Urjanun Jadid
الأورجانون الجديد: إرشادات صادقة في تفسير الطبيعة
Genres
90
فجميع البشر - قديمهم وحديثهم سواء - قد شربوا في العلوم شرابا بسيطا كالماء، جاريا تلقائيا من الفهم، أو مستمدا بواسطة المنطق كما ببكرات من بئر، بينما أشرب وأجعل أنخابي من شراب معد من أعناب كثيرة، في إبانها تامة النضج، جمعت وقطفت من أفرع منتخبة، ثم عصرت في معصرة النبيذ، ثم صفيت وخمرت في الدن، ليس مستغربا إذن أنني لا أفكر كما يفكرون. ••• (124) كذلك سيوجه إلي بدون شك اعتراض مفاده أنني لا أستهدف من العلم غايته الصحيحة، أو أفضل غاية له (وهو نفس الشيء الذي أعيبه على الآخرين)، إذ إن تأمل الحقيقة هو شيء أكرم وأرفع من كل منفعة أو امتداد للنتائج، بينما هذا التشبث الطويل بالتجربة والمادة وبالأحوال المتقلبة للأشياء الجزئية يقيد العقل بالأرض، أو بالأحرى يلقي به في جحيم من الفوضى والاضطراب، وينأى به عن سكينة الحكمة المجردة وصفاتها، وهي حالة أكثر سموا وقداسة، وأنا أقبل هذا التوجه بكل ارتياح، فهذا الذي يدعون إليه ويعلون شأنه هو بالتحديد ما أتغياه وأصبو إليه؛ وذلك أني أشيد في الفهم الإنساني نموذجا حقيقيا للعالم مثلما هو عليه في الواقع لا كما شوهه عقل الإنسان، وذاك أمر لا يتحقق إلا بتشريح العالم بكل دقة، غير أني أعلن أنه لا بد من القضاء التام على تلك التقليدات الحمقاء والهزيلة والقردية للعالم التي كونتها أوهام الناس في مختلف المذاهب الفلسفية، فليدرك الناس إذن الفرق الهائل (كما قلت آنفا)
91
بين أوهام العقل البشري (
idols ) وأفكار العقل الإلهي (
ideas )، فما الأولى إلا تجريدات اعتباطية، أما الأخرى فهي طابع الخالق نفسه على مخلوقاته، وقد انطبع على المادة وتحدد فيها بخطوط حقيقية رائعة، ومن ثم فإن الحقيقة هنا والمنفعة شيء واحد،
92
وقيمة النتائج نفسها - بوصفها ضمانات للحقيقة - أعظم من قيمة المنافع التي تقدمها لحياة الإنسان. ••• (125) قد يعترض آخرون بأني لا أفعل غير ما كان يفعل من قبل، وأن القدماء أنفسهم اتخذوا نفس المسار الذي أتخذه الآن؛ ومن ثم فمن المرجح أنني - أنا أيضا - بعد كل هذا العناء والصخب سوف أرسو في واحد من هذه المذاهب التي سادت في الأزمنة القديمة، فالقدماء أيضا كانوا حين يبدءون تنظيراتهم يذخرون مخزونا هائلا من الأمثلة والجزئيات، ويرتبونها في رسائل بأبواب وعناوين، ويشيدون منها فلسفاتهم وفنونهم، وبعد ذلك عندما يفهمون المسألة يذيعونها على العالم، مضيفين بضعة أمثلة هنا وهناك للبرهان والتوضيح، ولكنهم كانوا يرون أن من الزائد والمضجر أن يطبعوا ملاحظاتهم عن الجزئيات ومدوناتهم ورسائلهم، وهكذا كان شأنهم شأن البنائين الذين بعد أن ينتهوا من بناء البيت يزيلون السقالات والسلالم من المشهد، هذه بغير شك هي العملية التي كانت تتم ولا يمكن أن يتصورها المرء غير ذلك، غير أن هذا الاعتراض (أو بالأحرى الوسواس) سيكون من السهل أن يرد عليه أي شخص لم ينس تماما ما قلته آنفا، فأنا أيضا أسلم بأن هناك شكلا من البحث والكشف كان بين القدماء، وهم أنفسهم قد بينوه بوضوح في كتاباتهم، وهو ببساطة أنهم من خلال بضعة أمثلة وجزئيات (مع إضافة تصورات شائعة وربما جرعة ما من أكثر الآراء رواجا) كانوا يقفزون قفزا إلى المبادئ الأكثر عمومية أو المبادئ الأولى للعلم، وإذ يأخذون صدق هذه المبادئ الأولى كأمر ثابت لا يتزعزع، فإنهم ينطلقون منها إلى استنباط الاستنتاجات الدنيا بواسطة قضايا وسطى، ويختبرونها بعرضها على محك المبادئ الأولى الصادقة صدقا ثابتا لا يتزعزع، ومنها يشيدون الفن، وأخيرا فإنهم إذا ظهرت في الأفق جزئيات جديدة تناقض وجهات نظرهم فإنهم إما يسلكونها بمهارة في المذهب بواسطة تحديدات وتفسيرات لقواعدهم نفسها،
93
وإما يتخلصون منها برعونة على أنها استثناءات، أما الجزئيات التي لا تتعارض مع قواعدهم فكانوا يقيضون لها - بتكلف وعنت - عللا تتماشى مع مبادئهم، ولكن ليس هذا هو التاريخ الطبيعي والخبرة كما كان ينبغي أن يكونا، كما أن قفزهم إلى التعميمات قد دمر كل شيء. ••• (126) واعتراض آخر قد يوجه ضدي، هو أنني بتحرزي من أن يصدر الناس آراء ويضعوا مبادئ معينة حتى يصلوا على نحو واف إلى العموميات عبر الخطوات الوسطى؛ أنني بذلك أعلق الحكم وأقود إلى ما يسميه اليونان
Unknown page