وهكذا: ومرة أخرى، تحيق اللعنة بكنعان الفلاح، مع قرار سماوي ونبوءة مقدسة، تؤكد أن «كنعان» سيكون عبدا لذرية الراعي «سام» أبي العبريين، دونما ذنب جناه سوى أن أباه وليس هو، أبصر عورة «نوح»، بل إن «نوحا» نفسه لم يصب بداء الثمل من السكر، إلا عندما «ابتدأ يكون فلاحا»!
والمغزى أوضح من الحاجة للشرح أو التعليق. فأرض كنعان هي المطمع والمشتهى؛ لأن مصر والرافدين أكبر من الطموح، ومع ذلك لم يكن هناك بأس من طرح الفكرة ابتدائيا، فمن يعلم؟ فيقول الرب لإبراهيم: «لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات» (التكوين، 15: 18).
أما النجاح الحقيقي الذي حققته مثل هذه الإضافات المصدرة إلينا، فهو أنها شقت طريقها بثقة داخل تراثنا الإسلامي، مع ملحقات وزيادات، وأحيانا مجاملات وملاطفات لبني إسرائيل، بحسبانهم محل احتكار النبوات السابقة، كما أن صحيح الإسلام يضع من شروط الإيمان، شرط الإيمان بالنبوات التي سبقت الرسالة الإسلامية، وخاصة أن الآيات القرآنية الكريمة قد أعادت التاريخ كله دورة كاملة، وأكدت أن كل الأنبياء السابقين في بني إسرائيل إنما كانوا مسلمين، ومن هنا، ومع قلة التفاصيل في العموميات القرآنية، لم يجد كتبة التراث والأخبار حرجا أو بأسا من الرجوع إلى المنمنمات الدقيقة لتاريخ هؤلاء الأنبياء والمسلمين، في كتاب اليهود المقدس، حتى أصبح منهلا لا ينضب للمشتغلين بعلوم التراث، ولا غضاضة في الأمر مع إعلان النبي محمد
صلى الله عليه وسلم
أنه هو نفسه فرع من الشجرة المباركة، عبر «إسماعيل بن إبراهيم». ومعلوم أن «إبراهيم» أهم أرومات العبريين وأنشرهم ذكرا، هذا مع التصريح الواضح في الحديث النبوي عن «البخاري» «بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج.» وهو الحديث الذي استندت إليه طبقة كتاب السير والتأريخ المسلمين، وعلى رأسهم «ابن كثير» الذي أورد الحديث في مقدمته لكتاب البداية والنهاية، معلنا أنه سيجعل من روايات أهل الكتاب مصدرا لا غنى عنه، ويعقب على الحديث الشريف بالقول: «فهو محمول على الإسرائيليات المسكوت عنها عندنا، فليس عندنا ما يصدقها ولا ما يكذبها، فيجوز روايتها للاعتبار».
51
وإجمالا لذلك، قام «النيسابوري الثعلبي» يصب جام غضبه على «حام» المزارع، فيقول راويا عن قتادة منسوبا إلى النبي
صلى الله عليه وسلم : فأصاب «حام» امرأته في السفينة، فدعا نوح ربه، قال: فتغيرت نطفته فجاء بالسودان.
52
فالأسود هنا أدنى درجة من الأبيض، وسر سواده مضمر في الحديث، وربما كان ذلك سر أن العبيد يغلبهم السواد، ثم يضيف عن عطاء الحديث «ودعا نوح على حام أن لا يعدو شعر ولده آذانهم، وحيثما كان ولده يكونوا عبيدا لولد سام.»
Unknown page