Usus Thaqafiyya Li Umam
الأسس الثقافية للأمم: الهرمية والعهد والجمهورية
Genres
30
كان اليعاقبة، بصفة خاصة، يعتبرون مثل الحرية والفضيلة و«الوطن» مثلا مقدسة. لكنهم لم يكونوا هم الوحيدين؛ فمن وجهة نظر كثير من الأشخاص، كانت الأمة جزءا من النظام الطبيعي وأساس الحياة الاجتماعية والسياسية، والنظير العلماني للإله، وكانت الثورة تمكن الرجال من التكريم والعبادة على مذبح ذلك الإله المقلد. لاحظ ماركيز دو كوندورسيه في ذلك الوقت الصفة الدينية للثورة فقال:
ثورتنا دين، وروبسبيير قائد طائفة دينية في هذا الصدد. إنه كاهن مسئول عن عباده.
31
ومن هنا كانت الحاجة إلى التخلص من الأديان المنافسة، وسحق أي علامات لإحياء الكاثوليكية، لا سيما في ثورة فونديه الممتدة. إلا أن روبسبيير في بداية عام 1794 كان قد بدأ، للسبب نفسه، في تحجيم حملته المسعورة الهادفة إلى اجتثاث المسيحية التي شنها أتباعه الأكثر تطرفا، وحاول ترسيخ الثورة من خلال تأسيس دين علماني للكائن الأسمى الذي يرى كل شيء، على أن يحتفل به في مهرجان شعبي مصمم بعناية في يونيو 1794.
32
على مدار القرن التالي، شهد الدين العلماني للقومية الجمهورية الفرنسية دعما على نحو متكرر، على الرغم من تحدي النزعة المحافظة الكاثوليكية له في أغلب الأحيان، وفي البداية كان هذا الدعم منبثقا عن سياسات نابليون ومؤسساته، ولاحقا كان نابعا من الحملة العلمانية الصارمة للجمهورية الثالثة، وتحديدا في مجال التعليم الجماعي والتماثيل الأثرية والطقوس العامة. وكما وثق إريك هوبزبوم على نحو واضح، ففي هذه الفترة كان مثال الأمة الفرنسية العلمانية التي تضم كل مواطنيها يروج له من خلال العلم، ومن خلال تبني النشيد الوطني الفرنسي «لامارسييز»، وتأسيس مقبرة العظماء «البانثيون»، واختيار يوم الباستيل كإجازة قومية. وعلى الرغم من الصراعات الشديدة بين المحافظين الملكيين والكاثوليك والجمهوريين العلمانيين الراديكاليين، فقد ظل نموذج القومية الغالب في فرنسا أثناء الفترة الحديثة علمانيا وجمهوريا بالأساس، لا سيما أثناء قضية دريفيوس وفي منتصف القرن العشرين. وحتى وقتنا الحاضر، يمكننا رؤية سعي النخبة السياسية وراء هذه المثل من خلال التوجه العدائي تجاه العرض العام للممارسات الإسلامية وغيرها من الممارسات الدينية، لا سيما في المدارس. وما زالت مثل اليعاقبة المتمثلة في العلمانية والحرية و«الوطن» تجد أصداء قوية في الصعيد السياسي والاجتماعي والرمزي، كما تذكرنا المراسم العلمانية الصرفة ليوم الباستيل.
33
في كل أنحاء أوروبا خلال القرن التاسع عشر، ساعد مثال أوروبا ودينها العلماني المتمثل في القومية الجمهورية في تحويل مزيج من دول الملكية المطلقة وإمارات صغيرة الشأن إلى جمهوريات قومية سيادية متشابهة ظاهريا تقوم على مبادئ القانون والمواطنة والتعليم العلماني. كان نجاح نابليون يعود جزئيا إلى جاذبية تلك المبادئ الجمهورية الثورية، وما تبع ذلك من إصدار لدساتير علمانية تقوم على المواطنة والحرية المدنية وحكم القانون، لا سيما في الولايات الألمانية والبلدان المنخفضة وسويسرا. وفي سويسرا، تأسست الجمعية الهيلفيتية عام 1762، وبتأثير من يوهان ياكوب بودمر وتلميذيه ألبرشت فون هالر ويوهان ياكوب برايتينجر، ازداد ربط أعضاء هذه الجمعية مثل التنوير والتقدم بشخصية «الاتحاد السويسري القديم» ومصيره.
لذلك، فإن فرض فرنسا الثورية للجمهورية الهيلفيتية عام 1798 - على الرغم من أنه مثل تحولا اجتماعيا بارزا عند حلول الوطنيين الراديكاليين المنتمين للطبقة الوسطى محل حكومات الأقلية في بيرن وزيورخ وغيرهما من المدن - يمكن النظر إليه على أنه النهاية المنطقية لتاريخ طويل من مقاومة سويسرا للطغيان وإيمانها بالحرية. وكنتيجة جزئية للمناخ الدولي بعد سقوط نابليون، وأيضا بسبب افتقار الجمهورية الهيلفيتية للدعم الشعبي الكافي، فسرعان ما حل محلها أنظمة محافظة، لكن «امتزاج الدستورية الديمقراطية والقومية الشعبية» منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر أدى في نهاية المطاف، بعد الحرب الأهلية القصيرة بين الكانتونات البروتستانتية والكانتونات الكاثوليكية عام 1847، إلى انتصار الجمهوريين الراديكاليين وتبني الدستور الفيدرالي السويسري لعام 1848.
Unknown page