأسمالية. إلا أن هذه الصراعات، على الرغم من عنفها، احتويت ضمن الأشكال القوية للأمة الجمهورية الفرنسية الملتزمة بالقيم والمثل المدنية لقومية فرنسية علمانية مهيمنة، قائمة مع ذلك على إحساس قوي بهوية ثقافية عرقية مشتركة.
22
كانت الاضطرابات التي أتت بجمهورية ألمانيا الحديثة إلى الوجود على القدر نفسه من طول الأمد، وربما كانت حتى أكثر عنفا. رأينا في الفصل الرابع أنه بالفعل بحلول أواخر العصور الوسطى، اعتبرت الطبقات المتعلمة الألمانية أن الإمبراطورية الرومانية المقدسة هي إمبراطورية من الألمان في المقام الأول، وأن الإحساس الناشئ بالهوية القومية المدعوم بالأفكار النمطية الخارجية واستعادة «جرمانيا» تاكيتوس، وبانتشار اللغة والأدب الألمانيين؛ تجلى وسط النخبة المثقفة ذات النزعة الإنسانية في عصر النهضة. ورغم ذلك، فإن هذا الإحساس النخبوي بهوية سياسية وثقافية ألمانية أوسع نطاقا عجز عن الاستمرار بعد مذبحة حرب الأعوام الثلاثين وانقسام الأراضي الناطقة بالألمانية خارج النمسا إلى دول مطلقة، قليل منها عظيم، وكثير منها صغير. وبحلول القرن الثامن عشر، بدا أن تفتت الهرمية، بالإضافة إلى نفوذ الثقافة الفرنسية المتغلغل، يضعان معا نهاية لأي أحلام بدولة أو أمة ناطقة بالألمانية على غرار النموذج الإنجليزي أو الفرنسي المعاصر لها، إلا ربما في قليل من الأوساط المحلية الغائمة.
Unknown page