Usus Thaqafiyya Li Umam
الأسس الثقافية للأمم: الهرمية والعهد والجمهورية
Genres
17
ومن ثم، في ظل القومية الجمهورية تندمج الأمة السياسية والثقافية لخدمة مجتمع إقليمي يضم مواطنين ينصاعون للقوانين نفسها ويشتركون في القيم والمثل نفسها المتمثلة في الفضيلة وحب «الوطن». من وجهة نظر القوميين الجمهوريين، فإن الأرض مقسمة إلى أمم، لكل منها شخصيتها، وتاريخها، ومصيرها، وتسكن كل منها في وطنها التاريخي وتسعى إلى الوحدة والاستقلال الكامل كمجتمع سياسي يضم مواطنين متساوين. تكون الأمة وقوانينها المصدر الوحيد للسلطة السياسية، ولا يوجد وجود خارج الأمة. ولا يمكن تحقيق الحرية الحقيقية إلا من خلال الانتماء للأمة والمشاركة في حياتها ومن خلال التعليم العلماني الذي سوف يغرس في النفوس الحب الشديد للوطن، وتاريخه، ورموزه، وقيمه ومثله. إرادة الأمة هي أعلى محكمة استئناف، وهي مصدر كل الخيرات؛ وهذا يعني أن نوع الحكم يجب أن يكون جمهوريا وديمقراطيا في نهاية المطاف كي يجسد ويعبر عن سيادة الشعب ومجتمع المواطنين بأكمله. (3) دين علماني؟
إذا لقد قدمت القومية الجمهورية سردا علمانيا صرفا للمواطنة والتضامن السياسي. إن إصرارها على تأسيس مجتمع الأمة على أساس المصالح والاحتياجات البشرية وحدها، على النقيض من القانون الإلهي أو قوانين الطبيعة، دعم مثلها المدنية والجمهورية. ولعل الأهم من ذلك أنها أكدت على الحاجة إلى الثورة من خلال التحرر الذاتي الجمعي وقدرة البشر في كل مكان على تنظيم نوع من المجتمع عقلاني وأكثر مثالية. ومن هذا المنطلق، فإن كل الأفراد في كل مجتمع يستطيعون إعادة تشكيل المجتمع، وينبغي أن يشكلوه على أساس المبادئ العلمانية الجديدة المتمثلة في الحرية والسيادة الشعبية والوطنية. ومن الناحية العملية، كان معنى ذلك أن كل الشعوب تستطيع - ومنوط بها - الإطاحة بالحكام الطغاة و«الأنظمة القديمة»، والقضاء على الجهل وخرافات رجال الدين، وتعليم شبابها فضائل الإخاء والوطنية، وتحفيز مواطنيها على المشاركة السياسية الفعالة، وغرس الرغبة في تجديد المجتمع والدفاع عنه ضد أعدائه الخارجيين وأعدائه في الداخل.
من ثم، ظهرت أيديولوجية الأمة الفاعلة - إن لم تكن المقاتلة - وهي تلك الأمة التي تأسست كما قلت على مبادئ علمانية بحتة تتمثل في عقلانية البشر وإرادتهم وتضامنهم. ومع ذلك، فعلى الرغم من أن المعتقد قد يكون علمانيا، فإن تطبيق هذه الأيديولوجية يتشابه للغاية مع الأديان التي من المفترض أن تحل محلها. ولم يكن الأمر مجرد استحضار هذه المبادئ العلمانية للورع والخشية المرتبطين ب «الدين»، أو أن الأيديولوجية العلمانية في بداية عهدها، كما رأينا، كانت ترتدي عباءة دينية مقترضة. لقد كان الأمر أعمق من ذلك بكثير؛ فالقوميون الجمهوريون في إطار سعيهم لاستبدال المسيحية التقليدية التي تمثل أساس المجتمع، تبنوا إلها إقصائيا ومتطلبا مثل الرب الذي سعوا إلى الإطاحة به. وأثناء تحويل الأمة نفسها إلى المعبود والمبجل الوحيد، خلقت القومية الجمهورية دينا علمانيا جديدا يقوم على التجمع المقدس للشعب ويعج برموزه الخاصة المتعلقة بالشرف والتعبد، مثل: الشعارات، والأعلام، والعملات المعدنية، والتقاويم، والأناشيد، والمواكب، والأقسام، والقوانين، ومراسم إحياء الذكرى والاحتفال، والأكاديميات القومية، والمتاحف والمكتبات القومية، وكل لوازم المؤسسات والتصنيفات التي توحد المواطنين وتميزهم عن الغرباء. وكما تقول عريضة مثيري الاضطرابات الصادرة عام 1792 فإن: «الأمة هي الإله الوحيد المسموح بعبادته.»
18
هذا الدين القائم على العمل الجمعي العلماني كانت تدعمه افتراضات أساسية معينة متعلقة بنوع المجتمع الذي يمكن أن يكون مقصدا لأفراده العاملين. في البداية، بناء على قول روسو المأثور الذي ينص على أن كل شعب لا بد أن تكون له شخصيته المميزة، فقد أصبح من الأمور المسلم بصحتها أن سيادة الشعب لا يمكن ترقبها إلا من شعب يتسم بأنه مجتمع بشري خاص ومميز، وهذا أحد التقسيمات الأساسية للبشر. بطبيعة الحال، كل شعب لا بد أن يملك سيادته وأن يصبح المصدر الوحيد للقانون والمواطنة، لكن الشعب يصبح فرعا إنسانيا تاريخيا ومستقلا من خلال ترسيخ التقاليد والأعراف والعادات الخاصة به، ومن خلال بطولة الأجيال المتعاقبة من أفراده وتضحيتهم بأنفسهم. وعبر هذان الأمران معا عن «عبقرية» الشعب، وهذه فكرة تعود على الأقل إلى اللورد شافتسبيري وبولينجبروك، وطورها مونتسكيو لتصبح (روح) الأمة. وفي حين أن الروح التبشيرية ل «الوطنيين» الفرنسيين عقب عام 1792 أصرت على استنساخ نموذج ثورتها بمفاهيمها عن السيادة الشعبية والمواطنة في الأراضي والشعوب التي احتلتها الجيوش الثورية، فإنها رغم ذلك قبلت الاختلافات بين الشعوب والأمم، وشخصياتهم وأعرافهم وعاداتهم وتواريخهم المميزة. وكل ما رغب فيه هؤلاء الوطنيون هو منح «الشعوب الخاضعة لهم» الحرية والسيادة التي حرمهم إياها الملوك والكهنة والنبلاء.
19
عززت الاختلافات في اللغة والثقافة الشخصية المميزة للشعوب والأمم. ولم يكن الاهتمام باللغة ناتجا عن الرومانسية الألمانية فحسب على الرغم من تأثير هيردر في أوروبا الشرقية وجزر البلقان؛ فمنذ الترجمات الأولى للكتاب المقدس التي زادت في القرن السادس عشر من خلال انتشار الطباعة بين العوام، أصبحت اللغة شأنا سياسيا، وإن كان ذلك على نحو غير مباشر في البداية. بالتأكيد، بحلول القرن السابع عشر، أسهمت نسخ الكتاب المقدس المكتوبة وكتب الصلاة المكتوبة باللغات العامية في إبراز وتحديد الشخصيات المميزة للأمم، لا سيما في الدول البروتستانتية. أكمل التحول إلى العامية في النصوص الدينية بنشأة قانون أدبي أكثر علمانية على يد الشعراء والمسرحيين والمؤرخين والفلاسفة المحليين. وكان انتشار الأدب المحلي والجمهور القادر على قراءته جزءا من تقدير أوسع نطاقا للتراث والأعمال الفنية والذكريات والقيم والمؤسسات القومية المميزة، باختصار كان تقديرا للثقافة الخاصة بكل أمة. وكانت اللغة قد برزت بالفعل كعامل في المقاطعات الشمالية المقسمة في هولندا، بتمييزها بين الهولنديين الشرقيين والغربيين، لكنها مثلت مشكلة خاصة بالنسبة إلى اليعاقبة الذين سعوا إلى تكوين فرنسا موحدة مكونة من مقاطعاتها المختلطة؛ الجمهورية الموحدة غير القابلة للتقسيم داخل «حدودها الطبيعية»؛ ومن ثم، كان تقرير أبي جريجوار عن اللهجات الفرنسية، حيث قال بضرورة التخلص من اللهجات لأنها تدعم التقاليد والأعراف والمؤسسات المحلية لمقاطعات فرنسا المختلفة؛ ومن ثم تعيق الوحدة اللغوية والثقافية للجمهورية. وهذا يعني أنه نظرا للافتراض القائل إن العالم مكون من أمم ودول قومية مستقلة، فسرعان ما أصبح واضحا أن الوحدة القومية في الجمهورية تعتمد على الوحدة الثقافية والتجانس اللغوي.
20
إن سعي القومية الجمهورية الحثيث للتخلص من وجود «الأمم داخل الأمم» كان موضحا على نحو بين في معاملة الثورة الفرنسية ونابليون لليهود في فرنسا؛ إذ كانوا يرون أن اليهود مجتمع عرقي أجنبي ومنحط؛ ولذلك فقد كان واضحا أنهم إذا منحوا مزايا وفوائد «الحضارة» الفرنسية فإنهم سوف يحررون من معوقاتهم التقليدية وكذلك من هويتهم العرقية المقيدة و«الضيقة». ولكي يصبح اليهود مواطنين في الجمهورية كان لزاما أن يخلصوا «دينهم» من «الهوية العرقية» التي طالما كان مرتبطا بها، بصفته دين بني إسرائيل (أو يعقوب)، ويمارسوه فقط كأفراد في حياتهم الخاصة منذ تلك اللحظة، وكان لزاما عليهم أيضا أن يتخلوا عن وجودهم المستقل إلى حد بعيد، إن لم يكن غير المتكافئ والبائس، كمجتمع يهودي مستقل، ليحصلوا على المساواة العامة «كأفراد» ومواطنين داخل الدولة القومية الفرنسية، ومن ثم يصبحوا مواطنين فرنسيين من النوع «الإسرائيلي». علاوة على ذلك، فإن التاريخ الذي سوف يتعلمونه ويعتنقونه، ومن بعدهم كثير من الشعوب الخاضعة للاستعمار الفرنسي، لن يكون التاريخ المقدس لشعبهم بداية من إبراهيم وحتى راشي وموسى بن ميمون، بل التاريخ الفرنسي بداية من فيرسانجيتوريكس - أو ربما كلوفيس - وحتى نابليون. ومع الوقت، كان مأمولا أن يرى أحفادهم أنهم منحدرون من نسل الغاليين، وتحل محل هويتهم العرقية التقليدية هوية قومية علمانية جديدة. والصراعات الحديثة المتعلقة بالمهاجرين المسلمين تؤكد الالتزام الفرنسي الواضح بالعلمانية، وكذلك الأساس العرقي الثقافي المضمر للقومية الجمهورية المدنية.
Unknown page