وبعد وصول أرميا إلى إيليا وأستير لزمهما ولم يعد يفارقهما، وكان كثير المراقبة لأستير على الخصوص. فلاحظ منه إيليا هذه المرة ما لم يلاحظه من قبل. فاستاء في نفسه وعاد بالفتاة إلى المزرعة.
وبقيت أستير كئيبة حزينة طول النهار، فحاول الشيخ سليمان كثيرا أن يزيل كآبتها فلم يقدر فأحال عليها إيليا قائلا: هل أنت جماد لا تتحرك. فكيف تترك هذه الفتاة تذوب كآبة لفراق أهلها، ولا تحاول تعزيتها.
فوا أسفاه إن الشيخ سليمان لم يكن يدري أيضا ما كان في نفس إيليا.
مجيء المسيح وصلبه
وفي ذلك المساء قبل غروب الشمس بساعتين عرض إيليا على الفتاة أن يذهب بها ليريها الحقول والبساتين في المزرعة. فرضيت الفتاة بذلك، وذهبا يتنقلان بين تلك الطبيعة الجميلة التي زادتها عناية يد الإنسان ثمارا وجمالا.
وما زالا سائرين حتى بلغا قبر الراهب ميخائيل، وكان إيليا قد نثر الزهر في الصباح على القبر حسب العادة، وكان حول القبر عدة مقاعد من حجر فجلس على أحدها وجلست الفتاة بعيدة عنه، وبعد أن جلست سألت إيليا عن صاحب ذلك القبر. فلما سمعت اسم «راهب» أجفلت ونهضت. فاستاء إيليا في نفسه لهذه الإهانة لأستاذه، ولكنه أظهر الابتسام والضحك، فقال: اجلسي اجلسي يا أختي، لنتحادث في موضوع نفورك، وأرجو أن تسمحي لي بذلك فإن هذا الأمر قام في نفسي منذ رأيتك على الطريق تمتنعين عن إنقاذ نفسك وأبيك بعلامة ترسمينها على صدرك.
فهنا جزعت أستير جزعا شديدا، وصبغ الاصفرار وجهها من شدة الجزع. فثارت نفس إيليا لذلك، وصاح: يا أختي، أقسم لك بخالق السماء والأرض إلهكم وإلهنا، إنني لا أقصد الإساءة إليك أو إلى معتقدك بشيء. فإنني من الذين يحرمون الضغط حتى على ضمير النملة إذا كان لها ضمير. فعلام هذا الجزع والخوف من لا شيء.
فدمعت عينا أستير، وأجابت باضطراب شديد: لا أريد أن أباحث أحدا في هذه المواضيع، فإنني رأيت أسلوبكم في البحث أول أمس في طريق بيت لحم وأمس في الدير.
فهنا ابتسم إيليا وأجاب: اسمعي أيتها الفتاة الكريمة لأزيل سوء ظنك وإهانتك بكلمتين: إنك تقيسينني أيتها السيدة على العوام الذين شاهدناهم في طريق بيت لحم وعلى الراهبات اللواتي رمن اجتذابك في دير العذراء، ولكنك تخطئين بهذا القياس؛ فإن العامة أناس لا رأي لهم غير ما تلقنوه، وهم لا يفتكرون بعقولهم بل بعقول غيرهم، والراهبات وغيرهن من المنقطعين إلى الله في الأديرة وغيرها لا يلامون إذا تمسكوا بمعتقدهم تمسكهم بالحقيقة المطلقة؛ لأنهم لو لم يكونوا يعتبرون أنه الحقيقة المطلقة لما انقطعوا إليه عن كل ملاذ الدنيا. أما نحن باقي البشر الذين لنا عقول نعقل بها وعلينا أن نعيش مع عناصر مختلفة في الأرض فإن حالنا غير حال أولئك. فإننا إنما نحن تلامذة البحث والتنقيب والأخذ والرد. ثم ابتسم إيليا وقال: فابحثي معي يا أيتها السيدة، ولا تخافي إذ ما أدراك أنك لم ترسلي من السماء لهدايتي، ما أدراك أن العناية الإلهية لم ترسلك إلي لإعطائي ما ينقصني إلى الآن.
فابتسمت أستير لهذا الكلام اللطيف، وظنت أن إيليا يريد به الجهة الدينية. وفي الحقيقة أنه كان يريد به الجهة القلبية؛ إذ ما كان ينقصه معلوم مما تقدم.
Unknown page