شكر وتقدير
مقدمة
1 - أفضل أمل للبشرية؟ تاريخ موجز للأمم المتحدة
2 - خليط مستحيل: هيكل الأمم المتحدة
3 - مواجهة الحروب والتصدي للتهديدات: أعمال مجلس الأمن
4 - من حفظ السلام إلى بناء السلام
5 - من التنمية الاقتصادية إلى التنمية البشرية
6 - الحقوق والمسئوليات: من حقوق الإنسان إلى الأمن البشري
7 - الإصلاح والتحديات: مستقبل الأمم المتحدة
تسلسل زمني
المراجع
قراءات إضافية
شكر وتقدير
مقدمة
1 - أفضل أمل للبشرية؟ تاريخ موجز للأمم المتحدة
2 - خليط مستحيل: هيكل الأمم المتحدة
3 - مواجهة الحروب والتصدي للتهديدات: أعمال مجلس الأمن
4 - من حفظ السلام إلى بناء السلام
5 - من التنمية الاقتصادية إلى التنمية البشرية
6 - الحقوق والمسئوليات: من حقوق الإنسان إلى الأمن البشري
7 - الإصلاح والتحديات: مستقبل الأمم المتحدة
تسلسل زمني
المراجع
قراءات إضافية
الأمم المتحدة
الأمم المتحدة
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
يوسي إم هانيماكي
ترجمة
محمد فتحي خضر
شكر وتقدير
أعرب عن شكري للتشجيع الذي تلقيته من زملائي بالمعهد العالي للدراسات الدولية والإنمائية بجنيف، سويسرا؛ وذلك لتوفير بيئة محفزة مكنتني من استكشاف خبايا منظمة الأمم المتحدة.
وفي دار نشر أكسفورد يونيفرستي برس، أسعدني الحظ بالعمل مع فريق ممتاز ضم - في مراحل متباينة - كلا من جولين أوسانكا وتيم بارتليت وماري ساذرلاند وجاستن تاكيت، وعلى الأخص، نانسي توف.
وكالعادة، كانت عائلتي في فنلندا داعمة لي. وأخص بالشكر والدي، هيلكا يوسكاليو ويوسي كيه هانيماكي، اللذين لم يتوقفا عن دعمي قط. وفي جنيف، سمح لي ابني، ياري، بقضاء ساعات في إعداد هذا الكتاب مع أن أمورا أخرى ملحة - كالتنس وكرة القدم والرحلات إلى الملاهي المائية وغيرها - كانت ستعد سبلا أنسب بكثير لاستغلال الوقت. وأخيرا، أود أن أشكر باربرا، التي أصرت على أن أكمل هذا الكتاب، ومع أن رؤية الكتاب مطبوعا قد لا تغير حياتي، فإن باربرا فعلت ذلك بالتأكيد.
مقدمة
نحن الشعوب: وعد الأمم المتحدة
«نحن شعوب الأمم المتحدة.» بهذه الكلمات يبدأ ميثاق الأمم المتحدة. ثم يسرد الميثاق بعد هذا أربعة أهداف رئيسية للمنظمة الدولية؛ أولا: أن الأمم المتحدة آلت على نفسها حفظ السلام والأمن: «أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب.» ثانيا : «أن نؤكد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسان.» ثالثا: أكدت الأمم المتحدة على احترام القانون الدولي. ورابعا: تعهدت المنظمة الوليدة ب «أن ندفع بالرقي الاجتماعي قدما، وأن نرفع مستوى الحياة». وفي صيف عام 1945، قطعت الدول المؤسسة للأمم المتحدة على نفسها عهدا بأن تجعل العالم مكانا أفضل.
هل استطاعت الأمم المتحدة تحقيق كل هذه الأهداف النبيلة، أو بعضها، أو أيها، على امتداد أكثر من ستة عقود؟ هذا هو السؤال الجوهري الذي نتعامل معه في هذا الكتاب. ومن ثم، سيقيم الكتاب نجاحات الأمم المتحدة وإخفاقاتها كحارس للسلم والأمن الدوليين، وراع لحقوق الإنسان، وحام للقانون الدولي، ومهندس لعملية التقدم الاقتصادي والاجتماعي. وأثناء ذلك، سيسبر الكتاب أغوار هيكل الأمم المتحدة وعملياتها في أنحاء العالم.
شكل 1: مقر منظمة الأمم المتحدة، يقع على مساحة ثمانية عشر فدانا بالجانب الشرقي من مانهاتن، ويتألف من أربعة مبان رئيسية: مبنى الجمعية العامة (ذي السقف المائل)، ومبنى المؤتمرات (على نهر إيست ريفر)، ومبنى الأمانة العامة المكون من 39 طابقا، ومكتبة داج همرشولد، التي أضيفت عام 1961. صمم هذا المجمع فريق دولي من أحد عشر مهندسا معماريا.
1
ليست هذه مهمة يسيرة؛ إذ ظلت الأمم المتحدة على مدار تاريخها مؤسسة مثيرة للجدل. لقد مرت المنظمة الدولية الوحيدة العالمية بحق - التي يجلها البعض ويلعنها البعض الآخر - برحلة وعرة؛ فقد فازت بجائزة نوبل للسلام وغيرها من الجوائز لإنقاذها حياة البشر وتخفيف معاناتهم، لكنها كانت أيضا هدفا مفضلا للسياسيين الذين يشككون في أن الأمم المتحدة تحاول أن تكون حكومة عالمية، أو يزعمون هذا كي يكسبوا قلوب مجموعات بعينها من الناخبين، لكن آخرين - أمثال هنري كابوت لودج الابن، سفير الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة من عام 1953 إلى 1960 - يتبنون نظرة أكثر اعتدالا؛ إذ يقرون بمواطن القصور المتأصلة بالمنظمة التي تمثل - نظريا على الأقل - مصالح العالم أجمع. وقد لخص لودج هذا الرأي في عام 1954 بقوله: «نشأت هذه المنظمة لتمنعك من الذهاب للجحيم، لا لتأخذك إلى الجنة.»
2
في الواقع، إن كان من فكرة رئيسية تهيمن على هذا الكتاب فهي الحقيقة البسيطة القائلة إن أعظم التحديات التي جابهتها الأمم المتحدة هي الفجوة شديدة الاتساع بين طموحاتها وقدراتها، ويمكن لنظرة سريعة على الجوانب الأساسية لأنشطة الأمم المتحدة أن تؤكد هذا.
أولا: تعهدت الدول المؤسسة للأمم المتحدة بجعل العالم أكثر أمنا. ولتجنب المجازر التي سببتها الحرب العالمية الثانية أنشأت هذه الدول هيكلا وأدوات مصممة لمواجهة التهديدات المحيقة بالأمن الدولي، وأوضح مثال على هذا تمثل في منح مجلس الأمن سلطة غير محدودة تقريبا حين يتعلق الأمر بانتهاكات السلام. من المفترض أن تكون قرارات المجلس ملزمة لجميع الدول الأعضاء، وقد عهد للجنة الأركان العسكرية التابعة له بالتخطيط للعمليات العسكرية، على أن تملك تحت تصرفها قوة جوية جاهزة للنشر الفوري. وبدا أن الدول المؤسسة قد عقدت العزم على ألا يقف العالم مكتوف الأيدي ثانية وهو يشاهد الدول المعتدية تنتهك الحدود والاتفاقات الدولية.
كان التصميم معيبا؛ فلجنة الأركان العسكرية لم تضع تصورا لقوتها الجوية أو قواعدها؛ ولهذا لم يكن بالإمكان بدء العمليات العسكرية التابعة للأمم المتحدة بسرعة، بل في الواقع لم يكن من المفترض أن تملك الأمم المتحدة تسليحا عسكريا خاصا بها. أيضا احتوى ميثاق الأمم المتحدة في صلبه على أسباب عجز مجلس الأمن: فمن خلال منح حق النقض (الفيتو) لخمس دول (الصين وفرنسا وبريطانيا العظمى والاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة)، مكن الميثاق هذه المجموعة المختارة من منع أي فعل تراه مناقضا لمصالحها الوطنية؛ ونتيجة لذلك، قد تكون الأمم المتحدة لعبت دورا إيجابيا في منع اندلاع حرب عالمية أخرى، لكنها عجزت عن منع نشوب سلسلة من الصراعات الإقليمية أو وقفها (من كوريا وفيتنام وحتى الشرق الأوسط وأفريقيا). فقوات حفظ السلام التي أرسلت إلى مناطق النزاعات في العالم كانت عادة تصل بعد انتهاء أسوأ الأعمال العدائية بوقت طويل. وفي بعض الأحيان - كما هو الحال في إقليم دارفور بالسودان بعد عام 2003 - تأخر وصولها، وكانت عمليات الإبادة الجماعية دائرة.
المشكلة الأساسية التي تعانيها الأمم المتحدة كمراقب للأمن الدولي كانت - ولا تزال - بسيطة: كيفية التعامل مع الصراعات - سواء بين الدول أو داخل الدولة نفسها - دون المساس بالسيادة القومية للدول الأعضاء بها. إنه لغز يستمر في التأثير على وظائف الأمن الدولي التي تقوم بها الأمم المتحدة، فلا يزال السلام ينتظر أن يسود.
كان الهدف الثاني للأمم المتحدة هو تسليط الضوء على أهمية حقوق الإنسان واحترام القانون الدولي. ولتحقيق هذا الهدف، عقدت المعاهدات وصدرت الإعلانات وصيغت الأدوات القانونية المتعددة. أبرز هذه الوثائق لا شك كان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948. وأضيفت وثيقتان أخريان إلى قانون حقوق الإنسان في الستينيات، وهو ما أنتج لنا الشرعة الدولية لحقوق الإنسان. وبحلول القرن الحادي والعشرين، كان مجلس حقوق الإنسان والمفوضية السامية لحقوق الإنسان وغيرهما من الهيئات تبلغ - في نشاط - عن أي انتهاكات لحقوق الإنسان في العالم، وكانت المحكمة الجنائية الدولية والمحاكم الخاصة، في لاهاي، تحاكم من ارتكبوا أشنع انتهاكات حقوق الإنسان.
بيد أن قدرة هذه الهيئات على تنفيذ نوع من الولاية القضائية العالمية تظل محدودة بفعل العامل عينه الذي يعرقل دور الأمم المتحدة في الأمن الدولي: سلطة الدولة القومية؛ فليس من حق المفوضية السامية أو المجلس توجيه «الأوامر» للدول ذات السيادة، والمقررون الخصوصيون الذين يحققون في الانتهاكات نيابة عن المجتمع الدولي يجب أن «يدعوا» من جانب الحكومات التي تكون - في أحوال كثيرة - هي نفسها موضع التحقيق. وكثيرا ما تنتهي التحقيقات إلى طريق مسدود.
وأخيرا: تعهدت الأمم المتحدة بتعزيز التقدم الاجتماعي والاقتصادي. ولتحقيق هذا المأرب، أنشئت مؤسسات مثل البنك الدولي - المرتبط بالأمم المتحدة مع أنه ليس جزءا من نظامها من الناحية الفعلية - لمساعدة الدول التي تحتاج العون. وفي ستينيات القرن العشرين، ومع ارتفاع عدد أعضاء الأمم المتحدة بفضل الاستقلال الحديث لدول عديدة، وأغلبها دول نامية (من قارة أفريقيا بالأساس)، استجابت المنظمة بإنشاء هياكل إضافية، أشهرها على الأرجح مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
ظهرت مشكلتان منذ الستينيات، ولا تزالان حاضرتين إلى اليوم؛ فمن ناحية، لم يوجد اتفاق على كيفية تعزيز التقدم. فالاقتصاديون وعلماء الاجتماع اختلفوا حول جدوى منح المساعدات الاقتصادية أم ترك هذه المهمة للسوق. ومن ناحية أخرى، تمتعت المنظمات المختلفة بقواعد موارد وهياكل تنظيمية مختلفة؛ على سبيل المثال: لأن البنك الدولي كانت تموله بالأساس الولايات المتحدة، أثرت واشنطن على سياساته تأثيرا بالغا، لكن الولايات المتحدة ظلت منخرطة لأكثر من أربعة عقود في الحرب الباردة ونصرة الرأسمالية على الشيوعية بوصف الأولى السبيل الصحيح لتنظيم الحياة الاقتصادية. وفي هذا السياق، كثيرا - بل غالبا في واقع الأمر - ما صارت المساعدات الإنمائية أداة سياسية غير مرتبطة بالمشكلات الفعلية لشعوب العالم النامي.
أضف إلى هذا عددا من العناصر الأخرى - الفساد والتنافس بين الوكالات ونقص الموارد - وستصير الأسباب وراء عدم تمتع المساعدات الإنمائية بنجاح كبير أوضح، لكنها لم تفشل فشلا تاما كما يدعي بعض منتقديها؛ ففي الواقع دعت الأهداف المسماة بالأهداف الإنمائية للألفية - التي أميط عنها اللثام في عام 2000 - إلى تقليل معدلات الفقر إلى النصف بحلول عام 2015. وبحلول السابع من يوليو 2007 - في منتصف الوقت الذي حددته الأمم المتحدة رسميا لتحقيق هذا الهدف - بدت الدول الآسيوية على المسار السليم لتحقيق هذا الهدف، لكن دول جنوب الصحراء الأفريقية كانت متأخرة للغاية عن تحقيق أهدافها. وليس من قبيل المصادفة أن يحذو الأمين العام الحالي - بان كي مون - حذو سلفه في دعوة الدول الغنية إلى التعامل بجدية مع موضوع المساعدة الإنمائية.
قد لا تكون الأمم المتحدة ارتقت إلى مستوى طموحات مؤسسيها، لكن حقيقة واحدة تظل واضحة: أنها المنظمة الوحيدة العالمية بحق في تاريخ البشرية؛ فالأمم المتحدة - بعدد أعضائها البالغ 192 دولة في عام 2008 - تغطي كوكبنا بأسره، وخلال عمرها البالغ ستة عقود ضاعفت تقريبا من عدد أعضائها الأصليين، 51 دولة، بمقدار أربعة أضعاف، وتعد اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة - وهو المنتدى الممثلة به الدول الأعضاء جميعها - تجسيدا حقيقيا للصورة الشهيرة ل «عائلة الأمم» أو «برلمان البشر».
ما الذي يكمن خلف تأسيس هذه المنظمة العالمية التي تبدو مطلقة الشمولية وربما مطلقة القدرة؟ ولماذا يزداد عدد أعضائها بهذه الدرجة الكبيرة؟ لماذا - بالرغم من النقد الكثير - تستمر في العمل في أنحاء العالم؟ وما الذي ينطوي عليه هذا العمل حقا؟
هذا الكتاب القصير هو محاولة للعثور على بعض الإجابات لهذه الأسئلة، التي يثير كثير منها الحيرة والإحباط. إلا أن اهتمامي الأساسي هو محاولتي لأن أفسر - لنفسي ولقراء هذا الكتاب - ذلك التناقض الذي أزعجني منذ أن انتقلت إلى جنيف؛ المدينة التي كانت مقرا لعصبة الأمم وتستضيف حاليا مقر منظمة الأمم المتحدة في أوروبا.
من ناحية، يرى الكثيرون منا في الأمم المتحدة كيانا بيروقراطيا عجيبا يمتلئ بموظفين مدنيين يتقاضون أجورا مرتفعة (مبالغا فيها) دون أن يفعلوا شيئا يذكر في وقتهم سوى عقد المؤتمرات في مدن جميلة (كجنيف) على مبعدة كبيرة من مناطق الاضطرابات في العالم. ومع ذلك، من ناحية أخرى، يبدو أيضا أننا مقتنعون بالرأي القائل إن الأمم المتحدة تساعد ملايين الأشخاص في العالم على عيش حياة أفضل أو - في حالات عديدة - البقاء وحسب على قيد الحياة. والسبب الأساسي وراء اضطلاعي بمهمة تأليف هذا الكتاب هو محاولة تفهم هاتين النظرتين، المتباعدتين أيما ابتعاد، للأمم المتحدة ودورها في العالم الحديث.
لم يكن الأمر سهلا؛ فقد تحتم علي - مثلا - اتخاذ بعض القرارات القاسية. وكانت نتيجة ذلك أنني لن أركز على العدد الضخم من القرارات الذي يصدر عن الأمم المتحدة كل عام. وتغافلت أيضا عن العديد من وكالات الأمم المتحدة وصناديقها، ليس لأنها غير مهمة، بل لأن ضيق المساحة لم يسمح لي بمناقشة عمل منظمات كمنظمة السياحة الدولية مثلا أو التحليلات المهمة الصادرة عن المنظمة العالمية للأرصاد الجوية. بدلا من ذلك ركزت على المناحي المختلفة الواقعة في قلب العمل اليومي للأمم المتحدة: حفظ السلام والأمن الدوليين، والتنمية الاقتصادية والبشرية، ومناصرة حقوق الإنسان. قد يعترض البعض على حقيقة أنني لم أول الاهتمام الكافي لخطط الأمم المتحدة المتعلقة بالبيئة والصحة العالمية. وردي ببساطة هو أن هذين الأمرين يمكن دراستهما كجزء من القضايا عريضة النطاق التي ذكرتها لتوي.
ثانيا: يعد تأليف كتاب صغير عن موضوع متشعب أمرا صعبا (بطبيعته) لمؤرخ معتاد على التعامل مع التعقيد وتسليط الضوء عليه بدلا من البساطة. بالتأكيد سيحكم القراء ما إذا كان جهدي ناجحا أم لا. لكن ينبغي تحذيرهم مسبقا من أنه استحال إخفاء إشارة واحدة معينة تدل على حقيقة أن مؤلف الكتاب مؤرخ؛ إذ كثيرا ما يميل الكتاب لسرد الأحداث المتعلقة بموضوع رئيسي محدد بدلا من الانخراط في شرح وتحليل نظري لوظائف أي جزء بعينه للأمم المتحدة.
وفي النهاية، يستحيل على المرء أن يصنف كتابا عن الأمم المتحدة دون تناول سؤال أساسي: هل عفى الزمن على الأمم المتحدة وباتت لا لزوم لها؟ الإجابة التي يقدمها هذا الكتاب هي: لا؛ فالأمم المتحدة منظمة لا غنى عنها، جعلت من العالم مكانا أفضل - كما أمل مؤسسوها - لكنها أيضا مؤسسة تشوبها عيوب عميقة، وبحاجة لإصلاح دائم.
قد لا تبدو هذه حجة ثورية، بل هي بالأحرى تعكس آراء أغلب البشر في العالم؛ فوفق استطلاع عالمي للرأي أجري في عام 2007 فإن قضية منح الأمم المتحدة سلطات إضافية تحظى بالقبول في العالم (إذ أيد ثلاثة من كل أربعة أشخاص من عينة الاستطلاع فكرة زيادة سلطات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لإجازة استخدام القوة). هذا لا يعكس وحسب عدم الرضا العام عن الطريقة التي تحيد بها الدول القوية الأمم المتحدة - من أبرز الأمثلة الحديثة على ذلك التدخل في العراق عام 2003 - بل هو مؤشر أيضا للآمال المتواصلة التي يعلقها أغلب البشر في أغلب الدول على الأمم المتحدة.
هذا، وحده، يجعل محاولة تفهم الأمم المتحدة بكل تعقيدها مهمة تستحق العناء.
الفصل الأول
أفضل أمل للبشرية؟ تاريخ موجز للأمم المتحدة
نعتقد عادة أن المنظمات الدولية ظاهرة من ظواهر القرن العشرين بدأت بتأسيس عصبة الأمم في عام 1919، وهذا الاعتقاد صحيح إلى حد بعيد، ومع ذلك ففي أواخر القرن التاسع عشر بدأت الأمم بالفعل في تأسيس منظمات دولية للتعامل مع قضايا محددة: أولى هذه المنظمات قاطبة كانت الاتحاد الدولي للاتصالات، الذي تأسس عام 1865 (وكان يسمى في البداية بالاتحاد الدولي للبرق)، واتحاد البريد العالمي، الذي يعود تاريخ تأسيسه إلى عام 1874، واليوم تعد كلتا هاتين المنظمتين جزءا من نظام الأمم المتحدة. وأسس مؤتمر السلام الدولي الذي عقد في لاهاي عام 1899 المحكمة الدائمة للتحكيم، التي بدأت عملها في عام 1902. كانت هذه المحكمة أول وسيط لتسوية المنازعات بين الدول، وهي سلف محكمة العدل الدولية التي أسستها الأمم المتحدة. بيد أن اندلاع الحرب العالمية الأولى في أغسطس 1914 وما تبعه من مجازر أوضح مواطن قصور هذه الآلية. وأذن بنهاية النظام الدولي - المسمى بالوفاق الأوروبي - الذي جنب القارة العجوز ويلات خوض حرب كبرى منذ مغامرات نابليون قبلها بقرن.
بين عامي 1914 و1918 شهدت أوروبا أشنع مذابح عبر تاريخها المخضب بالدماء بالفعل؛ إذ هلك قرابة العشرين مليون شخص، وانهارت إمبراطوريات (كالإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية النمساوية المجرية والإمبراطورية الروسية مؤقتا)، وولدت أمم جديدة (مثل تشيكوسلوفاكيا وأستونيا وفنلندا)، وانتصرت ثورات إصلاحية (في روسيا) وخسرت أخرى (في ألمانيا). باختصار، بزغ نظام عالمي جديد. (1) عصبة الأمم: «ضمان مؤكد للسلام»
وسط أهوال الحرب، وفي يناير من عام 1918، أوضح الرئيس وودرو ويلسون الخطوط العريضة لفكرته عن عصبة الأمم. ونظرا للدمار التام الذي خلفته الحرب العالمية الأولى حظيت فكرة المنظمة الدولية بتأييد واسع؛ إذ بدا لكثيرين أن وجود منظمة دولية ذات سلطة لتسوية المنازعات قبل أن تتصاعد لمرحلة الصراع العسكري هو الحل. وبالرغم من عدم استطاعة الولايات المتحدة الانضمام في نهاية المطاف لعصبة الأمم، فإن ويلسون ترأس اللجنة المنبثقة عن مؤتمر فرساي للسلام عام 1919 والهادفة لتأسيس المنظمة الدولية. لم يكن لويلسون، كمثال، سوى تحفظات قليلة بشأن أهمية العصبة. وكما أعلن في جلسة مشتركة لمجلسي النواب والشيوخ الأمريكيين في عام 1919:
إنها ضمان مؤكد للسلام. إنها ضمان مؤكد ضد العدوان. إنها ضمان مؤكد ضد الأشياء التي أوشكت على هدم بناء الحضارة بأكمله. إن أهدافها ليس بها أدنى غموض. أهدافها معلنة، وسلطاتها جلية. وليس ضربا من الخيال أن تكون هذه عصبة لتأمين سلام العالم فقط. إنها عصبة يمكن استخدامها للتعاون في أي شأن دولي.
1
لم يكن الرئيس الأمريكي وحده هو من علق هذه الآمال العريضة على المنظمة الجديدة؛ فقد قدم ويلسون - بمثاليته المنفتحة ودوره الدولي الجديد - بصيصا من الأمل لمستقبل أفضل، لكن بالنظر للأمر من منظور اليوم ، تبدو اللغة البلاغية الواثقة لويلسون في غير محلها، ووجهت ضربة قاصمة للمنظمة الجديدة حين رفض مجلس الشيوخ الأمريكي التصديق على معاهدة فرساي، ولم تنضم الولايات المتحدة إلى العصبة قط، وهو ما ألحق ضررا دائما بالمنظمة حديثة العهد.
شكل 1-1: الرئيس وودرو ويلسون برفقة رئيس الوزراء الفرنسي جورج كليمنصو في طريقهما لتوقيع معاهدة فرساي.
2
مع هذا، باشرت العصبة أعمالها من جنيف بسويسرا في عام 1920، بعد أن استضافتها لندن فترة مؤقتة، وسريعا ما أحرزت العصبة نجاحات محدودة؛ ففي أوائل عشرينيات القرن العشرين، سوت العصبة منازعات إقليمية بين فنلندا والسويد حول جزر أولند، وبين ألمانيا وبولندا حول سيسيليا العليا، وبين العراق وتركيا حول مدينة الموصل. كافحت المنظمة تجارة الأفيون الدولية وخففت من حدة أزمة اللاجئين في روسيا بقدر من النجاح. وقد وفرت العصبة - بعملها كمنظمة أم لوكالات مثل منظمة العمل الدولية والمحكمة الدائمة للعدل الدولي (سلف محكمة العدل الدولية الحالية) - نموذجا لمنظمة الأمم المتحدة المستقبلية.
خضعت العصبة - بوصفها منظمة للدول المنتصرة - لهيمنة فرنسا وبريطانيا العظمى، إلى جانب اليابان وإيطاليا كعضوين دائمين في مجلس المنظمة (الذي يعادل تقريبا مجلس الأمن في الأمم المتحدة اليوم وأعلى سلطة في شئون الأمن الدولي). كانت الدول المؤسسة الثماني والعشرين، والممثلة بالجمعية العامة، في أغلبها دولا أوروبية ومن أمريكا اللاتينية.
في الواقع، كانت عصبة الأمم بهذا المعنى تعبيرا عن الهيمنة الأوروبية على العالم في ذلك الوقت؛ إذ كانت أغلب دول أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط واقعة تحت سيطرة القوى الاستعمارية الأوروبية. وبطبيعة الحال أرست العصبة ما سمي بنظام الانتداب كي تعد «أهالي» الأقاليم المختلفة للحكم الذاتي والاستقلال. ومنحت الدول التي لها حق الانتداب - كبريطانيا في فلسطين، وفرنسا في لبنان وسوريا - سلطات واسعة فيما يخص تلك الإعدادات. وقد أخذوا وقتهم وزيادة، واضطرت الدول الواقعة تحت الانتداب إلى الانتظار حتى عام 1945 كي تحقق الاستقلال، الذي أتى مصحوبا بالكثير من العنف وعدم الاستقرار، ثم - على المدى البعيد - عدم الأمان المزمن.
ومع ما اتسم به نظام الانتداب من قصر نظر، فإنه كان بمنزلة قنبلة موقوتة لم تنفجر إلا بعد أن زالت العصبة نفسها من الوجود، وكان فشل العصبة في منع نشوب الحرب العالمية الثانية هو السبب في زوالها. (2) العالم في حرب
مع أن غياب الولايات المتحدة كان عاملا مهما تسبب في إصابة عصبة الأمم بالعجز؛ فإن أهمية هذه المنظمة تضاءلت أكثر بسبب عدم احترام القوى العظمى لها. انضمت ألمانيا والاتحاد السوفييتي للعصبة، لكن لفترة وجيزة: إذ انضمت ألمانيا عام 1926، ثم خرجت بعد اعتلاء النازي سدة الحكم عام 1933، وفي عام 1933 انضم الاتحاد السوفييتي للعصبة، لكن بعدها بست سنوات، بعد هجومه على فنلندا في أواخر 1939، صار الاتحاد السوفييتي العضو الوحيد الذي طرد من العصبة.
حينها، كانت العصبة قد شهدت انسلاخ اثنين من الأعضاء المؤسسين عنها؛ إذ غادرتها اليابان في عام 1933 بسبب عدم رضاها عن النقد الذي تعرضت له بسبب احتلالها لمنشوريا، وطرحت إيطاليا الالتزامات التي تفرضها العضوية جانبا حين غزت إثيوبيا، إحدى الدول الأفريقية الثلاث الأعضاء بالعصبة (إلى جانب ليبيريا وجنوب أفريقيا) ونجحت في احتلالها.
لماذا فشلت العصبة في مجابهة هذه السلسلة من الأفعال العدوانية التي اقترفها عدد من القوى العظمى العازمة على استخدام القوة العسكرية لتحقيق أهدافها التوسعية؟ من المؤكد أن الأزمة الاقتصادية العالمية في الثلاثينيات كبحت حماس الدول الأخرى - فرنسا وبريطانيا تحديدا - للمخاطرة بالأرواح والموارد بالقتال في حروب بعيدة لم يكن لها أثر مباشر على أمنها القومي. ومن ثم، تحولت إلى سياسة المهادنة، التي ثبت فشلها في نهاية المطاف؛ فخلال مؤتمر ميونخ الذي عقد عام 1938، وافقت بريطانيا وفرنسا على تفكيك تشيكوسلوفاكيا بالموافقة على ضم منطقة السوديت إلى ألمانيا بزعامة هتلر. لو كان مبرر هذا الفعل هو وجود عدد كبير من السكان المتحدثين بالألمانية في المناطق التي تخلت عنها تشيكوسلوفاكيا، فقد لا يكون هناك مبرر للاحتلال الألماني اللاحق لما بقي من تشيكوسلوفاكيا. وحين هاجمت ألمانيا بولندا في سبتمبر عام 1939، بعد عقد حلف مشئوم مع الاتحاد السوفييتي قبلها بشهر واحد، تبددت تماما الآمال العريضة التي علقت على العصبة منذ عقدين فحسب.
تسبب عجز عصبة الأمم عن ممارسة ضغط كاف في حالات العدوان الصريح في تحجيمها أكثر وأكثر؛ فوفق الاتفاقية الخاصة بها، يحق للعصبة توجيه الإنذارات اللفظية أو فرض عقوبات اقتصادية على الدولة المعتدية، وإذا فشلت هذه الطرق يحق لها التدخل عسكريا. من الناحية النظرية، كانت هذه الخطوات منطقية ومعقولة، وفي حين عجزت الإنذارات اللفظية عن إثناء الدولة المعتدية القوية والمصممة على المضي في عدوانها، احتاجت العقوبات الاقتصادية تعاونا دوليا. ولما كانت العصبة لا تملك أي سلطة فيما وراء عدد أعضائها المحدودين، ظلت الدول الواقعة تحت ضغوط العقوبات الاقتصادية قادرة على المتاجرة مع الدول غير الأعضاء بالعصبة، وخلال الأزمة الاقتصادية العالمية في الثلاثينيات تحديدا، لم يكن من العسير العثور على الأطراف الراغبة في المتاجرة، ولأن العصبة لم تملك جيشا خاصا بها، استلزم التدخل العسكري أن توفر الدول الأعضاء القوات المطلوبة. على أرض الواقع كان هذا يعني القوات الفرنسية والبريطانية، لكن لم تكن أي من الدولتين مهتمة بالتورط في صراعات قد تكلفها الكثير في أفريقيا أو آسيا.
وبحلول الوقت الذي طردت فيه العصبة الاتحاد السوفييتي في عام 1939، لم يعد هناك مفر من الاعتراف بأن العصبة فشلت في هدفها الشامل؛ فلم تصبح العصبة - كما أمل ويلسون - «ضمانا مؤكدا للسلام». ومع هذا، صار جليا مع بداية الحرب العالمية الثانية أن هناك حاجة لنوع من المنظمات الدولية لحمايتنا من التردي نحو حروب مهلكة في المستقبل. وكان هناك هدف أساسي: عدم السماح بتكرار تجربة عصبة الأمم. (3) الإنشاء
يعود أول «إعلان للأمم المتحدة» إلى الأول من يناير عام 1942، حين تعهد مندوبو ست وعشرين دولة بمواصلة حكوماتهم للقتال معا حتى هزيمة قوات المحور وإرساء السلام «العادل». وبهذا، وعلى عكس عصبة الأمم، بدأت الأمم المتحدة تحالفا ظهر إلى الوجود مع دخول الأمريكيين الحرب في أعقاب الهجوم الياباني على بيرل هاربر وإعلان ألمانيا الحرب على الولايات المتحدة في ديسمبر عام 1941. صارت الحرب العالمية الثانية صراعا عالميا بحق؛ تتقاتل فيها قوات الحلفاء (بزعامة الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى والاتحاد السوفييتي) ضد قوات المحور (ألمانيا وإيطاليا واليابان).
كانت الحرب العالمية الثانية حربا مهلكة. ويقدر عدد القتلى من العسكريين والمدنيين بنحو 72 مليون شخص. وقد خلفت الحرب تأثيرا عميقا على الاقتصاديات القومية والعالمية، إلى جانب البنى السياسية في العالم. انهارت الإمبراطوريات الأوروبية إما أثناء الحرب أو نتيجة لها، وظهرت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي كأقوى دولتين على الأرض، واحتلت ألمانيا واليابان وجردتا من قوتيهما العسكرية. وإجمالا، تغير وجه العالم تماما.
نشأت الأمم المتحدة، جزئيا، لإدارة عملية التغيير هذه. وشأن عصبة الأمم، ظهرت المنظمة كمبادرة من الرئيس الأمريكي، فرانكلين دي روزفلت هذه المرة، الذي ضغطت إدارته لإنشاء الأمم المتحدة خلال السنوات الأخيرة من الحرب. وفي أغسطس 1944، التقت وفود من الصين والاتحاد السوفييتي والمملكة المتحدة والولايات المتحدة في دومبارتن أوكس، وهي ضيعة خاصة بواشنطن العاصمة، لوضع برنامج العمل الأساسي للمنظمة الدولية الجديدة، وفي أكتوبر باتت مسودة ميثاق الأمم المتحدة جاهزة، وبعد استسلام ألمانيا في أبريل من العام التالي (ووفاة روزفلت في الشهر عينه)، وقع الميثاق في سان فرانسيسكو في السادس والعشرين من يونيو عام 1945. وفي الرابع والعشرين من أكتوبر 1945، بعد انتهاء الحرب في المحيط الهادي أيضا، ظهرت الأمم المتحدة إلى الوجود رسميا.
شكل 1-2: بعد أشهر من المفاوضات المكثفة، تم تبني ميثاق الأمم المتحدة رسميا في الخامس والعشرين من يونيو عام 1945. يوقع أحد أعضاء وفد جواتيمالا على الميثاق في حفل التوقيع الرسمي في اليوم التالي.
3
لم تتغير القضية الأساسية التي تعامل معها واضعو مسودة ميثاق الأمم المتحدة في جوهرها عن تلك التي واجهها ويلسون ونظراؤه الأوروبيون في عامي 1918 و1919. لقد أرادوا إنشاء منظمة تعد، بحق، ضمانا مؤكدا للسلام. كان هناك الكثير من التشاؤم، وهو أمر مفهوم في ظل المصير الذي آلت إليه أهداف العصبة النبيلة. وكما كان الحال من قبل، ظلت المعضلات والإشكاليات كما هي دون تغيير: كيف نوازن بين السيادة القومية والمثالية الدولية؟ كيف نسوي عدم التوازن بين الدول من حيث السلطة والتأثير، والموارد والالتزامات؟ بعبارة أخرى، كيف نعد ميثاقا يقر بالحقيقة الراسخة القائلة إن بعض الدول متساوية أكثر من غيرها، ويتعامل معها بفعالية؟ كيف نضمن أن بعض الدول لن تنسحب من الأمم المتحدة - كما فعلت اليابان مع عصبة الأمم في الثلاثينيات - حين لا تعجبها قراراتها؟
واجه القائمون على إعداد ميثاق الأمم المتحدة هذه القضية بآلية بسيطة؛ حق النقض (الفيتو). بمعنى آخر، منح الميثاق سلطات أعلى لخمس من الدول المؤسسة - الصين وفرنسا وبريطانيا العظمى والولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي - مكنتها من منع اتخاذ أي قرارات ترى أنها ستضر بمصالحها. صارت هذه الدول الخمس أعضاء دائمين بمجلس الأمن، وستحتفظ كل دولة منها بمقعدها في أهم هيئات المنظمة الجديدة ما دام لها وجود. من شأن هذه الاستراتيجية، كما اعتقد، أن تزود الدول العظمى بالدافع لكي تظل جزءا من الأمم المتحدة، بيد أنها أمدتها أيضا بوسيلة لتحييد هذه المنظمة العالمية.
مع أن مؤسسي الأمم المتحدة كانوا واعين لإخفاقات عصبة الأمم، فإن أغلب المثل والكثير من العناصر الهيكلية للعصبة شكلت أساس ميثاق الأمم المتحدة، وأبرز مثال على ذلك أن ميثاق الأمم المتحدة واتفاقية عصبة الأمم أوردا تعزيز الأمن الدولي والتسوية السلمية للمنازعات كهدفين رئيسيين، لكن ميثاق الأمم المتحدة كان مختلفا في جانبين مهمين.
ميثاق الأمم المتحدة باختصار
يتألف ميثاق الأمم المتحدة من سلسلة من المواد موزعة على فصول؛ يستعرض الفصل الأول الأهداف العامة للأمم المتحدة، وأهمها حفظ السلم والأمن الدوليين، يحدد الفصل الثاني المعايير العامة لعضوية الأمم المتحدة، وأنها متاحة ل «جميع الدول المحبة للسلام»، لكن على الدول الراغبة في الالتحاق بالمنظمة الحصول على «توصية» مجلس الأمن، وهو ما يعطي مجلس الأمن حق الاعتراض على عضوية أي دولة.
الجزء الأساسي للوثيقة موزع على الفصول من 3 إلى 15، ويصف أجهزة ومؤسسات الأمم المتحدة وسلطات كل منها. ولعل أهم الفصول هي تلك التي تتناول سلطات تطبيق القوانين لهيئات الأمم المتحدة الرئيسية؛ على سبيل المثال: يناقش الفصلان السادس والسابع سلطة مجلس الأمن للتحقيق في المنازعات والتوسط فيها، إضافة إلى سلطته في فرض العقوبات أو استخدام القوة العسكرية، وتتناول الفصول التالية سلطات الأمم المتحدة في التعاون الاقتصادي والاجتماعي؛ كمجلس الوصاية، الذي أشرف على إنهاء الاستعمار ، وسلطات محكمة العدل الدولية، ووظائف الأمانة العامة للأمم المتحدة، الذراع الإداري (أو الديوان الدائم) للأمم المتحدة.
اختلف الميثاق عن اتفاقية العصبة تحديدا في تأكيده على دفع التقدم الاجتماعي والاقتصادي كهدف أساسي. كان دفع التقدم الاقتصادي جزءا من اتفاقية عصبة الأمم أيضا، لكنه ظهر، على استحياء، في المادة 23. وعلى النقيض من ذلك، فقد ورد في ديباجة ميثاق الأمم المتحدة ذاتها «أن نستخدم الأداة الدولية في ترقية الشئون الاقتصادية والاجتماعية للشعوب جميعها.»
كان سبب التركيز على أهمية التنمية الاقتصادية والاجتماعية متأصلا في سنوات ما بين الحربين؛ فقد رأى الكثيرون في الكساد الاقتصادي العالمي في أواخر العشرينيات والثلاثينيات السبب الرئيسي للاضطرابات السياسية التي أدت إلى ظهور النزعة القومية المفرطة وأفعال العدوان التي تمخضت عن الحرب العالمية الثانية؛ ولهذا نظر إلى تعزيز المساواة الاقتصادية والاجتماعية باعتبارها وسيلة لحماية الأمن الدولي.
أراد مؤسسو الأمم المتحدة إنشاء منظمة قادرة على منع «ويلات الحرب» من أن تحل بالبشرية مرة أخرى، ولتحقيق هذا الهدف عرف المؤسسون قضية الأمن الدولي بكلمات أشمل مما فعل مؤسسو عصبة الأمم، وهدفوا إلى إقامة هيكل يمكن الأمم المتحدة من المشاركة النشطة في شئون العالم الرئيسية: الأمن العسكري، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، ودعم حقوق الإنسان والعدالة الدولية.
بطريقة ما، كان الجميع سيستفيد، لكن من ناحية أخرى، مهد هذا لإشكاليات مستقبلية. (4) باكورة الحرب الباردة والأمم المتحدة
لم يدر بخلد الموقعين الأوائل على ميثاق الأمم المتحدة أن يضمن فعل الإنشاء البسيط هذا وجود نظام عالمي سلمي؛ ففي الواقع تشاركت الأمم المتحدة في سمة مهمة مع المنظمة السابقة عليها. شأن عصبة الأمم، فإن الأمم المتحدة - منذ تأسيسها - كانت «منظمة للمنتصرين»؛ فلم يمنح خصوم الحرب الكبار وحلفاؤهم ومناصروهم العضوية إلا في وقت لاحق؛ على سبيل المثال: اشتمل أول مجلس للأمن على دول كالبرازيل ومصر والمكسيك ونيوزيلندا والنرويج، فيما أغفلت دول كبولندا وإيطاليا واليابان وألمانيا، ومع هذا ارتكز الأمل في أن تكون الأمم المتحدة قوة أكثر فعالية في حماية الأمن الدولي على حقيقة أن كلا من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي كانتا من الدول المؤسسة.
حين وصلت وفود الواحد والخمسين دولة لحضور أول سلسلة من الاجتماعات في لندن في يناير عام 1946، كان المناخ العام للعلاقات الدولية في تدهور بالفعل، وفي فبراير ألقى الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين خطبة نالت الكثير من النقد، وصف فيها العالم بأنه منقسم على نحو تام بين نظامين سياسيين واقتصاديين، وفي الخامس من مارس استجاب رئيس الوزراء البريطاني السابق ونستون تشرشل بالإعلان بأن الستار الحديدي أسدل عبر أوروبا. بعدها بعام، كشف الرئيس الأمريكي هاري ترومان عن «مبدأ ترومان»، الذي يعد أول تعبير عام عن استراتيجية أمريكا طويلة الأمد لاحتواء المد السوفييتي والتأثير الشيوعي.
كان التردي اللاحق إلى الحرب الباردة سريعا؛ ففي فبراير عام 1948 اكتمل إسدال الستار الحديدي في أوروبا الشرقية-الوسطى حين انضمت تشيكوسلوفاكيا إلى صفوف الجبهة السوفييتية للديكتاتوريات الشيوعية. وفي أوروبا الغربية، حظيت الولايات المتحدة بمركز تفوق كثقل موازن للتأثير السوفييتي، وذلك من خلال مساعدة الفصيل المناهض للشيوعية في الحرب الأهلية اليونانية، وتقديم المساعدة لتركيا بسبب تعرضها للضغوط من جانب الاتحاد السوفييتي، إلى جانب إطلاق مشروع إعادة إعمار أوروبا - المعروف بمشروع مارشال - الذي عزز التعافي الاقتصادي بين عامي 1948 و1952 لدول أوروبا الغربية. رسخ إنشاء منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في أبريل عام 1949 انقسام أوروبا إلى معسكرين معاديين. وفي السنوات (والعقود) التالية صارت الحرب الباردة أكثر عالمية واتساما بالطابع العسكري. وسريعا ما تبع قيام جمهورية الصين الشعبية في الأول من أكتوبر عام 1949 تحالفها مع الاتحاد السوفييتي، ثم في يونيو من عام 1950 اندلعت الحرب الكورية، التي مثلت أول تحد خطير يواجه الأمم المتحدة.
لم يتسبب ابتداء الحرب الباردة واندلاع أول حرب كبرى ساخنة في حقبة ما بعد عام 1945 في تدمير الأمم المتحدة، بيد أنه شكل على نحو جوهري دور المنظمة في العلاقات الدولية، وحد من قدرتها على العمل كقوة إيجابية للأمن الدولي. يظل الصراع الكوري هو التدخل العسكري الوحيد واسع النطاق للأمم المتحدة خلال حقبة الحرب الباردة، وهو لم يتحقق إلا بفضل غياب الاتحاد السوفييتي عن جلسات مجلس الأمن في يونيو من عام 1950؛ حين كان الاتحاد السوفييتي يقاطع الأمم المتحدة لرفضها قبول جمهورية الصين الشعبية القائمة حديثا عضوا بالمنظمة. ومن ثم لم يكن مندوب الاتحاد السوفييتي موجودا لنقض القرار الذي رعته الولايات المتحدة، وهو الحق الذي استخدمه الاتحاد السوفييتي لما لا يقل عن ثمانين مرة بين عامي 1946 و1955.
كان استخدام الاتحاد السوفييتي لحق النقض مرتبطا - في واقع الأمر - بعقبة أخرى تسببت فيها الحرب الباردة؛ مأزق إضافة أعضاء جدد للأمم المتحدة. فمن الجلي أن كون الدولة «محبة للسلام» لم يكن بالمؤهل الكافي. فخلال العقد الأول بعد توقيع الميثاق في سان فرانسيسكو، أضيفت تسع دول وحسب إلى المنظمة: أفغانستان وأيسلندا والسويد وتايلاند عام 1946، وباكستان واليمن عام 1947، وبورما (ميانمار الآن) عام 1948، وإسرائيل عام 1949، وإندونيسيا عام 1950. ومن الواضح أن كون هذه الدول أكثر «محبة للسلام» من دول أخرى دأبت على التقدم لعضوية المنظمة مثل فنلندا أو أستراليا أمر محل شك.
في الواقع، لم يكن هناك نقص في عدد الدول المتقدمة للعضوية. لكن الحرب الكورية (1950-1953) جعلت أي تعاون بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي مستحيلا. علاوة على ذلك، كان هناك خلاف سوفييتي-أمريكي بشأن طريقة الاختيار: فبينما كان الاتحاد السوفييتي يرغب في عقد صفقة شاملة تضمن إضافة عدد متساو تقريبا من الدول المؤيدة للاتحاد السوفييتي والدول المؤيدة لأمريكا والدول المحايدة للأمم المتحدة، أصرت الولايات المتحدة على أن يحسم أمر كل دولة متقدمة للعضوية وفق مدى جدارة هذه الدولة بعينها، وكانت النتيجة الوصول إلى طريق مسدود؛ إذ لم يضف أي أعضاء للمنظمة لمدة خمس سنوات بعد عام 1950.
ومع هذا فإن أكثر ما أضر بمصداقية الأمم المتحدة في الخمسينيات والستينيات كان الجدل الذي نشب حول طلب جمهورية الصين الشعبية الانضمام للأمم المتحدة ومجلس الأمن. فبعد انتصار جمهورية الصين الشعبية - أو «الصين الشيوعية» كما سماها أغلب السياسيين الأمريكيين - بالحرب الأهلية في عام 1949، زعمت أنها الممثل الشرعي ل «كل» الصينيين. قوبلت هذه الفكرة برفض محموم من جانب جمهورية الصين (أو تايوان)، التي كانت حليفا للولايات المتحدة وتلقت منها الدعم المستمر. ولأكثر من عقدين ظلت تايوان - الجزيرة الصغيرة المقابلة لساحل الصين التي فر إليها القوميون الصينيون بعد انتصار الشيوعيين - تمثل الصين في الأمم المتحدة. والأهم من ذلك أن تايوان تمتعت بحق النقض في مجلس الأمن وكأنها واحدة من القوى العظمى الخمس في العالم. وفقط في عام 1971، حين رغبت إدارة نيكسون في إنشاء علاقات دبلوماسية مع جمهورية الصين الشعبية، غيرت واشنطن سياستها الخاصة بعدم الاعتراف بجمهورية الصين الشعبية. لكن بكين ظلت مصرة على تمثيل الصين كلها. ومن ثم حلت جمهورية الصين الشعبية محل تايوان في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وخرجت الجزيرة الصغيرة وسكانها الذين يقدر عددهم بحوالي 22 مليونا من عباءة الأمم المتحدة.
مع أن ظهور الحرب الباردة أثر على نحو جوهري على فعالية الأمم المتحدة في أول عقد لها، فقد ظهر عدد من التطورات الإيجابية أيضا. أهم هذه التطورات قاطبة هو تبني الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في عام 1948، وهو وثيقة جرى التفاوض حولها تحت قيادة إلينور روزفلت، أرملة الرئيس الراحل روزفلت. أيضا، في عام 1948، أرسلت الأمم المتحدة أول مراقبي السلام إلى جنوب آسيا والشرق الأوسط. وفي الشرق الأوسط تحديدا، توسط ناشط الحقوق المدنية رالف بانش بنجاح في اتفاقيات الهدنة بين دولة إسرائيل الوليدة وجيرانها العرب في عامي 1948 و1949. وفي الفترة نفسها، نشطت الأمم المتحدة في التعامل مع احتياجات لاجئي الحرب العالمية الثانية الأوروبيين، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى إنشاء مكتب مفوضية الأمم المتحدة السامية لشئون اللاجئين في عام 1950.
إلا أن هذه العلامات البارزة لم تستطع إخفاء حقيقة أنه خلال العقد الأول من عمرها، كانت الأمم المتحدة رهينة للمناخ الدولي المشحون بشدة. وتحديدا، كان التحول في طبيعة الحرب الباردة هو ما حل مشكلة العضوية التي وصلت لطريق مسدود، تلك المشكلة التي بدأت في منتصف الخمسينيات تقوض مصداقية الأمم المتحدة كمنظمة دولية منفتحة بحق. (5) إنهاء الاستعمار والتنمية
انضمت ست عشرة دولة إلى الأمم المتحدة في عام 1955، وهو ما وصل بعدد الدول الأعضاء إلى ست وسبعين دولة. جاء هذا التوسع نتيجة لصفقة شاملة انضمت بموجبها دول من أوروبا الشرقية - مثل ألبانيا وبلغاريا والمجر - في مقابل انضمام دول من أوروبا الغربية، مثل إيطاليا والبرتغال وإسبانيا. إضافة إلى ذلك، ضمت الصفقة الشاملة عددا من الدول الأوروبية المحايدة (النمسا وفنلندا وأيرلندا) وقلة من الدول المستقلة حديثا (كمبوديا ولاوس وليبيا).
عكست الصفقة الشاملة التي عقدت في عام 1955 هدوءا مؤقتا في التوتر بين الشرق والغرب في أعقاب وفاة ستالين ونهاية الحرب الكورية. لكن بعدها بعام واحد تصاعد التوتر الدولي مجددا مع انفجار أزمتين في الوقت ذاته تقريبا؛ ففي أكتوبر عام 1956 تدخلت القوات السوفييتية لسحق الحركة الديمقراطية في المجر. لم يثر ذلك القمع الوحشي أي رد فعل من جانب الولايات المتحدة، وهو ما يرجع في جزء منه إلى تزامنه مع الهجوم الفاشل لبريطانيا وفرنسا وإسرائيل على مصر بعد إعلان الزعيم المصري جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس. ومن قبيل المفارقة أن صارت أزمة قناة السويس أول قضية مهمة يقف فيها الأمريكيون والسوفييت الموقف نفسه داخل الأمم المتحدة؛ إذ صوتت الدولتان لمصلحة قرار يدعو للانسحاب الفوري للقوات الأجنبية من مصر.
توصف أحيانا أزمة السويس عام 1956 باللحظة التي بلورت نهاية الطموحات الاستعمارية الأوروبية، وفي السنوات التي تلتها حصلت أغلب المستعمرات البلجيكية والبريطانية والفرنسية على استقلالها، وأثناء الحصول على استقلالها سعت الدول الجديدة بكل جد لنيل الاعتراف الدولي، وكان أحد أهم رموز سيادتها القومية هو نيل عضوية الأمم المتحدة.
ليس من قبيل المفاجأة إذن أن يبدو عدد الدول التي انضمت للأمم المتحدة في عام 1955 ضئيلا بالمقارنة بالتوسع الذي تبعه؛ فبين عامي 1956 و1968 زاد عدد الأعضاء إلى 119 (بحلول عام 1962، كانت الأمم المتحدة قد ضاعفت عدد مؤسسيها الأصلي البالغ واحدا وخمسين دولة). وباستثناءات قليلة (اليابان، التي انضمت عام 1956، هي أبرزها)، تألف الأعضاء الجدد من مستعمرات أفريقية وآسيوية سابقة لقوى أوروبية. أغلب هذه الدول كان متخلفا اقتصاديا بالمقارنة بالأعضاء الأصليين. وفي القرن الحادي والعشرين لا تزال الصراعات المحلية تدمر دولا عديدة منها، وقد صارت هذه الدول مسارح دائمة للعديد من عمليات الأمم المتحدة.
شكل 1-3: نمو عدد أعضاء الأمم المتحدة منذ عام 1945.
اشتركت الدول الجديدة في سمة أخرى، وهي أن أغلبها رفض الانحياز لأحد جانبي الصراع بين الشرق والغرب، واختار بدلا من ذلك الانضمام لما سمي بحركة عدم الانحياز. بدأت الحركة باجتماع خمس وعشرين دولة في بلجراد، يوغوسلافيا في عام 1961. وعبر العقود التالية نمت حركة عدم الانحياز لتضم أكثر من مائة دولة سمت عن الانخراط في الحرب الباردة. وفي عام 2006 مثلا، عقدت الحركة قمة أخرى في هافانا بكوبا. وقد أصبحت حركة عدم الانحياز، منذ السبعينيات، أكبر تجمع للدول الممثلة بالجمعية العامة للأمم المتحدة.
كان الأثر الأساسي لحركة عدم الانحياز هو تركيز أنشطة الأمم المتحدة واهتماماتها على القضايا الاجتماعية والاقتصادية، وتحديدا على قضية التوزيع غير العادل للثروة بين دول الشمال والجنوب. أبرز أول مؤتمر للأمم المتحدة للتجارة والتنمية - الذي عقد في عام 1964 - هذا الهدف من خلال تكوين مجموعة السبعة والسبعين، وهي منظمة حرة لتنمية بلدان أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا وتحاول إبقاء المساعدات الإنمائية على رأس خطة عمل الأمم المتحدة.
وقد نجحت في هذا المسعى؛ فمن الجلي أن منظمة الأمم المتحدة الموسعة ركزت على القضايا الاقتصادية والاجتماعية والبيئية في الستينيات والسبعينيات، وقد عقدت مؤتمرات دولية كبرى برعاية الأمم المتحدة عن البيئة (1972) وعن وضع المرأة (1975)، وتبنت الأمم المتحدة اتفاقيات ضد التفرقة العنصرية (1969)، ولمكافحة التعصب والتفرقة على أساس النوع (1979). ونجح برنامج الأمم المتحدة للبيئة في الضغط من أجل توقيع اتفاقية حماية طبقة الأوزون (بروتوكول مونتريال) في عام 1987. وفي عام 1980 أعلنت منظمة الصحة العالمية القضاء على مرض الجدري (إذ ظهرت آخر حالة إصابة بالمرض عام 1977). ومع أن قدرة المنظمة على التعامل مع قضايا الأمن الدولي (وخاصة تلك المتعلقة بالحروب بين الدول وداخل الدولة نفسها) كانت محل شك خلال الحرب الباردة، واجهت الأمم المتحدة بنشاط وفعالية العديد من التحديات العالمية الأخرى، وتحديدا تلك التي تواجه الأعضاء الجدد. (6) الأمم المتحدة في حقبة ما بعد الحرب الباردة
غير انهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة من وجه السياسة الدولية والأمم المتحدة. فمع اختفاء المواجهة المتواصلة بين الشرق والغرب، توقع الكثيرون أن يستطيع مجلس الأمن أخيرا أن يضطلع بدوره الشرعي في توفير السلم والأمن الدوليين وضمانهما. ووفق «خطة السلام»، المبرمة في صيف عام 1992، ستستخدم الأمم المتحدة الدبلوماسية الوقائية وصنع السلام وحفظ السلام لترك بصمتها على النظام الدولي التالي على الحرب الباردة. ومع انتهاء المواجهات بين القوتين العظميين، كان من المفترض أن تصير المساعدات الإنمائية أقل تسييسا؛ ومن ثم نشرت الأمم المتحدة في عام 1994 «خطة التنمية». بعد ذلك ضغط نشطاء حقوق الإنسان، كي لا يتخلفوا عن الركب، لتمرير «خطة الديمقراطية» في عام 1996. ولو كان عدد الخطط مؤشرا، لكنا بصدد عصر ذهبي من الحوكمة العالمية. وكما قال الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان عند تسلمه جائزة نوبل للسلام عام 2001، فإن «هذه الحقبة من التحديات العالمية لا تترك لنا خيارا سوى التعاون على المستوى العالمي».
4
كان عنان، ذلك الغاني ذو الشخصية الآسرة، الذي قاد الأمم المتحدة لعقد من الزمان (1997-2007)، محقا بلا ريب. لكنه كان مدركا بالتأكيد أن تلك المثل السامية كانت أبعد ما تكون عن التحقق في بداية الألفية الجديدة. وقد شهد العقد ونصف العقد التاليان على نهاية الحرب الباردة الكثير من التغيرات، سواء في سياسات الأمم المتحدة أو داخل المنظمة نفسها، لكن ندر أن يكون من بينها التدخل على نحو أكبر في شئون العالم.
تحقق النمو بطرق متعددة؛ فقد زاد عدد أعضاء الأمم المتحدة من 159 دولة في عام 1989 إلى 192 دولة عام 2007، وفي الفترة نفسها قفزت ميزانية الأمم المتحدة من 2,6 مليار دولار إلى حوالي 20 مليار دولار. نتج هذا في جزء منه عن الزيادة في عدد عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة. فخلال العقود الأربعة الأولى لوجود الأمم المتحدة، أجريت ثلاث عشرة عملية لحفظ السلام، وأجيزت ست وثلاثون عملية منذ عام 1988. وفي عام 2007 بلغت قوات حفظ السلام في العالم قرابة الثمانين ألف فرد، مقارنة بثلاثة عشر ألفا قبل هذا التاريخ بعقدين. زادت تكلفة هذه العمليات عشرة أضعاف: من حوالي 500 مليون دولار في أواخر الثمانينيات إلى 5 مليارات دولار في عام 2006. وفي الوقت ذاته، أفرطت الأمم المتحدة في تقديم الكثير من الخطط والتعهدات الطموحة، المدعومة بعدد لا يحصى من الدراسات والمؤتمرات. تبلور أغلب هذا النشاط في عام 2000، حين كشفت الأمم المتحدة النقاب عن «الأهداف الإنمائية للألفية»، وهي قائمة بثمانية أهداف عالمية تراوحت بين تقليص الفقر إلى النصف حتى وقف انتشار فيروس نقص المناعة البشرية/متلازمة نقص المناعة المكتسب (الإيدز) وتوفير التعليم الأساسي على مستوى العالم. ومن المفترض أن يتحقق هذا كله بحلول عام 2015.
لكن لم يستطع كل هذا النمو والنشاط أن يخفي الحقائق القاسية التي واجهتها الأمم المتحدة في حقبة ما بعد الحرب الباردة. فبالرغم من الزيادة الحادة في عدد عمليات حفظ السلام التي اضطلعت بها، فإن الإخفاقات تتفوق على النجاحات؛ فعلى سبيل المثال: مع أن الأمم المتحدة نجحت في تحويل ناميبيا إلى حكم الأغلبية، فإنها فشلت في منع المجازر التي وقعت في كل من يوغوسلافيا السابقة ورواندا. ومع أن نسبة البشر الذين يعيشون في فقر مدقع في آسيا قد تكون انخفضت في السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين، فإن أعدادا مشابهة ارتفعت في أفريقيا.
وهكذا كانت أول ستة عقود من عمر الأمم المتحدة مفعمة بالتغيير. وقد دللت زيادة عدد الأعضاء وحدها على أن المنظمة كانت، بحلول أوائل القرن الحادي والعشرين، المنظمة العالمية الوحيدة بحق. لكن هذا التطور كان محفوفا بالتحديات والإحباطات، في حين تعاملت منظمة الأمم المتحدة سريعة التغير مع قضايا الأمن البشري والدولي، وإدارة ما بعد الصراع، وحقوق الإنسان، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهذا على سبيل المثال لا الحصر. ومن خلال العمل على مستوى عالمي، وبهيئة عاملين دولية وداخل نظام دولي تسيطر عليه الصراعات، لم تحقق الأمم المتحدة عادة سوى نجاح محدود متفاوت وحسب في أي من هذه المناحي.
أحد السبل لفهم السبب وراء ذلك الحال يكمن في الهيكل المختلط نفسه للمنظمة الدولية.
الفصل الثاني
خليط مستحيل: هيكل الأمم المتحدة
عبر داج همرشولد - في مقابلة مع مجلة تايم في صيف عام 1955 - عن إحباطه بشأن الصورة العامة للأمم المتحدة، وقد كان قلقا - تحديدا - من أن كثيرا من الناس رأوا في المنظمة - التي لم تتجاوز من العمر عشرة أعوام - كيانا بيروقراطيا ضخما عاجزا عن مجابهة المخاوف الملموسة لدى البشر العاديين. والأمر المساوي في الأهمية هو أن همرشولد رأى أن مثل هذا السخط كان يبعد منظمة الأمم المتحدة عن الأشخاص الذين صممت المنظمة لخدمتهم تحديدا. ولم يكن هناك سوى حل واحد، وقد عبر عنه همرشولد بقوله: «سيكون كل شيء على ما يرام، أتعلمون متى؟ حين يتوقف الناس - الناس وحسب - عن التفكير في الأمم المتحدة بوصفها لوحة تجريدية عجيبة أشبه بلوحات بيكاسو، والنظر إليها كلوحة رسموها بأنفسهم.»
1
تشير تعليقات ثاني أمين عام للأمم المتحدة إلى واحدة من المشكلات المحورية التي تواجهها المنظمة العالمية؛ ففي عام 1955 كانت الأمم المتحدة حاضرة بالفعل، لكنها كانت بعيدة؛ ليس فقط لأنها كانت تعمل في مجالات عديدة مختلفة، ومن خلال وكالات عديدة مختلفة، وبمجموعة متنوعة من الأهداف المتباينة؛ فقد كانت - كما الحال معها اليوم - «لوحة تجريدية عجيبة أشبه بلوحات بيكاسو»؛ خليط تنظيمي يستحيل تفسير وظائفه العديدة بلغة بسيطة. ليس هناك جدوى من القول: إن الأمم المتحدة كيان هيكلي ضخم؛ خليط من المنظمات والشعب والهيئات والأمانات التي تحمل كل منها اسما مركبا مميزا لا تستطيع سوى قلة من البشر أن يلموا بها. وهذا وحده كفيل بتفسير العديد من مشكلات الأمم المتحدة.
لكن الفكرة المحورية هنا هي أن الأسباب الداعية لبناء مثل هذا الخليط - اللوحة التجريدية حسب وصف همرشولد - بسيطة: فقد تألفت المنظمة على يد أشخاص من دول متعددة، لهم خلفيات وأهداف متباينة. والأمر المساوي في الأهمية هو أن مؤسسي الأمم المتحدة (ومصممي هيكلها) كانوا يواجهون المعضلة الأبدية: كيفية التوفيق بين المصالح القومية - الأمن القومي والرخاء القومي والقوانين الوطنية - والمصالح الدولية؛ أي الأمن الدولي والتنمية العالمية والعدالة الشاملة وحقوق الإنسان. وقد عكس الهيكل الموضوع هذه المعضلة، وهو أحد أسباب المحصلة النهائية: لوحة جزء منها تجريدي وجزء منها واقعي. (1) «أسرة» الأمم المتحدة
في عام 1945 كانت الأجهزة الستة الرئيسية للأمم المتحدة هي: الجمعية العامة، ومجلس الأمن ، والمجلس الاقتصادي والاجتماعي، ومجلس الوصاية، ومحكمة العدل الدولية، والأمانة العامة. وباستثناء مجلس الوصاية - الذي لم يعد له غرض بعد اكتمال عملية إنهاء الاستعمار التي أشرف عليها - لا تزال هذه الأجهزة تؤلف البناء الفوقي الأساسي للأمم المتحدة. تلتقي هذه الأجهزة جميعها على نحو منتظم، ويصوت أعضاؤها ويتخذون القرارات، ويصدرون الإعلانات، ويناقشون قضايا اليوم، ومع هذا فوظائف هذه الأجهزة تتباين تباينا كبيرا: فمع أن الجمعية العامة هي برلمان الأمم المتحدة ومجلس الأمن هو لجنتها التنفيذية، فإن الأمانة العامة هي الهيئة التشغيلية - الديوان - الذي يدير الأمم المتحدة.
ومع ذلك فإن «أسرة» الأمم المتحدة أكبر بكثير؛ إذ تضم خمس عشرة وكالة والعديد من البرامج والهيئات. بعض المنظمات - كمنظمة العمل الدولية - أسست خلال حقبة عصبة الأمم في العشرينيات، وقد أنشئ الكثير منذ عام 1945 لمواجهة مشكلات محددة طلب من الأمم المتحدة حلها، وقد جاء معظم هذه الزيادة - والتعقيد الناجم عنها للأمم المتحدة - كنتيجة للنمو السريع في عدد الدول الأعضاء التي ساهمت - في العقود التالية على تأسيس المنظمة - في زيادة المهام التي فوضت الأمم المتحدة للتعامل معها. ونتيجة لذلك، أضيفت هيئات وبرامج جديدة (ولا تزال تضاف) على أساس دوري. وهناك هيئات أخرى، كمفوضية الأمم المتحدة السامية لشئون اللاجئين، قصد بها في البداية أن تكون مؤقتة، لكنها تحولت إلى أحد الأجهزة الدائمة. ومن الحتمي أن تتداخل اختصاصات بعض الهيئات مع البعض الآخر.
بالإضافة إلى كل هذا، للأمم المتحدة مجموعة مختلطة من «الهيئات الفرعية» والشركاء، فعلى امتداد تاريخها، ارتبطت الأمم المتحدة بحوالي ثلاثة آلاف منظمة غير حكومية. كان هذا التصور قائما بالفعل في عام 1945؛ إذ أقرت المادة 71 من ميثاق الأمم المتحدة صراحة أن للأمم المتحدة «أن تجري الترتيبات المناسبة للتشاور مع الهيئات غير الحكومية التي تعنى بالمسائل الداخلة في اختصاصها». من الناحية العملية، يعني هذا أنه في كل عام تعمل الأمم المتحدة مع مئات المنظمات غير الحكومية للتعهد بالمهام الإنسانية في مناطق الصراع في العالم؛ على سبيل المثال: بين عامي 1995 و2002، أشرفت بعثة الأمم المتحدة في البوسنة والهرسك على عملية بناء السلام التي تمر بها البلاد - وأهمها إرساء سيادة القانون - بعد المرور بحرب بغيضة. وخلال هذه الفترة اشتركت البعثة مع قرابة أربعين منظمة غير حكومية قدمت خبراتها في نطاق واسع من الاختصاصات يتراوح بين تطهير الأرض من الألغام وحماية البيئة.
وإضافة إلى التعاون مع العديد من بعثات الأمم المتحدة، تعمل المنظمات غير الحكومية كجماعات ضغط لدعم قضايا متعددة؛ على سبيل المثال: في عام 1997 أصدرت اثنتان وثلاثون منظمة غير حكومية خطابا مفتوحا «تحث» فيه الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون على الضغط على حكومة السودان الممانعة للسماح بدخول قوة حفظ السلام المشتركة التابعة للاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة إلى إقليم دارفور الذي مزقه الصراع. يعطينا هذا المثال لمحة عن طريقة أخرى أجبرت الأمم المتحدة بها على نحو متزايد على الإقرار بقصور قدراتها وعقد التحالفات في أماكن أخرى. وتحديدا منذ التسعينيات، أوكلت الأمم المتحدة «من الباطن» مهام حفظ السلام إلى مؤسسات لا تنتمي إلى الأمم المتحدة (كمنظمات إقليمية كحلف شمال الأطلسي أو الاتحاد الأفريقي) أو حتى إلى شركات أمن خاصة. وفي عام 2001 كونت تلك الأخيرة منظمة غير حكومية خاصة بها تدعى رابطة عمليات السلام الدولية، التي تعمل كجماعة ضغط للعلاقات العامة للشركات التي كانت في أوقات سابقة يشار إليها بجماعات المرتزقة.
هذا التعقيد الإداري يعكس أيضا محاولة تشكيل منظمة قادرة على تجنب بعض المشكلات التي واجهتها عصبة الأمم من قبل، وقادرة على التكيف مع البيئة الدولية المتغيرة حسب الحاجة. كان لعصبة الأمم عدد من الأجهزة مشابه لتلك الخاصة بالأمم المتحدة؛ على سبيل المثال: كان هناك مجلس العصبة (وهو لجنة تنفيذية شبيهة بمجلس الأمن) وجمعية العصبة (المعادل التقريبي للجمعية العامة للأمم المتحدة)؛ أي إن هيكل الأمم المتحدة كان مبنيا على مزيج من الهياكل الموروثة، والتحديات الجديدة، والدروس التاريخية. (2) مجلس الأمن
مجلس الأمن هو الجهاز الرئيسي لنظام الأمم المتحدة كله، ومسئوليته الأساسية هي الحفاظ على السلم والأمن الدوليين. ولتحقيق هذا المقصد، منح مجلس الأمن سلطات واسعة تجعل منه شريكا نشطا في الشئون الدولية؛ فهو قادر على التحقيق في أي نزاع أو موقف قد يؤدي إلى احتكاك دولي، ويحق له أن يقرر فرض عقوبات اقتصادية أو التدخل العسكري؛ وعلى هذا فوض مجلس الأمن لاستخدام سلطاته كوسيلة لمنع الصراع وكوسيلة لإجبار أي دولة على التقيد بحكم أو قرار بعينه.
يمكن النظر إلى السلطات الواسعة الممنوحة لمجلس الأمن كنتيجة للرغبة في بناء جهة حارسة للسلم والأمن الدوليين تكون أكثر فعالية مما كانت عليه عصبة الأمم. وقليلون جدا هم من شككوا في الحاجة لمثل هذه المنظمة، سواء وقت إنشائها أو بعد ذلك. بيد أن هيكل مجلس الأمن لا يخلو من الإشكاليات؛ فهو يعكس واحدا من التوترات التي ألقت بظلالها على الأمم المتحدة، وكثيرا ما كبحت تأثيرها. وعلى وجه الخصوص، فإن نظام العضوية المزدوج، الذي منح المزيد من السلطة، على نحو غير متكافئ، لخمس من القوى العظمى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، أقر بامتيازات القوى العظمى كعنصر مهم في ميثاق الأمم المتحدة. وبهذا وضعت المصالح القومية والضيقة في مواجهة المثل الجامعة التي أسست عليها الأمم المتحدة.
يحدد الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة سلطات مجلس الأمن. ومن المواد المحورية في هذا الفصل ما يلي:
المادة 39
يقرر مجلس الأمن هل وقع تهديد للسلم أو إخلال به، أو كان ما وقع عملا من أعمال العدوان، ويقدم في ذلك توصياته أو يقرر ما يجب اتخاذه من التدابير طبقا لأحكام المادتين 41 و42 لحفظ السلم والأمن الدولي أو إعادته إلى نصابه.
المادة 40
منعا لتفاقم الموقف، لمجلس الأمن، قبل أن يقدم توصياته أو يتخذ التدابير المنصوص عليها في المادة 39، أن يدعو المتنازعين للأخذ بما يراه ضروريا أو مستحسنا من تدابير مؤقتة، ولا تخل هذه التدابير المؤقتة بحقوق المتنازعين ومطالبهم أو بمركزهم، وعلى مجلس الأمن أن يحسب لعدم أخذ المتنازعين بهذه التدابير المؤقتة حسابه.
المادة 41
لمجلس الأمن أن يقرر ما يجب اتخاذه من التدابير التي لا تتطلب استخدام القوات المسلحة لتنفيذ قراراته، وله أن يطلب إلى أعضاء الأمم المتحدة تطبيق هذه التدابير، ويجوز أن يكون من بينها وقف الصلات الاقتصادية والمواصلات الحديدية والبحرية والجوية والبريدية والبرقية واللاسلكية وغيرها من وسائل المواصلات وقفا جزئيا أو كليا، وقطع العلاقات الدبلوماسية.
المادة 42
إذا رأى مجلس الأمن أن التدابير المنصوص عليها في المادة 41 لا تفي بالغرض أو ثبت أنها لم تف به، جاز له أن يتخذ بطريق القوات الجوية والبحرية والبرية من الأعمال ما يلزم لحفظ السلم والأمن الدولي أو لإعادته إلى نصابه. ويجوز أن تتناول هذه الأعمال المظاهرات والحصر والعمليات الأخرى بطريق القوات الجوية أو البحرية أو البرية التابعة لأعضاء الأمم المتحدة.
المادة 43 (1) يتعهد جميع أعضاء الأمم المتحدة في سبيل المساهمة في حفظ السلم والأمن الدولي، أن يضعوا تحت تصرف مجلس الأمن - بناء على طلبه وطبقا لاتفاق أو اتفاقات خاصة - ما يلزم من القوات المسلحة والمساعدات والتسهيلات الضرورية لحفظ السلم والأمن الدولي، ومن ذلك حق المرور.
تألف مجلس الأمن في بدايته من أحد عشر عضوا (أو دولة)، وهو العدد الذي زاد إلى خمسة عشر في عام 1965. خمس من هذه الدول - الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى وفرنسا والصين وروسيا (الاتحاد السوفييتي حتى عام 1991) - أعضاء دائمون (تعرف بالدول الخمس دائمة العضوية). الأعضاء العشرة الآخرون غير دائمين، وتنتخبهم الجمعية العامة لفترات قوامها عامان. تعكس عملية اختيار الأعضاء السعي لإيجاد بعض التوازن الإقليمي، الذي نادرا ما يكون مثاليا؛ إذ تحصل أفريقيا على ثلاثة مقاعد، وتحصل أوروبا الغربية والأوقيانوس، وآسيا، وأمريكا اللاتينية والكاريبي على مقعدين لكل منها. أما المقعد الأخير فمحجوز لأوروبا الشرقية. وكل عام يغادر خمسة من الأعضاء العشرة غير الدائمين مجلس الأمن ويحل محلهم خمسة أعضاء آخرون.
ملمحان أساسيان يميزان مجلس الأمن عن عصبة الأمم؛ أولا: قرارات مجلس الأمن ملزمة وتستلزم أغلبية تسع دول من أصل خمس عشرة - بدلا من الإجماع التام كما كان الحال في عصبة الأمم - لاعتمادها. ثانيا: من الجلي أن الأعضاء الدائمين أعلى سلطة من الأعضاء غير الدائمين؛ إذ تستطيع أي دولة من الدول الخمس دائمة العضوية منع أي قرار من خلال استخدام حق النقض. تسبب هذا الشرط في دعوات عديدة للإصلاح؛ فربما كانت الدول دائمة العضوية «قوى عظمى» في عام 1945، ومن المؤكد أنها كانت القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، لكن ليس هذا هو الحال في القرن الحادي والعشرين. لكن منذ تأسيس الأمم المتحدة كان الإصلاح الكبير الوحيد هو زيادة عدد الأعضاء غير الدائمين في عام 1965.
ظل تركيز السلطة في يد الدول الخمس دائمة العضوية محل انتقاد، وهو ما يرجع في أغلبه إلى أن مجلس الأمن يمارس نطاقا عريضا من السلطات على ما تبقى من نظام الأمم المتحدة. على سبيل المثال: يستطيع مجلس الأمن أن يوصي بقبول دولة جديدة في الأمم المتحدة، وهو يختار الأمين العام، إلى جانب أنه يختار - مع الجمعية العامة - قضاة محكمة العدل الدولية.
وسواء أكان هذا الوضع يشوبه الخطأ أم لا، فإن مجلس الأمن - ودوله الخمس دائمة العضوية - يهيمن على جميع الأجهزة الأخرى بالأمم المتحدة. (3) الجمعية العامة
إذا كان مجلس الأمن هو المكان الذي تستجيب فيه الأمم المتحدة - أو الدول الأعضاء بالمجلس في أي وقت بعينه - للصراعات العديدة في العالم، فإن الجمعية العامة هي المنتدى الذي تستطيع أي دولة من الدول المائة واثنتين وتسعين الأعضاء أن تعرض قضيتها فيه على العالم. فالجمعية العامة - بوصفها هيئة المناقشة الرئيسية للأمم المتحدة - تشبه في مناح كثيرة البرلمان القومي؛ فكل دولة من الدول الأعضاء - بصرف النظر عن حجمها - لها صوت. هذا الترتيب يجعل الجمعية العامة شبيهة بمجلس الشيوخ الأمريكي، حيث تمثل كل ولاية من الولايات الخمسين بنائبين بصرف النظر عن التعداد السكاني أو مساحة الولاية. وهذا الموقف عبثي بطريقة ما؛ فجزيرة توفالو ضئيلة الحجم، البالغ عدد سكانها 11600 نسمة لها تمثيل مساو لجمهورية الصين الشعبية والهند، التي يتجاوز عدد سكان الواحدة منهما المليار نسمة.
شكل 2-1: نيكيتا خروشوف - رئيس وزراء الاتحاد السوفييتي - في اجتماع للجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر عام 1960. أكثر ما علق بالذاكرة عن زيارته هو اليوم الذي قرع فيه الزعيم السوفييتي المتحمس منصة القراءة بحذائه لإثبات وجهة نظره.
2
إن حجم الجمعية العامة ذاته يعني أن فعاليتها محدودة. فالاجتماعات السنوية - أو الدورات العادية - التي عادة ما تفتتح في شهر سبتمبر باتت بمنزلة طقوس، ولا تحظى بالاهتمام إلا إذا ارتبطت بظهور شخصية شهيرة، كرئيس الولايات المتحدة الأمريكية مثلا. في الواقع، لقد اكتسبت الجمعية العامة للأمم المتحدة أهميتها الأوضح كمنتدى للتعبير عن الاحتجاج من قبل الشعوب الراغبة في الاعتراف بها كدول (كالفلسطينيين منذ السبعينيات).
إن شمولية الجمعية العامة هذه - والأمم المتحدة باختصار - هي أكبر نقاط ضعفها: فمع هذا العدد الكبير من الأعضاء الممثلين، لا تتاح أمام القضايا الخلافية فرصة كبيرة للحسم حسما تاما، وسبب هذا هو أن القرارات بشأن القضايا الجوهرية - كالسلم والأمن، وقبول أعضاء جدد، والأمور المتعلقة بالميزانية - تتطلب أغلبية الثلثين (والقرارات الخاصة بالقضايا الأخرى تتطلب الأغلبية العادية). وبخصوص قضايا الأمن الدولي تتبع الجمعية العامة لمجلس الأمن، ومن ثم تعتمد على اتفاق الدول الخمس دائمة العضوية.
بطرق عدة، تعمل الجمعية العامة على نحو شبيه بالبرلمان الوطني؛ فلديها رئيس وواحد وعشرون نائبا للرئيس! لكن على عكس أغلب البرلمانات الوطنية بأحزابها السياسية، تقسم الجمعية العامة وفق الحدود الإقليمية. فرئاسة الجمعية - على سبيل المثال - تدور مناوبة كل خمس سنوات بين خمس مجموعات من الدول: الأفريقية، والآسيوية، ودول شرق أوروبا، وأمريكا اللاتينية والكاريبي، ودول أوروبا الغربية ودول أخرى (مثل الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأستراليا ونيوزيلندا).
إضافة إلى ذلك، تنفذ أعمال الجمعية العامة في عدد من اللجان ذات العضوية المحدودة أكثر، وهذه اللجان معنية بقضايا محددة على غرار لجنة نزع السلاح والأمن الدولي (اللجنة الرئيسية الأولى)، واللجنة الاقتصادية والمالية (الثانية)، ولجنة الشئون الاجتماعية والإنسانية والثقافية (الثالثة). وكما هو الحال فيما يخص الرئاسة ونيابة الرئاسة، يجري اختيار عضوية اللجان ورئاستها على أساس إقليمي؛ على سبيل المثال: في عام 2006 ترأست اللجنة الأولى نرويجية، والثانية إستونية، والثالثة عراقي، والرابعة نيبالي، وهكذا دواليك.
إذا كان مجلس الأمن قد ظل جامدا على نحو لافت من حيث قواعده وعضويته، فإن الجمعية العامة هي أكثر هيئات الأمم المتحدة التي شهدت زيادة تدريجية في عدد الدول الأعضاء؛ من 51 دولة في عام 1945 إلى 192 دولة اليوم . هذه الزيادة البالغة في العضوية أثرت على الأمم المتحدة بعدد من الطرق المهمة، أهمها قد يكون بلورة التنمية الاقتصادية والاجتماعية كقضايا جوهرية على جدول أعمال الأمم المتحدة. وأثرت أيضا على عمل القائمين على إدارة المنظمة على أساس يومي. (4) الأمين العام: هل هي «أصعب وظيفة على الأرض»؟
تخدم الأمانة العامة للأمم المتحدة الأجهزة الرئيسية الأخرى للأمم المتحدة وتدير البرامج والسياسات التي تضعها هذه الأجهزة. على رأس الأمانة يوجد الأمين العام، الذي تعينه الجمعية العامة، وفق توصية من مجلس الأمن، لمدة خمس سنوات قابلة للتجديد. تتكون الأمانة العامة بأكملها من نحو تسعة آلاف موظف مدني دولي يعملون في مراكز عمل تابعة للأمم المتحدة في العالم (أبرزها في أديس أبابا وبانكوك وبيروت وجنيف ونيروبي ونيويورك وسانتياجو وفيينا).
يتسم دور الأمانة العامة بالتعقيد؛ إذ يتراوح بين المناصرة العامة للعديد من قضايا الأمم المتحدة والإدارة اليومية لبرامجها الاقتصادية والاجتماعية المتعددة، إلى التعامل الدبلوماسي مع الأزمات، والإشراف على عمل قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في مناطق الصراع في العالم. لم تكن الموازنة بين هذه المهام تحت الضغط المتواصل من الدول الأعضاء بالمهمة السهلة قط لهذه الهيئة الصغيرة نسبيا من الموظفين المدنيين الدوليين الذين هم - في نهاية المطاف - من مواطني الدول الأعضاء. إن عمل الأمانة العامة، بفعل تركيبة موظفيها نفسها، واقع تحت ضغط دائم من جانب كل من واجبات الدولة القومية والأهداف العالمية. فهل يمكن للمرء أن يتوقع حقا ألا يستخدم مواطن إحدى الدول منصبه كموظف بالأمم المتحدة لدفع سياسات معينة يكون لها أثر إيجابي على بلده الأم؟
شكل 2-2: في مطار ساليسبري، روديسيا الجنوبية، يرافق حرس الشرف جثمان داج همرشولد على متن طائرة لرحلة العودة إلى مسقط رأسه بالسويد. قتل همرشولد في حادث طائرة في عام 1961 أثناء محاولته حل إحدى الأزمات بالكونغو.
3
أثرت هذه النقطة تأثيرا واضحا على تكوين الأمانة العامة واختيار الأمين العام للأمم المتحدة. فمنذ عام 1946 والأمين العام هو واجهة المنظمة، إلى جانب كونه كبير الموظفين الإداريين. يجمع منصب الأمين العام بين رؤية وتوقعات هائلة، وسلطات محدودة في الوقت ذاته. وكل من الأمين العام والأمانة العامة، الذي يفترض بهما في الأحوال المثالية الاستقلال عن التحيزات القومية والسمو فوق السياسة، لا يمكنهما العمل إجمالا دون دعم الدول القومية الأعضاء بالأمم المتحدة، وعلى رأسها الدول الخمس دائمة العضوية بمجلس الأمن. ولأن مقر الأمم المتحدة يقع في نيويورك، فالأمين العام يخضع لرقابة وسائل الإعلام الأمريكية تحديدا - ناهيك عن نقدها وازدرائها - داخل أقوى دولة قومية في العالم.
لخص أول أمين عام للأمم المتحدة، النرويجي تريجفي لي، صعوبات المنصب وهو يورث المنصب للسويدي داج همرشولد في عام 1953 بقوله: «مرحبا بك في أصعب وظيفة على وجه الأرض.» وفي وقت سابق على هذا كان لي - الذي اضطر للتعامل مع قضايا صعبة كاندلاع الحرب الكورية - قد تحدث للصحافة قائلا: «سآخذ متاعب الماضي، وكل الإحباطات والأوجاع، ثم أصرها في حقيبة وألقي بها في نهر إيست ريفر.»
4
على الأرجح يتفق خلفاء لي مع هذا التقييم المرح؛ ففي الواقع صار منصب الأمين العام للأمم المتحدة أكثر صعوبة على مر العقود مع زيادة عدد الدول الأعضاء بالأمم المتحدة وتنوعها. ومع ذلك فقد ترك بعضهم إرثا ذا قيمة؛ على سبيل المثال: أيد داج همرشولد إنشاء قوات لحفظ السلام تابعة للأمم المتحدة؛ تلك القوات ذات الخوذات الزرقاء التي جابت مناطق الصراع في العالم على امتداد نصف القرن المنصرم، وساعد أيضا على دفع التنمية الاقتصادية إلى صدارة جدول أعمال الأمم المتحدة. لا ريب أن فترة تولي همرشولد للمنصب تزامنت مع الزيادة السريعة في عدد أعضاء الأمم المتحدة، وذلك مع انتشار عملية إنهاء الاستعمار في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات. إن همرشولد - الملتزم التزاما شخصيا بجعل الأمم المتحدة لاعبا أساسيا في الشئون الدولية - لم يسمح للأمم المتحدة بأن تكون رهينة لعداوات الحرب الباردة التي هددت بالانتشار إلى الأجزاء المستقلة حديثا من العالم. وقد قتل همرشولد في حادث تحطم طائرة في عام 1961 - وبهذا صار شهيدا بشكل ما - وسط أزمة الكونغو، وهي واحدة من الصراعات العديدة التي نشأت بعد انتهاء الاستعمار.
لم يتمتع أغلب الأمناء العموم التالين بمثل هذا الانفتاح على العالم، وهو ما يعود في جزء منه إلى الحرب الباردة الجارية والزيادة المهولة في عدد الدول الأعضاء التي جعلت عملية إدارة الأمم المتحدة متزايدة الصعوبة. ظل اختيار الأمين العام للأمم المتحدة قضية حساسة للغاية بالمثل؛ إذ إن لكل دولة من الدول الخمس دائمة العضوية حق نقض القرار، ولهذا أسفرت عملية الاختيار عن سلسلة من الحلول الوسط التي أنتجت عددا من الأمناء العموم المفتقدين للفعالية نسبيا: البورمي يو ثانت، والنمساوي كورت فالدهايم، والبيروفي خافيير بيريز دي كويار، والمصري بطرس بطرس غالي، على الرغم من أنها وسعت حق شغل المنصب لما وراء دول شمال أوروبا. وإحقاقا للحق، حاول كل هؤلاء الرجال (وإلى الآن كل من شغل هذا المنصب كانوا رجالا) الحفاظ على نزاهة مكاتبهم وصورتها العامة الجيدة بأفضل ما يستطيعون. لكن تحيزات الحرب الباردة، والتأثير الأمريكي الغالب في التسعينيات، في حالة بطرس غالي، حكما على أي جهد لتعزيز استقلالية الأمم المتحدة بالفشل.
الأمناء العموم للأمم المتحدة
1946-1952
تريجفي لي، النرويج
1953-1961
داج همرشولد، السويد
1961-1971
يو ثانت، ميانمار (بورما)
1972-1981
كورت فالدهايم، النمسا
1982-1991
خافيير بيريز دي كويار، بيرو
1992-1996
بطرس بطرس غالي، مصر
1997-2006
كوفي عنان، غانا
2007-
بان كي مون، جمهورية كوريا (كوريا الجنوبية)
وأخيرا، كان الأمين العام التالي الذي تميز لتركه بصمة مهمة على المنظمة هو الغاني كوفي عنان؛ فخلال فترة توليه للمنصب، تبنت الأمم المتحدة ما سمي بأهداف الألفية، وهي مجموعة عريضة من الإرشادات الهادفة لتقليل الفقر في العالم إلى النصف بحلول عام 2015. أيضا بدأ عنان عملية الإصلاح التدريجي لهيكل الإدارة التنفيذية للأمم المتحدة وقادها بنفسه؛ تلك العملية التي تهدف لجعل الأمم المتحدة منظمة أكثر فعالية. لكن الأكثر أهمية على الأرجح هو قدرة عنان معسول اللسان ذي الشخصية الآسرة على الحفاظ على إيجابية صورة الأمم المتحدة في الأوقات التي تعرضت فيها أهميتها - ونزاهة عامليها - للتشكيك على نحو متزايد. وعلى غرار همرشولد، فاز عنان - أول أمين عام للأمم المتحدة قضى حياته المهنية موظفا بالأمم المتحدة - بجائزة نوبل للسلام. ومع هذا، فقد شهدت الأعوام الأخيرة في فترة عنان تحديات عديدة، كالصراع حول غزو العراق بقيادة أمريكا، وعجز الأمم المتحدة عن وضع نهاية سريعة للقتال الذي نشب على الحدود الإسرائيلية اللبنانية في عام 2006، والاتهامات بتفشي الفساد في أروقة الأمم المتحدة (التي طالت ابن عنان نفسه، ضمن آخرين). ومن المؤكد أن عنان شعر بنوع من الراحة لدى مغادرة مكتبه في نيويورك وتسليم المنصب إلى بان كي مون في ديسمبر عام 2006.
في الواقع، تتسبب مشكلات عديدة في إعاقة عمل كل من الأمانة العامة ومكتب الأمين العام للأمم المتحدة، ومن بين هذه المشكلات التعنت البيروقراطي، والروتين الحكومي، وعجز الميزانية، وسوء الإدارة. وأهم ما في الأمر هو أن العقود الستة الأخيرة أظهرت صعوبة الحفاظ على طاقم عاملين دولي داخل نظام يجعل الأمانة العامة - شأن السواد الأعظم من الأمم المتحدة - رهن رغبات الدول الخمس دائمة العضوية. إضافة إلى ذلك، أي محاولات لتحقيق الانسيابية في عمل الأمم المتحدة تواجه بتحديات يستحيل تخطيها تقريبا مع كثرة المنظمات التي تؤلف أسرة الأمم المتحدة والعاجزة عن العمل بكفاءة في أحيان كثيرة.
صعوبة أخرى تواجه جهود إصلاح الأمم المتحدة تنبع من نقطة تفرد المنظمة؛ عضويتها العالمية. فأسفل الخطب البلاغية السامية التي تلقى بالجمعية العامة ومجلس الأمن تقبع طبقات فوق طبقات من الطموحات والغايات القومية المتنافسة. من المفترض بطاقم العاملين متعدد الجنسيات العامل تحت إشراف الأمين العام أن يرقى فوق مثل هذه التفاهات، لكن على أرض الواقع يستحيل هذا تقريبا. فعلى المستوى العملي، يجلب أعضاء الأمانة العامة معهم أساليبهم الإدارية القومية والثقافية، إلى جانب أخلاقيات العمل والتفضيلات الثقافية القادرة بدورها على خلق صراعات حادة بين الأشخاص وإلحاق الضرر بفعالية أي إدارة أو مكتب ميداني للأمم المتحدة. إن مراعاة الإجازات القومية والدينية - كمثال بسيط - يمكن في بعض الأوقات أن تتزامن مع اجتماعات أو مؤتمرات مهمة. ومن قبيل المفارقة أن إيجاد السبل لتجنب التوتر القائم بين الثقافات ليس أحد الشروط المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة وحسب، بل هو جزء من الحياة اليومية داخل المنظمة نفسها. (5) المجلس الاقتصادي والاجتماعي والأخوات الثلاث
تحت ولاية الأمم المتحدة، ينسق المجلس الاقتصادي والاجتماعي «العمل الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة وعائلة منظمات الأمم المتحدة»، ومن ثم «يلعب دورا جوهريا في تعزيز التعاون الدولي من أجل التنمية». يبدو هذا مقبولا ومنطقيا. اضطلع مجلس الأمن بقضايا الأمن العسكري الخطيرة، ومن ثم ترك المجلس الاقتصادي والاجتماعي يتعامل مع القضايا ذات الصلة بالأمن الاقتصادي. لم يؤخذ هذا الأمر باستخفاف؛ إذ إن كثيرا من المفاوضين الذين اشتركوا في وضع مسودة ميثاق الأمم المتحدة رأوا في الكساد الاقتصادي للثلاثينيات السبب الرئيسي للحرب العالمية الثانية.
في الحقيقة، ليس المجلس الاقتصادي والاجتماعي إلا جزءا عديم الحيلة نسبيا من هيكل الأمم المتحدة؛ ففي ظل وجود أربع وخمسين دولة تمثل ربع أعضاء الأمم المتحدة تقريبا، تنتخب كل واحدة منها بواسطة الجمعية العامة لدورة مدتها ثلاث سنوات (على أساس «التمثيل الجغرافي العادل»)، يشرف المجلس الاقتصادي والاجتماعي على عدد من اللجان الوظيفية (على غرار لجنة حقوق الإنسان ولجنة التنمية المستدامة) والإقليمية. ترصد لجنة حقوق الإنسان - على سبيل المثال - مراعاة حقوق الإنسان في أنحاء العالم (وعمل مجلس حقوق الإنسان الجديد إلى جانب مكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان قبل عام 2006). تركز هيئات أخرى على التنمية الاجتماعية، ووضع المرأة، ومنع الجريمة، والعقاقير المخدرة، وحماية البيئة. وتدعم خمس لجان إقليمية التنمية والتعاون الاقتصاديين في مناطقها. لكن تظل مهمة المجلس الاقتصادي والاجتماعي غير منظمة، تماما مثل هيكله.
في الواقع، تكمن القوة الاقتصادية العالمية الحقيقية داخل أسرة الأمم المتحدة في كنف ما يسمى بالشقيقات الثلاث: البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، ولكل واحدة منها نطاق مسئوليات خاص بها. فالبنك الدولي - ومقره واشنطن - الذي عرف في البداية باسم البنك الدولي لإعادة الإعمار والتنمية، مؤسسة متعددة الجوانب تقرض المال للحكومات والوكالات الحكومية من أجل مشروعات التنمية، أما صندوق النقد الدولي - والموجود أيضا في واشنطن - فيقرض المال للحكومات للمساعدة على استقرار العملات والحفاظ على النظام في الأسواق المالية الدولية. ومنظمة التجارة العالمية - ومقرها جنيف - تأسست عام 1995 لتحل محل الاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية والتجارة (الجات)، وهدفها العام هو تقليل التعريفات الجمركية وغيرها من حواجز التجارة.
بالرغم من تمتع الشقيقات الثلاث بسلطة وتأثير عظيمين، فإن تلك المؤسسات تنتقد لتفضيلها نظام السوق الحرة القائم على غيره من البدائل المحتملة. في الواقع، تمنح قواعد الإدارة داخل هذه المؤسسات بعض الدول أفضلية واضحة في اتخاذ القرار؛ ففي صندوق النقد والبنك الدوليين يرجح التصويت بناء على مساهمات كل دولة على حدة، يعني هذا أن الولايات المتحدة تملك (في عام 2005) قرابة 17 بالمائة من الأصوات، فيما تملك الدول الصناعية السبع الكبرى (بريطانيا وكندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان والولايات المتحدة) حوالي 45 بالمائة من الأصوات مجتمعة. لا يطبق مبدأ صوت واحد لكل دولة هنا! بل في الواقع، يملك أكبر «المساهمين»؛ الولايات المتحدة، حق النقض الدائم لقرارات صندوق النقد والبنك الدوليين. وقد تعززت هيمنة الغرب على هذه المؤسسات أكثر من خلال التقليد القديم المتمثل في اختيار أمريكي لرئاسة البنك الدولي، وأوروبي مديرا عاما لصندوق النقد الدولي.
رؤساء البنك الدولي *
مديرو عموم صندوق النقد الدولي
يوجين ميير، 1946
كميل جوت (بلجيكا)، 1946-1951
جون جيه ماكلوي، 1947-1949
إيفار رووث (السويد)، 1951-1956
يوجين آر بلاك، 1949-1963
بير ياكوبسون (السويد)، 1956-1963
جورج دي وودز، 1963-1968
بيير-بول شفايتزر (فرنسا)، 1963-1973
روبرت ماكنمارا، 1968-1981
يوهان ويتيفين (هولندا)، 1973-1978
آلدن دابليو كلاوسن، 1981-1986
جاك دي لاروسيير (فرنسا)، 1978-1987
باربر كونابل، 1986-1991
ميشيل كامديسو (فرنسا)، 1987-2000
لويس تي بريستون، 1991-1995
هورست كولر (ألمانيا)، 2000-2004
جيمس وولفنسون، 1995-2005
رودريجو روتا إي فيجاردو (إسبانيا)، 2004-
بول وولفويتس، 2005-2007
روبرت زوليك، 2007- *
جميعهم مواطنون أمريكيون.
المشكلة النابعة من هذا الهيكل واضحة؛ فالدول التي لديها الكثير لتخسره - دول العالم النامي التي تكون عادة بحاجة لقروض البنك الدولي أو اعتمادات صندوق النقد الدولي - لديها سلطة قليلة نسبيا في هذه المؤسسات، لكن البرامج والسياسات التي يبت فيها في واشنطن عادة يكون لها تأثير مهول في أرجاء العالم النامي. وليس من قبيل العجب أن يحاج منتقدو صندوق النقد والبنك الدوليين بأن هاتين المؤسستين تمثلان شكلا جديدا من سيطرة الغرب على أفريقيا وأجزاء من آسيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية. (في المنطقة الأخيرة، نادى الرئيس الفنزويلي هوجو شافيز بإنشاء مصرف الجنوب، كسبيل لتحرير أمريكا اللاتينية من الاعتماد على قروض البنك الدولي والهيمنة الأمريكية.)
تبدو منظمة التجارة العالمية (واتفاقية الجات السابقة عليها) أكثر ديمقراطية من شقيقتيها اللتين تتخذان من واشنطن مقرا لهما؛ فالتصويت بها ليس مرجحا، وتتخذ القرارات - أو عادة لا تتخذ - بالإجماع (التصويت بالأغلبية ممكن، لكنه لم يستخدم قط). ومع ذلك، نظرا لعدد الأعضاء الكبير (نحو 75 بالمائة من إجمالي 153 دولة تنتمي للعالم النامي) وتباين المصالح والأهداف، تؤدي الحاجة لإيجاد الإجماع لا محالة إلى قدر كبير من المساومات وراء الكواليس. ومع هذا، ففي مثل هذه المناقشات يقف مندوبو أمريكا والدول الأوروبية (أو ما تسمى بالدول الصناعية السبع الكبرى) في موقف قوة في مواجهة الدول الأفريقية مثلا. فالقوة - الاقتصادية أو السياسية - لها أهميتها، وإن كان على نحو مختلف عما هو الحال في صندوق النقد أو البنك الدوليين.
النقطة الأساسية هي أن لمنظمة التجارة العالمية سلطة قليلة وحدها، والدول الأعضاء هي التي تقرر - عبر عملية مساومة طويلة - التغيرات في قواعد التبادل التجاري متعدد الأطراف. وبما أن بعض الدول أكثر تميزا عن غيرها بطبيعة الحال، عادة ما تتهم منظمة التجارة العالمية - شأن شقيقتيها - بأنها تسعى لاستمرار نظام اقتصادي دولي يهيمن عليه الشمال. (6) البرامج والصناديق والوكالات المتخصصة
كما ذكرت آنفا، فالمجلس الاقتصادي والاجتماعي مسئول عن تنسيق العمل الاجتماعي للأمم المتحدة. يترجم هذا إلى دور فضفاض بوصفه المشرف على العمل الذي يقوم به عدد كبير من الوكالات المتخصصة والبرامج والصناديق. بعض هذه المؤسسات - خاصة المنظمات الإنسانية المتعددة - معروفة وتحظى بتقدير مرتفع، فأغلب الناس قد سمعوا مثلا بمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) أو منظمة الصحة العالمية.
من شأن الحصر الكامل لجميع المنظمات المتنوعة - التي سيناقش أغلبها في فصول أخرى - أن يجعل هذا الكتاب أكبر بكثير من مجرد «مقدمة قصيرة جدا». (انظر شكل «منظومة الأمم المتحدة») لكن من الجدير التساؤل: ما الذي يميز إحدى «الوكالات المتخصصة» (كمنظمة الصحة العالمية) عن مجموعة «البرامج والصناديق» (كاليونيسيف)، بخلاف القضايا التي تواجهها؟
جزء من الجواب بسيط: المال؛ فبينما تمول البرامج والصناديق بالأساس من المساهمات الطوعية للدول الأعضاء (وهو ما يجعل مواردها المالية متقلقلة على نحو مستمر)، تمول الوكالات المتخصصة من خلال مزيج من الأنصبة المقررة (أي الأنصبة القادمة من الميزانية الكلية للأمم المتحدة) والأنصبة الطوعية. للوكالات ميزانية أساسية، أما البرامج والصناديق فليس لها ميزانية كهذه. بعض الدول - في الواقع - أكثر تميزا عن غيرها في مجلس الأمن والبنك الدولي، لكن الوكالات المتخصصة جميعها أكثر تميزا عن البرامج والصناديق.
التبعات العملية لهذا الانقسام النظامي مثيرة للجدل، فيحق للمرء أن يسأل - مثلا - لماذا ينبغي على اليونيسيف أن تمضي من وقتها في جمع التبرعات لمساعدة الأطفال المحرومين أكثر مما يطلب من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) في تخطيط أنشطتها الهادفة لتعزيز التفاهم بين الثقافات؟ لماذا تتمتع منظمة السياحة العالمية باستقرار أكبر، كوكالة متخصصة، عما تتمتع به مفوضية الأمم المتحدة السامية لشئون اللاجئين؟ خاصة وأن تلك الأخيرة تعتني باحتياجات قرابة العشرين مليونا من اللاجئين والنازحين وطالبي اللجوء السياسي!
سنعاود التعرض لهذه الأسئلة في آخر فصول هذا الكتاب. ومع هذا فهذه الأسئلة تشير إلى سؤال أساسي مرتبط بهيكل الأمم المتحدة: كم يتكلف؟ (7) دفع الفاتورة: من يدفع، وكم يدفع؟
الفكرة الشائعة هي أن قرابة العشرين مليار دولار التي تكلفتها عمليات الأمم المتحدة المختلفة في عام 2006 يجعل من هذه المنظمة مشروعا مكلفا على نحو يحض على وقفه. لكن - قبل القفز لمثل هذا الاستنتاج - علينا أن نضع في الاعتبار عددا قليلا من الحقائق البارزة؛ أولا: لا تمثل الميزانية الإجمالية للأمم المتحدة إلا جزءا من ميزانية أغلب الدول، بل في واقع الأمر، تساوي النفقات الكلية للأمم المتحدة نظيراتها في الدولة التي فيها أعلى دخل قومي للفرد في العالم؛ لكسمبورج (والتي يقل عدد سكانها عن نصف مليون نسمة).
تمويل الأمم المتحدة معقد للغاية؛ كلوحة تجريدية أخرى أشبه بلوحات بيكاسو، لكن على نحو عام للغاية، تأتي ميزانية الأمم المتحدة من فئتين من الأنصبة: المقررة (حوالي 45 بالمائة في عام 2006) والطوعية (55 بالمائة ). ويمكن تقسيم الأنصبة المقررة بدورها إلى ثلاث فئات وفق الاستخدام النهائي للتمويل: (1)
الأنصبة المقررة للميزانية التشغيلية العادية (بإجمالي حوالي 1,8 مليار دولار في عام 2006). (2)
الأنصبة المقررة لوكالات الأمم المتحدة المتخصصة (حوالي ملياري دولار). (3)
الأنصبة المقررة لعمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة (حوالي 5 مليارات دولار).
القاعدة الأساسية في «تقرير» المبلغ الذي على كل دولة عضو أن تدفعه بالأمم المتحدة بسيطة: كلما كانت الدولة أكثر ثراء صار عليها دفع المزيد، ومع ذلك يوجد سقف للدول الغنية وحد أدنى للدول الفقيرة؛ فالحد الأقصى لأي دولة منفردة هو 22 بالمائة من الميزانية التشغيلية الإجمالية. وهذا ما تسهم به الولايات المتحدة الأمريكية (التي تمثل أكثر من 30 بالمائة من اقتصاد العالم). أما الحد الأدنى فهو 0,001 بالمائة، تدفعه (إن لم تعف منه) دول مثل لاوس ومالاوي وتيمور الشرقية. يستخدم مقياس مشابه للتقييم لجمع مبلغ الملياري دولار الذي يمول عمليات الوكالات المتخصصة المتنوعة. أكبر الجهات المتلقية للتمويل في هذه الفئة هي منظمة الصحة العالمية بمبلغ 458 مليون دولار، ومنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) بمبلغ 377 مليون دولار، واليونسكو بمبلغ 306 ملايين دولار، والوكالة الدولية للطاقة الذرية بمبلغ 276 مليون دولار، ومنظمة العمل الدولية بمبلغ 265 مليون دولار.
تعد الولايات المتحدة الأمريكية، بنسبة 25-27 بالمائة من الإجمالي، صاحبة النصيب الأكبر في نفقات عمليات حفظ السلام. ويفسر النصيب الأكبر المخصص لعمليات حفظ السلام من واقع تعديل مهم: فمن أجل عمليات حفظ السلام، يدفع الأعضاء الدائمون بمجلس الأمن نسبة أعلى مما يدفعون في الميزانية العادية. وبالمثل، يقل الحد الأدنى المطلوب من أكثر الدول فقرا عما هو مطلوب للميزانية العادية (0,0001).
الميزانية التشغيلية للأمم المتحدة
تتحدد الدول المساهمة الكبرى في التشغيلية للأمم المتحدة، البالغة حوالي 4,2 مليارات دولار، بناء على حجم الاقتصاد القومي في مقابل حجم الاقتصاد العالمي. في عام 2000، خفضت الأمم المتحدة سقف هذه الأنصبة من 25٪ إلى 22٪ من إجمالي الميزانية. في عامي 2005-2006 كان ترتيب أكبر عشر دول إسهاما في الميزانية التشغيلية للأمم المتحدة كالآتي: (الصين والمكسيك كانتا مستجدتين على قائمة «العشر الكبار»). (1) الولايات المتحدة
22,00٪ (2) اليابان
19,47٪ (3) ألمانيا
8,66٪ (4) المملكة المتحدة
6,13٪ (5) فرنسا
6,03٪ (6) إيطاليا
4,89٪ (7) كندا
2,81٪ (8) إسبانيا
2,52٪ (9) الصين
2,05٪ (10) المكسيك
1,80٪
بعض الدول الأعضاء متأخرة عن دفع أنصبتها، وأبرز هذه الدول الولايات المتحدة. وتسهم دول الاتحاد الأوروبي بحوالي 35٪ من الميزانية التشغيلية الإجمالية. برامج الأمم المتحدة الخاصة - كاليونيسيف وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي - غير مدرجة في الميزانية العادية وتمول بواسطة المساهمات الطوعية من الحكومات الأعضاء.
يتحدد مقدار الأنصبة المقررة بالميزانية العادية كل ثلاث سنوات بواسطة الجمعية العامة. بالإضافة إلى الولايات المتحدة، تضم أكبر الدول المساهمة كلا من اليابان وألمانيا والمملكة المتحدة وفرنسا وإيطاليا وكندا وإسبانيا والصين. في الواقع، تدفع هذه الدول التسع مجتمعة حوالي 75 بالمائة من الميزانية الأساسية الإجمالية للأمم المتحدة.
قدرت المساهمات الطوعية في عام 2006 بحوالي 10 مليارات دولار، ومع أن أغلبها يذهب لمصلحة البرامج والصناديق المتنوعة، فإن بعض المساهمات تفيد عمل الوكالات المتخصصة المتعددة (استعرضنا قبل ذلك باختصار الاختلاف بين تمويل البرامج والصناديق التابعة للأمم المتحدة في مقابل الوكالات المتخصصة). من الاستثناءات بين الوكالات المتخصصة كل من صندوق النقد والبنك الدوليين، اللذين يمولان ويداران خارج نظام الأمم المتحدة. هذا، بطبيعة الحال، يمنحهما درجة إضافية من الاستقلال (أو الاعتماد على الدول الممولة الكبرى). ويجعلهما أغنى. فقد بلغت الميزانية التشغيلية للبنك الدولي - مثلا - أكثر من ملياري دولار في عام 2007، ووافق في عام 2005 على أكثر من 22 مليارا من القروض والاعتمادات لمشروعات التنمية المختلفة.
كل هذا يترجم إلى عدد من الحقائق غير المريحة؛ أولى هذه الحقائق: أن الأمم المتحدة تعتمد على مساهمات الدول الأعضاء الأغنى، خاصة الولايات المتحدة. ثانيا: هذا الاعتماد يعطي «كبار الدافعين» - خاصة وأنهم (إلى جانب روسيا) أعضاء دائمون بمجلس الأمن - سيطرة نافذة قادرة على إعاقة الأمم المتحدة عن العمل من الأساس. أو إذا قدر لها العمل، فإن المساهمين الأثرياء (قد) يمكنهم ممارسة بعض التأثير غير المستحق على الاتجاه الذي تسير فيه سياسات الأمم المتحدة. ثالثا: الدول النامية التي هي في أمس الحاجة لمساعدة الأمم المتحدة تصير مرتبطة على نحو غير مباشر - من خلال «سلسلة اعتماد» - برضا الدول الأكثر تقدما عنها. (8) هل هي خليط مفلس؟ أو أسرة عاجزة؟
إن تعقيد الأمم المتحدة هو مصدر قوتها وضعفها في الوقت ذاته. ففي حين تملك الأمم المتحدة جهازا (واحدا على الأقل) أو منظمة ذات صلة مكرسة لأي قضية يمكن تخيلها، يمكن أن تصير بطيئة التصرف للغاية عند التعامل مع قضايا بعينها أو حل مشكلات معقدة. فهناك إشكاليات بيروقراطية. وكما هو الحال في أي مؤسسة كبيرة، يمكن لمعارك السيطرة داخل الوكالات المختلفة أو بينها أن تصل إلى مستويات هائلة. فهناك ازدواجية في الخدمات إلى جانب - كما يزعم العديد من منتقديها - قدر أكبر من اللازم من الكياسة السياسية؛ إذ يوجد تأكيد لا مبرر له على الوفاء بالحصص القومية على حساب المهارات، وذلك عند اتخاذ قرارات التعيين داخل منظمات الأمم المتحدة المتعددة.
من المظاهر الإضافية لتعقيد الأمم المتحدة التمويل غير المستقر الذي يعيق قدراتها التشغيلية، فعلى المستوى الأساسي تعتمد الأمم المتحدة على أغنى الدول الأعضاء في تمويل عملياتها. هذه المساهمات ليست بأي حال من الأحوال كبيرة (في حالة الولايات المتحدة تمثل أقل من 0,25 بالمائة من الميزانية الاتحادية)، وعادة تدفع متأخرة، إن دفعت من الأساس. ففي نهاية عام 2006، كانت الدول الأعضاء مدينة ب 2,3 مليار دولار للأمم المتحدة (كانت الولايات المتحدة وحدها تتحمل 43 بالمائة من هذا المبلغ). يبدو أن الأمم المتحدة تعاني على الدوام العجز المالي.
لكن ما الذي حققه هذا الهيكل المختلط المفلس منذ عام 1945؟ أين مواضع نجاحه؟ وأين مواطن إخفاقاته؟ وكيف يمكن تحسينه؟ وهل هناك أي معنى في النظر إليه بنظرة مختلفة عن إحدى لوحات بيكاسو التجريدية؟
الفصل الثالث
مواجهة الحروب والتصدي للتهديدات: أعمال مجلس
الأمن
إذا كان هدف الأمم المتحدة هو إنقاذ البشرية من الدمار الذي خيم بظلاله على النصف الأول من القرن العشرين، فسيعتمد قياس نجاحها على منظور المرء. فمن ناحية، يمكن الزعم بأنه ما لم تنشب حرب عالمية ثالثة، فقد نجح مؤسسو الأمم المتحدة في إنشاء منظمة ناجحة. لكن من ناحية أخرى، لم يمر يوم واحد منذ عام 1945 دون أن ينشب صراع عسكري قاتل في مكان ما في العالم. وقد استفحل العديد من هذه الصراعات واستمر في ظل المعرفة الكاملة لمجلس الأمن. باختصار، ربما تكون الأمم المتحدة قد لعبت دورا في إنقاذ البشرية من خراب حرب عالمية، لكنها بعيدة كل البعد عن تخليص كوكبنا من ويلات الحروب.
أيضا ليس من الواضح أن عدم وقوع مواجهة عسكرية عالمية له علاقة بالأمم المتحدة وجهازها التنفيذي؛ مجلس الأمن. فيمكن الزعم بأن وجود الأسلحة النووية وانتشارها حال دون وقوع مواجهة عسكرية مباشرة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. فالعواقب المحتملة لمثل هذه الحرب - الفناء السريع للدولة المحاربة - أزالت الدافع لخوض حرب على نحو أكثر فعالية بكثير عن أي مداولات في أروقة الأمم المتحدة. لكن الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي سعدتا أيما سعادة بالتدخل في الصراعات العسكرية في العالم ما دام لم يكن من المحتمل تصاعدها إلى مواجهة مباشرة بين القوتين العظميين. وبعد انتهاء الحرب الباردة ظهرت خصومات جديدة، أبرزها داخل سياق دعوة الولايات المتحدة لتغيير النظام الحاكم في العراق في 2002-2003.
لا يعني هذا أن مجلس الأمن لا لزوم له أو أنه كان كذلك. بل هذا يؤكد وحسب على حقيقة أن هذا الجهاز المحوري للأمم المتحدة لا يستطيع، بحكم طريقة تأسيسه، أن يكون فعالا إلا عند اتفاق الدول الخمس دائمة العضوية. في الواقع، مارس مجلس الأمن في مناسبات عدة دورا مهما كحلال للأزمات. فمع الوضع في الاعتبار اعتماد مجلس الأمن على إجماع الأعضاء الخمسة الدائمين - ومن ثم على المصالح القومية لكل من الصين وفرنسا وبريطانيا العظمى وروسيا (الاتحاد السوفييتي سابقا) والولايات المتحدة - كان المجلس في الواقع ناجحا ونشطا إلى حد بارز. نظريا، لا يفترض أن يعمل مجلس الأمن من منطلق رد الفعل، بل ينبغي أن يكون قادرا على مواجهة التهديدات المحتملة ومنعها من التحقق. والعلاقة بين مجلس الأمن والوكالة الدولية للطاقة الذرية - التي توصف أحيانا ب «الحارس» النووي - هي مثال طيب على قدرة الأمم المتحدة على أن تخلف أثرا إيجابيا على الأمن الدولي في القرن الحادي والعشرين. فقد لا تكون هناك قضية أخرى تحث الشعوب والدول على العمل معا مثل شبح وقوع محرقة نووية. ومع هذا فجهود منع انتشار مثل هذه الأسلحة لم تحقق سوى نجاح فاتر على أفضل تقدير. ومجددا، تصادمت المصالح القومية مع مخاوف الأمن العالمي على نحو أنتج سلسلة من التسويات غير الكاملة والحلول المؤقتة. (1) القيود السياسية: إشكالية حق النقض
نظريا، لا توجد سوى قيود قليلة تحد من سلطة مجلس الأمن؛ فنطاق عمله واسع، وقراراته ملزمة لكل أعضاء الأمم المتحدة. باختصار، إذا قرر مجلس الأمن شيئا - فرض عقوبات ضد دولة ما أو إنفاذ وقف إطلاق النار بإحدى مناطق الصراع - فمن الملزم تنفيذ هذا الأمر. بعبارة أخرى، ليس بمقدور أحد تجاهل الإرادة الجمعية للدول الخمس دائمة العضوية التي تحدد فعليا قرارات مجلس الأمن. لكن كثيرا ما كان إيجاد مثل هذه الإرادة الجمعية أمرا عسيرا. تأتي مسألة السيادة القومية على رأس قائمة الأسباب، وهي شيء تجله الدول «الأعلى منزلة» - أي الدول الخمس دائمة العضوية - إجلالا خاصا. وبما أن لها الحق في نقض أي قرارات، فمن المرجح أن تفعل ذلك حال تعارض أي قرار مع مصالحها القومية.
حق النقض («إجماع القوى العظمى»)
كل دولة عضو بمجلس الأمن لها صوت واحد. القرارات المتعلقة بالأمور الإجرائية (على سبيل المثال: تحديد عرض قضية ما على مجلس الأمن من عدمه) تتطلب دعم ما لا يقل عن تسعة من الأعضاء الخمسة عشر. أما القرارات المتعلقة بالأمور الموضوعية (على سبيل المثال: قرار يدعو لاتخاذ تدابير مباشرة لتسوية نزاع دولي، أو لفرض عقوبات)، فتتطلب أيضا تسعة أصوات، على أن يكون من بينها أصوات الدول الخمس دائمة العضوية جميعها. هذه هي قاعدة «إجماع القوى العظمى»، التي يشار إليها عادة ب «حق النقض».
نظريا، تملك الدول غير دائمة العضوية بمجلس الأمن حق نقض جمعيا: فإذا ما صوتت سبع دول على الأقل ضد قرار ما (سواء كان إجرائيا أو موضوعيا) فبإمكانها تجميد القرار، حتى لو صوتت الدول الخمس دائمة العضوية لمصلحته. ظهر ما يسمى بحق النقد السادس هذا للوجود منذ عام 1965 وحسب؛ حين زاد عدد الدول غير دائمة العضوية من ست إلى عشر دول. ومع أن الدول الخمس دائمة العضوية استخدمت حق النقض على نحو متكرر، فإن حق النقض السادس لم يستخدم قط.
تسبب حق النقض الذي تملكه الدول الخمس دائمة العضوية في إعاقة عمل مجلس الأمن أكثر من أي عامل آخر. في الواقع، إن حقيقة تمتع هذه الدول الخمس - من بين إجمالي قدره 192 دولة - بمكانة مميزة يبدو ضربا من السخف؛ فإذا استطاعت جمهورية الصين الشعبية (بل، الأكثر سخفا، جزيرة تايوان المعروفة بجمهورية الصين، بين عامي 1949 و1971) وفرنسا وبريطانيا العظمى وروسيا والولايات المتحدة الاتفاق على الأمر عينه، تستطيع الأمم المتحدة العمل. أما إذا لم يحدث هذا - أو لو قررت «دولة واحدة» فقط أن قرارا بعينه غير مرغوب فيه - يصاب مجلس الأمن فعليا بالشلل.
وبهذا يمكن لاستخدام حق النقض أن يمنع الأمم المتحدة من فرض التدابير لإنهاء حرب ما. كان هذا هو الحال، كمثال: في ديسمبر عام 1971، حين نقض الاتحاد السوفييتي قرار الأمم المتحدة بوقف إطلاق النار في الحرب بين الهند وباكستان. كان الاتحاد السوفييتي بهذا يساعد الهند على مواصلة تفوقها العسكري على باكستان، الحليف الوفي للأمريكيين في الحرب الباردة. وإحقاقا للحق، خسرت باكستان أغلب أصدقائها بسبب قمعها لحركة الاستقلال فيما سيصير لاحقا بدولة بنجلاديش المستقلة (لكن حتى عام 1971 كانت تعرف رسميا بباكستان الشرقية). ومع هذا كان لدى حكومة باكستان كل الحق حين شكت من أن المجتمع الدولي فشل في فرض حل سلمي، وهو ما لم يترك خيارا لباكستان عديمة الحيلة سوى الاستسلام (وهو ما حدث بالفعل في السادس عشر من ديسمبر عام 1971). وقد انفجر وزير الخارجية الباكستاني ذو الفقار علي بوتو، بعد أن شهد الصعوبات التي عانتها بلاده من نيويورك، أمام اجتماع لمجلس الأمن قائلا: «لنبن نصبا لحق النقض. لنبن نصبا للعجز والضعف.»
1
شكل 3-1: استخدام حق النقض.
إبان الحرب الباردة، كان الاتحاد السوفييتي هو أكثر من استخدم حق النقض. لكن بعد أن استخدمته الولايات المتحدة للمرة الأولى في عام 1970، اضطلعت هي بهذا الدور. ومع هذا، كما يبين الشكل، توقفت الدول الخمس دائمة العضوية عن استخدام هذا الحق تقريبا منذ انتهاء الحرب الباردة.
لا ريب أن الجمعية العامة كثيرا ما أصدرت قرارات بالرغم من اعتراض إحدى الدول الخمس دائمة العضوية، لكن مثل هذه القرارات لم تحمل السلطة للتغلب على تعنت إحدى الدول دائمة العضوية بمجلس الأمن. إلى جانب أن حقيقة تمتع الدول غير دائمة العضوية ب «حق نقض» افتراضي منذ التوسع في عضوية مجلس الأمن في الستينيات لم تجعل هذا الجهاز أكثر فعالية أو أقل انقيادا لامتيازات القوى العظمى.
وسواء شئنا أم أبينا، فإن مجلس الأمن كان - ولا يزال - ساحة لصراعات السلطة والمنازعات السياسية. وبالرغم من محاولات إصلاح هذا الجهاز فإنه يظل - بعد ستة عقود - على الحال نفسه الذي كان عليه عند تأسيسه: قوي من الناحية النظرية لكنه معاق من الناحية العملية. (2) القيود التشغيلية: لجنة الأركان العسكرية
لمنع نشوب الحروب ووقف الحروب التي نشبت بالفعل، احتاجت الأمم المتحدة إلى قدرة عسكرية. فهل من سبيل آخر تستطيع به المنظمة أن تفرض وجودها إلا إرسال القوات إلى مناطق الصراع؟ وهل من سبيل آخر يمكن الأمم المتحدة من إجبار الأطراف المتحاربة - العازفة عن الاستجابة للضغوط الدبلوماسية أو الاقتصادية - على وقف القتال إلا بإظهار براعة عسكرية فائقة؟
تناول ميثاق الأمم المتحدة تلك القضايا، وقد أسس لجنة الأركان العسكرية كجهاز فرعي لمجلس الأمن، وأوكل له تخطيط عمليات الأمم المتحدة العسكرية، وأنيط بلجنة الأركان العسكرية معاونة مجلس الأمن في تنظيم التسلح (بما في ذلك، ضمنيا، تنظيم التسلح النووي). علاوة على ذلك، كان على لجنة الأركان العسكرية توفير هيئة القيادة لعدد من الفرق العسكرية الجوية التي قدمتها الدول الخمس دائمة العضوية. كان يفترض توزيع الفرق العسكرية على قواعد للأمم المتحدة في العالم؛ حتى يتمكن مجلس الأمن من استدعائها عند الحاجة.
سريعا ما باتت مشكلة هذه الخطة واضحة للعيان. فلم تر أي من الدول الخمس دائمة العضوية في وجود قوة عسكرية مستقلة ما يخدم مصالحها، وتسبب انعدام الثقة والتوتر اللذان خيما على بدايات الحرب الباردة - بما في ذلك إقامة التحالفات العسكرية على غرار منظمة حلف شمال الأطلسي وحلف وارسو - في عدم توفير أي من الدول الخمس دائمة العضوية للقوات المطلوبة. وبالفعل، في يوليو عام 1948 - بعد عامين من المفاوضات - أبلغت لجنة الأركان العسكرية مجلس الأمن بعجزها عن الوفاء بما أنيط بها.
ومن ثم، مع أن لجنة الأركان العسكرية كانت الجهاز الفرعي الوحيد لمجلس الأمن المذكور بميثاق الأمم المتحدة، فقد صارت «خاملة» (أو لا لزوم لها، إذا استخدمنا لغة مختلفة عن لغة الأمم المتحدة). بطبيعة الحال، تجدد الاهتمام على نحو وجيز بلجنة الأركان العسكرية في عام 1990، حين لعبت دورا في تنسيق العمليات البحرية خلال حرب الخليج. لكن في النهاية، تحولت الأمم المتحدة إلى الاستعانة بقوات للمنظمات الإقليمية كما حدث مع منظمة حلف شمال الأطلسي (في كوسوفو) أو الاتحاد الأفريقي (في دارفور)، بدلا من إقامة قوة عسكرية منظمة فاعلة خاصة بها.
وبعد ستين عاما، لا تزال لجنة الأركان العسكرية موجودة كجهاز استشاري يلعب دورا في التخطيط لعمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة وتنفيذها. وهو يتكون من ممثلي جيوش الدول الخمس دائمة العضوية وقواتها البحرية والجوية. تلتقي هذه المجموعة كل أسبوعين في مقر الأمم المتحدة بنيويورك. ويشارك أعضاء الأمم المتحدة الآخرون في الاجتماعات التي تخص عمليات حفظ السلام التي تنشر فيها قوات بلادهم. ومع هذا تظل الأهمية الفعلية للجنة الأركان العسكرية - كما كانت دائما - محدودة للغاية. (3) القيود السياسية: مجلس الأمن والحرب الباردة
لمجلس الأمن سجل متناقض. لا ريب أنه عمل على كل الصراعات الدولية تقريبا أثناء الحرب الباردة، على غرار الحروب العربية الإسرائيلية وفي كوريا والسويس والكونغو وبرلين. لكن في كل تلك الحالات، كانت الظروف الطارئة - المصالح المحددة للدول الخمس دائمة العضوية (وخاصة الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي) - وليس مبادئ الأمم المتحدة هي التي تحدد النتيجة النهائية.
مع أن حق النقض للدول الخمس دائمة العضوية يمتد إلى عدد من المناحي - من بينها اختيار الأمين العام للأمم المتحدة أو قبول أعضاء جدد بالأمم المتحدة - فإن ما يهم حقا هو الطريقة التي أثرت بها المكانة المتميزة للدول الخمس دائمة العضوية على قدرة الأمم المتحدة في الأمور المرتبطة بالحرب والسلم. بطبيعة الحال، كثيرا ما صار الخط الفاصل هنا غير واضح، إلى جانب أن التدابير المتخذة - والقرارات التي اعتمدت أو لم تعتمد - توقفت في نهاية المطاف على تأثر مصالح الدول الخمس دائمة العضوية بالصراع محل النقاش وكيفية هذا التأثر.
على سبيل المثال: كان أول استخدام سوفييتي لحق النقض، في فبراير من عام 1946، ضد قرار بشأن انسحاب القوات الفرنسية من سوريا ولبنان. احتج السفير السوفييتي بأن الأنظمة المقترح توليها حكم هذين البلدين هي بالأساس حكومات صورية تابعة لفرنسا. وفي وقت لاحق من العام نفسه، رفض مجلس الأمن مناقشة شكوى تقدمت بها سيام (تايلاند) بشأن الأنشطة العسكرية الفرنسية على حدودها مع الهند الصينية، ولم يستطع التوصل لاتفاق على تحقيق بشأن الحرب الأهلية بين الملكيين والشيوعيين في اليونان.
شكل 3-2: رسم كاريكاتيري في عام 1953 يوضح الصراع بين ماو تسي تونج، رئيس الحزب الشيوعي في الصين، وشيانج كاي شيك، رئيس الحكومة الوطنية للصين، على «مقعد الصين» بالأمم المتحدة.
2
مع ذلك، كان الانقسام الكبير داخل الدول الخمس دائمة العضوية بمجلس الأمن صريحا، وعكس بزوغ الحرب الباردة؛ ففي أغلب المواقف التي استخدم فيها حق النقض، وقف الاتحاد السوفييتي على جانب ووقفت الدول الأربع الأخرى على الجانب الآخر. كان هذا كفيلا بالوصول بأغلب القضايا إلى طريق مسدود، ومن بينها قضايا مهمة مثل تقسيم برلين؛ ففي يونيو عام 1948، قطع الاتحاد السوفييتي - الذي كان يحتل ألمانيا الشرقية، بما في ذلك كل المناطق المحيطة ببرلين، بعد الحرب - جميع الاتصالات الأرضية وطرق الإمدادات عن برلين الغربية. ومن ثم، صارت القوات الأمريكية والبريطانية والفرنسية التي تحتل ذلك الجزء من العاصمة الألمانية (إلى جانب المواطنين الألمان الذين يعيشون هناك) رهائن فعليا. وللتغلب على هذا الحصار، أقامت الولايات المتحدة جسرا جويا لنقل الطعام والمؤن الأخرى. واستمر ذلك الحال عاما تقريبا.
أوضح حصار برلين بين عامي 1948 و1949 بجلاء حدود تأثير مجلس الأمن؛ فبينما كانت القوى الغربية تتناقش وتضع مسودات القرارات، تجاهل السوفييت أي إمكانية للتسوية. وأخيرا في بدايات عام 1949 قبل السوفييت بعدم إخراج القوات الغربية من برلين. وبعد عدة أشهر من المفاوضات بين المندوبين الأمريكي والسوفييتي بالأمم المتحدة، أعلن أخيرا عن نهاية الحصار في مايو عام 1949. لكن الأزمة وحلها أوضحا أن مجلس الأمن لا ينتظر منه أن يكون جهازا تشغيليا ناجحا. فهو لم يمنع الصراعات، لكنه وفر سياقا للتفاوض على إنهاء المواجهة.
في غضون أشهر بعد حصار برلين، واجه مجلس الأمن إشكالية جديدة: ما سيفعله بعضوية الصين بعد أن انتصر الشيوعيون في الحرب الأهلية وأقاموا جمهورية الصين الشعبية في الأول من أكتوبر عام 1949. من منظور السوفييت، كان المسار البديهي هو وضع الصين «الجديدة» محل الصين «القديمة». لكن آخرين - خاصة المندوب الصيني بمجلس الأمن - اعترضوا، رافضين حتى الإقرار بشرعية جمهورية الصين الشعبية. وبدلا من ذلك، أيد الأمريكيون وغيرهم جمهورية الصين (المختزلة في جزيرة تايوان) بوصفها العضو الشرعي ضمن الدول الخمس دائمة العضوية. وبحلول صيف عام 1950، في محاولة غير مجدية للتأثير على الأعضاء الدائمين الآخرين، قاطع السوفييت اجتماعات مجلس الأمن. وفي عام 1971، حصلت جمهورية الصين الشعبية أخيرا على مقعدها. وفي الوقت ذاته، لفظت تايوان بسرعة من الجهاز العالمي. (4) الصراع الكوري
في الرابع والعشرين من يونيو عام 1950، دخلت قوات كوريا الشمالية كوريا الجنوبية. تمكن مجلس الأمن من اعتماد القرار الذي صاغته أمريكا ويدين الهجوم؛ لأن جاكوب مالي - المندوب السوفييتي - لم يكن في نيويورك لنقض القرار. وأجاز قرار آخر استخدام القوة لدرء هجوم كوريا الشمالية، وانتهى الحال بالقوات التي كانت الغالبية العظمى منها أمريكية التي نفذت القرار بتجاوز حدود قرار مجلس الأمن بالتوغل في عمق كوريا الشمالية (مقتربة بشدة من الحدود الصينية) في خريف عام 1950. تدخل الصينيون، وامتد الصراع عدة أعوام.
تسبب الصراع الكوري في إضعاف فعالية الأمم المتحدة، لا تقويتها؛ فوصول قوات أمريكية في معظمها تحت قيادة أمريكية (على رأسها الجنرال دوجلاس ماكآرثر) أفصح عن عدم جدوى توقع عمل عسكري سريع من جانب المنظمة العالمية إلا إذا كانت إحدى الدول الأعضاء مستعدة للتدخل وتحمل المسئولية. وهذا ما فعلته الولايات المتحدة - بمساعدة عدد من الدول الأخرى - من عام 1950 إلى 1953. لكن من الجلي أن الصراع الكوري من منظور الأمريكيين كان بالأساس حربا هدفها احتواء المد الشيوعي وليس تلبية لنداء الواجب بموجب ميثاق الأمم المتحدة.
أنتج الصراع الكوري أيضا قرارا مهما فرض - نظريا على الأقل - تحديا على الهيئة التنفيذية لمجلس الأمن. ففي نوفمبر عام 1950، مررت الجمعية العامة القرار 377، المعروف أيضا بقرار «متحدون من أجل السلام» . وقد نص القرار على أنه في حالة عجز مجلس الأمن عن الحفاظ على السلام الدولي، يمكن أن تنظر الجمعية العامة بالقضية. ومع أن القرار يبدو ثوريا، فقد دعمته الولايات المتحدة كوسيلة لتحاشي الاعتراضات السوفييتية المحتملة - إذ كان الاتحاد السوفييتي قد عاد إلى الأمم المتحدة في ذلك الوقت - بخصوص كوريا. لكن صار من الواضح على مر السنوات التالية أنه على الرغم من القرار 377، فقد ظلت الجمعية العامة تابعة لمجلس الأمن.
الجمعية العامة للأمم المتحدة، القرار 377، الثالث من نوفمبر 1950 «إذا فشل مجلس الأمن، بسبب غياب الإجماع بين الأعضاء الدائمين، في ممارسة مسئوليته الأساسية في الحفاظ على السلام والأمن الدوليين، وفي حالة وجود تهديد للسلام، أو خرق للسلام، أو عمل من أعمال العدوان، فإن الجمعية العامة سوف تنظر في المسألة على الفور؛ بهدف تقديم توصيات ملائمة للدول الأعضاء من أجل اتخاذ تدابير جماعية، بما في ذلك - في حالة خرق السلام أو العمل العدواني - استخدام القوة المسلحة عند الضرورة، للحفاظ على - أو استعادة - السلم والأمن الدوليين.»
من بين الدروس العديدة للصراع الكوري يبرز درس معين؛ فقد تعلمت الدول الخمس دائمة العضوية أن الغياب عن الأمم المتحدة يمكن أن يكلفها الكثير من مصالحها القومية. فلن يفوت الاتحاد السوفييتي أي اجتماعات قادمة (وبالطبع تعلمت الدول الأربع الأخرى دائمة العضوية بمجلس الأمن الدرس عينه). كان لهذا الأمر نتيجتان؛ فقد أبرز أهمية مجلس الأمن كوسيلة لمنع الأفعال التي قد تعرض مصالح الدول الخمس دائمة العضوية للخطر. ولا عجب أن العمل العسكري الكبير التالي الذي تم بمباركة مجلس الأمن لم يحدث إلا بعد انتهاء الحرب الباردة. وكأثر مباشر، فإن دور مجلس الأمن كمكان لتدارس كافة قضايا الحرب الباردة بات مستقرا. (5) السويس والقوتان العظميان
كانت كوريا هي الحالة الوحيدة خلال الحرب الباردة التي أجاز فيها مجلس الأمن تدخلا عسكريا واسع النطاق. كان هناك العديد من الحروب والصراعات التي جرت مناقشتها والتصويت بشأنها. لكن بعد الحرب الكورية كانت هذه الصراعات - وما تستطيع الأمم المتحدة فعله بشأنها - مرتبطة على نحو متزايد بالتفاعل بين العولمة التدريجية للحرب الباردة وما زامنها من إنهاء لاستعمار الإمبراطوريات الأوروبية. وفي بعض الحالات، أنتجت هذه الصراعات خلافات بين القوى الكبرى.
مثال على ذلك أزمة السويس في عام 1956؛ ففي أكتوبر من ذلك العام اشتركت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل في العدوان على مصر؛ بهدف إزاحة جمال عبد الناصر من الحكم. كان سبب ذلك هو قرار عبد الناصر بتأميم قناة السويس، الذي أدى إلى مناقشات كثيرة بمجلس الأمن إلى جانب سلسلة من جهود الوساطة التي جرت على يد الأمين العام داج همرشولد، لكن لم ينجح شيء. وفي النهاية، في التاسع والعشرين من أكتوبر 1956، غزت القوات الإسرائيلية شبه جزيرة سيناء، وحسب اتفاق سابق دعت بريطانيا وفرنسا لوقف إطلاق النار وانسحاب القوات المصرية والإسرائيلية إلى مسافة عشرة أميال من قناة السويس. وحين وافقت إسرائيل، كما هو متفق عليه، ورفضت مصر الإنذار، كما كان متوقعا، قصفت الطائرات البريطانية والفرنسية القاهرة ومنطقة القناة. بعدها بعدة أيام، ودون استشارة مجلس الأمن، أرسلت لندن وباريس قواتهما، بزعم حفظ السلام.
نظرا للدعم الفاتر الذي كانت القيادة السوفييتية توليه لمصر تحت قيادة عبد الناصر، لم تتوقع بريطانيا وفرنسا أي انتقاد أمريكي قوي؛ لذا كانت الصدمة مروعة للندن وباريس حين دعت إدارة أيزنهاور لإدانة فورية من جانب مجلس الأمن للعدوان الثلاثي، الإسرائيلي البريطاني الفرنسي. صوت المجلس بموافقة سبعة أعضاء واعتراض عضوين؛ إذ أجبرت بريطانيا وفرنسا على استخدام حق النقض للمرة الأولى. لكن على الرغم من نجاح بريطانيا وفرنسا في حجب القرار رسميا، فإنهما وافقتا في غضون أسابيع على سحب جميع قواتهما لتحل محلها قوة حفظ سلام تابعة للأمم المتحدة (قوة الطوارئ التابعة للأمم المتحدة).
في النهاية ، أظهرت أزمة السويس حقيقتين بارزتين؛ فحل الأزمة كان مؤشرا على حقيقة أنه ضمن الدول الخمس دائمة العضوية، كانت هناك دولتان أعلى منزلة عن سواهما، وهما القوتان العظميان: الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. لكن أزمة السويس أوضحت أيضا أن الجمعية العامة - التي انتقدت بقوة العدوان على مصر - ليس لها في حقيقة الأمر سوى ثقل رمزي. ففي النهاية، ربما تسبب هذا الأمر في جعل مجلس الأمن يجد صعوبة أكبر في التصرف بحسم في حقبة الحرب الباردة. (6) مأزق وعجز
من الواضح أن الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة تصرفتا خلال أزمة السويس وهما تضعان عينا على الرأي العام العالمي؛ إذ كانت كلتا القوتين العظميين تحاولان كسب الحلفاء بين الدول المستقلة حديثا (أو على وشك الاستقلال) في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط. لكن كما تبين الزيادة المهولة في دول عدم الانحياز، فإن دولا مثل مصر كانت أكثر حرصا على المضي في طريقها معتمدة على نفسها، أكثر من اعتمادها على التحالف مع أقوى دولتين على الكرة الأرضية.
لم يعن هذا أن منافسات الحرب الباردة اختفت من جدول أعمال مجلس الأمن؛ فخلال أزمة الصواريخ الكوبية في عام 1962 - على سبيل المثال - تحدى مندوب الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، أدلاي ستيفنسون، نظيره السوفييتي على نحو محتدم خلال واحدة من أكثر المواجهات علانية بين مندوبي القوتين العظميين؛ فأمام كاميرات التليفزيون طالب ستيفنسون فالنتين زورين، المندوب السوفييتي، بالاعتراف بوجود صواريخ روسية في كوبا. وقال ستيفنسون: «أنا مستعد لانتظار الجواب حتى يتجمد الجحيم.» وحين رفض زورين الإجابة، أظهر الأمريكي صورا تؤكد بجلاء وجود الصواريخ. وعلى الرغم من أداء ستيفنسون المبهر، فإن مجلس الأمن لم يلعب تقريبا أي دور مباشر في الحل النهائي للأزمة، وتركت هذه المهمة للقنوات الدبلوماسية غير المباشرة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي.
في هذه المرحلة، اكتسب مجلس الأمن الدور عينه الذي لعبته الجمعية العامة في سياق الحرب الباردة؛ إذ صار منتدى للعلاقات العامة. نوقشت القرارات، لكن كانت عادة ما تنقض من قبل عضو أو اثنين من الأعضاء الخمسة الدائمين، هذا إن وصلت إلى جدول أعمال مجلس الأمن من الأساس. مر التدخل العسكري الفرنسي في الهند الصينية والجزائر في الخمسينيات وأوائل الستينيات دون تدخل من جانب مجلس الأمن، وفي الستينيات والسبعينيات كان التدخل العسكري الأمريكي في فيتنام والدول المجاورة محل إدانة عالمية، لكن لم يصدر أي قرار من مجلس الأمن يدعو لسحب القوات الأمريكية، وبعدها بعقد من الزمان أو نحو ذلك، غزا الاتحاد السوفييتي أفغانستان، لكن بالرغم مما خلفه من ضجة عالمية، لم يلح في الأفق أي قرار للأمم المتحدة. وكانت صراعات دموية أخرى - في أنجولا والقرن الأفريقي وكمبوديا كمثال - محل تجاهل فعلي من جانب مجلس الأمن؛ لأنها كانت تمس مصالح دولة أو أكثر من الدول الخمس دائمة العضوية. باختصار، أثناء الحرب الباردة، تأثر مجلس الأمن كثيرا، بل كان عاجزا إلى حد ما، بسبب المواجهة بين الشرق والغرب. (7) مجلس أمن فعال: من العراق إلى العراق
بدا أن هذا كله سيتغير مع نهاية الحرب الباردة ودخول مجلس الأمن في حقبة جديدة من الفعالية؛ ففي عام 1988 وحده أجاز المجلس خمس عمليات لحفظ السلام، وفي أوائل التسعينيات انتشرت هذه العمليات في أرجاء العالم. ومع غياب عداوات الحرب الباردة، بدأت الأمم المتحدة في الظهور كلاعب أساسي في تشكيل نظام عالمي جديد، وهو المصطلح الذي استخدمه، مرة أخرى، أحد رؤساء أمريكا.
كان أبرز حدث يبشر بفكرة جورج إتش دابليو بوش عن «النظام العالمي الجديد» - وهو المصطلح الذي ظهر على السطح للمرة الأولى خلال جهود وودرو ويلسون لإعادة تنظيم النظام الدولي عن طريق إنشاء عصبة الأمم في نهاية الحرب العالمية الأولى - هو العمليات العسكرية التي قادتها أمريكا، تحت لواء الأمم المتحدة، في الخليج العربي. فعقب الاحتلال العراقي للكويت في أغسطس عام 1990، دبرت الإدارة الأمريكية سلسلة من قرارات مجلس الأمن المتفق عليها بالإجماع أجازت في نهاية المطاف إرسال قوة عسكرية كبيرة متعددة الجنسيات لإجبار العراقيين على الخروج من الكويت. وقد نجح هذا التحالف العسكري بزعامة أمريكا في تحقيق هذا الهدف بنهاية فبراير عام 1991، وذلك بمشاركة ثلاثين دولة وقرابة 660 ألف جندي وعملية جوية ضخمة.
ومع أن عملية عاصفة الصحراء تمت بنجاح، ومثلت أكبر حملة عسكرية تجيزها الأمم المتحدة، فإن تبعاتها أتت بنتائج عكسية للأمم المتحدة؛ فمن ناحية شجع نجاح هذه العملية الأمم المتحدة على الموافقة على مهام عسكرية ذات نطاق أصغر بكثير في أوائل التسعينيات، بيد أن عجز عدد من هذه المهام - في يوغوسلافيا السابقة والصومال ورواندا - عن إنهاء العنف أو منع عمليات الإبادة الجماعية، أبرز بجلاء عوز الأمم المتحدة الدائم لقوة عسكرية يعتمد عليها، وعوضا عن زيادة مصداقية الأمم المتحدة قوضت حرب الخليج هذه المصداقية في واقع الأمر.
الأهم من ذلك هو أن حرب الخليج أكدت على عدم المساواة الواضح حتى بين الدول الخمس دائمة العضوية نفسها؛ فالظهور المفاجئ للموافقة بالإجماع الكامل تقريبا بين القوى العظمى لم يخف حقيقة أن في هذه المرحلة لم يعد هناك سوى قوة عظمى وحيدة. لقد ظهرت الولايات المتحدة في التسعينيات بوصفها القوة العظمى الوحيدة القادرة على إنجاح أو وأد أي مبادرة لمجلس الأمن، وهو ما يرجع في جزء منه إلى المزايا الكبيرة التي تتمتع بها في الثروة والموارد العسكرية، وفي جزء آخر إلى زوال المكافئ الوحيد الحقيقي لها؛ الاتحاد السوفييتي.
لكن أكثر ما أثار القلق هو أنه في عام 2003 بينت الولايات المتحدة - كما فعلت من قبل - أنها قادرة على القيام بعملية عسكرية ضخمة دون مباركة من مجلس الأمن. حدث هذا، مجددا، في العراق. فبالرغم من رضوخ العراق لعقوبات الأمم المتحدة لأكثر من عشر سنين، فقد زعم استمراره في تطوير أسلحة الدمار الشامل، واشتبه في وجود صلات بين العراق - تحت زعامة صدام حسين - وعدد من المنظمات الإرهابية، من بينها القاعدة؛ المنظمة المسئولة عن هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 في كل من نيويورك وواشنطن العاصمة. وعلى الرغم من أن ثبوت زيف كلا الزعمين وتهديد فرنسا باستخدام حق النقض، دفعا الولايات المتحدة إلى وقف ضغوطها الرامية لاستصدار قرار من مجلس الأمن، فقد أسقط غزو العراق الثاني بقيادة الولايات المتحدة حكومة صدام حسين في ربيع عام 2003.
كانت المقارنة بين دور الأمم المتحدة في حربي الخليج صارخة؛ ففي عام 2003، اختزل دور الأمم المتحدة في مجرد متفرج يطلب منه المشاركة في بعض المهام الإنسانية بعد اكتمال العملية العسكرية «القوية»، إن حدث هذا من الأساس. أيضا لم تكن هذه المناسبة الوحيدة من هذا النوع في الألفية الجديدة: ففي أكتوبر من عام 2001 قادت الولايات المتحدة عملية عسكرية أطاحت بحكومة طالبان في أفغانستان (التي اتهمت بإيواء الإرهابيين الذين خططوا لهجمات الحادي عشر من سبتمبر). وطلب تدخل الأمم المتحدة بعد ذلك، كراع لعملية تخطيط الشكل الذي ستكون عليه أفغانستان مستقبلا.
باختصار، لم يؤد النشاط المفاجئ - والإجماع الظاهري - لمجلس الأمن في أوائل التسعينيات إلى إيجاد هيئة جماعية تكون مستعدة للانخراط في مناطق الصراع في العالم بعد التداول بين الدول. إن أبرز ما أوضحته نهاية الحرب الباردة هو الاختلاف بين إحدى الدول الخمس الكبرى وبقية العالم، وحين انخرطت الأمم المتحدة في عمليات السلام المتنوعة، فقد فعلت هذا فقط في الأماكن التي افتقدت للأهمية الواضحة للدول الخمس دائمة العضوية، وتحديدا الولايات المتحدة. إن أغلب الدول الأعضاء بالأمم المتحدة لم توافق على الأعمال العسكرية التي دعت إليها الولايات المتحدة، لكنها كانت عاجزة عن منعها، وبهذا المعنى فإن انهيار النظام الدولي الذي كان سائدا إبان الحرب الباردة لم يغير سوى القليل. (8) التهديدات النووية والوكالة الدولية للطاقة الذرية
مثل ظهور الأسلحة النووية بعدا محوريا في مجال الأمن الدولي بعد عام 1945، وفي الواقع دعا أول قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة، والمتخذ في يناير عام 1946، للتخلص من «الأسلحة القادرة على التسبب في الدمار الشامل» والتعاون في سبيل استخدام الطاقة الذرية على نحو سلمي.
لكن مرة أخرى تعارضت المبادئ الفضفاضة مع المصالح القومية المباشرة. اختارت الولايات المتحدة حماية احتكارها للأسلحة الذرية، وتحرك الاتحاد السوفييتي سريعا نحو تطوير ترسانته الخاصة من هذه الأسلحة. وبحلول خريف عام 1949، أجرى الاتحاد السوفييتي أولى تجاربه بنجاح. وبحلول عام 1964، بعد أن أجرت جمهورية الصين الشعبية تجربتها الذرية الأولى ، صارت القوى العظمى الخمس أعضاء بالنادي النووي (أجرت بريطانيا العظمى وفرنسا تجاربهما بين هذين التاريخين). وفي العقود التالية أعلنت الهند وباكستان امتلاكهما لأسلحة نووية، فيما عملت دول أخرى - كإسرائيل وإيران وكوريا الشمالية - بجد من أجل امتلاكها. كما درست دول كثيرة أخرى - كجنوب أفريقيا والسويد - فكرة تطوير الأسلحة النووية في مرحلة ما.
كان المبرر، في جميع الأحوال، هو الردع لا العدوان؛ فمن المفترض أن امتلاك السلاح النووي يجعل الدول بمأمن من هجمات الدول الأخرى؛ إذ إن عاقبة ذلك - المتمثلة في الرد بالأسلحة النووية - ستكون أكبر مما تتحمله الدولة المعتدية. وفي الواقع، وبالرغم من بعض لحظات التوتر، كما حدث أثناء أزمة الصواريخ الكوبية في عام 1962، لم تستخدم الأسلحة النووية قط منذ ألقت الولايات المتحدة بقنبلتيها الذريتين على اليابان في عام 1945. في تلك المرحلة استخدمت القنبلتان الذريتان، بطبيعة الحال، لأغراض هجومية ودون الخوف من الرد بالمثل.
بالرغم من عدم استخدام الأسلحة النووية كأداة للحرب على مدار أكثر من ستة عقود، فإن انتشار الأسلحة النووية هو دليل على الفشل التام - خاصة فشل القوى العظمى - في الوفاء بالهدف الذي وضعته الأمم المتحدة عام 1946 بخصوص الخلاص من الأسلحة النووية. وقد بذلت الوكالة الدولية للطاقة الذرية - التي تأسست عام 1957 ومقرها جنيف - جهودا كثيرة للحد من انتشار هذه الأسلحة. إضافة إلى ذلك، صيغت سلسلة من الاتفاقيات الدولية بهدف الحد من انتشار الأسلحة النووية، وتقليص حجم الترسانة النووية التي تملكها كل دولة، ثم في النهاية، وضع شبح الحرب النووية تحت السيطرة.
بدأت الوكالة الدولية للطاقة الذرية باقتراح أمريكي في ديسمبر عام 1953 تبعه موافقة الجمعية العامة بالإجماع على إنشاء الوكالة في أكتوبر عام 1956. والوكالة الدولية للطاقة الذرية - بوصفها وكالة مستقلة - تقدم تقاريرها عن أعمالها دوريا لكل من مجلس الأمن والجمعية العامة، ويركز هذا العمل على ثلاثة مناح: التحقق والأمن النوويين، والسلامة النووية، ونقل التكنولوجيا النووية. تعد الوكالة الدولية للطاقة الذرية - الحاصلة على جائزة نوبل للسلام عام 2005 - من أعلى وكالات الأمم المتحدة مكانة، ويعد مديرها العام (في عام 2008 الدبلوماسي المصري محمد البرادعي) أحد أكثر مسئولي الأمم المتحدة شهرة على مستوى العالم .
لكن لم يكن ذلك التقدير والتأثير الدولي حاضرا على الدوام؛ فخلال الحرب الباردة ظلت الوكالة الدولية للطاقة الذرية عاجزة نسبيا؛ رهن إشارة القوى العظمى، وفي مجال الحد من التسليح النووي تحديدا، كان ما يهم هو آراء كل من موسكو وواشنطن (ولندن وباريس وبكين بقدر أقل)، وفي مجال الانتشار النووي حتى آراء هذه العواصم الكبرى لم تمنع الدول العازمة على امتلاك القدرة النووية من تنفيذ مآربها.
وهكذا كانت جهود الحد من الأسلحة النووية بالأساس نتيجة لسياسات القوة القديمة وليس الضغط الأخلاقي للمجتمع الدولي؛ ففي أعقاب أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 - مثلا - بدأت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في البحث عن أرضية مشتركة، وفي عام 1972 أدت محادثاتهما إلى معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية التي حددت عدد الأسلحة النووية الهجومية التي يستطيع كل طرف أن يملكها. وفي اتفاق منفصل وقع في الوقت عينه (معاهدة الحد من انتشار الصواريخ البالستية)، اتفق الأمريكيون والسوفييت جوهريا على تجميد عمليات تطوير الأسلحة النووية «الدفاعية»، بيد أن الزعم بأن الهدف الأساسي لهذه الاتفاقات هو جعل العالم أكثر أمنا، الذي يتمسك به مؤيدوها الرئيسيون بقوة، أمر محل شك. ومع هذا فمن الواضح أن تجدد أجواء التوتر بين الأمريكيين والسوفييت في أواخر السبعينيات أدى إلى تجدد سباق التسلح النووي في الثمانينيات، ولم يكن بيد الوكالة الدولية للطاقة الذرية ما تستطيع عمله حيال ذلك.
في الوقت ذاته، أدى انضمام الصين وفرنسا إلى «النادي» النووي في الستينيات إلى دعم متزايد للالتزامات الدولية الملزمة قانونا والإجراءات الوقائية الشاملة للحيلولة ضد انتشار الأسلحة النووية. أولى النتائج الكبرى كانت الموافقة على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية في عام 1968. جمدت هذه المعاهدة بالأساس عدد الدول المعلن عن امتلاكها للأسلحة النووية عند خمس دول فقط (الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي والمملكة المتحدة وفرنسا والصين). طلب من الدول الأخرى الابتعاد عن خيار التسليح النووي وإتمام اتفاقيات الإجراءات الوقائية الشاملة مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية بشأن المواد النووية التي تملكها. وفي السبعينيات قبلت المعاهدة من طرف كل الدول الصناعية الكبرى ومن طرف الأغلبية العظمى من الدول النامية.
في بداية التسعينيات أزاح تفكك الاتحاد السوفييتي شبح الحرب النووية الذي خيم على حقبة الحرب الباردة، وفي عام 1995 باتت معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية دائمة، وفي عام 1996 وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، وفتحت باب التوقيع عليها. بيد أن الخوف من فناء العالم نتيجة لصدام بين القوتين العظميين سريعا ما حل محله قلق متجدد من انتشار الأسلحة النووية؛ فالكشف عن - أو القلق بشأن - وجود برامج سرية للتسليح في العراق (الذي ثبت عدم وجود أساس له في عام 2003) وكوريا الشمالية، إلى جانب القلق بشأن مستقبل ترسانة الأسلحة النووية الخاصة بالاتحاد السوفييتي السابق وإمكانية وجود الإرهاب النووي أدى إلى تقوية دور الوكالة الدولية للطاقة الذرية، التي صارت نتيجة لهذا المراقب النووي العالمي؛ وكالة تحقق تابعة للأمم المتحدة تعمل على التأكد من تطوير الطاقة النووية للأغراض السلمية فقط.
معاهدة حظر الانتشار النووي
وقعت معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، المسماة أيضا بمعاهدة حظر الانتشار النووي، في الأول من يوليو عام 1968، كان هدفها هو الحد من انتشار الأسلحة النووية. بحلول عام 2007، وقعت 189 دولة على المعاهدة، واختارت أربع دول فقط عدم التوقيع عليها؛ من هذه الدول الأربع، هناك دولتان (الهند وباكستان) تأكد أنهما قوتان نوويتان (لأنهما أجرتا تجارب لأسلحة نووية على نحو علني)، وواحدة يفترض أنها قوة نووية (إسرائيل). وصدقت قوة نووية أخرى، جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية (كوريا الشمالية) على المعاهدة في عام 1985، لكنها انسحبت منها عام 2005. وفي عام 1995 مددت المعاهدة لأمد غير محدد ودون شروط.
لمعاهدة حظر الانتشار النووي نجاحاتها؛ فقد تخلى العديد من الدول الموقعة عليها عن الأسلحة النووية أو برامج الأسلحة النووية؛ على سبيل المثال: في السبعينيات تبنت جنوب أفريقيا برنامجا للأسلحة النووية، بل يعتقد أنها أجرت تجربة نووية في المحيط الأطلسي. لكنها تخلت عن الأسلحة النووية لاحقا ووقعت على المعاهدة عام 1991. في ذلك الوقت تقريبا، دمر العديد من الجمهوريات السوفييتية أسلحتها النووية التي ورثتها عن الاتحاد السوفييتي، أو نقلتها إلى روسيا.
لكن تظل الوكالة الدولية للطاقة الذرية رهينة المصالح القومية لصفوة الدول، وهي لا تزال تفتقد القدرة على إرضاء من يطالبون بضمانات ضد المزيد من الانتشار للأسلحة النووية. استغلت الولايات المتحدة وحلفاؤها برنامج الأسلحة النووية العراقي كذريعة لغزو العراق واحتلاله في عام 2003 بالرغم من التأكيدات (الدقيقة) للوكالة الدولية للطاقة الذرية بعدم وجود مثل هذا البرنامج. ولم تستطع الوكالة فعل الكثير لمنع كوريا الشمالية من تطوير ترسانتها من الأسلحة النووية في العقد الأخير من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وكان للوكالة الدولية للطاقة الذرية تأثير قليل للغاية على سعي إيران لتطوير السلاح النووي.
في النهاية، لا تستطيع الوكالة الدولية للطاقة الذرية إجبار الدول على التخلي عن مساعيها لامتلاك الأسلحة النووية؛ فهي قادرة على التفتيش، وإصدار الأحكام، وتقديم التوصيات للأمم المتحدة، لكن مسألة التصرف وفق هذه النتائج والتوصيات متروكة في النهاية لمجلس الأمن. وقد فعل مجلس الأمن هذا - على سبيل المثال - في مارس عام 2007 (ومجددا في عام 2008) حين قرر بالإجماع تعزيز العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران للضغط عليها كي تتخلى عن برنامجها النووي. وسنرى في المستقبل هل سيأتي هذا القرار بالأثر المرغوب، أم العكس. (9) مجلس الأمن في عالم «أحادي القطب»
كان مجلس الأمن - وما زال - ضحية لقواعده الخاصة. إن ما أوجد الإشكالية العظمى هو الحاجة إلى التأكد من أن أقوى الدول ستنضم للأمم المتحدة وتظل أعضاء بها. ولهذا، منحت الدول الخمس العظمى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية مكانة خاصة بوصفها الدول الخمس دائمة العضوية بمجلس الأمن، والوحيدة التي تملك حق النقض أو الفيتو (الفيتو السادس هو افتراضي بالأساس). هذا الجانب يجعل الأمم المتحدة مؤسسة غير ديمقراطية، لكنه ضمن أيضا أن الأمم المتحدة - على العكس من عصبة الأمم في الثلاثينيات - لن تشهد انسحاب الدول العظمى منها احتجاجا؛ فهي ليست في حاجة لذلك، فبإمكانها شل حركة الأمم المتحدة بصوت وحيد، وهو ما فعلته على نحو متكرر.
نتيجة لذلك، يكتنف مستقبل مجلس الأمن الغموض ؛ فقد اعتمد المجلس بقدر كبير - نتيجة فقدانه القدرة على نشر قوات عسكرية خاصة به بسرعة - على مساهمات القوى العظمى في الحملات العسكرية واسعة النطاق. لا عجب إذن أن العمليات التي نفذت إلى الآن - في كوريا في أوائل الخمسينيات وفي الخليج العربي في أوائل التسعينيات - حدثت في ظل ظروف سياسية استثنائية، وكلتاهما كانتا في الأساس عمليات عسكرية أمريكية، وبناء عليه فقد أظهرتا حقيقة أن عدم القدرة على الاتفاق على دور حقيقي للجنة الأركان العسكرية في الأربعينيات أصاب الأمم المتحدة بالشلل.
النقطة الأساسية المترتبة على ذلك هي أن الأمم المتحدة اليوم باتت - في جوهرها - تابعة لأهواء القوى الخمس العظمى ولتحالفات القوى الخاصة بينها. في الوقت الحالي، يعني هذا أن القوى العظمى الخمس تخاطر بالتحول إلى قوة واحدة عظمى - مع تولي الولايات المتحدة زعامة العالم - توجه أو تعيق تدخلات الأمم المتحدة بما يتفق مع مصالحها القومية. ليس هذا بالموقف المثالي أبدا، ويزيد من خطورته التحدي الخاص بالانتشار النووي. إن احتمال دخول إيران للنادي النووي في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين قد يزيد أيضا من التوتر داخل مجلس الأمن، الذي تعتمد بعض دوله - بطبيعة الحال - على النفط الإيراني كمصدر للطاقة.
لا شك أن مجلس الأمن بحاجة للإصلاح، شأنه في ذلك شأن الجزء الأكبر من منظمة الأمم المتحدة نفسها. بل هو في الواقع جزء حيوي من عملية الإصلاح. لكن في هذه النقطة، من المفيد أن نذكر أنفسنا بحقيقة أنه بالرغم من أخطاء ومواطن قصور مجلس الأمن، فإنه أجاز عددا كبيرا من مهام حفظ السلام. ومع أن سجل قوات حفظ السلام المسماة بذوي الخوذات الزرقاء، بعيد عن المثالية، فإنها غيرت وأنقذت حياة ملايين الأشخاص في العالم على مدار العقود الخمسة الماضية. وهي تستحق النظر إليها نظرة أكثر إمعانا.
الفصل الرابع
من حفظ السلام إلى بناء السلام
«من المؤكد أن فكرة وجود قوة شرطة دولية فعالة ضد أي جهة تخل بالسلام تبدو اليوم مستعصية على التحقيق إلى حد السخف.» صدرت تلك العبارة غير المتوقعة من ليستر بي بيرسون كجزء من خطبة تسلمه جائزة نوبل للسلام في ديسمبر عام 1957. فعلى أي حال، يعد حفظ السلام من أبرز الأدوار التي تلعبها الأمم المتحدة في كل قارة (عدا أمريكا الشمالية). ففي صيف عام 2008، كانت اثنتان وعشرون بعثة نشطة منفصلة، مدعومة بقرابة التسعين ألف جندي من أكثر من مائة دولة. لكن كما أشار بيرسون - الذي يتضمن تاريخه المهني الرائع العمل وزير خارجية ورئيس وزراء لكندا - فإن الثقة في نجاح مثل هذه العمليات لم تكن دائما مرتفعة للغاية.
1
في حقيقة الأمر، لم تحقق الأمم المتحدة التوقعات العالية التي حملها مؤسسوها، وهو ما أدركه بيرسون - الذي كان في وقتها المندوب الكندي بالأمم المتحدة، والذي ينسب له فضل إنشاء أول قوة واسعة النطاق لحفظ السلام في عام 1956 (لحماية قناة السويس) - منذ نصف قرن. توضح إحدى الإحصائيات هذه الحقيقة: فبين عامي 1948 و1988، أجازت الأمم المتحدة ثلاث عشرة بعثة لحفظ السلام فقط، وفي الفترة نفسها نشب عدد متزايد من الحروب، سواء بين الدول أو داخل الدولة نفسها (حروب أهلية) في أنحاء العالم. وفي عام 1982 وحده نشب أكثر من أربعين صراعا داخليا.
شكل 4-1: حين فاز ليستر بيرسون، مندوب كندا بالأمم المتحدة، بجائزة نوبل للسلام في عام 1957، كان ضمن ما جاء في التنويه في الثناء عليه تحليه المستمر ب «توجه إيجابي وواقعي ... إن رؤية ليستر بيرسون ليست رؤية شخص حالم. إنه ينظر إلى الحياة وإلى ظروف العالم كما هي، ويبني أحكامه على الحقائق».
2
تفسر ضغوط الحرب الباردة، وتحديدا عجز مجلس الأمن عن الاتفاق حول شئون الحرب والسلام في سياق الصراع المحموم بين الغرب والشرق، جزءا من هذا السجل غير المثالي. لكن بعد انتهاء الحرب الباردة، واجهت عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة مشكلات عديدة حطمت صورة الخير والحياد التي يفترض بالمنظمة الدولية أن تعكسها. ففي التسعينيات، وقعت عمليات الإبادة الجماعية (في رواندا) والتطهير العرقي (في يوغوسلافيا السابقة) بالرغم من وجود قوات حفظ السلام ذات الخوذات الزرقاء في تلك المناطق.
في الواقع، تواجه قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة اليوم تحديات أكبر بكثير من تلك التي واجهتها حين بدأت هذا النشاط للمرة الأولى في الخمسينيات. السبب الرئيسي لهذا هو أن حفظ السلام لم يعد يقتصر فقط على الوقوف بين الطرفين المتناحرين من أجل تهدئة الحرب وتمكين الدبلوماسية من أخذ مجراها. فأنشطة حفظ السلام اليوم - أو «عمليات السلام» - أكثر تعقيدا بكثير في طبيعتها؛ فحفظ السلام لا يتساوى مع صنع وبناء السلام. (1) ميثاق الأمم المتحدة وحفظ السلام
لا يشير ميثاق الأمم المتحدة نفسه إلى «حفظ السلام»، لكن هذا المفهوم تطور (وصار جزءا أساسيا من برنامج عمل الأمم المتحدة) في السنوات اللاحقة. يرجع سبب هذا في جزء منه إلى الحقيقة البسيطة التي مفادها أن الدول الواحدة والخمسين المؤسسة للأمم المتحدة رفضت فكرة تدخل المنظمة في الشئون الداخلية لأي دولة. وعلى هذا فإن حفظ السلام - الذي يعني في النهاية وضع قوات عسكرية داخل حدود دولة ما بغرض وقف أعمال العدوان - يمكن بسهولة أن يعد خرقا للسيادة القومية. تحسبا لهذا الاحتمال فإن عمليات حفظ السلام «التقليدية» - التي عادة يشار إليها ب «الجيل الأول» - لم تكن ممكنة إلا بموافقة أطراف القتال. ومع الأسف يمكن أن يكون لهذا أثر عكسي؛ فالدولة «المضيفة» يحق لها المطالبة بسحب قوات حفظ السلام من أراضيها (كما حدث من جانب مصر عام 1967)، أو ببساطة رفض دخولها من الأساس.
أيضا لم تملك الأمم المتحدة الوسائل التي تمكنها من الاضطلاع بمهام حفظ سلام واسعة، ففكرة وجود قواعد دائمة للأمم المتحدة موزعة حول العالم، التي جرى تصورها في الأساس في المادة 43 من ميثاق الأمم المتحدة، لم يكتب لها النجاح. ومع أن السبب الأساسي لهذا الفشل كان ظهور التنافس بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في السنوات التالية على الحرب مباشرة، فإنه ارتبط أيضا بحقيقة أن عالم عام 1945 كانت تحكمه إمبراطوريات افترضت أن لها الحق في لعب دور القوة الشرطية التي تحفظ النظام داخل «محيطها». فدول كبريطانيا وفرنسا اعتبرت أن ممتلكاتها الاستعمارية تقع داخل حدود سيادتها القومية. وبفضل تمتعها بحق النقض داخل مجلس الأمن، كانت في موقف يمكنها من منع تأسيس أي قوة دولية للتدخل السريع .
إلا أن التفكك السلس للإمبراطوريات الأوروبية في أعقاب الحرب العالمية الثانية أوجد مشكلات وصراعات استلزمت نوعا جديدا من قوى حفظ النظام؛ ففي عامي 1947 و1948 أكدت المجازر التي وقعت على خلفية تقسيم الهند وباكستان - إلى جانب أولى الحروب العربية الإسرائيلية وظهور مشكلة اللاجئين الفلسطينيين - بما لا يدع مجالا للشك أن الأمم المتحدة بحاجة لتسليح عسكري إذا رغبت في التخفيف من حدة الصراعات في العالم. نتج عن هاتين الأزمتين إنشاء أطول بعثتين دائمتين لحفظ السلام: ففي مايو 1948 أنشئت «هيئة الأمم المتحدة لمراقبة الهدنة» في الشرق الأوسط، ومقرها القدس، وفي يناير 1949 نشر «فريق مراقبي الأمم المتحدة العسكريين في الهند وباكستان» لمراقبة وقف إطلاق النار في إقليم كشمير. كانت البعثتان - وستظلان - بعثتي مراقبة محدودتي النطاق، ولا يعد استمرارهما لهذه الفترة الطويلة إشارة طيبة عن أي من المنطقتين.
شهد الصراع الكوري نشر أكبر قوة تابعة للأمم المتحدة في منطقة للصراع، بيد أن هدف المهمة التي قادتها الولايات المتحدة كان صد الهجوم الذي وقع بالفعل، وليس الحفاظ على سلام هش. ومن الحقائق التي لا يعلمها سوى قليلين أن قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة ظلت على جانب كوريا الجنوبية من المنطقة منزوعة السلاح حتى عام 1967، حين تسلمت القوات الأمريكية وقوات كوريا الجنوبية زمام الأمور.
إن ميلاد قوات حفظ السلام - «أول قوات حفظ أمن دولية بحق»، كما عبر عنها بيرسون - لم يحدث إلا في منتصف الخمسينيات.
قرار الجمعية العامة رقم 998
في الرابع من نوفمبر عام 1956 تبنت الجمعية العامة الاقتراح الكندي الذي طلب «كضرورة ملحة، من الأمين العام أن يقدم إليها - وفي غضون ثمان وأربعين ساعة - خطة لإنشاء قوات طوارئ دولية تابعة للأمم المتحدة، بموافقة الدول المعنية؛ لتأمين ومراقبة وقف القتال» على امتداد قناة السويس. تبنت الجمعية هذا القرار بموافقة 57 دولة ولم تعترض أي دولة مع امتناع 19 دولة عن التصويت. من بين الدول التي امتنعت عن التصويت مصر وفرنسا وإسرائيل والمملكة المتحدة والاتحاد السوفييتي وعدد من دول أوروبا الشرقية. (2) السويس وحفظ السلام
تبع تأميم مصر لقناة السويس في صيف عام 1956 غزو إسرائيلي وتدخل عسكري إنجليزي فرنسي. ونظرا لعجز مجلس الأمن عن اتخاذ أي إجراء، اعتمدت الجمعية العامة قرارا تاريخيا (القرار 998) في الرابع من نوفمبر عام 1956 يخول الأمين العام السويدي، داج همرشولد، لإنشاء ونشر قوة طوارئ تابعة للأمم المتحدة، تكون مسئولة أمام همرشولد ويرأسها مسئول عسكري محايد. بدأ الاقتراح في الأساس من جانب ليستر بيرسون، الذي عرض في البداية أن تتكون القوات من جنود كنديين بالأساس. بيد أن المصريين كانوا متشككين في السماح لدولة من دول الكومنولث بالدفاع عنهم ضد بريطانيا العظمى وحلفائها. وفي النهاية، جرى الاعتماد على مجموعة متنوعة من القوات الدولية لضمان التنوع الكافي. وقد فاز بيرسون في عام 1957 بجائزة نوبل للسلام لدوره، وهو يعد اليوم أبا روحيا لعمليات حفظ السلام الحديثة.
كان الغرض من وجود قوة حفظ سلام قوية متعددة الجنسيات مكونة من 6 آلاف فرد بسيطا: أن تقيم حاجزا ماديا بين إسرائيل ومصر. وقد نجح الأمر، وإن لم يدم سوى عقد واحد. اعتمد وجود قوات الطوارئ الدولية على موافقة الدول الإقليمية (أو المضيفة). وفي عام 1967 طلب الزعيم المصري جمال عبد الناصر من قوات الطوارئ التابعة للأمم المتحدة المغادرة قبل وقت قصير من حرب الأيام الستة، التي احتلت خلالها إسرائيل شبه جزيرة سيناء (إلى جانب مرتفعات الجولان والضفة الغربية).
الدلالة الرئيسية لأزمة السويس من منظور الأمم المتحدة هي أنها كانت النموذج الأولي لعمليات حفظ السلام الحديثة. وفي صراعات عديدة أخرى بعد عام 1956، وصلت القوات ذات الخوذات الزرقاء، التي يرتديها في الأساس جنود الدول التي لا تنتمي للقوى الخمس العظمى، ووفرت درعا لوقف أي عمليات اقتتال مستقبلية، وليس مسموحا لهذه القوات باستخدام الأسلحة إلا للدفاع عن نفسها.
إن قوات الطوارئ التابعة للأمم المتحدة - كما يوحي اسمها - أنشئت بغرض تهدئة المواقف الطارئة. لم تكن وظيفتها هي حل الأصول الأعمق للصراع أو فرض تسوية دائمة. إضافة إلى ذلك، كان من الممكن أن يطلب من الجنود ذوي الخوذات الزرقاء المتمركزين على الجانب الغربي من شبه جزيرة سيناء المغادرة من جانب الدولة المضيفة ، مصر، في أي لحظة. بعبارة أخرى، لا يمكن الحفاظ على السلام على نحو دائم إلا إذا وجد طرفا الصراع أن ذلك يصب في مصلحتيهما. وبعد انتهاء صراع السويس بعشر سنوات طلبت مصر من قوات الطوارئ التابعة للأمم المتحدة المغادرة في ليلة حرب الأيام الستة. وقد رسمت حرب عام 1967 خلفية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الذي يبدو بلا نهاية. «أجيال» عمليات السلام
تطورت عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة على نحو عظيم في أغراضها وفي درجة تعقيدها على مر السنين. ولهذا يقسم المراقبون هذه العمليات إلى ثلاث أو أربع مجموعات، يشار إليها عادة باسم «الأجيال». مع أن كلمة «أجيال» قد تشير على نحو خاطئ إلى تعاقب زمني واضح وليس إلى وجود متواز لأنواع متعددة من العمليات، فمن الممكن تحديدها على النحو التقريبي التالي (وليس هذا هو التقسيم الوحيد؛ إذ يتحدث آخرون عما يصل إلى ستة أجيال من عمليات حفظ السلام):
الجيل الأول
من عمليات حفظ السلام (أو عمليات حفظ السلام التقليدية) يشير إلى العمليات التي استهدفت إقامة حاجز مادي بين الدولتين طرفي القتال - اللتين تحظى كل منهما باعتراف دولي - واللتين وافقتا على وجود قوات حفظ السلام. المثال التقليدي على هذا النوع من العمليات هو دور قوات الطوارئ الدولية في أعقاب حرب السويس عام 1956.
الجيل الثاني
من عمليات حفظ السلام (أو بناء السلام) يشير إلى تطبيق اتفاقات السلام المعقدة متعددة الأبعاد، عادة في أعقاب حرب أهلية. وهنا أيضا تكون موافقة طرفي القتال مطلوبة، لكن في المعتاد لا يكون الطرفان (أو الأطراف، في حالة تعدد الأطراف) دولتين. وبالإضافة إلى الوظائف العسكرية التقليدية، تلعب قوات حفظ السلام دورا في العديد من وظائف حفظ الأمن والوظائف المدنية. الهدف هنا هو إيجاد تسوية طويلة الأمد للصراع الأساسي. من أمثلة هذا النوع من العمليات عمليات حفظ السلام في كل من ناميبيا في عامي 1989 و1990 وكمبوديا بين عامي 1991 و1993.
الجيل الثالث
من عمليات حفظ السلام عادة ما يشير إلى عمليات إنفاذ السلام. تضم هذه الأنشطة عمليات عسكرية ذات مستوى منخفض، وإنفاذ وقف إطلاق النار، وإعادة بناء «الدول المنهارة». المشكلة المتعلقة باستخدام مصطلح «جيل» واضحة تمام الوضوح هنا: فمهمة حفظ السلام في الكونغو في أوائل الستينيات كانت في الأساس أول الأمثلة على عمليات إنفاذ السلام، وعلى هذا فقد سبق الجيل الثالث من عمليات حفظ السلام الجيل الثاني منها. ثمة مثالان آخران أحدث على هذه العمليات حدثا في كل من يوغوسلافيا السابقة والصومال في التسعينيات.
الجيل الرابع
من عمليات حفظ السلام (الذي نادرا ما يسمى بهذا الاسم) يشير إلى عمليات بناء السلام بالوكالة، التي تحدث حين تعهد الأمم المتحدة بمختلف عمليات بناء السلام وحفظه إلى منظمات إقليمية مثلا. ربما يكون أشهر مثال على ذلك هو دور حلف شمال الأطلسي في البوسنة منذ أواسط التسعينيات.
بالرغم من محدودية نجاح النموذج الأولي المستخدم في السويس على المدى البعيد، فإنه كان النموذج العام المستخدم في عمليات حفظ السلام خلال حقبة الحرب الباردة. السمات الخاصة بهذا النوع من عمليات «الجيل الأول» لحفظ السلام كانت الحيادية الصارمة والموضوعية بشأن الصراع القائم، وهو ما مكن الأمم المتحدة ودولها الأعضاء من الإحجام عن الانحياز لطرف بعينه. وفي حقبة اتسمت بالتنافس بين الشرق والغرب، كانت هذه هي الوسيلة الوحيدة تقريبا التي يمكن أن تحظى بها مهمة عسكرية دولية بدعم الدول المنتمية لطرفي الحرب الباردة. ومع هذا فإن التأكيد على مراقبة الموقف، وليس التأثير عليه، والحاجة إلى موافقة كل أطراف الصراع، وعدم استخدام القوة (إلا في حالة الدفاع عن النفس) تسبب في جعل نموذج السويس الأولي غير ملائم لجميع أنواع مواقف الصراع، خاصة صراعات الخلافات العديدة التي اندلعت في أعقاب انتهاء الاستعمار الأوروبي في الخمسينيات والستينيات. (3) مولد عمليات إنفاذ السلام: الكونغو
مع أن أزمة السويس أرست نموذج عمليات حفظ السلام الحديثة التابعة للأمم المتحدة في الصراعات بين الدول، فإن معضلة الكونغو مثلت نوعا جديدا من التحدي. لقد نتج عن الاستقلال المفاجئ للمستعمرة البلجيكية السابقة في أوائل عام 1960 ليس فقط الدولة الأكبر مساحة في أفريقيا السوداء، بل أيضا دولة تكتظ بالصراعات الداخلية على السلطة ، وغنية بالموارد، وجاهزة للتدخل الأجنبي. أعلنت مقاطعة كاتانجا - أغنى منطقة في الكونغو - استقلالها بعد تلقيها الدعم من روديسيا وجنوب أفريقيا (وكلتاهما تخضعان لحكم أقلية بيضاء). وحين عادت القوات البلجيكية إلى الكونغو، التمس باتريس لومومبا - رئيس وزراء البلاد - عون الأمم المتحدة. لكن وصول قوات حفظ السلام لم يحل الأزمة على الفور، وتناقش مجلس الأمن حول تداعيات التدخل في الشئون الداخلية للكونغو، التي صارت عضوا بالأمم المتحدة منذ سبتمبر عام 1960.
من ثم صارت الكونغو أول حالة تنخرط فيها الأمم المتحدة في مهمة «إنفاذ للسلام». واجهت قوة عمليات الأمم المتحدة في الكونغو المؤلفة من 20 ألف فرد معوقات طبيعية، وتعرضت لهجمات مستمرة من الجماعات المحلية. وفي العام ذاته أسر باتريس لومومبا وقتل على يد خصومه داخل البلاد. عمت الاضطرابات أرجاء البلاد حتى عام 1964، حين توحدت الدولة من جديد - في الوقت الحالي - وتولت حكومة مركزية بزعامة موبوتو سيسي سيكو السلطة في كينشاسا. غادرت آخر قوات للأمم المتحدة الكونغو في صيف عام 1964. وتعد قوة عمليات الأمم المتحدة في الكونغو أكثر عمليات حفظ السلام أثناء الحرب الباردة تكبدا للخسائر، وذلك بسبب مقتل 250 فردا من أفرادها. ومن بين القتلى كان الأمين العام للأمم المتحدة؛ إذ تحطمت طائرة الأمين العام داج همرشولد على نحو مأساوي في عام 1961 وكان يجري جولات مكوكية بالمنطقة في محاولة للتوسط لإنهاء الصراع.
اتسمت تبعات دور الأمم المتحدة في الكونغو بالتضارب؛ فمع أن قوة عمليات الأمم المتحدة في الكونغو لعبت دورا في ضمان بقاء الدولة الجديدة كدولة موحدة، فإنها لم تفعل سوى القليل لحل أسباب أي اضطراب أو عدم استقرار مستقبلي. لقد ولى الاستعمار، وحفظ تدخل الأمم المتحدة وحدة الدولة التي بدت وكأنها «دولة منهارة». لكن النتيجة كانت دولة ديكتاتورية فاسدة. وعلى مر العقود الثلاثة التالية ثبت أن موبوتو ديكتاتور لا يرحم، وأنه زاد من ثرواته الشخصية وحابى قاعدة مؤيديه، وكان يختبئ خلف واجهة الدولة القومية المستقرة. وفي نهاية التسعينيات، اندلعت حرب أهلية طويلة وأطيح بموبوتو. وإذا كانت عمليات حفظ السلام - كالتي جرت في السويس - تركت الباب مفتوحا أمام الصراعات بين الدول، فإن عمليات إنفاذ السلام كالتي جرت في الكونغو لم توفر أي أساس للتناغم الداخلي المستقبلي. (4) عمليات حفظ السلام وقيود الحرب الباردة
كانت السويس والكونغو مثالين على ما يمكن أن يطلق عليه «النماذج الأولية» لعمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة ومهام إنفاذ السلام. كانت هذه العمليات مقيدة بقدرة الأعضاء الدائمين بمجلس الأمن على الاعتراض على أي فعل إذا بدا متناقضا مع مصالحهم القومية. وعلى الرغم من أن أزمة السويس بينت أنه حتى في حال تورط اثنتين من الدول العظمى، فإن الأمم المتحدة قادرة بالفعل على العمل بقدر ما، فإنها بينت أيضا أنه دون الضغوط الأمريكية والسوفييتية المهولة لم يكن بالإمكان فعل شيء لتحجيم التدخل البريطاني والفرنسي.
ظلت أزمة السويس حالة استثنائية في هذا الصدد؛ فخلال معظم حقبة الحرب الباردة، تعذر على الأمم المتحدة القيام بعمليات حفظ السلام وإنفاذ السلام في عدد من المناطق؛ على سبيل المثال: خلال الصراع الدموي في الجزائر، عجزت الأمم المتحدة عن التدخل بسبب قدرة فرنسا على منع أي فعل. أيضا مرت حربا فيتنام - سواء التي تورطت فيها فرنسا (1946-1954) أو الولايات المتحدة (1960-1975) - دون أن تلعب الأمم المتحدة أي دور فعال. وحين غزا السوفييت أفغانستان عام 1979، وحين هاجم الصينيون فيتنام في العام نفسه، عجزت الأمم المتحدة عن فعل شيء باستثناء عرض الوساطة. والمهمة الوحيدة في نصف الكرة الأرضية الغربي - وهي المنطقة التي استمرت الولايات المتحدة في الهيمنة عليها - حدثت في جمهورية الدومينيكان في مايو من عام 1965، في أعقاب التدخل العسكري أحادي الجانب من قبل 20 ألف جندي من مشاة البحرية الأمريكية. استمرت «مهمة ممثل الأمين العام في جمهورية الدومينيكان» حتى أكتوبر من عام 1966، حين سرحت «بنيتها الأساسية» (اثنان من المراقبين العسكريين وهيئة موظفين مدنيين صغيرة).
ومع هذا؛ فقد توسعت القوات ذات الخوذات الزرقاء في عملياتها خلال الحرب الباردة. وبين الستينيات والثمانينيات، أرسلت قوات حفظ السلام إلى العديد من مناطق الصراع، وتحديدا إلى الشرق الأوسط. وقد صار بعض هذه العمليات جزءا من المشهد الطبيعي لتلك الأقاليم؛ على سبيل المثال: ظلت «قوة الأمم المتحدة لحفظ السلام في قبرص» حاضرة في جزيرة شرق المتوسط منذ عام 1964، وأنشئت «قوة الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك»؛ لمراقبة الحدود بين إسرائيل وسوريا في عام 1974، ولا تزال موجودة في مكانها. والأكثر إثارة للدهشة على الأرجح هو تمديد عمل «قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل)»، ذات الاسم غير الملائم، في صيف عام 2006 في أعقاب الصراع بين إسرائيل وحزب الله؛ ذلك الصراع الذي هدد بتدمير جهود لبنان في الانتقال نحو شكل من أشكال الحياة الطبيعية. وقد تأسست قوة اليونيفيل بالأساس في عام 1978. يا لها من قوة «مؤقتة» بحق!
إجمالا، نفذت ثماني عشرة مهمة لحفظ السلام خلال الحرب الباردة. وخلافا للمهام القليلة المذكورة سابقا، أغلبها كان ذا مدة قصيرة نسبيا. والعديد من هذه المهام كانت بالأساس مهام مراقبة، وتعد مهمة جمهورية الدومينيكان مثالا متطرفا على هذا. الخبر الطيب هو أن معدل الوفيات كان منخفضا على نحو نسبي؛ إذ إنه بين عامي 1948 و1990 توفي 850 فردا من قوات حفظ السلام. علاوة على ذلك، نزعت قوات الأمم المتحدة فتيل عدد من الصراعات العنيفة، أو «جمدتها»، وعلى أقل تقدير، مكنت من إجراء المفاوضات بين الأطراف المتصارعة. وبهذا أنقذت حياة الكثيرين، ودعمت قضية السلام في مجملها، وإقرارا بهذا الدور منحت قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة جائزة نوبل للسلام عام 1988، وهو التقدير الذي تأخر كثيرا.
ومع هذا، وكما يتأكد من الصراعات المستمرة لفترات طويلة في الشرق الأوسط، والوجود الدائم لمراقبي الأمم المتحدة في كشمير، يظل الأثر الذي أحدثته قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة على الحل الفعلي للمنازعات محدودا. بل صار الموقف أكثر تعقيدا منذ أواخر الثمانينيات.
خطة للسلام، 1992
في اجتماع مجلس الأمن في الحادي والثلاثين من يناير عام 1992، في أول اجتماع للمجلس على مستوى رؤساء الدول، اعتمدت ورقة العمل التي تقدم بها بطرس بطرس غالي - الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة - بعنوان «خطة للسلام »، التي قدمت تحليلا وتوصيات على طريق تقوية وتحسين قدرة الأمم المتحدة على الحفاظ على السلام العالمي.
حددت «خطة للسلام» أربع مراحل متتابعة من العمل الدولي لمنع الصراعات أو السيطرة عليها، وهي: الدبلوماسية الوقائية، وصنع السلام، وحفظ السلام، وبناء السلام (والمقصود به تحديد ودعم البنى القومية التي ستساعد على تقوية السلام وترسيخه من أجل تجنب النكوص إلى الصراع).
عكست الورقة تطلعا واسعا لدور الأمم المتحدة في عالم ما بعد الحرب الباردة، وتحديدا في نطاق حفظ السلام؛ فبدلا من الفصل بين جيوش الدول المتصارعة كما كان الحال خلال حقبة الحرب الباردة، زاد في التسعينيات استخدام عمليات حفظ السلام في مواقف الصراع الداخلي، الذي تضمن قوات غير حكومية وقوات متمردين (عادة ما تطلق على نفسها «حركات التحرر الوطني»). وباتت الأدوار التي على قوات حفظ السلام أن تلعبها أكثر تعقيدا عما هو الحال في الصراعات التقليدية بين الدول. إضافة إلى ذلك، اقتضت ورقة عمل «خطة للسلام» أن تدخل الأمم المتحدة لم يعد مشروطا بموافقة كل الأطراف المتورطة في الصراع نفسه. وهذا يفسر إلى حد بعيد الزيادة المفاجئة في عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في التسعينيات. (5) المبالغة في أهداف عمليات حفظ السلام
عقب نهاية الحرب الباردة، حدثت زيادة مهولة في عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة؛ ففي عامي 1988-1989 - على سبيل المثال - أضيفت خمس عمليات حفظ سلام جديدة هي: مراقبة الحدود بين أفغانستان وباكستان، ووقف إطلاق النار بين العراق وإيران، ونهاية القتال في الحرب الأهلية الدائرة لوقت طويل في أنجولا، وإنهاء صراع ناميبيا من أجل الاستقلال، ووقف إطلاق النار بين الفصائل المتناحرة في أفريقيا الوسطى. وفي السنوات التالية زادت القائمة طولا، وشهدت كل من غرب الصحراء الكبرى وكمبوديا والبوسنة والهرسك والصومال وموزمبيق ورواندا وهاييتي وغيرها من المناطق وصول قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة.
تطلبت المهام الجديدة هياكل تنظيمية جديدة وموارد إضافية، لخصتها خطة السلام التي عرضها الأمين العام للأمم المتحدة في يناير 1992. وفي العام ذاته، أنشأت الأمم المتحدة «إدارة عمليات حفظ السلام» للتنسيق بين عمليات حفظ السلام المتعددة. زاد عدد الجنود ذوي الخوذات الزرقاء من حوالي 15 ألف جندي في عام 1991 إلى أكثر من 76 ألف جندي في عام 1994. وفي الفترة عينها زادت التكلفة المادية لعمليات حفظ السلام بنسبة تزيد على 600 بالمائة، من قرابة 490 مليون دولار في عام 1991 إلى 3,3 مليارات دولار في عام 1994. ومما لا يثير الدهشة أن الخسائر البشرية ارتفعت على نحو بالغ: فقد كانت هناك 15 حالة وفاة بين صفوف قوات حفظ السلام في عام 1991، لكن في عام 1993 وصل العدد إلى 252 (وهو أعلى معدل سنوي للخسائر البشرية في تاريخ عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة).
لم يؤت النشاط الكبير في عمليات حفظ السلام بعد الحرب الباردة النتائج المرغوبة دوما. يرجع هذا في جزء منه إلى مدى تعقيد العمليات الجديدة. فعلى النقيض من «عمليات حفظ السلام التقليدية» بين الدول، دفعت بقوات حفظ السلام في أتون عدد من الحروب الأهلية، وفوضت بإنفاذ تسويات قد تتقبلها الأطراف المتناحرة أو لا. وقد اتسم سجل هذه الجهود، سواء صنفت كعمليات سلام من الجيل الثاني أو الثالث أو الرابع، بالتضارب، خاصة في أوائل التسعينيات.
شكل 4-2: حجم قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة بين عامي 1947 و2006.
شكل 4-3: الأمين العام بطرس بطرس غالي برفقة أفراد قوة حفظ السلام المصرية في زيارة إلى سراييفو في ديسمبر عام 1992.
3
من العمليات الناجحة لحفظ السلام تلك التي جرت في كل من السلفادور وموزمبيق؛ حيث ساعدت قوات حفظ السلام على توفير الأمن الداخلي الضروري لإرساء السلام الدائم. عززت حالة السلفادور السعي الناجح لتحقيق السلام في أمريكا الوسطى، الذي أرسى دعائم الديمقراطية في المنطقة بصورة عامة. وبين عامي 1992 و1994 ساعد أكثر من ستة آلاف فرد من «قوة عمليات الأمم المتحدة في موزمبيق» في الإشراف على تحول هذه الدولة الواقعة في جنوب شرق القارة الأفريقية من حالة الحرب الأهلية إلى الديمقراطية النيابية. وفي وقت سابق على هذا، في عامي 1989 و1990، تمكن «فريق الأمم المتحدة للمساعدة في فترة الانتقال» من إرشاد ناميبيا نحو الانتقال من الصراع من أجل الاستقلال نحو تحقيق الاستقلال. المغزى هنا هو أنه في الفترة الانتقالية من نظام الحرب الباردة الدولي إلى نظام ما بعد الحرب الباردة، تمكنت عمليات السلام التابعة للأمم المتحدة من إيجاد الاستقرار في العديد من مناطق الصراع في العالم.
في الوقت ذاته تقريبا، أشرف 15 ألف جندي من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة - كجزء من «بعثة الأمم المتحدة المتقدمة في كمبوديا» (1991-1992) و«سلطة الأمم المتحدة الانتقالية في كمبوديا» (1992-1993) - على تنفيذ «التسوية السياسية الشاملة للنزاع في كمبوديا» (الموقعة في باريس في 23 أكتوبر 1991). كان هذا إنجازا مثيرا للإعجاب على نحو خاص، في ظل ما شهدته كمبوديا على مدار أكثر من عقدين من صراع أهلي متواصل وحملات إبادة جماعية على يد الخمير الحمر في أواخر السبعينيات أدت إلى مقتل أكثر من مليوني شخص. ومع أن سجل الأمم المتحدة لم يكن مثاليا، فإن العمليات في كمبوديا أوضحت الأثر المفيد الذي يمكن للمنظمات الدولية أن تملكه في تحويل المجتمعات التي مزقتها الحروب إلى مجتمعات مسالمة.
لكن لم يهم كثيرا تحقيق الأمم المتحدة لعمليات سلام معينة ناجحة في أوائل التسعينيات. فبحلول منتصف هذا العقد، صار جليا أن حماس ما بعد الحرب الباردة بشأن دور الأمم المتحدة كصانع سلام عالمي بدأ يخبو، وكان هذا راجعا بالأساس لثلاثة إخفاقات كبيرة.
اثنان من هذه الإخفاقات المأساوية حدثا في أفريقيا؛ فبين عامي 1992 و1995 فشلت اثنتان من عمليات السلام في الصومال (عمليات الأمم المتحدة في الصومال 1 و2 في خلق بيئة آمنة في البلد الذي مزقته الحرب الأهلية وتحكمه الجماعات المسلحة، وفي عام 1994 وقعت عمليات الإبادة الجماعية في رواندا، التي نتج عنها مقتل ما لا يقل عن 800 ألف من قبيلة التوتسي على يد مجموعتين متطرفتين من الهوتو بين أبريل ويوليو، بالرغم من وجود «بعثة الأمم المتحدة لتقديم المساعدة إلى رواندا». وبعد مرور أكثر من عقد على مغادرة بعثتي الأمم المتحدة في الصومال وبعثة الأمم المتحدة في رواندا، تظل الدولتان مفتقرتين للاستقرار السياسي، ومثالين تقليديين على عيوب عمليات إنفاذ السلام في فترة ما بعد الحرب الباردة.
الحدث الآخر المساوي في المأساوية تمثل في إخفاق الأمم المتحدة - أو أي قوة دولية أخرى - في منع أعمال التطهير العرقي في يوغوسلافيا السابقة. وأكثر هذه الأعمال ترويعا كان مذبحة عام 1995 التي راح ضحيتها ثمانية آلاف من البوسنيين المسلمين في سربرنيتشا، وهي المنطقة التي أعلن مجلس الأمن أنها «ملاذ آمن». لكن لم ينجح قرار بالإجماع من مجلس الأمن أو وجود 400 من قوات حفظ السلام الهولندية في وقف أسوأ مذبحة شهدتها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.
أسهمت البوسنة - إلى جانب كل من الصومال ورواندا - في إضعاف موقف من علقوا آمالا كبيرة على قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في حقبة ما بعد الحرب الباردة. وبالمثل، بعد التفاوض حول اتفاقيات السلام (اتفاقيات دايتون) التي أنهت الحرب في يوغوسلافيا السابقة في أكتوبر عام 1995، لم يجز مجلس الأمن إرسال قوة تابعة للأمم المتحدة للإشراف على تنفيذها، وبدلا من ذلك فوض كل المهام العسكرية لقوة التنفيذ التابعة لحلف شمال الأطلسي.
هذه الإخفاقات العلنية الواضحة لم تمح تماما الإيمان بالدور الإيجابي لعمليات السلام التي تعززت من واقع النجاحات السابقة في كل من أمريكا الوسطى وأفريقيا وآسيا. ومع ذلك، فبحلول منتصف التسعينيات، بدت النجاحات في الانزواء مقارنة ببعض الإخفاقات الكبيرة والقاتلة لعمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. تبع هذا عملية تقييم للوضع. (6) إعادة التقييم
كان التناقض واضحا بين عمليات حفظ السلام التي نفذتها بالأساس قوة متعددة الجنسيات تابعة للأمم المتحدة والعملية العسكرية الهائلة في حرب الخليج في 1990-1991 بزعامة الولايات المتحدة. فحجم العملية الأخيرة - التي سميت بعاصفة الصحراء - كان كبيرا لدرجة استحال معها تنفيذ العملية بواسطة الموارد المتواضعة المتاحة للأمم المتحدة. أيضا كان من المستحيل أن تسمح الولايات المتحدة - أو عدد من الدول الأخرى - بتسليم قيادة قواتها العسكرية لمنظمة دولية. قد تكون حرب الخليج تنفيذا ناجحا لأحد قرارات مجلس الأمن، لكن نظرا لأن إجبار القوات العراقية على الانسحاب من الكويت لم يكن ممكنا إلا باستخدام قوة عسكرية واسعة النطاق، كانت حرب الخليج أقرب إلى استعراض للقوة العسكرية الأمريكية بوصفها القوة العظمى الوحيدة أكثر من كونه إشارة إلى دور الأمم المتحدة الجديد النشط في حماية السلم والأمن الدوليين.
يمكن لمقارنة بين الموارد التي خصصت لإخراج العراق من الكويت وتلك التي خصصت لمهام حفظ السلام في السنوات الخمس الأولى من حقبة ما بعد الحرب الباردة أن توضح المقصود. بلغ عدد قوات التحالف في حرب الخليج، في ذروتها، 660 ألف جندي، وتراوحت التكاليف المادية بين 61 و71 مليار دولار (منها حوالي 53 مليار دولار من دول أخرى خلاف الولايات المتحدة، مع أن القوات الأمريكية مثلت أكثر من ثلاثة أرباع القوة المشتركة في القتال).
على النقيض من ذلك، في عام 1993؛ العام الذي بلغت فيه تكاليف عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في حقبة ما بعد الحرب الباردة ذروتها، بلغت الميزانية الإجمالية المخصصة لهذه العمليات 3,6 مليارات دولار، وكان عدد الجنود ذوي الخوذات الزرقاء أقل من 80 ألف جندي (موزعين على ثلاث عشرة مهمة في ثلاث قارات مختلفة). وشهدت نهاية التسعينيات انخفاضا تدريجيا في العمليات وفي الاعتمادات المخصصة لها، إلى أن شهدت الألفية الجديدة ارتفاعا جديدا فيهما. كسر عدد قوات حفظ السلام حاجز المائة ألف في صيف عام 2008، فيما وصلت الميزانية إلى 5,4 مليارات دولار.
من العسير الحكم هل كانت عمليات حفظ السلام تحظى بالتمويل الكافي أم لا. لكن من الواضح أن الأمم المتحدة لا تنفق سوى حصة ضئيلة من الإنفاق الدفاعي الوطني لأغلب القوى العظمى (قرابة الواحد بالمائة من الإنفاق الفرنسي مثلا، وأقل من 0,1 بالمائة من الإنفاق الأمريكي). هذا التمويل المتواضع نسبيا قد يكون أحد الأسباب وراء عدم تحقيق عمليات حفظ السلام لأي نجاحات عظيمة في فترة التسعينيات. ومن قبيل المفارقة أن نمو تكاليف عمليات حفظ السلام يميل إلى اجتذاب المزيد والمزيد من الانتباه والنقد أكثر مما حدث مع حرب الخليج الأولى التي كلفت أكثر بكثير.
أوضح التقرير المسمى بتقرير الإبراهيمي عن عمليات السلام التابعة للأمم المتحدة (والمسمى على اسم السفير الأخضر الإبراهيمي من الجزائر، الذي يتمتع بمسمى وظيفي طويل على نحو يثير الدهشة هو «الرئيس التنفيذي، ووكيل الأمين العام للمهمات الخاصة المضطلع بها دعما لجهود الأمين العام في مجال الدبلوماسية الوقائية وصنع السلام»)، الذي خرج للنور في عام 2000 العديد من المشكلات، فقد أشار التقرير إلى السبب الرئيسي وراء فشل مهام الأمم المتحدة في رواندا والصومال والبوسنة: هو أنها لم تنشر في مواقف ما بعد الصراع، وإنما حاولت خلق بيئة ما بعد الصراع بالاستعانة بموارد محدودة. باختصار، كانت هناك حاجة لإنهاء الحرب قبل بناء السلام، لكن قوات الأمم المتحدة افتقرت للولاية وللموارد اللازمة لإنفاذ السلام.
أوضح تقرير الإبراهيمي أيضا الفارق بين حفظ السلام وبناء السلام، مشيرا إلى أن كلتا المجموعتين بحاجة إلى العمل معا عن كثب إذا كنا نرغب في الوصول إلى السلام الدائم. ولتحسين الموقف، مضى التقرير في سرد ما لا يقل عن عشرين توصية لعمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. من بين التوصيات كانت الحاجة إلى العمل الوقائي، والولاية الواضحة الصريحة للمهام، والتمويل الإضافي والدعم اللوجستي، وقدرة معلوماتية عامة محسنة.
افتقرت التوصيات إلى البساطة التي كانت ستروق للعالمين بالسياسة. كانت التوصيات منطقية وقوية الحجة، لكن لم يتوقع منها قط أن تثمر عن نتائج فورية. دعمت التوصيات من جانب الأمين العام كوفي عنان، الذي وصف إصلاح عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة بالأمر الأساسي. ألح عنان أيضا على أن الوقت قد حان أخيرا لوضع حفظ السلام في قلب أنشطة الأمم المتحدة، لكن لتحقيق هذا الهدف كانت هناك حاجة إلى المزيد من التمويل؛ ومن ثم التمس عنان من الدول الأعضاء زيادة تمويلها لعمليات السلام التابعة للأمم المتحدة.
تقرير الإبراهيمي، 2000
سمي تقرير الإبراهيمي - واسمه الرسمي «تقرير الفريق عن عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة» - بهذا الاسم على اسم رئيس اللجنة التي صاغته، وهو الجزائري الأخضر الإبراهيمي، الذي عمل من قبل مبعوثا للأمم المتحدة في هاييتي وجنوب أفريقيا. هذا التقرير - الصادر عام 2000 - جاء استكمالا ل «خطة السلام» لعام 1992. ألقى تقرير الإبراهيمي نظرة نقدية على عمليات السلام التابعة للأمم المتحدة في التسعينيات، وقدم قائمة بعشرين توصية. وبوجه خاص، دعا التقرير إلى إعادة هيكلة شاملة لإدارة عمليات حفظ السلام بحيث تضم وحدة جديدة للمعلومات والتحليل الاستراتيجي؛ تهدف إلى خدمة إدارات الأمم المتحدة المعنية بالسلم والأمن ، وقوة عمليات موحدة بالمقر الرئيسي للتخطيط لكل مهمة لحفظ السلام ودعمها منذ بدايتها، إلى جانب استخدام نظامي أكثر لتكنولوجيا المعلومات.
في السنوات التالية، اتبعت الأمم المتحدة عددا من هذه التوصيات من خلال إنشاء لجنة بناء السلام في عام 2006، وأيضا إنشاء الفريق رفيع المستوى المعني بالتهديدات والتحديات والتغيير، الذي سلم أول تقاريره عن تحديات الأمن المستقبلية التي تواجه الأمم المتحدة في عام 2004.
كانت الاستجابة إيجابية، لكنها كانت تدريجية وغير منتظمة؛ فقد تراوح الإنفاق على عمليات حفظ السلام بين مليار دولار ومليار ونصف المليار دولار بين عامي 1996 و1999. وبحلول عامي 2002-2003 تضاعف الرقم، وفي عام 2005 أنفقت الأمم المتحدة أكثر من 4,7 مليارات دولار (أكثر من ثلاثة أضعاف الإنفاق منذ عقد مضى). وفي عام 1997 كانت هناك ثماني عشرة عملية لحفظ السلام يشارك فيها 25 ألف جندي، ووصل العدد في عام 2005 إلى اثنتين وعشرين عملية يشارك فيها قرابة 70 ألف جندي.
لكن وجود عدد أكبر من قوات حفظ السلام لم يكن معناه أن العالم صار أكثر أمنا؛ ففي الواقع أشار ارتفاع أعداد قوات حفظ السلام إلى أن عدد مناطق الصراع في حقبة ما بعد الحرب الباردة صار أكبر من عددها إبان الحرب الباردة. وما يثير الضيق أكثر هو أن عددا من مناطق الصراع ظل مشتعلا بالحرب على الرغم من تدخل الأمم المتحدة في تلك المناطق لفترة طويلة. لا ريب أن قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة أثبتت قيمتها عندما يتعلق الأمر بالفصل بين دولتين متقاتلتين رأتا أن من مصلحتيهما إنهاء أعمال الاقتتال (كما حدث في السويس أو قبرص). ومن الجلي أن بمقدور قوات الأمم المتحدة، في سياقات معينة، إنفاذ السلام بنجاح داخل دولة ممزقة داخليا (كما حدث في الكونغو). لكن بناء السلام الدائم - أي بناء دولة ليست في حالة حرب مع نفسها - كان أكثر صعوبة. (7) تحدي بناء السلام
منذ منتصف الأربعينيات، احتلت عمليات حفظ السلام وإنفاذه أولوية عالية على جدول أعمال الأمم المتحدة، وهي تحتل المكانة ذاتها اليوم، ومن المرجح أن يظل الحال كذلك ما دامت الصراعات العسكرية مستمرة ، ومن المرجح استمرارها بكل أسف في المستقبل. واعترافا منها بهذه الحقيقة، وبالنجاحات المحدودة لعمليات حفظ السلام (كما أوضحها تقرير الإبراهيمي) إجمالا، صوتت الجمعية العامة لإنشاء «لجنة بناء السلام» في أواخر عام 2005. عقدت اللجنة أول اجتماعاتها في صيف عام 2006، ومهمة اللجنة هي «تسخير الموارد لتكون تحت تصرف المجتمع الدولي من أجل اقتراح استراتيجيات متكاملة للتعافي بعد الصراع، وتركيز الانتباه على إعادة البناء وبناء المؤسسات والتنمية المستدامة في الدول الناجية من الصراع».
4
كانت هذه فكرة رائعة، وقد عكست حقيقة أنه في الألفية الجديدة باتت عمليات حفظ السلام التقليدية، المشابهة لما حدث في السويس بعد عام 1956، عتيقة الطراز، وأن إنفاذ السلام لم يعد ممكنا إلا تحت ظروف معينة؛ حين لا توجد معارضة لمثل هذا الجهد من جانب الأعضاء الخمسة الدائمين بمجلس الأمن. وقد أوضح غزو العراق في عام 2003 بقيادة الولايات المتحدة بشكل أكبر عجز الأمم المتحدة عن منع قوة عظمى مثل الولايات المتحدة من استخدام قوتها العسكرية لأغراض تدميرية دون الحصول على مباركة الأمم المتحدة؛ ومع ذلك بينت نتائج حرب العراق الدور المحوري الذي يمكن للأمم المتحدة أن تلعبه في بيئة ما بعد الصراع. كان الهدف من عمليات حفظ السلام التقليدية توفير الوقت للدبلوماسية الدولية وحل الصراع، لكن دور قوات بناء السلام التابعة للأمم المتحدة هو توفير الوقت للفترات الانتقالية التي تبعت العديد من صراعات القرن الحادي والعشرين الداخلية في العالم.
إن تأسيس لجنة بناء السلام يعد خطوة حميدة نحو التماس طريق أكثر دقة ومرونة لمواجهة مستقبل أكثر مناطق العالم اضطرابا، ومع ذلك ستعجز اللجنة وحدها عن تحقيق الكثير؛ فهي هيئة استشارية تتكون من واحد وثلاثين مندوبا عن الدول الأعضاء بالأمم المتحدة (بما فيها القوى العظمى الخمس). وكما يعلن موقع اللجنة الإلكتروني فإن «سلطتها ستأتي من جودة نصائحها وثقل أعضائها».
5
وبعبارة أخرى، هي تعمل باتفاق الآراء، ولن يمكنها عمل الكثير بخلاف تقديم النصح؛ فهي ليست حلا سحريا.
إذا كان من درس يمكن تعلمه من هذا التطور الأخير، فهو حقيقة أن هناك حاجة مستمرة للإجراءات التي تتجاوز مجرد منع الجانبين المتناحرين من الهجوم أحدهما على الآخر. ربما كان «حفظ» السلام هو الهدف الذي طمحت أولى عمليات السلام التابعة للأمم المتحدة إلى تحقيقه، بيد أن التحدي الأشق بكثير هو «بناء» السلام. ولتحقيق ذلك، على لجنة بناء السلام أن «تجمع القدرات والخبرات المترامية للأمم المتحدة في منع الصراع والوساطة وحفظ السلام واحترام حقوق الإنسان وسيادة القانون والمساعدة الإنسانية وإعادة البناء والتنمية طويلة الأمد».
وبناء عليه يكون بناء السلام ممارسة شاملة تقر بكل من أهمية الدور الاقتصادي للأمم المتحدة وأيضا مساهمات المنظمات الإنسانية المعروفة العديدة التي تشكل «الجانب الناعم» للأمم المتحدة.
الفصل الخامس
من التنمية الاقتصادية إلى التنمية البشرية
أقام ميثاق الأمم المتحدة رابطا بين الأمن الدولي والفقر في العالم. فقد آمن مؤسسو الأمم المتحدة بأن الحرب العالمية الثانية جاءت نتاجا للكساد العظيم الذي ضرب العالم في ثلاثينيات القرن العشرين. وبعبارة أخرى، إن الاضطراب الاقتصادي تحول إلى اضطراب سياسي، مهد بدوره الطريق لاعتلاء النازي السلطة في ألمانيا. وأحد الأهداف المحورية للأمم المتحدة كان منع أي اختلال اقتصادي مشابه وما يتمخض عنه من تداعيات سياسية. وقد أمل المؤسسون - أو على الأقل بعضهم - في منع الانهيار الاقتصادي والحرب والثورة بواسطة جرعة من الإصلاحات الاجتماعية الديمقراطية والتنسيق السياسي بين الحكومات.
لكن في الوقت الذي يتحدث فيه ميثاق الأمم المتحدة عن تعزيز «مستويات معيشية أعلى» وخلق «ظروف للتقدم والتنمية الاقتصادية والاجتماعية»، لم يكن ثمة اتفاق قط حول «الكيفية» التي ينبغي تحقيق هذه الأهداف من خلالها. فخلال السنوات القليلة التالية للحرب، كان الموضوع الرئيسي على جدول الأعمال هو تعافي أوروبا الغربية واليابان. وفي الخمسينيات والستينيات أدت عملية إنهاء الاستعمار وظهور ما سمي بالعالم الثالث إلى تحويل التركيز نحو قضايا عدم المساواة العالمية. ومع أن العلاقات الدولية خضعت للصراع بين الشرق والغرب، فإن الانقسام الدائم بين الشمال والجنوب ألقى بظلاله على جهود الأمم المتحدة في إعادة تشكيل الاقتصاد العالمي.
وظل الأمر على هذا الحال إلى أن تبنت الجمعية العامة «الأهداف الإنمائية للألفية» في سبتمبر عام 2000. كانت مهمة الأمم المتحدة الأساسية هي جعل العالم مكانا أفضل من خلال عدة أمور من بينها القضاء على الفقر والجوع، ونشر التعليم في العالم، وتمكين المرأة، والحد من وفيات الأطفال. لم يكن أي من هذه الأهداف النبيلة للغاية جديدا، وإلى اليوم تظل كلها «أهدافا».
ومع هذا فقد لخص ميجيل ألبورنوز - مندوب الإكوادور لدى الأمم المتحدة - الأمر في خطبة ألقاها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1985 حين قال: «في الدول النامية، لا تعني الأمم المتحدة الإحباط أو المواجهة أو الشجب، بل تعني الصحة البيئية، والإنتاج الزراعي، والاتصال عن بعد، والحرب على الأمية، والصراع العظيم ضد الفقر والجهل والمرض.»
1
فبالرغم من مشكلات الأمم المتحدة فإنه في نظر الكثير من الأطراف المتلقية، فعلت الأمم المتحدة أكثر بكثير مما فعلته أي منظمة أخرى أو دولة منفردة لتخفيف المشكلات الاقتصادية والاجتماعية للدول الأقل تقدما. وهذا أمر لا يمكن تجاهله عند النظر بعين الاعتبار للأنشطة الاقتصادية للأمم المتحدة، مهما كانت النتائج النهائية غير مثالية. (1) إعادة الإعمار بعد الحرب العالمية الثانية
في عام 1945 كانت أوروبا في حالة من الخراب. كانت بنية أغلب العواصم القديمة منهارة، وسجلت البطالة أعلى مستوياتها، وكان هناك ملايين النازحين، وأطل شبح المجاعة برأسه. وفي آسيا، كانت اليابان والصين تترنحان تحت وطأة الدمار الذي لحق بهما جراء الحرب التي بدأت فعليا هناك في عام 1937. وقد استمرت في الصين الحرب الأهلية حتى تكونت جمهورية الصين الشعبية في الأول من أكتوبر عام 1949.
الاستثناء الكبير الوحيد في هذه الصورة القاتمة كان الولايات المتحدة؛ الدولة التي كانت تنتج نصف منتجات العالم الصناعية في عام 1945، ومن ثم لم يكن من قبيل المصادفة أن يشكل الأمريكيون العالم بعد الحرب. ومع ذلك، فبسبب التردي المتزامن في هوة الحرب الباردة، صارت إعادة الإعمار الاقتصادية في أغلب دول العالم خاضعة للتأثيرات السياسية على نحو كبير. وبين عامي 1948 و1952 ساعد مشروع مارشال - أو برنامج التعافي الأوروبي - دول أوروبا الغربية وحسب، بعد أن ضغط الاتحاد السوفييتي على دول أوروبا الشرقية للبقاء خارج مثل هذه البرامج. إن خوف الكرملين من فقدان السيطرة على الدول الجديدة التابعة له في أوروبا الشرقية جعله معارضا لأي برامج اقتصادية أو سياسية ربما كانت ستساعد على تحرير المنطقة من السيطرة السوفييتية.
وفي الشرق الأقصى، وخاصة بعد عام 1947، منحت الولايات المتحدة مساعدات سخية لإعادة إعمار اليابان، وفي كلتا الحالتين كان السبب الرئيسي وراء السياسة الأمريكية هو منع الانجراف اليساري المحتمل للدول التي صارت حليفاتها الرئيسية في الحرب الباردة، وفي الوقت ذاته ربط الاتحاد السوفييتي دول أوروبا الشرقية عن كثب بمداره الاقتصادي والسياسي؛ ومن ثم كانت النتيجة النهائية هي تكون ما أشير إليه لاحقا بدول «العالم الأول» (أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية واليابان) ودول «العالم الثاني» (الاتحاد السوفييتي والدول الأوروبية التابعة له).
لعبت مساعدات إعادة الإعمار فيما بعد الحرب العالمية الثانية دورا كبيرا في خلق هذا النظام الاقتصادي العالمي الجديد، بيد أنها كانت مرحلة عابرة، نابعة في الأساس من المخاوف السياسية والأمنية المباشرة، وعلى غرار الدور الذي لعبه حلف شمال الأطلسي في مجال الأمن، عمد مشروع مارشال إلى ربط الدول الأوروبية العظمى بالولايات المتحدة من الجانب الاقتصادي. كان الأثر الجانبي - والمقصود - لهذه الجهود هو إقامة حاجز بين ما سيطلق عليه سريعا على نحو دعائي اسم «العالم الحر» وأجزاء العالم التي عاشت تحت تأثير شيوعية الاتحاد السوفييتي.
لكن هذا أيضا كان يعني أن أحد الأفكار الأساسية بالميثاق؛ فكرة التزام المنظمة العالمية بتحقيق «التقدم والتنمية الاقتصادية والاجتماعية»، كانت في جوهرها ضحية للانقسام السياسي للعالم في أعقاب عام 1945. بطبيعة الحال لم يختلف أحد في العلن بشأن الحاجة إلى التقدم الاقتصادي، لكن عم الخلاف بشأن الأدوات التي سيعزز من خلالها، وتحديدا كان لكل من العالم الأول والعالم الثاني أفكارهما الخاصة عن كيفية تعزيز التقدم الاقتصادي والاجتماعي. أكد الأمريكيون على التجارة الحرة ودور القطاع الخاص، وبشر السوفييت بالآثار الصحية للسيطرة الحكومية، ورفضوا الانضمام لشبكة التجارة العالمية. ومع أنه في عامي 1944-1945 رأى كثير من الأمريكيين أن الحكومات والشركات ينبغي أن يتعاونوا عن كثب في جهود إعمار ما بعد الحرب، فإنهم اعتبروا هذا على أفضل تقدير مجرد ظاهرة مؤقتة. وأثناء الحرب الباردة ألقى هذا الانقسام السوفييتي-الأمريكي، الاشتراكي-الرأسمالي، بظلاله على دور الأمم المتحدة في دفع التنمية وتقليل الفقر. (2) التجارة والنمو
كانت خطة العمل الاقتصادية للأمم المتحدة تقع بالأساس تحت سيطرة ما يسمى بمؤسسات بريتون وودز، والمسماة على اسم مدينة في نيو هامبشير، التقى فيها ممثلو خمس وأربعين دولة في يوليو عام 1944 لدراسة النظام الاقتصادي في عالم ما بعد الحرب. لا تزال المؤسسات الثلاث الأساسية بهذا النظام عاملة ومؤثرة إلى يومنا الحالي، وهي: صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي (الذي سمي في بدايته بالبنك الدولي لإعادة الإعمار والتنمية)، ومنظمة التجارة العالمية (التي عرفت باسم الاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية والتجارة (الجات) بين عامي 1947 و1955). عكست المؤسسات الثلاث نظرة أيديولوجية معينة بشأن الكيفية التي ينبغي أن يعمل وفقها الاقتصاد الدولي: فبينما تطورت منظمة التجارة العالمية/الجات إلى مؤسسة مؤيدة لمبدأ قواعد التجارة الأكثر حرية على الدوام (وإن لم تكن ناجحة على الدوام)، أنشئ صندوق النقد الدولي؛ لزيادة الاستقرار في أسواق العملات في العالم، واستهدف البنك الدولي (البنك الدولي لإعادة الإعمار والتنمية) تقديم المساعدة المالية للدول الراغبة في الانضمام للسوق العالمية، لكنها عاجزة عن ذلك.
كان الهدف المتصور من هذه المؤسسات هو دعم السوق العالمية وتوسعتها وتنظيمها. كانت هذه المؤسسات - بصفة عامة - مؤسسات أنجلو أمريكية في تصميمها؛ فالبنك الدولي مثلا تلقى ما يقرب من 35 بالمائة من رأسماله الأصلي البالغ 9,1 مليارات دولار من الولايات المتحدة. علاوة على ذلك، من المهم هنا أن نذكر أن صندوق النقد والبنك الدوليين تحديدا أنشئا كمنظمات تكمن فيها السلطة في يد الدول المانحة. بعبارة أخرى، كانت قوة التصويت داخل هاتين المنظمتين تميل لكفة الدول الغنية والقوية (كبار المساهمين)، وعلى رأسها الولايات المتحدة. ومع أن الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية الثرية معنية - لا ريب - بالاستقرار الاقتصادي والأمن، فإن جدول أعمالها كان يسيطر عليه الإيمان بأن تعزيز التجارة الحرة من خلال المعاهدات والآليات الدولية كان الضمان الأمثل ضد الانهيار الاقتصادي الدولي المستقبلي، ويعد أفضل أمل لمستقبل من الرخاء يسود العالم.
وقد حققت هذه الصيغة النجاح؛ فمنذ عام 1945 نمت التجارة الدولية في الحجم على نحو سريع، وساهمت كثيرا في نمو الناتج الإجمالي العالمي والناتج القومي للفرد. فبين عامي 1960 و1993 مثلا، نما الاقتصاد العالمي من 4 تريليونات إلى 23 تريليون دولار. وحتى بعد التعديل وفق النمو السكاني العالمي، لا يزال هذا يعني زيادة قدرها ثلاثة أضعاف في الناتج القومي للفرد.
لكن قصة النجاح هذه لها منتقدوها ومعارضوها؛ فقد رفض الاتحاد السوفييتي مشروع مارشال الذي مولته الولايات المتحدة في عام 1947، ثم أتبع ذلك بخلق نظام اقتصادي اشتراكي داخل الكتلة السوفييتية. وبعد عام 1949 رفضت جمهورية الصين الشعبية - بالقدر عينه من التصلب - الرأسمالية كسبيل لتعزيز «التقدم الاقتصادي والاجتماعي». وفي العقود التالية على ذلك ظل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والجات مؤسسات «غربية» تدعم رؤية أحد جانبي الصراع العالمي. وفي أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، أثبتت نهاية الحرب الباردة ظاهريا أن الرؤية الغربية كانت صائبة، وأن الطريقة الاشتراكية كانت خاطئة، وقد أكد تفكك الاتحاد السوفييتي هذه النقطة.
جاء التحدي الثاني من عملية إنهاء الاستعمار؛ فقد تسبب النمو الهائل في عدد الدول الأعضاء في تغيير ميزان القوة داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة؛ إذ ظهرت في أوائل الستينيات حركة عدم الانحياز بوصفها أكبر تجمع للدول، وإن كان يغيب عنها التنسيق. نتج عن هذا التحول تأكيد كبير على القضايا الاقتصادية والاجتماعية، وتحديدا التوزيع غير المتساوي للثروة بين دول الشمال والجنوب. عقد مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية الأول في عام 1964، وأكد على هذا الأمر من خلال تكوين مجموعة الدول السبع والسبعين، وهي منظمة لتنمية دول أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا لا تزال تؤكد على أهمية المساعدة الإنمائية.
وبحلول عام 2008، ضمت مجموعة الدول السبع والسبعين أكثر من 130 دولة من الدول المسماة بدول الجنوب، أغلب هذه الدول فقير ومتخلف اقتصاديا مقارنة بدول أوروبا وأمريكا الشمالية، لكن أعدادها الكبيرة - سواء كدول أو أعداد السكان بها - والحقيقة الدائمة لعدم المساواة الاقتصادية بين دول العالم مثلت تحديا دائما لنظام الأمم المتحدة . (3) التنمية على رأس جدول الأعمال (3-1) البنك الدولي والمؤسسة الإنمائية الدولية
في الستينيات تحول جدول أعمال الأمم المتحدة من إعادة الإعمار إلى التنمية، وسريعا ما صار البنك الدولي يركز على المساعدات الإنمائية، وفي عام 1960 مول البنك هيئة فرعية تسمى «المؤسسة الإنمائية الدولية»، ومع أن الوكالة المقرضة الأصلية للبنك الدولي؛ البنك الدولي لإعادة الإعمار والتنمية، قد حولت تركيزها نحو ما يسمى بالدول ذات الدخل المتوسط، فإن مهمة المؤسسة الإنمائية الدولية كانت تقديم القروض والمنح بدون فوائد لأقل الدول نموا؛ تلك الدول التي كانت تسمى بالفعل في الخمسينيات بدول «العالم الثالث».
صدق على أول قروض المؤسسة الإنمائية الدولية لكل من شيلي وهندوراس والسودان في عام 1961. وعلى مدار خمسة وأربعين عاما تالية، منحت المؤسسة الإنمائية الدولية قرابة 161 مليار دولار على صورة قروض (عادة تسمى اعتمادات) إلى 108 دول، ذهب السواد الأعظم من هذه القروض إلى أفريقيا، وفي عام 2008 ذهب نصف القروض إلى دول جنوب الصحراء الكبرى بأفريقيا.
بالرغم من النوايا الطيبة الظاهرة، كثيرا ما كانت المؤسسة الإنمائية الدولية موضع استياء من جانب الدول المتلقية؛ فالبنك الدولي مؤسسة يتحكم فيها من يمولون عملياتها؛ ومن ثم تملك الولايات المتحدة تأثيرا مهيمنا، بوصفها «المساهم» الأساسي، على تحديد أولويات البنك. هذه الحقيقة تتأكد أكثر من واقع الاتفاق على أن يكون رئيس البنك الدولي أمريكيا، وأن تكون مقرات هذه المنظمة في واشنطن، والأمر عينه ينطبق على صندوق النقد الدولي. أيضا لم تساعد الاختيارات المثيرة للجدل لهذا المنصب - على غرار وزير الدفاع الأمريكي الأسبق روبرت ماكنمارا (1968-1981) أو نائب وزير الدفاع بول وولفويتز (2005-2007) - في تحسين سمعة البنك الدولي. في الواقع، نظر العديد من دول الجنوب إلى البنك الدولي كنسخة متجددة من الاستعمار الغربي (الشمالي)، وبناء عليه كانت هناك ضغوط منذ الستينيات داخل نظام الأمم المتحدة لإيجاد سبل بديلة لتعزيز التنمية. (3-2) مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية
أحد التعبيرات ذات المغزى عن هذه الرغبة كان الاجتماع الأول لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، الذي عقد في عام 1964 في جنيف. كان لهذا المؤتمر نتيجتان مهمتان طويلتا الأمد؛ أولاهما: هي أنه قاد لإنشاء مجموعة الدول السبع والسبعين كمجموعة ضغط قوية تدافع عن مصالح الدول النامية، والثانية: هي أنه على مدار أربعة عقود، تبنى مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية قضية دمج الدول النامية في الاقتصاد العالمي باعتبارها مهمته الأساسية.
في الستينيات والسبعينيات ظهر مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية كمنتدى رئيسي للحوار بين الشمال والجنوب (أو الدول المتقدمة والنامية)، وكبيت خبرة عالمي كبير مختص بقضايا التنمية، وقد لعب دورا كبيرا في دفع الاتفاقات الدولية التي منحت الدول النامية فرصا أفضل لدخول أسواق الدول المتقدمة، وذلك من خلال التعريفات الجمركية المخفضة. وأسهم مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية في تحديد المقدار الذي على الدول المتقدمة تكريسه للمساعدات الإنمائية (في عام 1970 وافق المؤتمر على نسبة 0,7 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي كرقم مستهدف)، وحدد مجموعة من الدول بوصفها الدول الأقل نموا (والمسماة أحيانا بدول العالم الرابع).
يلعب مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية دورا مهما في تحديد مسار سياسة التنمية بالأمم المتحدة، لكن حتى بمعايير الأمم المتحدة يظل عمل المؤتمر محدودا، فبعد أربعة عقود من العمل، يملك مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية هيئة عاملين دائمة تقدر بنحو أربعمائة فرد (أغلبهم في جنيف) وميزانية سنوية منتظمة قدرها 50 مليون دولار، وهو يقدم النصح ويعد البيانات ويقدم المساعدة الفنية وينظم مؤتمرا كبيرا كل أربعة أعوام (ومؤتمرا يركز على احتياجات الدول الأقل نموا كل عشرة أعوام). يحشد مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية الدعم وينسق الجهود، لكنه لا يصوغ السياسات. (3-3) برنامج الأمم المتحدة الإنمائي
مثل إنشاء برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في عام 1965 علامة فارقة في مسار السياسة الإنمائية العالمية. كان هدف البرنامج المبدئي هو التنسيق بين «البرنامج الموسع للمساعدة التقنية» و«صندوق الأمم المتحدة الخاص»، اللذين بدآ العمل في عامي 1949 و1959 على الترتيب، وذلك من أجل الاستجابة على نحو أفضل لاحتياجات العدد المتزايد من الدول المستقلة حديثا.
وفي العقود التالية صار برنامج الأمم المتحدة الإنمائي - الذي اعتمد على الإسهامات الطوعية من جانب الدول الأعضاء - جزءا متزايد الأهمية من الأمم المتحدة . من مؤشرات ذلك حقيقة أن مدير البرنامج - أو المدير التنفيذي - يحتل رسميا المرتبة الثالثة في هيكل الأمم المتحدة بعد الأمين العام والأمين العام المساعد، لكن في هذا الصدد لم يصر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي رمزا لأمل العالم الثالث في تحاشي هيمنة الدول الغنية على المساعدات الإنمائية؛ فعلى غرار البنك الدولي، ظل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي تحت هيمنة الأمريكيين أغلب الوقت، وقد كسر تعيين البريطاني مارك مالوك براون في عام 1999 هذه العادة أخيرا، وقد خلفه في عام 2005 كمال درويش، وزير الشئون الاقتصادية التركي الأسبق.
بدأ برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والبرامج السابقة عليه كمؤسسات تقدم العون (والتدريب) الفني، وكبيت خبرة عالمي ينتج دراسات جدوى، لكن على مر العقود صارت المساعدات الإنمائية المقدمة من جانب الأمم المتحدة مشروعا عالميا قيمته مليارات الدولارات، وبحلول عام 1989 وصلت الإسهامات المقدمة للبرنامج إلى 1,1 مليار دولار. يملك البرنامج 4700 عضو وأكثر من 130 مكتبا ميدانيا، وقد عمل في 152 دولة وإقليما. وبعد ذلك بأقل من عقدين، تضاعفت الميزانية أكثر من أربع مرات لتصل إلى قرابة 4,5 مليارات دولار (في عام 2005). أمر مثير للإعجاب، لكن لا يزال برنامج الأمم المتحدة الإنمائي متخلفا بقدر كبير عن البنك الدولي الذي أقرض نحو 30 مليار دولار، وكان يعمل به أكثر من ثمانية آلاف موظف في العام ذاته.
هذه أرقام كبيرة، ومن الجلي أنه بحلول عام 1990 تحقق بالفعل قدر كبير من التقدم. لخص برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أبرز الإنجازات على هذا النحو:
ما بين عامي 1960 و1987، زاد الأجل العمري المتوقع في دول الجنوب بمقدار الثلث (مع أنه لا يزال يساوي 80 بالمائة من نظيره بالدول المتقدمة).
ما بين عامي 1970 و1985، تحسن التعليم المتاح لدول الجنوب تحسنا كبيرا؛ على سبيل المثال: ارتفعت معدلات معرفة القراءة والكتابة من 43 بالمائة إلى 60 بالمائة في دول الجنوب.
ما بين عامي 1965 و1980، ارتفع الناتج القومي للفرد بنحو 3 بالمائة كل عام في الدول النامية.
ما بين عامي 1960 و1988، انخفضت معدلات وفيات الأطفال بمقدار النصف.
باختصار، أثناء مرور النظام الدولي بمرحلة التحول من الحرب الباردة إلى الحقبة الجديدة، بدت هناك وفرة من الأسباب الداعية للتفاؤل. وبالفعل، شهدت دول الجنوب إرساء «ظروف للتقدم الاقتصادي والاجتماعي». ومع انتهاء الصراعات الأيديولوجية بين الشرق والغرب، بدأ البحث عن وكلاء إقليميين من خلال المساعدات العسكرية يتلاشى لمصلحة عمليات حفظ السلام وبناء السلام العديدة في مناطق الصراع في العالم، وقد دفعت حقبة العولمة بمعدلات النمو العالمية إلى مستويات قياسية في التسعينيات، ومع أن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ربما لم يلعب دورا كبيرا في الحث على مثل هذه التغيرات، فإنه استطاع - وله مبرره في هذا - الشعور بالثقة بأنه حان الوقت لوضع «البشر في مركز عملية التنمية من حيث النقاش الاقتصادي والسياسة الاقتصادية والدعم الاقتصادي»،
2
وذلك حسبما ورد في «تقرير التنمية البشرية» الأول الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي المنشور عام 1990. (4) العولمة والتنمية البشرية
عكست ثقة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي تحولا فكريا متأخرا للغاية عن أوانه، فبدلا من النظر لمثل هذه الإحصائيات البسيطة على غرار نمو الناتج القومي الإجمالي أو متوسط مستويات الدخل في العديد من الدول، أراد تقرير التنمية البشرية «تقييم مستوى الرفاه طويل الأمد للبشر»؛ ومن ثم اعتبرت مؤشرات مثل العمر المتوقع والتعليم والصحة والتغذية والمرافق الصحية والتفرقة على أساس النوع مساوية في الأهمية، إن لم تكن أكثر أهمية، عند تقييم موضع الدولة في «الدليل القياسي للتنمية البشرية». أنشئ هذا الدليل عام 1990 على يد الاقتصادي الباكستاني محبوب الحق، وظل يستخدم في تقارير التنمية البشرية منذ عام 1993.
إن هدف تقارير التنمية البشرية والدليل القياسي للتنمية البشرية هو اكتشاف كيف أثرت سياسات التنمية على الحياة اليومية للأشخاص العاديين. وكانت التقارير ستستخدم بعد ذلك لتحسين السياسات الاقتصادية والتأكد من أن دائرة المستفيدين من التنمية ستتسع. بلغة بسيطة، كانت مراكمة الثروة والأصول مجرد واحد من مؤشرات عديدة مستخدمة لتقييم التنمية البشرية.
كان التقرير الأول للتنمية البشرية، في واقع الأمر، محبطا إلى حد ما. ومن بين النقاط التي أوردها في عام 1990:
متوسط العمر المتوقع في دول الجنوب ظل أقل من نظيره في دول الشمال باثني عشر عاما.
لم يتمكن 100 مليون طفل في سن الدراسة من ارتياد المدارس في دول الجنوب.
يعاني 900 مليون بالغ الأمية (في جنوب آسيا بلغت معدلات معرفة القراءة والكتابة الإجمالية 41 بالمائة فقط)، فيما وصلت نسبة معرفة القراءة والكتابة لدى الإناث نحو ثلثيها لدى الذكور.
في الثمانينيات انخفض الناتج القومي للفرد بنسبة 2,4 بالمائة في دول جنوب الصحراء الأفريقية.
يقضي 14 مليون طفل نحبهم كل عام قبل الوصول لسن الخامسة.
3 مليارات شخص (أي ما يقارب نصف تعداد العالم) يعيشون دون نظم صحية ملائمة.
من الجلي أنه كانت هناك العديد من التحديات المستقبلية وقدر كبير من العمل أمام العديد من وكالات الأمم المتحدة المتخصصة، تمكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي من تنسيق بعضها، لكن الوكالات الأخرى - مثل منظمة الصحة العالمية، ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف)، ومنظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، وبرنامج الغذاء العالمي، ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) وغيرها - عادة كانت قادرة على الوفاء بالعديد من التحديات المحددة؛ ومن ثم في عام 1994 أصدر الأمين العام بطرس بطرس غالي «خطة التنمية» التي أكدت على الحاجة للتنسيق بين وكالات الأمم المتحدة من خلال المنسقين المقيمين لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي الذين سترشدهم «الملحوظات الاستراتيجية للدول» المحددة، لكن عند الكشف عن هذه الخطة، أصدر بطرس غالي التحذير الآتي:
في الوقت الحالي تعلق آلية الأمم المتحدة في حلقة مفرغة؛ فهناك مقاومة لتعددية الأطراف من جانب من يخشون فقدان السيطرة الوطنية، وهناك تردد في توفير السبل المالية لتحقيق الأهداف المتفق عليها من جانب غير المقتنعين بأن الأنصبة المقررة عليهم ستصب في مصلحتهم، وهناك عدم استعداد للانخراط في العمليات الصعبة من جانب من يسعون للحصول على ضمانات بالوضوح التام والفترات الزمنية المحددة. ودون رؤية جمعية جديدة ملزمة، سيعجز المجتمع الدولي عن الخروج من هذه الحلقة المفرغة.
3
ومع الأسف، بحلول أواخر التسعينيات، بات من الواضح أن «خطة التنمية» قد فشلت في تقديم مثل هذه «الرؤية الجديدة الملزمة»، والأهم من ذلك أن التنمية البشرية كانت تسير على أساس غير منصف؛ فقد احتلت دول أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية وأستراليا واليابان مراكز متقدمة على الدليل القياسي للتنمية البشرية، وقبعت الدول الأفريقية - خاصة دول جنوب الصحراء الكبرى - في مراكز متأخرة حتى عما كانت عليه منذ عقد مضى. وقد أكد تقرير التنمية البشرية الصادر عام 1999 وحمل عنوان «العولمة ذات الطابع الإنساني» على أن «الخمس الأعلى من شعوب العالم في الدول الأغنى يتمتعون بنسبة 82 بالمائة من تجارة التصدير المتزايدة، وبنسبة 68 بالمائة من الاستثمار الأجنبي المباشر، فيما لا يتجاوز نصيب الخمس الأدنى نسبة 1 بالمائة».
4 (5) الأهداف الإنمائية للألفية
حفز عدم الإنصاف الذي يخيم على العالم في ظل عصر العولمة الجمعية العامة للأمم المتحدة على الإعلان عن خطة تنمية طموحة للقرن الجديد. حددت الأهداف الإنمائية الثمانية للألفية - والموضوعة في 18 سبتمبر 2000 - عام 2015 كتاريخ مستهدف يتحقق بحلوله - من بين أشياء أخرى - تقليل الفقر المدقع إلى النصف، ووقف انتشار فيروس نقص المناعة البشرية، وتوفير التعليم الأساسي على مستوى العالم. باختصار، كانت الأهداف الإنمائية للألفية - التي جاءت نتيجة لمؤتمرات دولية عديدة في النصف الثاني من التسعينيات - معنية بالأساس برفع مستوى أفقر الدول (الدول الأقل نموا) من حالتها البائسة. وبحلول عام 2000 كان هذا يعني أن السواد الأعظم من نشاط الأهداف الإنمائية للألفية سيوجه إلى أفريقيا.
الأهداف الإنمائية للألفية، سبتمبر 2000
الأهداف الإنمائية للألفية هي خطة طويلة ومتوسطة الأمد للتنمية (2000-2015) قدمتها الأمم المتحدة من خلال الأمين العام كوفي عنان، ووافقت عليها الجمعية العامة. والأهداف الإنمائية الثمانية للألفية هي:
الهدف الأول
القضاء على الفقر المدقع والجوع.
الهدف الثاني
تحقيق تعميم التعليم الابتدائي.
الهدف الثالث
تعزيز المساواة بين الجنسين وتمكين المرأة.
الهدف الرابع
تخفيض معدل وفيات الطفل.
الهدف الخامس
تحسين الصحة النفاسية.
الهدف السادس
مكافحة فيروس نقص المناعة البشرية والملاريا وغيرهما من الأمراض.
الهدف السابع
كفالة الاستدامة البيئية.
الهدف الثامن
إقامة شراكة عالمية.
كان تبني الأهداف الإنمائية للألفية بمنزلة نقطة تحول مبشرة في جهود الأمم المتحدة الإنمائية. أخيرا صار هناك برنامج عمل من ثمانية أهداف «فقط»، مصحوب ببرنامج زمني، ومع هذا كانت المشكلات واضحة منذ البداية. إحدى هذه المشكلات أنه لم يتغير الكثير بشأن من يمنح المساعدات (الدول الغنية ) ومن يتلقاها (الدول الفقيرة). كان هذا يعني وجود ترتيب هرمي واضح واعتماد متواصل لدول الجنوب على عطف دول الشمال، وهو يشير إلى السؤال الأبدي المتعلق بالمساعدات الإنمائية: هل ينبغي ربط المساعدات بالسلوك الجيد للدولة المتلقية (أو «الحكم الرشيد»، حسبما تراه الدول المانحة)؟ أم أن وضع مثل هذه الشروط المسبقة يعد إهانة لأحد المبادئ الأساسية لميثاق الأمم المتحدة: حق الدولة في تقرير مصيرها؟
صعوبة أخرى تمثلت في معاناة الأهداف الإنمائية للألفية من العرض الملازم على الدوام للأمم المتحدة: محاولة تقديم شيء لكل مجموعة مصالح؛ فقد قسمت الأهداف الإنمائية للألفية إلى ثمانية عشر هدفا «قابلة للقياس» (على سبيل المثال: «تخفيض نسبة السكان الذين يقل دخلهم اليومي عن دولار واحد إلى النصف»). قيست هذه الأهداف من واقع ثمانية وأربعين «مؤشرا» (على سبيل المثال: عدد الأشخاص الذين يقل دخلهم اليومي عن دولار واحد). لكن كما توحي هذه الأهداف، لم يمكن الاتفاق بسهولة لا على الأهداف ولا على المؤشرات. دار نقاش مستمر حول ما إذا كان «دولار واحد يوميا» يمثل نقطة مرجعية للفقر ينبغي استخدامها عند تصنيف البشر الذين يعيشون في «فقر مدقع» (مقارنة بمن يعانون الفقر «وحسب»). إلى جانب أن استخدام هذا الرقم من جانب البنك الدولي لا يرضي المنتقدين الكثيرين لتلك المؤسسة، لكن هذا لا يعني أيضا أن المؤسسات العديدة العاملة داخل منظومة الأمم المتحدة والمنخرطة في أعمال التنمية لا تصنع أثرا. (6) الجانب الناعم من التنمية: اليونيسيف
في ديسمبر عام 1946، أنشأت الجمعية العامة ما يظل إلى الآن أكثر وكالات الأمم المتحدة نيلا للإعجاب؛ منظمة الأمم المتحدة العالمية للطفولة (والمعروفة اختصارا باليونيسيف، وإن كان الاسم قد تغير لاحقا ليصير منظمة الطفولة التابعة للأمم المتحدة، لكن ظل الاسم المختصر، لحسن الحظ، كما هو). تهدف منظمة اليونيسيف - ومقرها نيويورك - لتقديم المساعدة الإنسانية والإنمائية للأطفال وأمهاتهم، خاصة في دول العالم النامي.
كانت أولى مهام اليونيسيف هي تخفيف المعاناة في أوروبا بعد الحرب، وبين عامي 1946 و1950، وزعت اليونيسيف ملابس على خمسة ملايين طفل، وطعمت ثمانية ملايين ضد السل، وقدمت وجبات تكميلية لملايين الأطفال. لا شك أن هذه الجهود سهلت من مهمة تعافي أوروبا من الحرب، لكن بداية من الخمسينيات، وسعت اليونيسيف نطاق عملياتها ليشمل أجزاء أخرى من العالم لتصير نشطة على نحو متزايد في العالم المتحرر من الاستعمار. وقد ظلت الحملات الصحية، ومن ضمنها مشروعات التطعيم واسعة النطاق (ضد الملاريا والداء العليقي والجذام)، في قلب برنامج المنظمة.
شكل 5-1: طبيب تابع لليونيسيف يضع المرهم في عين طفلة لعلاجها من الرمد الحبيبي، وهو مرض شديد العدوى.
5
في الوقت ذاته، بينما ظهر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بوصفه ذراع التنمية التابع للأمم المتحدة، تحول دور اليونيسيف من وكالة للطوارئ متوسطة الأمد إلى وكالة إنمائية طويلة الأمد. وفي حين ظلت اليونيسيف تفي بالاحتياجات الطارئة للأطفال العالقين في مناطق الصراع أو الذين تسببت الكوارث الطبيعية في تشريدهم، فإنها تحركت بالمثل في اتجاه نافع طويل الأمد. فلرفع معايير التغذية للأطفال، ساعدت اليونيسيف الدول على إنتاج وتوزيع أغذية قليلة التكلفة عالية المحتوى البروتيني، ورعت برامج لتثقيف الناس باستخدامها. ولتوفير الرفاهية الاجتماعية للأطفال، قدمت اليونيسيف تدريبا غير رسمي للأمهات في كل من تنشئة الأطفال وتحسين أحوال المنازل، وساعدت على تقديم الخدمات للأطفال من خلال توفير مراكز الرعاية النهارية والجيرة والاستشارات الأسرية ومراكز الشباب.
في العقود اللاحقة، وسعت اليونيسيف سياستها أكثر من خلال تبني ما يسمى بالنهج القطري. كان هذا يعني ربط المساعدات المقدمة للأطفال بتنمية الدولة (المستقلة حديثا في أغلب الحالات)؛ من ثم صارت اليونيسيف معنية بالاحتياجات الفكرية والنفسية والمهنية للأطفال إلى جانب احتياجاتهم البدنية. كان هذا يعني أن اليونيسيف بدأت في تقديم العون لإعداد المعلمين وإصلاح المناهج في الدول النامية، بالإضافة إلى أشياء أخرى. باختصار، ربما أسست اليونيسيف كوكالة معنية بالوفاء بالاحتياجات الملحة للأطفال المكروبين، لكن على مر السنين، توسعت مهمتها - التي تعكس التغيرات في تركيبة الأمم المتحدة ذاتها - وارتبطت بخطة التنمية الأوسع للمنظمة العالمية.
في القرن الحادي والعشرين تظل اليونيسيف أكثر وكالات الأمم المتحدة تفضيلا في نظر أغلب البشر. لدى المنظمة مكاتب في أكثر من 120 دولة وأطقم عمل ميدانية تعمل في أكثر من 150 دولة، ويصل حجم إنفاقها إلى قرابة 1,6 مليار دولار، ممولة من الإسهامات الطوعية. ومن بين الصناديق الخاصة والبرامج والوكالات المتخصصة التابعة للأمم المتحدة، لا يفوق اليونيسيف في الميزانية سوى البرنامج العالمي للأغذية؛ الذي كثيرا ما يعمل بالشراكة مع اليونيسيف.
مع أنه من العسير تقييم الأثر الدقيق لبرامج اليونيسيف المتعددة على الدول النامية، فإنه يمكن القول إن هذه المنظمة ساعدت ملايين الأطفال على النمو بصحة أكبر وفي أمان أكبر وعلى تلقي تعليم أفضل؛ على سبيل المثال: في السنوات الخمس والعشرين الأولى من عمر اليونيسيف، طعمت المنظمة أربعمائة مليون طفل ضد مرض السل، وساعدت على إنشاء 12 ألف مركز صحي ريفي، وعدة آلاف من عنابر الولادة في خمس وثمانين دولة، ووفرت المعدات من أجل 2500 مدرسة لإعداد المعلمين و56 ألف مدرسة ابتدائية وثانوية، ووفرت مليارات الوجبات التكميلية. وفي عام 1965 فازت اليونيسيف - عن جدارة - بجائزة نوبل للسلام؛ لإحداثها فارقا إيجابيا في حياة ملايين الأطفال. (7) دفع ثمن التنمية (أو عدم دفعه)
لطالما مثل المال - من أين يأتي أو إلى أين يذهب - قضية خلافية في سياسة الأمم المتحدة للتنمية. ومع هذا، منذ أواخر الستينيات وهناك إجماع مثير للدهشة للآراء بخصوص المقدار الذي على الدول الغنية أن تخصصه لمساعدة الدول الأفقر: ما لا يقل عن 0,7 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي لها. لكن للأسف، كان هناك عجز شبه تام عن الوفاء بهذا الهدف.
هذا الرقم مبني على تقرير أمر بإعداده رئيس البنك الدولي (ووزير الدفاع الأمريكي الأسبق) روبرت ماكنمارا في عام 1968، في أول عام شهد فعليا انخفاضا في المساعدات الإنمائية. ترأس «لجنة التنمية الدولية» رئيس الوزراء الكندي السابق ليستر بيرسون، الذي فاز بجائزة نوبل للسلام عن دوره في إنشاء أول قوة حفظ سلام كبرى في أعقاب حرب السويس عام 1956. اشتملت لجنة بيرسون على سبعة أعضاء آخرين جميعهم - باستثناء مندوب البرازيل - جاءوا من دول العالم المتقدم. وقد قدمت اللجنة تقريرها النهائي (بعنوان «شركاء في التنمية») في 15 سبتمبر عام 1969.
كانت النقطة الأساسية بالتقرير هي أن «التدفق المتزايد للمساعدات سيكون مطلوبا إذا ما استهدفت معظم الدول النامية تحقيق النمو ذاتي الاستدامة بحلول نهاية القرن». حدد تقرير بيرسون هدفين للدول المتبرعة: مع أن المساعدة الإنمائية الرسمية ينبغي أن تكون 0,7 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي للدولة، فإن المساعدة الإجمالية (بما في ذلك الموارد الخاصة) ينبغي أن تصل إلى نسبة 1 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي. وكان التاريخ المستهدف لتحقيق هذه النسبة الخاصة بالمساعدة الإنمائية الرسمية/الناتج المحلي الإجمالي هو عام 1975.
بعدها بثلاثة عقود، وبالرغم من الاتفاقات والالتزامات المتكررة - التي عادة ما تجرى خلال القمم العالمية التي تنظمها الأمم المتحدة أو إحدى وكالاتها - فإن خمس دول فقط هي التي أوفت بهذا الهدف المتواضع فيما يبدو، لكن بصرف النظر عن المقدار الذي تنفقه هذه الدول الصغيرة الغنية - وهي الدنمارك ولكسمبورج وهولندا والنرويج والسويد - على المساعدة الإنمائية الرسمية، فإن إسهاماتها النسبية ستظل دوما متواضعة. في واقع الأمر، تظل الولايات المتحدة أكبر دولة مانحة للتبرعات، تليها اليابان، ثم المملكة المتحدة، وفرنسا، وألمانيا. والجدير بالملاحظة أنه من بين الدول الخمس الأعلى إسهاما، فإن المملكة المتحدة هي الدولة الوحيدة التي ارتفعت نسبة إسهاماتها في المساعدة الإنمائية الرسمية/الناتج المحلي الإجمالي بين عامي 1990 و2004. وتصل النسبة الإجمالية للمساعدة الإنمائية الرسمية/الناتج المحلي الإجمالي للدول الاثنتين والعشرين الأغنى على مستوى العالم إلى 0,33 بالمائة في عام 2005؛ أي أقل من نصف الهدف الذي وضعه بيرسون وزملاؤه ليتحقق في عام 1975.
جدير بالذكر أنه من ناحية القيمة النقدية الفعلية زادت المساعدات الإنمائية زيادة كبيرة: إذ زادت من 7 مليارات دولار في أواخر ستينيات القرن العشرين إلى 106 مليارات دولار في عام 2005. لكن مع الوضع في الاعتبار الزيادة المهولة في الدخل العالمي وحقيقة أن المساهمين الرئيسيين كانوا دول العالم المتقدم، نجد أن نسبة ما تنفقه هذه الدول فعليا على المساعدات الإنمائية قد تناقص .
إحصائية أخيرة تستحق الذكر، مع كونها ليست مشجعة. في أعقاب الشهرة الواسعة للأهداف الإنمائية للألفية، وتحديدا التدفق المفاجئ للمساعدات على الدول التي مزقتها الحروب كأفغانستان والعراق بعد عام 2001، زادت المساعدات الإنمائية زيادة كبيرة في السنوات الخمس الأولى من الألفية الجديدة. لكن في عام 2006 قلت هذه المساعدات بنسبة 5,1 بالمائة تقريبا مقارنة بالعام السابق عليه، ومن المتوقع أن يحدث الأمر عينه في عام 2007. ومن المتصور أن يستمر هذا الأمر.
إن عدم الوفاء بمستهدفات المساعدة الإنمائية الرسمية التي حددتها الأمم المتحدة ما هو إلا جزء من القصة بالطبع، فحتى لو التزمت جميع دول العالم المتقدم بدفع النسبة البالغة 0,7 بالمائة، ما من ضمان بأن هذا المال سينفق على نحو سليم، فسيتوقف الأمر على حالة الأطراف المتلقية، وعلى التخصيص الملائم للموارد المتاحة.
لكن ليس الهدف هنا هو القول إن مهمة التنمية ميئوس منها تماما، بل الهدف هو التأكيد على أنه حتى وقتنا هذا لم تف الدول التي «تملك» - الدول المتقدمة - بالمستهدفات التي حددتها لنفسها عند تصميمها للوسائل الهادفة لمساعدة الدول التي «لا تملك». (8) أزمة التنمية
في عام 2007، أعلن الموقع الإلكتروني لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي أن «برنامج الأمم المتحدة الإنمائي موجود في 166 دولة، ويعمل معها للتوصل للحلول الخاصة بها لتحديات التنمية الوطنية والعالمية ... وأنه يسعى لضمان الاستخدام الأكثر فعالية لموارد المساعدات الدولية وتلك الخاصة بالأمم المتحدة».
قد يبدو هذا التصريح مثيرا للإعجاب، لكن يمكن لعملية حسابية بسيطة أن تضع الأمور في نصابها الصحيح. اطرح من العدد الإجمالي سبعة مكاتب اتصال موجودة في الدول المتقدمة للغاية (كندا، الدنمارك، فرنسا، اليابان، هولندا، النرويج، السويد)، ثم اسأل نفسك لماذا تحتاج الدول المتبقية البالغ عددها 159 دولة (التي تمثل 83 بالمائة من دول الأمم المتحدة البالغ عددها 192 دولة) لمهام برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. يبدو أن هناك شيئا ما لا يسير على النحو الصحيح عندما يتعلق الأمر بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية. فبالرغم من النشاط المحموم، والخطط والمبادرات العديدة، وانخراط عشرات المنظمات والمؤسسات، فالتنمية الاقتصادية والاجتماعية تظل غير متوازنة في ظل انقسام العالم إلى دول تملك وأخرى لا تملك، وفق التقسيم الجغرافي نفسه الذي كان سائدا في ستينيات القرن العشرين.
بالطبع لم يسر كل شيء على نحو خاطئ، فهناك قدر من الحراك، ويمكن لنظرة مختصرة على التقدم المحرز على طريق تحقيق الأهداف الإنمائية للألفية أن ترسم صورة أكثر تعقيدا لسياسات التنمية وتأثيراتها. في أبريل من عام 2007 مثلا، أعلن تقرير الرصد العالمي الصادر عن البنك الدولي في ثقة أن «العالم ككل سيفي بالهدف الأول من الأهداف الإنمائية للألفية والمتمثل في تقليل الفقر إلى النصف» بحلول عام 2015. لكن في الوقت الذي كانت توجد فيه أدلة على أن معدلات «الفقر المدقع» (عدد الأشخاص الذين يعيشون على أقل من دولار واحد يوميا) و«الفقر» (الأشخاص الذين يعيشون على أقل من دولارين يوميا) قد انخفضت، فإن هذا التقدم تحقق على نحو غير متساو؛ ففي حين سارت دول شمال أفريقيا والشرق الأوسط والشرق الأقصى «على النحو المخطط»، كانت دول أمريكا اللاتينية والكاريبي ووسط آسيا متأخرة عنها. وأسوأ الدول قاطبة كانت دول جنوب الصحراء الأفريقية، التي وصفت بأنها «بعيدة للغاية ومن غير المرجح أن تتمكن من الوفاء» بالهدف المتمثل في تقليل الفقر المدقع إلى النصف بحلول عام 2015.
الدول الهشة في عام 2005 وفقا للبنك الدولي
وصفت الدول والأقاليم الخمس والثلاثون التالية بأنها «هشة» - بمعنى ذات مؤسسات وسياسات ضعيفة، عادة نتيجة للصراعات العسكرية الطويلة - في عام 2005 (لاحظ غياب العراق عن هذه القائمة): أفغانستان، أنجولا، بوروندي، كمبوديا، جمهورية أفريقيا الوسطى، تشاد، جزر القمر، جمهورية الكونغو الديمقراطية، جمهورية الكونغو، ساحل العاج، جيبوتي، إريتريا، جامبيا، غينيا، غينيا بيساو، هاييتي، كوسوفو، جمهورية لاوس الديمقراطية الشعبية، ليبريا، موريتانيا، ميانمار، نيجيريا، بابوا غينيا الجديدة، ساو تومي وبرنسيب، سيراليون، جزر سليمان، الصومال، السودان، تيمور الشرقية، توجو، تونجا، أوزبكستان، فانواتو، الضفة الغربية وقطاع غزة، زيمبابوي.
والقصة متشابهة مع عدد من الأهداف الإنمائية الأخرى للألفية، فبينما حققت أغلب الدول تقدما في تقليل معدلات وفيات الأطفال (الهدف الرابع)، «تأخرت» دول أخرى؛ أسوءها حالا، مجددا، دول جنوب الصحراء الأفريقية. في الواقع، فقط 32 دولة من 147 كانت تسير «على الطريق السليم» فيما يخص هدف تقليل معدلات وفيات الأطفال إلى النصف بحلول عام 2015. يرجع هذا في أغلبه إلى سوء التغذية؛ المشكلة التي تسبب الارتفاع السريع لأسعار الغذاء العالمية في استفحالها. والمثير للإحباط أن تقرير البنك الدولي نوه إلى أن كل الأقاليم النامية تقريبا كانت بها دول لا تحقق سوى تقدم بسيط، أو لا تحقق أي تقدم على الإطلاق، في هذا الجانب (وأسوءها حالا هي دول جنوب آسيا ودول جنوب الصحراء الأفريقية مجددا). وأغلب الدول الخمس والثلاثين التي وصفها البنك الدولي بأنها «هشة» - بمعنى أنها ذات مؤسسات وسياسات ضعيفة، عادة نتيجة للصراعات العسكرية الطويلة - هي من دول جنوب الصحراء الأفريقية.
بالطبع تخبرنا الإحصائيات بالقليل عن الحقائق التي تواجهها وكالات المساعدة المتعددة في عملها. وهي لا تمنحنا أي نظرة مرضية عن المعايير المحددة في الواقع؛ بالطبع يعني العيش على دولار واحد يوميا في بنجلاديش أمرا مختلفا عن محاولة العيش على المقدار نفسه في أفغانستان (تخيل محاولة فعل الأمر عينه في سويسرا أو الولايات المتحدة). علاوة على ذلك، نادرا ما تظهر الإحصائيات ما يفلح، أو ما قد يفلح في المستقبل. لكن يبدو أنها تشير إلى أن التقدم ممكن، وأنه - ما لم يتبن المرء موقفا سوداويا بحق - أمر مرغوب فيه بالفعل.
الفصل السادس
الحقوق والمسئوليات: من حقوق الإنسان إلى الأمن
البشري
من القضايا العديدة الواردة على جدول أعمال الأمم المتحدة، لا يفوق قضية حماية حقوق الإنسان في الأهمية والصعوبة سوى القليل، لكن التأكد من أن الناس يمكنهم العيش في حالة «تحرر من الخوف» - حسب تعبير الأمين العام الأسبق داج همرشولد الذي لخص فيه فلسفته لحقوق الإنسان في عام 1956 - ليس بالمهمة الهينة كما قد يبدو.
1
المبدأ الأساسي بسيط: المنتهكون الأساسيون لحقوق الإنسان على الدوام هي الدول، والدول هي الكيانات الكبرى التي تؤلف الأمم المتحدة.
السؤال المحوري هو الآتي: هل الأهم هو حماية سلامة الدولة أم الفرد الذي تنتهك هذه الدولة حقوقه؟ ومن هذا السؤال ينبع عدد من الأسئلة الأخرى مثل: ماذا عن الأشخاص الذين تتسبب الصراعات العنيفة أو الكوارث البيئية في جعلهم عديمي الجنسية؟ ماذا عن حق الناس في الانتقال داخل الدولة أو بين الدول؟
استنادا على الخبرة التاريخية، كثيرا ما كانت إجابة السؤال المحوري غير مرضية؛ فحماية حقوق الإنسان - مثل الاحترام العام لها - أمر مشروط؛ فالدولة - بصرف النظر عن طبيعتها (ديمقراطية، فاشية، شمولية) - عادة كانت أعلى منزلة من أفراد البشر. (1) المبادئ الحاكمة: الشرعة الدولية لحقوق الإنسان
كانت حقوق الإنسان قضية أساسية عند تأسيس الأمم المتحدة، وقد أرسى حدثان بارزان في الأربعينيات خطة عمل الأمم المتحدة فيما يخص حقوق الإنسان: ففي ديسمبر 1946، أسس الاجتماع الأول للمجلس الاقتصادي والاجتماعي «لجنة حقوق الإنسان» التابعة للأمم المتحدة. كانت إلينور روزفلت - السيدة الأولى السابقة للولايات المتحدة - أحد أعضاء اللجنة الأساسيين. وقد كان لمثابرتها دور كبير في إصدار الأمم المتحدة بعد ذلك بعامين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهي الوثيقة التي ستعد جزءا محوريا فيما بعد مما سيطلق عليه «الشرعة الدولية لحقوق الإنسان». عند تقديم نص الإعلان أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1948، تحدثت إلينور روزفلت بفصاحة قائلة:
إننا نقف اليوم على أعتاب حدث عظيم، سواء في حياة الأمم المتحدة أو في حياة البشرية. إن هذا الإعلان قد يصير وثيقة الحريات الدولية للبشر جميعهم في كل مكان. إننا نأمل أن يكون تبني الجمعية العامة لهذا الإعلان حدثا يماثل في قدره إعلان عام 1789 [إعلان «حقوق الإنسان» الذي أصدره الفرنسيون]، وتبني ميثاق الحقوق من شعب الولايات المتحدة، وتبني الإعلانات المماثلة في الأوقات المختلفة في دول أخرى.
2
كان إعلان عام 1948 مبنيا على فكرة بسيطة: «الكرامة الفطرية» لكل البشر. ربط الإعلان بين حقوق الإنسان والأمن الدولي من خلال التأكيد على أن احترام حقوق الإنسان «كان أساس الحرية والعدالة والسلام في العالم». حدد الإعلان أيضا عددا من أبرز الانتهاكات لحقوق الإنسان، كالعبودية والحرمان من الحق في حرية التعبير. وأظهرت الوثيقة قدرا من الانحياز الغربي حين أكدت على الحقوق المتساوية للرجال والنساء. بيد أنها أيضا وسعت مفهوم حقوق الإنسان ليشتمل على الحق في التعليم ، و«الأجور المتساوية للأعمال المتساوية»، و«الحق في الراحة والترفيه» ضمن حقوق أخرى.
شكل 6-1: إلينور روزفلت تتحدث أمام الاجتماع الأول للجنة التي ترأستها وأوكلت لها لجنة حقوق الإنسان التابعة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي وضع مسودة الشرعة الدولية لحقوق الإنسان عام 1947.
3
من المهام الأخرى التي أوكلت للجنة حقوق الإنسان وضع تشريع دولي آخر لحقوق الإنسان من شأنه أن يضفي الخصوصية والقوة على الإعلان العالمي. وفي عام 1966 تمخض عن هذه الجهود تبني الجمعية العامة لعهدين جديدين لحقوق الإنسان هما: «العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية» و«العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية». كما يوحي الاسمان، يركز العهدان على جوانب مختلفة من الإعلان الأصلي الصادر عام 1948.
يعرف إعلان عام 1948 إلى جانب العهدين الصادرين عام 1966 باسم «الشرعة الدولية لحقوق الإنسان». ومما لا شك فيه أن هذه المواثيق تمثل إنجازا مهما وثوريا. بحلول منتصف الستينيات وجدت سلسلة من المبادئ المتفق عليها عالميا من شأنها أن تحمي الرجال والنساء ضد أي شكل محتمل من أشكال التفرقة أو الانتهاك؛ سواء على المستوى المدني أو السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي.
لكن قائمة الحقوق الطويلة تطرح عددا من المشكلات العملية. ربما أهم هذه المشكلات هو أن القائمة تبدو غير متوافقة مع عالم الدول القومية ذات السيادة، خاصة وأن العالم مليء بالدول غير الديمقراطية. وفي الواقع، لم يسر تطبيق الشرعة الدولية لحقوق الإنسان على نحو ناجح تماما.
الشرعة الدولية لحقوق الإنسان
لإكمال الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948)، صدقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على عهدين إضافيين في عام 1966. تضم هذه الوثائق الثلاثة معا المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان اليوم. (1) يضم العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية «حق الفرد في الحياة والحرية والأمن والخصوصية والملكية، والحق في الزواج وتأسيس أسرة، والحق في المحاكمة العادلة، والتحرر من الرق والتعذيب، والحق في التمتع بالجنسية، وحرية الفكر والضمير والعلاقات، وحرية الرأي والتعبير، وحرية التجمع والارتباط، والحق في انتخابات حرة، وحق التصويت، وحق المشاركة في الشئون العامة». (2) يضم العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية حق الفرد في «العمل والإثابة المنصفة، والحق في تكوين اتحادات تجارية والانضمام لها، والحق في الراحة والترفيه، والحق في التمتع بإجازات دورية بأجر، والحق في مستوى معيشي يوفر الصحة والسلامة، والحق في التأمين الاجتماعي، والحق في التعليم، والحق في المشاركة في الحياة الثقافية للمجتمع». (2) التطبيق: اللجان والمقررون وتعزيز حقوق الإنسان
خلال العقود الستة لوجود لجنة حقوق الإنسان، مرت بالعديد من مراحل التطور التي عكست التغير الإجمالي الذي شهدته الأمم المتحدة. فخلال العقدين الأولين من عمر اللجنة، ركزت على التعزيز العام لحقوق الإنسان، لا على إدانة انتهاكات هذه الحقوق. سميت هذه السياسة باسم ملائم هو سياسة «التغيب»، وبررها الالتزام الصارم لميثاق الأمم المتحدة بمبدأ السيادة القومية. علاوة على ذلك، نص قرار صادر عن الأمم المتحدة عام 1947 صراحة على أن اللجنة «ليست لها سلطة اتخاذ أي فعل بخصوص أي شكاوى تخص حقوق الإنسان». بعبارة أخرى، كانت الشكوى للجنة لا طائل من ورائها.
كثير من الدول المنتهكة لحقوق الإنسان - من بينها الاتحاد السوفييتي (بمعاملته لأي معارضة سياسية) والولايات المتحدة (بالعنصرية الراسخة مؤسسيا التي كانت سائدة في ولايات الجنوب) - تركت دون حساب. وعند وصول الالتماسات والشكاوى، لم يكن في وسع اللجنة سوى الرد بأنها «لا تملك القدرة» على التحقيق فيها، ناهيك عن تقديم أي مجرمين للعدالة. وهكذا كانت سلطة لجنة حقوق الإنسان، كحكم محايد يراعي حقوق الإنسان، منقوصة منذ البداية.
في منتصف الستينيات، بدأت لجنة حقوق الإنسان في التدخل على نحو أكبر. جزء من السبب وراء ذلك كان تبني الشرعة الدولية لحقوق الإنسان عام 1966. بيد أن القوة الدافعة الأخرى خلف هذا التحول كانت الزيادة في أعداد الدول الأفريقية التي دعت الأمم المتحدة لإدانة سياسة التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا. تسبب التنافس الذي ساد فترة الحرب الباردة بين الأمريكيين والسوفييت على ولاء هذه الدول الجديدة في عدم اعتراضهما صراحة على خطة عمل حقوق الإنسان الجديدة. وبهذا صارت لجنة حقوق الإنسان «قادرة»؛ إذ منحت سلطة اتخاذ أفعال أحادية الجانب في حالة الانتهاكات السافرة لحقوق الإنسان، وبهذا تأسس منتدى جديد لمناقشة الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان في دول معينة.
من ثم، في السبعينيات والثمانينيات توسع نطاق عمل اللجنة، وقد تلقت اللجنة دفعة قوية من جانب مؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا الذي عقد عام 1975، والذي ربط بين حقوق الإنسان والأمن الدولي (وإن كان هذا في سياق أوروبا وحسب). تكونت مجموعات عاملة جديدة إقليمية (بل مختصة بدول بعينها) وموضوعية (لموضوعات مثل الأقليات أو التعذيب) للسماح بالتحقيق المتعمق في انتهاكات حقوق الإنسان. وأرسل عدد من المقررين الخصوصيين في مهام تقصي حقائق لتقديم التقارير عن حالات خاصة. ونتيجة لمثل هذه الأفعال، تحسن توثيق انتهاكات حقوق الإنسان بكل تأكيد.
لمقرري الأمم المتحدة الخصوصيين ولاية محددة (عادة تمتد ثلاثة أعوام) للتحقيق في مشكلات حقوق الإنسان ومراقبتها واقتراح الحلول لها، وعادة يقودون مهام لتقصي الحقائق في الدول التي يحققون فيها في الانتهاكات المزعومة لحقوق الإنسان، لكن ليس بمقدورهم إلا زيارة الدول التي تدعوهم. يقيم المقررون أيضا شكاوى الضحايا المزعومين لانتهاكات حقوق الإنسان، في عام 2007 كان هناك أكثر من ثلاثين مقررا خاصا، يمكن تقسيمهم إلى مجموعتين: المعنيين بدول محددة (روسيا البيضاء، كمبوديا، كوبا، كوريا الشمالية، السودان، وغيرها)، ومن يحملون تفويضا في موضوعات محددة من جانب مجلس حقوق الإنسان (الحق في التعليم، حرية الاعتقاد، العنصرية، الاتجار بالأطفال، وما إلى ذلك).
مقررو الأمم المتحدة الخصوصيون
لمقرري الأمم المتحدة الخصوصيين ولاية محددة (عادة تمتد ثلاثة أعوام) للتحقيق في مشكلات حقوق الإنسان ومراقبتها واقتراح الحلول لها. وعادة يقودون مهام لتقصي الحقائق في الدول التي يحققون فيها في الانتهاكات المزعومة لحقوق الإنسان، لكن ليس بمقدورهم إلا زيارة الدول التي تدعوهم. يقيم المقررون أيضا الشكاوى من الضحايا المزعومين لانتهاكات حقوق الإنسان.
لا يملك المقررون سلطة قانونية وليس بوسعهم اتخاذ أي أفعال ضد الحكومات، بإمكانهم فقط الضغط على الحكومة وحثها على احترام حقوق الإنسان، وبإمكانهم أيضا التنديد علانية من خلال إصدار البيانات الصحفية؛ نتيجة لذلك فإن فعاليتهم مشروطة ومحل شك.
في عام 2007 كان هناك أكثر من ثلاثين مقررا خاصا، يمكن تقسيمهم إلى مجموعتين: المعنيين بدول محددة (روسيا البيضاء، كمبوديا، كوبا، كوريا الشمالية، السودان، وغيرها)، ومن يحملون تفويضا في موضوعات محددة من جانب مجلس حقوق الإنسان (الحق في التعليم، حرية الاعتقاد، العنصرية، الاتجار بالأطفال، وغير ذلك).
إن قدرة المقررين على الإنفاذ محدودة؛ فليس لديهم سلطة قانونية وليس بوسعهم اتخاذ أي أفعال ضد الحكومات. بإمكانهم فقط الضغط على الحكومة وحثها على احترام حقوق الإنسان. وبإمكانهم أيضا التنديد علانية من خلال إصدار البيانات الصحفية؛ نتيجة لذلك فإن فعاليتهم مشروطة ومحل شك؛ على سبيل المثال: لم يكن لوجود المقرر الخاص في ميانمار منذ عام 1992 أي تأثير للتخفيف من السلوك الديكتاتوري للمجلس العسكري الذي يدير ذلك البلد. بل على العكس، انخرطت قيادة ميانمار في بعض من أكثر أعمال القمع قسوة في خريف عام 2007، واستمرت في احتجاز زعيمة المعارضة المسحوقة، أونج سان سو تشي، رهن الإقامة الجبرية (وهي الحالة التي «تمتعت» بها منذ أواخر الثمانينيات). إن الحكومة العسكرية - كحكومة ميانمار - المتمسكة بتجاهل الرأي الخارجي من غير المرجح مطلقا أن تغير من سلوكها على أساس النقد الموجه لها من الأمم المتحدة.
مع ذلك، حقق الاحترام الكلي لحقوق الإنسان - في صورة إرساء الحكم الديمقراطي - تقدما سريعا منذ أواخر الثمانينيات، ووصل إلى ذروته بانهيار النظام الشمولي في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي بين عامي 1989 و1991، ونهاية سياسة التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا، والإصلاحات الديمقراطية في عدد من بلدان أمريكا اللاتينية. وحتى مع استمرار الانتهاكات - وأبرزها سحق الحكومة الصينية للطلاب المحتجين بميدان السلام السماوي في بكين في عام 1989 - بدأت بلدان العالم أخيرا في تبني الشرعة الدولية لحقوق الإنسان.
إلا أن دور لجنة حقوق الإنسان في هذه العملية لم يكن واضحا؛ فقد سمحت اللجنة لأكثر حالات انتهاك حقوق الإنسان فظاعة أن تمر دون حساب؛ في جمهورية الصين الشعبية تسبب مشروع «القفزة العظيمة إلى الأمام» لماو تسي تونج في الخمسينيات في وفاة الملايين (ثلاثون مليونا حسب زعم البعض) من مواطنيه، وكأن هذا لم يكن كافيا، فدشن ماو أيضا حملة ترهيب واسعة النطاق في أواخر الستينيات عرفت باسم «الثورة الثقافية »، وكان «العقاب» الذي نزل بجمهورية الصين الشعبية هو منحها مقعد تايوان بالأمم المتحدة، وأن تصير عضوا دائما بمجلس الأمن في عام 1971. ضمت الحالات الأخرى التي مرت دون حساب حملات فرض النظام التي شنها السوفييت وحلف وارسو في ألمانيا الشرقية (1953)، والمجر (1956)، وتشيكوسلوفاكيا (1968). وفي كمبوديا تمكن نظام الخمير الحمر من قتل الملايين (ثمن سكان الدولة) في أواخر السبعينيات إلى أن أطيح به في أعقاب غزو خارجي من جانب دولة أخرى تنتهك حقوق الإنسان على نحو مستمر؛ فيتنام. إن إرساء الديمقراطية والاحترام المتزايد لحقوق الإنسان الذي صاحبه كان بالأساس - إن لم يكن دوما - ناتجا عن تغير البيئة الدولية - انهيار النظام العالمي القائم على الحرب الباردة - أكثر من كونه ناتجا عن نشاط الأمم المتحدة المتزايد في هذا المجال.
في الواقع، بحلول التسعينيات كانت لجنة حقوق الإنسان قد فقدت الكثير من مكانتها كحام فاعل لحقوق الإنسان، وهناك أسباب عديدة وراء ذلك. فكما رأينا من قبل، لا يحق للمقررين الخصوصيين زيارة الدول إلا إذا دعوا لذلك، ومن غير المرجح لدولة تنتهك حقوق الإنسان على نحو واسع أن تفعل هذا. واللجنة نفسها كانت تتكون من ثلاثة وخمسين عضوا، أغلبهم يمثلون دولا ترتكب - أو كانت متورطة في ارتكاب - انتهاكات لحقوق الإنسان (مثل جمهورية الصين الشعبية والجزائر وسوريا).
المشكلة الأساسية التي ظهرت - وظلت قائمة إلى الآن - يمكن تلخيصها على النحو الآتي: من المفترض بلجنة حقوق الإنسان أن تسمو فوق مصالح الدول القومية، وأن تقدم توصيات محايدة مبنية على معايير قانونية معينة مقبولة على نطاق واسع. لكن على مر السنين، اصطبغت اللجنة بالصبغة السياسية على نحو كبير، ونتيجة لهذا عجزت عن القيام بمهمتها على نحو فعال إبان حقبة الحرب الباردة. وبحلول أوائل التسعينيات كانت اللجنة قد فقدت الكثير من مصداقيتها.
كانت الاستجابة لهذه المخاوف - بصورة ما - هي الاستجابة المعتادة من طرف الأمم المتحدة: أن تنظم وتعقد مؤتمرات كبيرة. عقد المؤتمر الدولي لحقوق الإنسان - الذي اقترح إقامته لأول مرة من جانب الجمعية العامة في عام 1989 - أخيرا في صيف عام 1993 في فيينا ، وقد جمع المؤتمر ممثلي 171 دولة و800 منظمة غير حكومية، إلى جانب المؤسسات الأكاديمية وغيرها من الأطراف المعنية. وفي 25 يونيو 1993، تبنى المؤتمر إعلان فيينا وبرنامج العمل، وهي الوثيقة التي أكدت على حماية حقوق المرأة والطفل والشعوب الأصلية. وأسس المؤتمر مكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان الذي مثل خطوة تنظيمية كبيرة. لقد بدأت عملية الإصلاح. (3) خطط العمل والهياكل في الألفية الجديدة
كانت متابعة قرارات مؤتمر فيينا المنعقد في عام 1993 شبه فورية. كان أول مفوض سام لحقوق الإنسان هو الإكوادوري خوسيه أيالا لاسو، الذي تولي منصبه في أبريل عام 1994. خلفته الرئيسة الأيرلندية السابقة روبنسون، ماري (1997-2002)، التي يبدو أن الأمين العام كوفي عنان اختارها لهذا المنصب بنفسه. وقد صارت ماري روبنسون - السياسية الناجحة ذات الشعبية الكبيرة - مدافعة عالمية لا تكل عن حقوق الإنسان. لم تهب ماري روبنسون - أول مفوض سام يزور إقليم التبت الذي تحتله الصين - القضايا المثيرة للجدل، حتى إنها انتقدت بلدها الأم أيرلندا لاستغلالها العمالة الأجنبية، والولايات المتحدة لتطبيقها عقوبة الإعدام.
لدى تقاعد ماري روبنسون في عام 2002 خلفها مفوض سام مرموق آخر هو البرازيلي سيرجيو فييرا دي ميللو. عمل دي ميللو، المتمرس في عدد من أزمات اللاجئين، معظم حياته المهنية بالأمم المتحدة، وذلك منذ الستينيات. كان قد حظي بإطراء الصحافة الدولية لإدارته عملية انتقال تيمور الشرقية من الاحتلال الإندونيسي إلى الاستقلال بين عامي 1999 و2002. رأى الكثيرون فيه خلفا محتملا لكوفي عنان، بيد أن حياته المهنية انتهت على نحو مأساوي؛ ففي مايو 2003، قبل دي ميللو الذهاب في مهمة أخرى شديدة الأهمية، وأن يصير المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في العراق المحتلة، وفي أغسطس 2003، قتل دي ميللو في بغداد في أعقاب هجوم إرهابي. كثيرا ما تنتقد الأمم المتحدة بسبب دبلوماسييها المنمقين الذين يتلقون رواتب عالية، كان هذا الوصف ينطبق على دي ميللو؛ بيد أن ظروف وفاته كانت تذكيرا صادما - مماثلا تقريبا لمقتل الأمين العام داج همرشولد في الكونغو خلال مهمة وساطة - بالمخاطر التي ينطوي عليها العمل لحساب المنظمة الدولية.
منذ وفاة دي ميللو ظلت لويز آربور - محامية حقوق الإنسان الكندية - تشغل المنصب بمكتب المفوضية السامية. مثل تعيينها في هذا المنصب تحولا نحو منحى قانوني أكثر؛ فآربور - العضو بالمحكمة العليا الكندية - كانت رئيس هيئة الادعاء السابقة لجرائم الحرب أمام المحكمة الجنائية الدولية لرواندا والمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة في لاهاي. وفي هذه الوظيفة وجهت آربور الاتهام للرئيس اليوغوسلافي سلوبودان ميلوسوفيتش؛ لارتكابه جرائم حرب. مغزى هذا الفعل تمثل في أن ميلوسوفيتش كان أول رئيس دولة يواجه بمثل هذا الاتهام وهو في سدة الحكم؛ ومن ثم استهدفت ولاية آربور كمفوض سام مضاعفة الجهود من أجل إخضاع منتهكي حقوق الإنسان للمحاكمة.
إضافة إلى قوة الشخصيات التي خدمت في هذا المنصب، مثل تأسيس مكتب المفوضية السامية تحولا بارزا بعدد من الطرق الأخرى؛ فبفضل مكانته كوكيل للأمين العام للأمم المتحدة، يقترب مكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان من قمة الهرم الوظيفي بالأمم المتحدة. وبفضل وجود المقر الرئيسي للمكتب في جنيف، أرسى المكتب لنفسه حضورا عالميا من خلال خلق شبكة من المكاتب الإقليمية والوطنية، ومن خلال تعيين مستشارين لحقوق الإنسان في مناطق معينة. كل هذا النشاط - إلى جانب تلقي دفعة عامة للتأكيد على خطة حقوق الإنسان من قبل الأمناء العموم المتعاقبين (بطرس بطرس غالي وكوفي عنان) - كان له أثر إيجابي، وفي القرن الحادي والعشرين صار مرور انتهاكات حقوق الإنسان دون حساب أمرا متزايد الصعوبة.
ومع الأسف، لا يعني هذا أن مثل هذه الانتهاكات قد ولت إلى غير رجعة؛ ففي السنوات القليلة الأولى من عملها اضطرت المفوضية السامية لحقوق الإنسان لمواجهة سلسلة من الأزمات، مثل التطهير العرقي في يوغوسلافيا السابقة (ومن بينها مذبحة سربرينيتشا للبوسنيين على يد الصرب)، وعمليات الإبادة الجماعية في رواندا في عام 1994 التي أدت إلى القتل الممنهج لما يقارب 800 ألف من التوتسي. في النهاية، حتى أكثر المفوضين السامين نشاطا - مثل ماري روبنسون - لم يستطع فعل الكثير لمنع المنتهكين من تجاهل المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان، سواء أكان هؤلاء حركة طالبان في أفغانستان أم نظام صدام حسين في العراق أم الحكومات الشيوعية في الصين أم نظيرتها - الأسوأ بكثير - في كوريا الشمالية، أم ديكتاتوريات الحزب الواحد العديدة بدول جنوب الصحراء الأفريقية.
لكن مثل هذه النقاط السوداء لا تعني أنه لم يتحقق أي تقدم؛ ففي أمريكا الوسطى حدث تقدم في عملية إرساء الديمقراطية في حين خلفت المنطقة وراءها إرثا طويلا من الحكم الشمولي اليميني وانتهاكات حقوق الإنسان. ولكي تضمن لجنة حقوق الإنسان إحراز تقدم على طريق تطبيق ممارسات حقوق إنسان إيجابية، تعمل اللجنة مع الحكومات الوطنية، وأحيانا - كما حدث في عام 2004 في جواتيمالا - تفتح مكاتب ميدانية لها كي تراقب التطورات في بلدان بعينها. وفي أجزاء عديدة من أفريقيا، تمارس مكاتب لجنة حقوق الإنسان الميدانية الثلاثة عشر ضوابط وضغوطا مشابهة؛ للتأكد من أن كل شيء - بداية من حقوق الأطفال وصولا إلى حقوق التصويت - يرصد. إن التحديات عظيمة، ومنذ تحول جنوب أفريقيا من سياسة التفرقة العنصرية إلى الديمقراطية، قدم هذا البلد مثالا مشجعا للخطوات التي تؤخذ على طريق تعزيز حقوق الإنسان. ومع هذا ففي عام 2007، أورد مكتب لجنة حقوق الإنسان بجنوب أفريقيا في بريتوريا عددا ضخما من الأهداف لعملياته، يتراوح من الحملات التعليمية إلى الضغط على الحكومة لتحسين جهودها في حماية الأقليات والمجموعات المهمشة.
في الواقع، التحدي الأكبر الذي يجابه لجنة حقوق الإنسان هو العدد الضخم للقضايا - أو الانتهاكات - الذي عليها التعامل معه؛ على سبيل المثال، في أسبوع واحد من شهر نوفمبر عام 2007، عقدت لجنة حقوق الإنسان اجتماعات بشأن الاحتجاز التعسفي، والضغط من أجل تأمين حقوق الشعوب الأصلية في غابات الأمازون المطيرة، والمطالبة بوقف العنف ضد المرأة في الشرق الأوسط وأفريقيا، ومناقشات حول حقوق العمال المهاجرين وأسرهم. المفارقة الكبرى في الأمر هي أنه بصرف النظر عما توصي به هذه اللجنة أو تلك المجموعة، لا تملك لجنة حقوق الإنسان من أدوات تنفيذ هذه التوصيات إلا القليل للغاية. (4) المحكمة الجنائية الدولية ومجلس حقوق الإنسان
أشار التناقض بين الانتهاكات المهولة لحقوق الإنسان والتحسينات المشجعة في المجال عينه إلى الحاجة لمزيد من التقوية لهيكل الأمم المتحدة الموجود بالفعل. وفي أوائل القرن الحادي والعشرين نتج عن هذا تطوران مهمان:
الأول: هو تأسيس المحكمة الجنائية الدولية في عام 2002. صارت المحكمة الجنائية الدولية - ومقرها لاهاي - المحفل الدائم لمقاضاة الأفراد المسئولين عن عمليات الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب . بطبيعة الحال تعاني المحكمة الجنائية الدولية نقاط ضعف عديدة؛ إذ يسمح لها فقط بمباشرة الجرائم المرتكبة بعد الأول من يوليو عام 2002، ولا يمكنها محاكمة الأفراد على جرائم العدوان، إلى جانب أن عددا من الدول لم يصيروا أعضاء بالمحكمة الجنائية الدولية.
أهم ما في الأمر هو أنه بالرغم من توقيع الرئيس كلينتون على المعاهدة التأسيسية للمحكمة الجنائية الدولية (نظام روما الأساسي)، في أواخر عام 2000 (المعاهدة التي أسست المحكمة الجنائية الدولية وفقها، جرى التفاوض عليها في عام 1998)، فإنه أعلن على الفور أنه لن يقدمها إلى الكونجرس للتصديق عليها إلا بعد إدخال بعض التعديلات عليها. وفي عام 2002 أعلمت إدارة بوش الأمم المتحدة بأنها لا تنوي الانضمام للمحكمة الجنائية الدولية. لم يمثل هذا التوجه الأمريكي مفاجأة كبيرة؛ فكلا الرئيسين كانا في الواقع يمثلان اتفاقا في الرأي بين الحزبين الرئيسيين بالولايات المتحدة يرى أن المحكمة الجنائية الدولية ستمثل خرقا للسيادة الوطنية الأمريكية. وقد علق جون بولتون - مندوب إدارة الرئيس بوش لدى الأمم المتحدة - على الأمر بقوله: «إنه اتفاق يضر بالمصالح القومية للولايات المتحدة، ويضر بوجودنا في الخارج.» بشكل أساسي، كان الديمقراطيون والجمهوريون متفقين بشكل عام على أن المحاكم الأمريكية وحدها ينبغي أن يسمح لها بمحاكمة المواطنين الأمريكيين. تمثلت حجة أخرى ضد المحكمة الجنائية الدولية في أنه بما أن الولايات المتحدة لها قوات في أكثر من مائة دولة، فمن الممكن أن تكون عرضة «لاتهامات تافهة أو أخرى تحركها دوافع سياسية».
4
ومرة أخرى، شهدت الأمم المتحدة تصادما بين المصلحة القومية والأممية.
ثانيا: حل مجلس حقوق الإنسان محل لجنة حقوق الإنسان في عام 2006، وإلى جانب تغيير الاسم كان الهدف الأساسي للتغيير هو مواجهة الانتقادات التي دائما ما وجهت إلى اللجنة؛ أنها تميل لمنح مكانة مرموقة لدول يعرف عنها جيدا أنها تنتهك حقوق الإنسان. وفي هذا الصدد، مثل انتخاب ليبيا في عام 2003 كرئيس للجنة حقوق الإنسان القشة الأخيرة في كومة التشكيك المتزايدة. وهكذا، على مدار السنوات القليلة التالية صيغت مسودة القانون الأساسي وخضعت للتفاوض، ثم في 15 مارس 2006 تم التصويت عليها. وقد نص القرار الداعي لإنشاء مجلس حقوق الإنسان تحديدا على أن «الدول الأعضاء بالمجلس [مجلس حقوق الإنسان] ينبغي أن تحمل أعلى المعايير في حماية وتعزيز حقوق الإنسان»، وتمت الموافقة على القرار بإجماع مثير للدهشة: إذ صوتت 170 دولة (من إجمالي 191 دولة) بالموافقة على القرار بالجمعية العامة.
5
أربع دول فقط صوتت ضد القرار، من بينها - كما هو الحال مع المحكمة الجنائية الدولية - الولايات المتحدة؛ فقد زعمت الولايات المتحدة - شأن جزر مارشال وبالاو وإسرائيل - أن مجلس حقوق الإنسان سيعاني نفس المشكلات التي عانتها الهيئة السابقة عليه؛ إذ سيكون لديه سلطات محدودة للغاية، ومن السهل أن تسيطر عليه دول انتهكت حقوق الإنسان على نحو منتظم. في الواقع، امتنعت عدد من الدول - من بينها روسيا البيضاء وجمهورية أفريقيا الوسطى وإيران وليبيريا وكوريا الشمالية وفنزويلا - عن التصويت.
لم يكن المنتقدون مخطئين في رأيهم تماما؛ إذ إن العديد من التغيرات كانت شكلية لا أكثر؛ فبدلا من الأعضاء الخمسة والثلاثين الذين ضمتهم لجنة حقوق الإنسان، سيكون بمجلس حقوق الإنسان سبعة وأربعون مقعدا، يشغل كلا منها دولة من الدول الأعضاء بالأمم المتحدة. وبعيدا عن هذا التصميم، توزع المقاعد بين جماعات الأمم المتحدة الإقليمية كالتالي: ثلاثة عشر مقعدا لأفريقيا، ومثلها لآسيا، وستة لدول شرق أوروبا، وثمانية لأمريكا اللاتينية والكاريبي، وسبعة لدول أوروبا الغربية والأوقيانوس. تنتخب الدول لفترة قوامها ثلاث سنوات (قابلة للتجديد مرة واحدة) بواسطة التصويت بالأغلبية بالجمعية العامة، وفي اقتراع سري. كإجراء إضافي، أي عضو بالمجلس يمكن إيقافه من خلال تصويت ثلثي أعضاء الجمعية العامة على ذلك. قد يبدو الأمر منطقيا من ناحية التوزيع بين سكان العالم، لكنه لم يخف حقيقة أنه قد يكون من الصعب - في أي وقت - العثور على ثلاث عشرة دولة في أفريقيا أو آسيا ذات سجل حقوق إنسان مقبول (ناهيك عن كونه يحتذى به). ففي عام 2007 مثلا، كانت نيجيريا وجمهورية الصين الشعبية وأذربيجان من الدول الأعضاء، بالرغم من تعرضها لانتقادات بسبب إساءة حكوماتها لاستخدام السلطة.
ربما يكون أبرز المواضيع المثيرة للجدل فيما يخص مجلس حقوق الإنسان - إلى جانب نظام حقوق الإنسان الإجمالي (بما فيه المحكمة الجنائية الدولية) في القرن الحادي والعشرين - هو دور الولايات المتحدة؛ فنتيجة لرفضها الانضمام للمحكمة الجنائية الدولية، اتحد عدد من الدول الأوروبية للتصويت من أجل إخراج الولايات المتحدة من لجنة حقوق الإنسان في عام 2001، ومع أنه سمح للولايات المتحدة بالعودة بعدها بعامين، فإنها استجابت بأن قاطعت كلا من المحكمة الجنائية الدولية ومجلس حقوق الإنسان. إن ما منع الولايات المتحدة من الانضمام لنظام حقوق الإنسان الجديد هو - بالأساس - الإشكالية نفسها التي كبلت الأمم المتحدة في كثير من المجالات الأخرى أيضا؛ المطالب المتعارضة للسيادة القومية والأمن القومي من جانب، والأممية من جانب آخر. في الوقت ذاته، استمرت الحكومة الأمريكية في تصوير نفسها كمناصر لحقوق الإنسان، وفي الواقع - عند مقارنة سجل الولايات المتحدة بدول عديدة أخرى أعضاء بمجلس حقوق الإنسان أو المحكمة الجنائية الدولية - يبدو سجل واشنطن ساميا، وذلك حتى انتشار أنباء تعذيب المشتبه في قيامهم بأعمال إرهابية في القاعدة الأمريكية بخليج جوانتانامو بكوبا في عام 2003، واستخدام الأمريكيين للتعذيب في سجن أبو غريب بالعراق في عام 2004.
قد يكون مفهوما لماذا لا يريد الأمريكيون أن يحاكم جنودهم أمام المحكمة الجنائية الدولية على جرائم الحرب التي ارتكبوها في العراق مثلا، لكن بالاستمرار خارج كل من المحكمة الجنائية الدولية ومجلس حقوق الإنسان يبعث الأمريكيون برسالة سلبية للحكومات الأخرى، المنخرطة في انتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان، بأن تحذو حذوها.
نتيجة لذلك يكون السؤال الذي يواجه الأمم المتحدة هو كيفية مواجهة عواقب انتهاكات حقوق الإنسان المحتمل وقوعها. إن المحكمة الجنائية الدولية - مثلا - أنشئت لمواجهة جانب من هذا التحدي؛ الحاجة لتقديم من ارتكبوا الجرائم للمحاكمة، لكن تظل هذه العملية طويلة للغاية. (5) الأمن البشري و«مسئولية الحماية»
صار استخدام مصطلح «الأمن البشري» شائعا بعد مؤتمر هلسنكي للأمن والتعاون الذي انعقد في عام 1975. ومثل التوقيع على ما سمي ب «اتفاقيات هلسنكي» في أوائل أغسطس عام 1975 إنجازا بارزا للدبلوماسية متعددة الأطراف؛ إذ وافقت خمس وثلاثون دولة أوروبية - بالإضافة للولايات المتحدة وكندا والاتحاد السوفييتي - على وثيقة ترسي قواعد أساسية على غرار حرمة حدود الدول الأوروبية بعد عام 1945. ومع هذا فقد ضمت اتفاقيات هلسنكي عددا من البنود المثيرة للجدل وقتها - والموجودة خفية في «القسم الثالث» بالوثيقة - التي أكدت على احترام حقوق الإنسان كعنصر مهم في الأمن الدولي. وبهذا مثلت اتفاقيات عام 1975 تحولا من الاهتمام بالأمن من منظور ضيق متركز على الدولة إلى اهتمام شامل واسع النطاق. منحت حقوق الأفراد والصلات البشرية عبر الحدود القومية مكانا خاصا بجوار الأسئلة التقليدية المتعلقة بالحدود. وفي ذروة الحرب الباردة لخص شعار قادم من مؤتمر هلسنكي الفكرة الأساسية وهو: «الأمن لا يتحقق بإقامة الحواجز، بل يتعزز ببناء الجسور.»
في القرن الحادي والعشرين بات مصطلح «الأمن البشري» يستخدم استخداما شائعا كاختصار للمخاوف والممارسات المتعلقة بالأوجه العديدة للتحرر من الخوف والتحرر من العوز، والعلاقات الوثيقة بينهما. وقد أنشأ الأمين العام كوفي عنان - بما يعكس أهمية هذا المفهوم - «لجنة الأمن البشري» في أوائل عام 2001. وقد قدمت اللجنة تقريرها النهائي في عام 2003 واقترحت فيه:
إطار عمل جديدا للأمن يركز مباشرة وتحديدا على البشر؛ فالأمن البشري يركز على وقاية البشر من التهديدات الحرجة والمتغلغلة، وتمكينهم من أخذ زمام أمور حياتهم، وهذا يتطلب إيجاد فرص حقيقية للبشر كي يعيشوا بأمان وكرامة ويكسبوا قوتهم.
وعلى هذا يضم الأمن البشري قضايا عديدة، أهمها الحاجة إلى مكافحة الفقر، وتحسين التعليم، وحماية الأطفال، وتسهيل الحصول على الرعاية الطبية، ومكافحة تجارة السلاح الدولية والمخدرات، وحماية البيئة.
ما من شك أن كل هذه القضايا كانت تمثل مشكلات جدية، لكن كان الأمر برمته يحمل مفارقة: فالأمم المتحدة لديها بالفعل منظمات مهمتها التعامل مع كل قضية من القضايا الموضحة في تقرير لجنة الأمن البشري؛ فقد انضم لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في مكافحة الفقر كل من منظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، ومنظمة العمل الدولية، والصندوق الدولي للتنمية الزراعية، وغيرها الكثير، وتحسين التعليم كان الهدف المحدد لمنظمة اليونسكو، ومساعدة الأطفال وحمايتهم كان مجال اختصاص اليونيسيف، أما منظمة الصحة العالمية فكانت تكافح من أجل تسهيل الحصول على الرعاية الطبية وتحسينها. وكان لدى الأمم المتحدة لجان لمكافحة تهريب السلاح والاتجار بالمخدرات. وهناك برنامج الأمم المتحدة للبيئة، الذي يتضح هدفه من اسمه، فإلى حد بعيد لم يكن «الأمن البشري» سوى اسم جامع يوضح ما كانت الأمم المتحدة تفعله بالفعل.
يمكن تلخيص الكثير من هذه الأمور في مفهوم «مسئولية الحماية»، وتعني أن الدول ذات السيادة تحمل مسئولية حماية مواطنيها من الكوارث التي يمكن تجنبها، لكن حين تعزف أو تعجز عن ذلك، يجب على مجتمع أوسع من الدول حمل هذه المسئولية. ومن جماعات البشر الذين يتعرض أمنهم البشري لخطر دائم والذين تنتهك حقوق الإنسان الخاصة بهم على نحو متكرر اللاجئون. (6) اللاجئون، والنازحون، ومفوضية الأمم المتحدة السامية لشئون اللاجئين
منذ فجر التاريخ والبشر يفرون من أوطانهم ويعزفون أو يعجزون عن العودة لخوفهم من الاضطهاد. في حالات عديدة كان سبب مشكلة اللاجئين هو الغزو العسكري، وفي حالات أخرى كان النظام الحاكم الذي ما إن يملك السلطة حتى يبدأ في اضطهاد مجموعة من البشر داخل حدود الدولة (كما حدث مع اليهود في ألمانيا النازية). وبصرف النظر عن سبب أي قضية بعينها للاجئين، عادة مثلت الحروب وتغير حدود الدول الأسباب التقليدية لما يشار إليه بالهجرة القسرية. وهذه الظاهرة قديمة قدم الحرب ذاتها.
ومع هذا لم تبدأ قضايا اللاجئين في جذب انتباه العالم إلا في القرن العشرين وحسب. فبعد الحرب العالمية الأولى نزح ملايين البشر في أرجاء أوروبا وغيرها من مناطق الصراع. وكانت أول وكالة دولية تتعامل مع مشكلة اللاجئين هي «المفوضية السامية للاجئين» التي أسستها عصبة الأمم في عام 1921، كانت مهمتها الأساسية هي التعامل مع قرابة 1,5 مليون لاجئ فروا من الثورة الروسية والحرب الأهلية، بيد أن النطاق سريعا ما اتسع ليغطي الأرمينيين والأشوريين والأتراك. وفي عام 1931 تغير اسم اللجنة السامية إلى «مكتب نانسن الدولي لشئون اللاجئين» (والمسمى بهذا الاسم تكريما لفريتيوف نانسن - رئيس المفوضية السامية - الذي توفي عام 1930).
عانى مكتب نانسن - كما سيحدث مع خلفائه - من التمويل غير الكافي الآتي معظمه من المساهمات الخاصة، ومن السلوك غير المتعاون للعديد من الدول. ومع هذا فقد حقق مكتب نانسن بعض الإنجازات المهمة، من بينها إصدار ما سمي بجواز سفر نانسن، الذي أصدرته عصبة الأمم للاجئين عديمي الجنسية. صممت جوازات السفر في عام 1922، ومنحت في البداية للاجئين الفارين من الثورة الروسية. أصدر قرابة 450 ألف جواز سفر نانسن، تعترف بها اثنتان وخمسون دولة، بين عامي 1922 و1942. شجع نانسن أيضا على إنشاء مكتب خاص للاجئين الفارين من الاضطهاد النازي، وأول أداة قانونية دولية لحماية حقوق اللاجئين: اتفاقية اللاجئين لعام 1933 (التي وقعت عليها ثلاث عشرة دولة). ويقدر أن مكتب نانسن ساعد قرابة المليون لاجئ قبل إنهاء عمله بنهاية عام 1938.
تضاعف عدد اللاجئين خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها. ومع أنها كانت قضية عالمية، فإن التعامل مع مشكلة اللاجئين كان في معظمه مشكلة أوروبية في ذلك الوقت. اشتملت المشكلة على ملايين الهاربين من الاضطهاد النازي (من بينهم يهود أوروبيون) والفارين من غزو الجيش الألماني (والإيطالي). وحين مالت كفة الحرب لمصلحة الحلفاء، شكل الألمان أنفسهم مجموعة كبيرة من اللاجئين. وإجمالا، مناطق قليلة للغاية من أوروبا هي التي لم تتأثر بالحركة الضخمة للمدنيين. وفي الشرق الأقصى، عانت مناطق كبيرة من الصين أزمات مماثلة بسبب الغزو الياباني، ويتراوح عدد اللاجئين والنازحين داخليا بنهاية الحرب العالمية الثانية بين 11 و20 مليون شخص.
في عام 1943، أنشأ الحلفاء «إدارة الأمم المتحدة للإغاثة والتأهيل» لمواجهة هذا التحدي. وفي السنوات التالية قدمت الإدارة العون للمناطق المحررة من الاحتلال الألماني أو الياباني في أوروبا وآسيا. شمل هذا عودة أكثر من 7 ملايين لاجئ لبلدهم الأم وإنشاء مخيمات للنازحين لأكثر من مليون لاجئ رفضوا العودة لأوطانهم. وحين أنهت الإدارة أعمالها في عام 1949 نقلت مهامها المتعلقة باللاجئين إلى «المنظمة الدولية للاجئين»، وبعدها بعام تغير اسمها إلى «مفوضية الأمم المتحدة السامية لشئون اللاجئين». كانت ولايتها المبدئية ثلاثة أعوام، وكانت كافية على الأرجح لإعادة تسكين الجزء المتبقي من اللاجئين الأوروبيين وعددهم 1,2 مليون شخص. لكن بداية من عام 1953 تجددت ولايتها على نحو متكرر كل خمسة أعوام. وفي عام 2003 أزالت الأمم المتحدة القيد الزمني لتصير المفوضية دائمة «إلى أن تحل مشكلة اللاجئين».
فئات الأشخاص محل الاهتمام من طرف مفوضية الأمم المتحدة السامية لشئون اللاجئين
هناك ملايين البشر ممن صاروا عديمي المأوى وفي ظروف يائسة، لكنهم غير مؤهلين قانونا لأن يوضعوا تحت فئة اللاجئين (ومن ثم غير مستحقين للمساعدة أو الحماية). ولهذا جرى التوسع في أنشطة المفوضية كي تشمل المجموعات الآتية على الأقل:
اللاجئين (قرابة 8,4 ملايين شخص في عام 2006):
من فروا من أوطانهم والتمسوا الملاذ في دولة ثانية؛ كي يهربوا من الاضطهاد أو الحرب أو الإرهاب أو الفقر المدقع أو المجاعات أو الكوارث الطبيعية.
النازحين داخليا (7,1 ملايين شخص):
من فروا من منازلهم، عادة خلال حرب أهلية، لكنهم ظلوا في بلدهم الأم بدلا من السعي لملجأ خارجها.
عديمي الجنسية (3,3 ملايين شخص):
من لا يملكون الجنسية نتيجة عدد من الظروف المحتملة، منها: (أ) أن تكون الدولة التي منحتهم جنسيتهم السابقة قد انتهت من الوجود دون أن تخلفها دولة أخرى. (ب) أن تكون جنسيتهم قد أسقطت عنهم من جانب دولتهم الأم. (ج) أن يكونوا أفرادا في جماعة محرومة تنكر عليها الدولة التي ولدوا بأراضيها حق الجنسية، وغير ذلك.
العائدين (1,1 مليون شخص):
من عادوا إلى أوطانهم لكن لا يزالون يتلقون العون من المفوضية أثناء عملية إعادة الاندماج.
طالبي اللجوء السياسي (770 ألف شخص):
من طلبوا حق اللجوء لدولة أخرى لكن لا يزالون في انتظار القرار.
تبدو المشكلة غير قابلة للحل؛ فبناء على الخبرة السابقة، ثمة أمل ضئيل في أن تنتهي مشكلة اللاجئين تماما، فمع أن أغلب لاجئي الحرب العالمية الثانية إما عادوا لأوطانهم أو استقروا في أماكن أخرى بحلول بداية الخمسينيات، فقد أسهمت أزمات أخرى في إبقاء حجم اللاجئين على مستوى العالم مرتفعا (ومتزايدا). ومنذ الخمسينيات، ساعدت مفوضية الأمم المتحدة السامية لشئون اللاجئين ما يقرب من 50 مليون شخص على بدء حياتهم من جديد، لكن يتوالى تزايد المشكلات. ففي عام 1955، قدر عدد اللاجئين في العالم بنحو 2,2 مليون شخص، وبحلول منتصف الستينيات، ارتفع العدد إلى 11 مليونا، وفي عام 1995، وصل إلى 14 مليونا. في عام 2007، كان موظفو المفوضية وعددهم 7 آلاف يعتنون باحتياجات أكثر من 20 مليون شخص في 116 دولة. يضم العدد أيضا «الأشخاص محل الاهتمام» من طرف المفوضية وهم: النازحون داخليا وعديمو الجنسية والعائدون وطالبو اللجوء السياسي.
إلى جانب نمو الأعداد في حد ذاته، تغير التوزيع الجغرافي للاجئين أيضا؛ ففي الخمسينيات، كان نصف «زبائن» المفوضية السامية يوجدون في أوروبا، لكن شهدت الستينيات والسبعينيات توسعا في نطاق عمل المفوضية في العالم النامي، خاصة في آسيا وأفريقيا. وفي أوائل السبعينيات، عرض نطاق الأزمة الإنسانية بشبه القارة الهندية - حيث فر أكثر من 10 ملايين بنغالي من قمع الجيش الباكستاني إلى الهند في عام 1970 - المفوضية السامية للعديد من التحديات، منها إدارة العدد الكبير من اللاجئين المتدفقين، وبناء مخيمات لاجئين واسعة، وتوفير وتوزيع الغذاء ومؤن الإعانة الأساسية على نطاق لم يتخيله أحد من قبل قط. وبحلول الثمانينيات، صارت كل أعمال المفوضية السامية تقريبا في مناطق العالم النامي وتبوأت مكانها كمنظمة عالمية بحق. استمر هذا النمو على مر العقود الماضية حتى مع معاناة المفوضية - في ظل اعتمادها على المساهمات الطوعية - من النقص المستمر في التمويل (بلغت ميزانيتها السنوية عام 2007 حوالي مليار دولار).
شأن كل ما تفعله الأمم المتحدة، أثارت أنشطة مفوضية الأمم المتحدة السامية لشئون اللاجئين مشاعر متضاربة من الإعجاب والإحباط، وقد فازت المفوضية - تقديرا لعملها المهم - بجائزتي نوبل للسلام (1955 و1981)، وهو الشرف الذي لا يفوقها فيه سوى اللجنة الدولية للصليب الأحمر. ومن المحزن أن المفوضية كانت - ومن المرجح أن تظل - إحدى أهم منظمات المساعدة الإنسانية في العالم. والأمر محزن لأنه مع ازدياد حالات الطوارئ الإنسانية في الحجم والتعقيد، تعاني المفوضية صعوبة القيام بدورها كمنظمة محايدة لتقديم المساعدة الإنسانية. في بعض الأوقات، جند اللاجئون كمقاتلين في الحروب الأهلية (كما حدث في أنجولا منذ السبعينيات أو أفغانستان منذ الثمانينيات). ومع الأسف، ينتهي المآل أحيانا بالمساعدات الإنسانية باستخدامها لتمويل عمليات شراء السلاح بدلا من مساعدة اللاجئين. في الواقع، ليست مخيمات اللاجئين نفسها بالشيء الذي تود معظم الحكومات أن تراه على أراضيها؛ بسبب ميلها لنشر الصراع الذي تسبب في فرار اللاجئين في المقام الأول. والوجود الممتد في مخيمات اللاجئين - نتيجة للصراعات الممتدة التي كثيرا ما أججتها المساعدة الآتية من طرفي الحرب الباردة الأساسيين - زادت هذه المشكلات سوءا.
أيضا لا يحل إنهاء مثل هذا الوجود طبيعيا المشكلات؛ فمع نهاية الحرب الباردة انتهى العديد من الصراعات الدائمة؛ عاد ملايين اللاجئين إلى أوطانهم في أفريقيا وآسيا، لكن ظهرت مشكلات جديدة: الحاجة لمساعدة العائدين الذين قضوا ما يزيد على العقد بعيدا عن أوطانهم، وإعادة دمجهم في مجتمعاتهم التي دمرت بنيتها الأساسية الاجتماعية والاقتصادية في أحوال كثيرة؛ على سبيل المثال: على مدار عامين بعد عودة 450 ألف لاجئ إلى ناميبيا في جنوب غرب أفريقيا، وجد 75 بالمائة منهم فقط فرص عمل. (7) تضاعف مشكلات اللاجئين
هكذا تواجه مفوضية الأمم المتحدة السامية لشئون اللاجئين في القرن الحادي والعشرين تحديات عديدة مختلفة. فإعادة توطين اللاجئين يهدد استقرار البلدان التي تريد عودة أبنائها الغائبين عنها منذ زمن طويل، ويستمر لاجئون جدد في الظهور. وقد تسبب التدخل الدولي - بقيادة أمريكا - في أفغانستان عام 2001 وغزو العراق واحتلاله عام 2003 في حركات نزوح ضخمة من - وإلى - هذين البلدين (وهو ما أدى بالتبعية إلى إثارة مشكلات إعادة التوطين واللاجئين). وفي عامي 2006 و2007، طغت المناقشات حول عمليات إبادة جماعية تحدث في إقليم دارفور غرب السودان على حقيقة أن الأزمة قد تسببت بالفعل في وجود 2,5 مليون لاجئ. إنه مؤشر مثير للحزن عن حالة العالم أن تترك منظمة المساعدة «المؤقتة» التي أسست منذ أكثر من نصف قرن في هذه الحالة الضعيفة لعقود قادمة.
أصدرت مفوضية الأمم المتحدة السامية لشئون اللاجئين - استجابة منها للتحديات المتعاظمة لحقبة ما بعد الحرب الباردة بالأساس - خطة الحماية في عام 2002، أكدت الخطة على الحاجة للتعاون متعدد الأطراف للوفاء بمسئولية المجتمع الدولي في حماية الأفراد المعرضين للخطر بسبب الظروف الخارجة عن سيطرتهم. من المنطقي أن الوثيقة أكدت على الحاجة للتشارك في الأعباء والمسئوليات والبحث عن حلول دائمة (متعلقة بالأمن). وأوضحت الجانب الذي يحتاج لاهتمام خاص؛ احتياجات اللاجئين من النساء والأطفال.
شكل 6-2: الأمين العام كوفي عنان يتحدث إلى بعض النساء في مخيم زمزم للنازحين في إقليم دارفور بالسودان عام 2004.
6
لم يكن أي من هذا بالأمر الجديد أو الثوري؛ فالمفوضية - في الواقع - لها تاريخ طويل من التعاون مع العديد من وكالات الأمم المتحدة وما سواها في التعامل مع قضايا الأمن البشري؛ من هذه الوكالات البرنامج العالمي للأغذية، واليونيسيف، ومنظمة الصحة العالمية، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ومكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان، واللجنة الدولية للصليب الأحمر، والبنك الدولي، والمنظمة الدولية للهجرة. عمل ما يقارب الستمائة منظمة غير حكومية مع مفوضية الأمم المتحدة السامية لشئون اللاجئين. كان هذا التعاون جوهريا لتقديم مساعدة فعالة للاجئين. وعلى مدار العقود الستة الماضية - باستثناء بعض الأخطاء في حماية اللاجئين ونظام المساعدة - تظل المفوضية، إجمالا، جزءا ناجحا لا غنى عنه من الجهود الرامية لحماية أكثر مجموعات البشر ضعفا على سطح الأرض. (8) المفارقة الدائمة لحقوق الإنسان
لا مفر من هذه المفارقة: فمن ناحية، ظلت حقوق الإنسان جزءا أساسيا من برنامج عمل الأمم المتحدة منذ البداية، وتحقق النجاح في رفع مستوى الاحترام للعديد من الحقوق الفردية التي حددها الإعلان العالمي عام 1948. لكن من ناحية أخرى، ظل الاحترام العالمي لحقوق الإنسان مرهونا بأهواء البيئة الدولية ونزوات الدول. وحقوق الإنسان - بالرغم من مراقبتها دون شك بدأب في القرن الحادي والعشرين أكثر مما كان عليه الحال سابقا - تنتهك على نحو متواصل في كل قارة.
الحقيقة الباعثة على الحزن عينها تنطبق على أكثر الأشخاص الذين يسهل التعدي على حقوقهم؛ اللاجئين؛ ففي غياب حماية الدولة تعتمد حياة ملايين الأشخاص «موضع الاهتمام» من جانب مفوضية الأمم المتحدة السامية لشئون اللاجئين في نهاية المطاف على تعاطف المجتمع الدولي، لكن حماية حقوق الإنسان الخاصة بهم تتعارض بسهولة مع حقوق الدول ذات السيادة (سواء تلك التي فر منها اللاجئون أو التي يستقرون بها على نحو مؤقت).
بعبارة أخرى، فإن عدد النازحين داخليا - المقدر بأربعة ملايين شخص - في السودان يستحق أن يكون موضع اهتمام المفوضية السامية، لكن قد يمثل هؤلاء النازحون أيضا تهديدا محتملا لسيطرة الحكومة السودانية على مقاليد السلطة (بصرف النظر عن أي جوانب أخلاقية يشتمل عليها الأمر)؛ ومن ثم فهم يمثلون خطرا على بقاء الدولة ذات السيادة. وعلى نحو مشابه، يمثل وصول مئات الآلاف من اللاجئين إلى تشاد المجاورة من إقليم دارفور منذ عام 2003 حالة طوارئ إنسانية ذات حجم ضخم تفرض تصرفا دوليا واسع النطاق، لكن تنظيم اثني عشر مخيما كبيرا للاجئين يمثل أيضا تهديدا محتملا للديمقراطية الوليدة في الدولة المضيفة؛ تشاد. وبداية من عام 2005، صار هذا الأمر واضحا على نحو مؤلم مع انتشار صراع دارفور إلى المناطق الشرقية من تشاد. إضافة إلى ذلك، تحتم على تشاد فجأة أن تواجه مشكلة أخرى: فبحلول عام 2007، وصل عدد التشاديين النازحين داخليا إلى 250 ألف شخص، وهم يحاولون الحصول على اهتمام المفوضية السامية شأن اللاجئين السودانيين البالغ عددهم 220 ألف شخص.
ليست أزمة دارفور سوى مثال وحيد لثلاث حقائق ملحوظة عن حقوق الإنسان والأمم المتحدة؛ الأولى: أن احترام حقوق الإنسان يظل أمرا هشا في أجزاء عديدة من العالم. والثانية: أنه لا يمكن لأي إعلان عالمي أو لجنة تحقيق أو مقرر خاص أو منظمة دولية أن تكون الحل السحري؛ لأنه في النهاية من يملكون السلطة السياسية هم من يحددون التوازن بين الحقوق والمسئوليات داخل المنطقة. والثالثة، التي قد تبدو ميئوسا منها أحيانا: هي أن الأمم المتحدة تحديدا لا غنى عنها في هذا النطاق بوصفها الكيان الدولي الوحيد المعترف به عالميا القادر - من خلال أدواته العديدة - على الضغط على الدول لتعديل سياسات حقوق الإنسان التي تتبعها ومساعدة من يعانون بسبب إساءة استخدام السلطة، وهو الأمر الشائع للغاية في كل أنحاء العالم اليوم.
الفصل السابع
الإصلاح والتحديات: مستقبل الأمم المتحدة
في عام 1956، تحدث نورمان كازينز - الصحفي البارز وداعية السلام - بهذه الكلمات: «إذا أردنا للأمم المتحدة البقاء، فعلى من يمثلونها أن يدعموها، وعلى من يناصرونها أن يخضعوا لها، وعلى من يؤمنون بها أن يقاتلوا من أجلها.»
1
لا يزال صدى هذه الكلمات يتردد إلى اليوم؛ فالأمم المتحدة ليست بالمؤسسة المثالية؛ إذ تشوب هيكلها العيوب، وتتسم عملياتها بالبطء، وكثيرا ما تفتقر لوسائل التنفيذ حتى وإن كانت مصدرا ممتازا للأفكار. تؤدي برامجها المختلفة أعمالا متكررة قد يكون من الأفضل أن تقوم بها وكالة مركزية واحدة. باختصار، تحتاج الأمم المتحدة للإصلاح والدعم إذا ما أردنا أن يكون لها مستقبل ذا مغزى.
هذه القضايا - إصلاح النظام والحصول على دعم دولي واسع - ليست بالجديدة أو المنفصلة بعضها عن بعض؛ فمنذ أوائل التسعينيات يدور الحديث حول الحاجة لإصلاح مجلس الأمن حتى يكون أكثر ديمقراطية وتمثيلا للدول. أيضا ليس من قبيل المصادفة أن يشهد العقد الأخير من القرن العشرين سلسلة ضخمة من المبادرات - أو «الخطط» - التي واجهت وظائف جوهرية في نظام الأمم المتحدة: السلام والديمقراطية (وحقوق الإنسان) والتنمية. وفي القرن الحادي والعشرين لم يمر يوم تقريبا دون الشكوى والجدال بشأن طريقة تقديم المساعدات الإنمائية، وعدم تعزيز حقوق الإنسان على نحو فعال، وعمليات السلام التي لا تؤدي إلى نتائج دائمة، وقليل من الدول، أبرزها الولايات المتحدة، تعامل الأمم المتحدة كوسيلة لدعم سياساتها؛ وسيلة يمكن استغلالها، أو إساءة استغلالها، أو تجاهلها حسبما يتراءى لأصحاب السلطة في واشنطن.
ومع هذا، يندر أن نجد من يقترحون على نحو جدي الاستغناء عن الأمم المتحدة تماما؛ فمن المستحيل الاستغناء عنها، حتى وإن كانت تحتاج لإصلاح، لكن كيف يمكن لهذا الخليط المستحيل الذي يمثل المصالح المتباينة تباينا واسعا لكل سكان الكوكب تقريبا أن يتحسن؟ ما الذي يمكن فعله لتحسين فعالية الأمم المتحدة في حماية الأمن الدولي ومساعدة المجتمعات التي مزقتها الحروب على الوقوف مجددا على قدميها؟ كيف يمكن تغيير سياسات الأمم المتحدة الخاصة بالتنمية حتى تحسن فرص النجاح في الصراع الطويل ضد الفقر وكل آثاره الجانبية البغيضة؟ كيف يمكن للأمم المتحدة أن تحمي الأمن البشري وحقوق الإنسان بصورة أكثر حزما؟ (1) الحاجة للإصلاح: مجلس الأمن
كيف يمكن جعل مجلس الأمن أداة أكثر فعالية لحل المنازعات الدولية؟ كيف يمكن جعله أكثر تمثيلا للمجتمع الدولي؟ يبدو أن مسألة إصلاح مجلس الأمن تتمحور حول قضيتين متشابكتين: حق النقض، والعضوية .
المقترحات عديدة؛ ففي أوائل التسعينيات تحدث عدد من الدول حول فكرة التخلي عن حق النقض، ومضاعفة عدد الدول الأعضاء بمجلس الأمن. وبهذه الطريقة - من منظور دول كألمانيا واليابان والهند والبرازيل (وجميعها مرشحة بقوة للعضوية) - سيكون مجلس الأمن أكثر إظهارا لميزان القوة العالمي المتغير.
وهنا طفت على السطح مشكلتان بديهيتان، وهما اللتان ظلتا تعيقان أي إصلاح جدي لعقد ونصف العقد بعد ذلك؛ المشكلة الأولى: هي أن أي محاولة لنزع حق النقض ستقابل بالنقض، فلا يوجد شرط بميثاق الأمم المتحدة يسمح بنزع حق النقض دون الموافقة الجماعية للدول الخمس دائمة العضوية. وما الذي سيدعو الصين أو فرنسا أو بريطانيا العظمى أو روسيا أو الولايات المتحدة للتخلي عن هذه الورقة الرابحة؟ علاوة على ذلك، وضع حق النقض لكي يمكن الدول الخمس داخل المنظمة - خاصة الولايات المتحدة - من حجب أي قرار قد تجده متعارضا مع مصالحها القومية.
المشكلة الثانية: هي أن إضافة أي أعضاء جدد آخرين - لهم حق النقض أو لا - واجهت العديد من الاعتراضات من الدول التي إما تشعر أنها ينبغي أن تدخل في منافسة جدية للحصول على مثل هذه المكانة المميزة و/أو يشوب علاقتها بإحدى الدول المرشحة التوتر؛ فالعديد من الدول الأوروبية مثلا تعارض عضوية ألمانيا، ولا ترى الأرجنتين ميزة في أن ترتقي البرازيل لمكانة أعلى، وتنظر باكستان لطلب الهند بالانضمام للمجلس بعداء واضح.
يعني هذا - بالأساس - أن مجلس الأمن مقدر له أن يظل غير ديمقراطي وعلى حاله دون تغيير تقريبا، فعلى الرغم من إمكانية تعديل تركيبته، فإنه لن يخضع لإصلاح جذري، ومن الممكن إضافة عدد قليل من الأعضاء الجدد، لكن هل إيجاد مقاعد دائمة لدول بعينها (كتلك المذكورة للتو) أمر ممكن؟ لن تقبل الدول الخمس دائمة العضوية التخلي عن سلطاتها طوعا.
ومع هذا لا ينبغي أن نيأس؛ إن إصلاح سلطة حق النقض لدول مجلس الأمن دائمة العضوية - أو إضافة أعضاء جدد لمجلس الأمن - يخضع لنقاش وافر، ويعد أمرا ممكنا على الأرجح. لكن إلى أي مدى يعد هذا أمرا ضروريا؟ فهو لن يقدم وحده حلا سحريا. دائما ما تكون قرارات مجلس الأمن حلولا وسطا، ولم يستخدم حق النقض إلا على نحو محدود عبر الستة عقود الماضية، وهو ما يرجع في جزء منه إلى التفاوض حتى لا يصدر النقض، أو أن التهديد بحق النقض وحده قد يؤدي إلى سحب مشروع القرار.
في النهاية، ليس إصلاح الكيفية التي يعمل بها مجلس الأمن هو الطريقة الوحيدة لتحسين الفعالية الكلية للأمم المتحدة. في الواقع، هذا لا يحل سوى جزء بسيط من القضايا التي تبتلى بها المنظمة في وقتنا الحالي، وبالكاد يمس القضايا «الحقيقية» المعاصرة؛ فتحديات الأمن الدولي التي تواجه الأمم المتحدة اليوم مختلفة اختلافا كبيرا عن تلك التي واجهتها في العقود السابقة. وكما ظهر في تقرير الفريق الرفيع المستوى عن التحديات الأمنية العالمية للأمين العام، فإن عالم القرن الحادي والعشرين يواجه العديد من المخاوف، مثل الإرهاب النووي وانهيار الدول والانتشار السريع للأمراض المعدية. وفي ضوء هذا، لا يعد النقاش حول حجم مجلس الأمن والتفاصيل المتعلقة بحق النقض بالقضايا الأكثر إلحاحا في مجال الأمن الدولي.
الفريق الرفيع المستوى المعني بالتهديدات والتحديات والتغيير
في سبتمبر من عام 2003، ذكر الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان أن «أحداث العام السابق كشفت عن انقسامات عميقة بين أعضاء الأمم المتحدة بشأن مسائل جوهرية متعلقة بالسياسات والمبادئ»؛ ولهذا أنشأ الأمين العام فريقا للحرص على أن تظل الأمم المتحدة قادرة على الوفاء بأغراضها الأساسية كما وردت في أولى مواد الميثاق: «تتخذ الهيئة التدابير المشتركة الفعالة لمنع الأسباب التي تهدد السلم ولإزالتها.»
قدم الفريق - المكون من مسئولين حكوميين سابقين رفيعي المستوى من مختلف دول العالم - تقريره في عام 2004. وحدد ست مجموعات من التهديدات العالمية: (1) الحرب بين الدول. (2) العنف داخل الدول، بما فيه من حروب أهلية وانتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان والإبادة الجماعية. (3) الفقر والأمراض المعدية والتدهور البيئي. (4) الأسلحة النووية والإشعاعية والكيميائية والبيولوجية. (5) الإرهاب. (6) الجريمة المنظمة عبر الحدود الوطنية.
أبرز التقرير حقيقة أن الأمم المتحدة كانت في موضع يمكنها من التعامل مع كل هذه التهديدات ، لكنها تحتاج إلى:
بث الحياة في
الجمعية العامة والمجلس الاقتصادي والاجتماعي .
استعادة مصداقية
لجنة حقوق الإنسان .
تقوية دور
الأمين العام فيما يخص قضايا السلم والأمن .
زيادة مصداقية وفعالية
مجلس الأمن ؛ إذ أكد الفريق على الحاجة إلى «أن تعكس تركيبته واقع اليوم على نحو أفضل».
إنشاء
لجنة لبناء السلام .
نفذ بعض هذه المقترحات، وأبرزها إنشاء لجنة بناء السلام في عام 2006. (2) الحاجة للإصلاح: عمليات السلام
حظي إصلاح عمليات السلام التابعة للأمم المتحدة بدفعة قوية في التسعينيات، وقد تكرر عدد من الأسئلة المثارة: كيف نحقق أقصى استفادة من عدد محدود من القوات في المواقف الصعبة؟ كيف نمنع إساءة استخدام السلطة - في صورة استغلال جنسي واتجار بالبشر - بواسطة قوات حفظ السلام نفسها؟ كيف نتأكد من أن عمليات السلام لا تتداخل مع العملية الديمقراطية بالدولة، ومن ثم تخلق مشكلات جديدة؟ كيف نفعل كل هذا وفي الوقت ذاته نحول دون تكرار الأحداث المأساوية في البوسنة ورواندا والصومال التي وقعت في التسعينيات؟
تناول تقرير الإبراهيمي عن قوات حفظ السلام في عام 2000 هذه الأسئلة وغيرها. أشار التقرير - كالمتوقع - إلى النقص الواضح في الموارد الذي أعاق العديد من عمليات السلام التابعة للأمم المتحدة، وأكد على الحاجة لوجود ولاية واضحة وواقعية، وأبرز التخطيط الاستراتيجي العام غير الكافي للعمليات، لكنه أيضا - وهو الأمر الأكثر أهمية على الأرجح - أثار الحاجة إلى تطوير «قدرة انتشار سريعة» لقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، وقد كان هذا التقرير تمهيدا لإنشاء لجنة بناء السلام التابعة للأمم المتحدة في عام 2006.
بالرغم من إنشاء هذه اللجنة، فالتقدم والإصلاح يظلان على خطى تقرير الإبراهيمي محدودين بعد عقد تقريبا على تسليمه. وبطبيعة الحال هناك المزيد من قوات حفظ السلام في أماكن أكثر في العالم، والممولة بقدر أكبر بقليل من المال . بيد أن عمليات السلام التابعة للأمم المتحدة نادرا ما تستفيد من شبكة دعم متكاملة. والأمر المساوي في الأهمية هو أن هذه العمليات تفتقد للموارد وتعتمد - في أغلب الوقت - على قدرة الأمين العام على جمع المال من أجل عملية محددة.
علاوة على ذلك - كما أوضحت لنا حالة دارفور مجددا - ليس بوسع الأمم المتحدة أن تفرض ببساطة قوة لحفظ السلام في ظل ممانعة الحكومة المضيفة. بدلا من ذلك، ولتعويض ما ينقصها من قوة سياسية وقوة عاملة، أجبرت الأمم المتحدة على «العهد» ببعض عمليات حفظ السلام إلى منظمات إقليمية، مثل الاتحاد الأفريقي (الذي قدم السواد الأعظم من قوات حفظ السلام المتمركزة في السودان في عام 2007). بيد أن النتائج - كما نستقيها من دارفور كحالة للدراسة - ليست مرضية: فبين عامي 2003 و2007 قتل قرابة 400 ألف شخص فيما فر ما لا يقل عن مليوني لاجئ من دارفور، وتفشت الأقاويل عن عمليات إبادة جماعية ومقارنات بما حدث في رواندا في عامي 1993 و1994.
من الصعب الجزم بما إذا كان في الإمكان تجنب مأساة كمأساة دارفور لو أن الأمم المتحدة اتبعت سياسة أقوى وأكثر إقداما؛ ففي نهاية المطاف، دون دعم الدول الأعضاء، وتحديدا الأعضاء الخمسة الدائمين بمجلس الأمن، لن يكون لأي قدرة عسكرية معنى. وحالة دارفور كنموذج للعهد بقوة حفظ السلام إلى المنظمات الإقليمية لا تعني أن هذه الممارسات يستحيل أن تكون ناجحة؛ إذ يبدو أن دور منظمة حلف شمال الأطلسي في البوسنة يقدم النموذج المعاكس تماما.
في النهاية، عند التفكر في الدروس المستفادة من عمليات حفظ السلام السابقة وكيف يمكن للعمليات المستقبلية أن تكون أكثر فعالية، يعود المرء إلى نقطة محورية وردت بتقرير الإبراهيمي: الحاجة لقدرة انتشار سريعة، وهل من سبيل آخر يمكن الأمم المتحدة من الاستجابة لأي أزمة مفاجئة سوى امتلاك القدرة على إرسال قوات لحفظ السلام إلى أرجاء العالم المختلفة في فترة قصيرة؟ فدون هذه القدرة سينظر لها دوما كقوة من الدرجة الثانية يجري استدعاؤها لحفظ النظام في المواقف الصعبة أو تنظيم الفوضى المتخلفة عن عمليات القتال «الجدية».
شكل 7-1: جان ماري جيهينو، وكيل الأمين العام لعمليات حفظ السلام، وخوان جابرييل فالديز، الممثل الخاص للأمين العام ورئيس بعثة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في هاييتي، يرافقان دورية برازيلية في بيل-أير، أحد الأحياء الفقيرة الواقعة على جانب التلال في بورت أو برينس التي خربتها العصابات المسلحة في عام 2005.
2
يعود بنا هذا إلى المادة 45 من الميثاق الأصلي للأمم المتحدة التي وضعت تصورا عن قوة جوية دائمة للأمم المتحدة - توفرها الدول الخمس العظمى وتقع في شتى أرجاء العالم - رهن استخدام مجلس الأمن، وتعمل تحت إمرة لجنة الأركان العسكرية (التي تتكون من ممثلين للدول الخمس الكبرى). ربما تكون الأمم المتحدة بحاجة إلى قوة مشابهة - على صورة قوة حفظ سلام دائمة تابعة للأمم المتحدة تكون سهلة الانتشار - كي تصير عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة أداة فعالة بحق في تحقيق الأمن الدولي.
اعتمادا على منظور المرء، قد تبدو مثل هذه الخطة إما مثالية حالمة وإما خطيرة، لكنها قد تكون ضرورية أيضا. (3) الحاجة إلى الإصلاح: التنمية
شكلت أهداف الألفية الإنمائية الثمانية الموضوعة عام 2000 أول خطة عمل عالمية عامة للتنمية البشرية. جاءت خطة العمل هذه متأخرة عن موعدها، وحظيت - إجمالا - بترحيب متحمس. ليس في هذا مفاجأة؛ فمن ذا الذي سيرفض الدعوة لمحاربة الفقر في العالم؟!
لكن توجد عقبتان رئيسيتان؛ الأولى: أن السجال الذي ساد القرن العشرين حول الدور الملائم لقوى السوق يبدو أنه حسم على نحو قاطع لمصلحة المنادين بأهمية الأسواق الحرة. يرى الكثيرون - وعادة ما يقدمون أدلة مقنعة على رأيهم - أن المساعدات الإنمائية تضر في الواقع بالأطراف المتلقية لها، وذلك بأن تجعلها معتمدة على الأطراف المتبرعة. من العسير إثبات هل هذا الرأي سليم بالكامل. فبالرغم من عقود من التنمية، فلا تزال أعداد كبيرة من البشر تعيش في فقر مدقع، وهذه الحقيقة تستمر في تقويض حتى أقوى الحجج المؤيدة للمساعدات الإنمائية الدائمة بوصفها السبيل الأمثل لتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية على مستوى العالم. لا عجب إذن أن تتزايد الشكوك حول هذا الأمر، سواء أكان لها أساس من الصحة أم لا.
ثانيا: الطريقة التي يجري بها منح المساعدات تثير حاجة لا غنى عنها للإصلاح. قد تكون صعوبة المشكلة هي السبب وراء الانقسام المتزايد في جهود مكافحتها؛ إذ لا يمثل البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي سوى جهتين فقط من المنظمات العديدة المنخرطة في إدارة المساعدات الإنمائية. وفي ظل وجود عدد كبير من الأقسام والوكالات العاملة على جميع أوجه التنمية، لم توظف الأمم المتحدة القوة الكاملة لمواردها على نحو فعال. بمعنى آخر: قلل التكرار والتداخل من الفعالية وزاد من التكاليف الإدارية داخل الأمم المتحدة والمنظمات الشقيقة.
ليست هذه مشكلة جديدة؛ ففي عام 1997 أنشأ الأمين العام كوفي عنان بالفعل مجموعة الأمم المتحدة الإنمائية، وهي كيان ينسق أعمال وكالات الأمم المتحدة الرئيسية وصناديقها وأقسامها المعنية بقضايا التنمية. شجعت المجموعة على التناغم بين أنشطة الأمم المتحدة الإنمائية على المستويين القومي والعالمي. وفي العقد الماضي أسفرت الجهود المتزايدة - المبنية على التوصيات المأخوذة من إعلان الألفية - عن القمة العالمية التي عقدت عام 2005 بهدف تقييم تقدم الأهداف الإنمائية للألفية وغيرها من أهداف التنمية، وعن العديد من القرارات للجمعية العامة، وعن إعلان باريس لعام 2005 بشأن فعالية المعونات، وفي وقت أقرب، أسفرت عن تقرير الفريق الرفيع المستوى المعني بالاتساق على نطاق منظومة الأمم المتحدة الصادر في نوفمبر عام 2006 بعنوان «توحيد الأداء».
كان للتقرير الأخير تحديدا القدرة على إحداث الفارق في العمل الكلي للأمم المتحدة وأعمالها الإنمائية. ضم أعضاء الفريق الخمسة عشر عددا من الرؤساء ورؤساء الوزارات، إلى جانب جوردون براون الذي سيتولى رئاسة وزراء إنجلترا في عام 2007. وصف تقرير «توحيد الأداء» المساعدة الإنمائية التي تقدمها الأمم المتحدة بأنها «مجزأة وضعيفة». ومن ثم نادى التقرير بأن تكون الأمم المتحدة جيدة الإدارة وجيدة التمويل بحيث تكون مستعدة لمواجهة الاحتياجات المتغيرة للدول. أكد التقرير على تخطيط المساعدات الإنمائية وتنفيذها على المستوى القومي. ومن ثم فقد اقترح دمج أغلب أنشطة الأمم المتحدة المتعلقة بالدول تحت برنامج استراتيجي واحد، وإطار عمل واحد للميزانية، وقائد فريق قوي واحد لكل دولة ومكتب واحد . باختصار، نادى التقرير بالمركزية على مستوى الدولة.
كان هذا معقولا؛ فإحدى مشكلات الأمم المتحدة الإجمالية هي زيادة أعداد الوكالات التي يبدو - على الأقل من منظور المراقب المحايد - أنها تنخرط في أعمال متشابهة وتتنافس على الموارد الشحيحة دائما. ومع هذا تظل قدرة تقرير «توحيد الأداء» على إصلاح الطريقة التي تقدم بها الأمم المتحدة المساعدات الإنمائية غير مؤكدة. فبحلول نهاية عام 2007 وافقت ثماني دول فقط على تجربة أنشطة الأمم المتحدة الموحدة، وهي: ألبانيا، والرأس الأخضر، وموزمبيق، وباكستان، ورواندا، وتنزانيا، وأوروجواي، وفيتنام. ولم تأخذ سوى فيتنام - من هذه الدول - خطوات جدية على سبيل التنفيذ.
في ضوء الأهمية التي يعزوها أغلب محللي الأمم المتحدة للمساعدات الإنمائية كمحرك لمكافحة الفقر وآثاره الجانبية السياسية، يتناول تقرير «توحيد الأداء» الحاجة الجوهرية للإصلاح من داخل الأمم المتحدة. لخص الأمين العام كوفي عنان أهمية هذه المهمة على نحو ملائم عند تلقيه جائزة نوبل للسلام في عام 2003 بقوله:
تحت سطح الدول والأمم، والأفكار واللغات، يكمن مصير أفراد معوزين من البشر. وستكون تلبية احتياجاتهم هي مهمة الأمم المتحدة في القرن القادم.
من هذه الاحتياجات - ومن ثم من الأمور المحورية لمهمة الأمم المتحدة المستقبلية - نطاق آخر بحاجة إلى الإصلاح هو: التاريخ المتقلب لاحترام البشرية لحقوق الإنسان.
توحيد الأداء
في عام 2005، أنشأ الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان الفريق الرفيع المستوى المعني بالاتساق على نطاق منظومة الأمم المتحدة. كان الهدف الجوهري لهذا الفريق هو «استكشاف الكيفية التي يمكن أن يعمل بها نظام الأمم المتحدة على نحو أكثر اتساقا وفعالية عبر العالم في مناحي التنمية والمساعدة الإنسانية والبيئة».
قدم الفريق تقريره في نوفمبر 2006. وقد عبر عن الحاجة إلى الإصلاح على النحو الآتي: «إن العالم بحاجة لإطار عمل متسق قوي متعدد الأطراف تكون الأمم المتحدة في مركزه من أجل مجابهة تحديات التنمية والمساعدة الإنسانية والبيئة في عالم آخذ في العولمة. إن الأمم المتحدة بحاجة للتغلب على انقسامها الحالي وأن توحد أداءها ... وينبغي أن تمكن الدول وتدعمها لقيادة عملياتها الإنمائية وتساعدها على التصدي للتحديات العالمية على غرار الفقر والتدهور البيئي والمرض والصراع.»
مثل مفهوم «التوحد» محور تقرير الفريق، وقد حدد التقرير مجموعة من خمس توصيات للمستقبل وهي: (1) اتساق أنشطة الأمم المتحدة ودمجها، بالتوازي مع مبدأ ملكية الدولة، على جميع المستويات (مستوى الدولة، والمستوى الإقليمي، ومستوى المقرات). (2) إرساء آليات الحوكمة والإدارة والتمويل الملائمة لتمكين عملية الدمج ودعمها، وربط أداء منظمات الأمم المتحدة ونتائجها بالتمويل. (3) تعديل ممارسات عمل نظام الأمم المتحدة؛ لضمان التركيز على النتائج، والاستجابة للاحتياجات وتحقيق نظام الأمم المتحدة للنتائج، وذلك في ضوء الأهداف الإنمائية للألفية. (4) ضمان توفير فرص إضافية مهمة للدمج والتوحيد الفعال لأداء الأمم المتحدة عن طريق مراجعة متعمقة. (5) ينبغي أن يتم التنفيذ في عجالة، لكن دون تسرع أو سوء تخطيط على نحو قد يعرض التغير الفعال والدائم للخطر. (4) الحاجة للإصلاح: حقوق الإنسان
لا ريب أنها من القضايا الصعبة، فشأن كل شيء على خطة عمل الأمم المتحدة، ظل الصراع من أجل دعم حقوق الإنسان صراعا شاقا. ومع هذا، كما ينادي موقع الأمم المتحدة ذاته فإن:
أحد الإنجازات العظيمة للأمم المتحدة هو إنشاء جسد شامل من قوانين حقوق الإنسان التي تقدم لنا - لأول مرة في التاريخ - دستورا عالميا لحقوق الإنسان يتمتع بحماية دولية، دستورا يمكن أن تلتزم به الدول كافة وأن يطمح البشر جميعهم إليه.
هذا صحيح. فمن يمكنه التشكيك في فائدة وجود مجموعة من النصوص المتفق عليها على نحو عام، التي «تضع أساس القانون» الخاص بحقوق الإنسان. المشكلة هي كيفية تنفيذ هذا القانون.
يظل وعد حقوق الإنسان غير متحقق إلى الآن، وهو ما توضحه الأدلة اليومية - من تعذيب وإنكار للحقوق السياسية الأساسية والفقر المدقع للبشر - بجلاء. على مر العقود السابقة زاد عدد جماعات مراقبة حقوق الإنسان، لكن تظل تقاريرها مقبضة؛ إذ لم يتمخض الوعي المتزايد بحقوق الإنسان عن تقدم عملي واضح.
المشكلة في هذا النطاق ليست في نقص الهيئات الملائمة؛ ففي الواقع هناك من هذه الهيئات الكثير: وما مجلس حقوق الإنسان، ومفوضية حقوق الإنسان، ولجنة حقوق الإنسان، ولجنة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ولجنة مناهضة التعذيب، إلا أمثلة قليلة على هذه الهيئات. ينبغي أيضا أن نضيف أن المخاوف المتعلقة بحقوق الإنسان ليست مقصورة وحسب على هذه الهيئات المنشأة خصوصا، فكل جزء من نظام الأمم المتحدة يواجه - بصورة أو بأخرى - الأسئلة والمشكلات المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان.
المشكلة متغلغلة في قلب الأمم المتحدة كمنظمة تأسست في لحظة تاريخية محددة حظيت فيها الدول القومية بالأولوية والسمو. والعديد من التسويات الواضحة في ميثاق الأمم المتحدة عكست هذا التوتر الكامن بين الأممية والامتيازات القومية، وربما يعد مجلس الأمن المثال الأبرز على ذلك. وفي عالم اليوم الذي تسيطر عليه العولمة لم يختف هذا التوتر تقريبا، بل على العكس، تفاقم. تجسد هذا في مجال حقوق الإنسان على صورة مشكلة أساسية: فالأمم المتحدة ربما أوجدت جسدا مفصلا من التشريع الدولي لحقوق الإنسان، وفي الطريق أنتجت هيئات قادرة على المراقبة والإبلاغ على نحو رسمي بما إذا كانت هذه المعايير يلتزم بها في الدولة (س) أو الإقليم (ص)، بيد أنها تركت تنفيذ هذه المعايير - إجراءات المتابعة في حالة المخالفة - للدول القومية في أغلب الأحيان.
بعبارة أخرى، الحاجة الواضحة للإصلاح فيما يتعلق بحقوق الإنسان من السهل ومن الصعب في الوقت ذاته تحقيقها، فما نحتاج إليه هو قدرة هيئة معترف بها - كالمحكمة الجنائية الدولية التي تأسست عام 2002 - على السمو فوق المصالح المحددة للدول القومية، وإلى الآن لم يتحقق هذا إلا في حالات نادرة حين يفقد أحد الزعماء - كما حدث في محاكمة الرئيس الليبيري السابق تشارلز تايلور - سلطته المحلية ونصراءه الدوليين. لكن من الصعب تصور خضوع أحد مواطني الدول الكبرى - خاصة مواطني الدول الخمس العظمى - للمحاكمة في لاهاي.
خلاصة القول، في الوقت الحالي: من الأرجح أن يحاكم منتهكو حقوق الإنسان على نحو انتقائي. قد تكون الأممية هي المعيار، لكن من غير المرجح أن تصير ممارسة فعلية، ومن غير المرجح أن يتمكن أي قدر من الإصلاح من تصحيح هذا الأمر. (5) ملاحظة أخيرة
مع كل إنجازات الأمم المتحدة ونقائصها، تظل جزءا لا غنى عنه للمجتمع الدولي في بدايات القرن الحادي والعشرين، وإذا ما اختفت فجأة - بمعنى إذا سمح لمكوناتها بالتفكك - فسيصير ملايين البشر في العالم أسوأ حالا، وهذا وحده يعد سببا كافيا لدعم الأمم المتحدة وتأييدها. ومع هذا، عند قياس مقدار أهمية الأمم المتحدة وإمكانيات تحسينها، ينبغي وضع قليل من النقاط البارزة في الاعتبار:
أولا: من غير الممكن أن تكون الأمم المتحدة «الضمان الحاسم للسلام»، على النحو الذي أمله وودرو ويلسون من عصبة الأمم، فما دام مفهوم الدولة القومية هو الصورة الأساسية لتنظيم الكيانات المختلفة التي نعرفها كدول، وما دام يوجد ما يسمى بالمصالح القومية، وما دامت الحكومات مسئولة عن سعادة مواطنيها (أو غيابها)، فستفتقد الأمم المتحدة سبل العمل على نحو مستقل. بمعنى آخر: ستظل الأمم المتحدة «أداة» في يد الدول، حتى ونحن في عالم تنبثق فيه تهديدات الأمن، لا من الدول نفسها، بل إما من داخل الدول أو من جماعات متعددة تتجاوز الحدود القومية.
ثانيا: طورت الأمم المتحدة - على مر أكثر من ستين عاما من الوجود - هياكل وهيئات بيروقراطية تعد بصورة ما أسوأ أعداء الأمم المتحدة نفسها. فالأمم المتحدة - شأن أي منظمة أخرى - هي مكان يبني الأفراد فيه حياتهم المهنية، ويتنافس بعضهم مع بعض، ويرسخون مناصب منيعة لأنفسهم، ويقاومون التغيير. كل هذا يجعل الأمم المتحدة هدفا سهلا للشجب والإدانة، لكن الأهم من ذلك أن الأمم المتحدة لا تميل إلى الإصلاح بل إلى بناء هياكل جديدة فوق الهياكل الموجودة بالفعل؛ ونتيجة لذلك عادة تتشتت الموارد الشحيحة نتيجة نقص الاتساق التشغيلي. لا يزال توحيد الأداء هدفا بعيدا للغاية عن منال الأمم المتحدة، وهو بمنزلة تحد، على الأمين العام الحالي، بان كي مون، وفريقه أن يواجهوه.
ثالثا: لا تستطيع الأمم المتحدة الاستمرار في دورها الإيجابي دون قاعدة دعم كافية، وهذا يضع مسئولية التمويل الرئيسية للمنظمة على دول العالم الأكثر ثراء، والمفارقة واضحة: إذ إن هذا يعني أن تدفع القلة الغنية لقاء العمليات والسياسات الموجهة بالأساس لمساعدة الآخرين، وأحد أعظم التحديات المستقبلية سيتمثل في تبرير الدول الأعضاء الأكثر ثراء - وتحديدا، لكن ليس على وجه الحصر، الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي - لمواطنيها سبب استخدام حصة، مهما كانت ضئيلة، من دخولها القومية في تمويل عمليات الأمم المتحدة المتعددة. ومن شأن مجابهة هذا التحدي بنجاح أن تحدد على الأقل مقدار فعالية الأمم المتحدة، إن لم يكن وجودها المستقبلي بالكامل.
وفي النهاية، لا نستطيع - ولا ينبغي علينا - أن نتوقع من الأمم المتحدة أن تقدم الحلول لكل أسقام العالم؛ فهي تقوم بعمل إنساني طيب وكثيرا ما تقدم سبلا لتخفيف التوتر وحل الأزمات، وكثيرا أيضا ما تمكن الأشخاص العالقين في الفقر من تحسين حياتهم. ليست الأمم المتحدة مثالية، لكنها تظل منظمة لا غنى عنها حتى لو كان سلوكها وفعاليتها - شأن سلوك وفعالية الدول المنفردة - في حاجة مستمرة إلى التحسين.
تسلسل زمني
1865:
تأسيس الاتحاد الدولي للاتصالات.
1874:
تأسيس الاتحاد البريدي العالمي.
1899:
مؤتمر السلام الدولي، المنعقد في لاهاي، يؤسس المحكمة الدائمة للتحكيم.
1919:
تأسيس عصبة الأمم.
حصول وودرو ويلسون على جائزة نوبل للسلام عن دوره في تأسيس عصبة الأمم.
1921:
تأسيس أول مفوضية سامية للاجئين.
1922:
إنشاء محكمة العدل الدولي الدائمة.
1931:
تأسيس مكتب نانسن الدولي للاجئين.
1933:
تأسيس المفوضية السامية للاجئين الآتين من ألمانيا.
توقيع ثلاث عشرة دولة على اتفاقية اللاجئين.
1938:
حصول مكتب نانسن على جائزة نوبل للسلام، لكن يلغى ويحل مكتب المفوضية السامية للاجئين العامل تحت حماية العصبة محله.
1942:
الأول من يناير، أول إعلان عن الأمم المتحدة من قبل ست وعشرين دولة تحارب قوات المحور في الحرب العالمية الثانية.
1943:
تأسيس إدارة الأمم المتحدة للإغاثة والتأهيل.
1944:
مؤتمر دومبارتن أوكس (الصين، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة، والاتحاد السوفييتي) يحدد الأهداف العامة وهيكل الأمم المتحدة في المستقبل.
1945:
في مؤتمر يالطا في فبراير، يؤكد تشرشل وروزفلت وستالين على قرارهم بتكوين منظمة عالمية.
في يونيو في سان فرانسيسكو، وافقت خمسون دولة على ميثاق الأمم المتحدة.
حصول وزير الخارجية الأمريكي الأسبق كوردل هل على جائزة نوبل للسلام عن دوره في تأسيس الأمم المتحدة.
1946:
انعقاد أول اجتماع للجمعية العامة وأول جلسة لمجلس الأمن في لندن.
محكمة العدل الدولية تحل محل محكمة العدل الدولي الدائمة.
تعيين تريجفي لي (النرويج) كأول أمين عام للأمم المتحدة.
تأسيس لجنة حقوق الإنسان.
1948:
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
تأسيس أول بعثة مراقبة تابعة للأمم المتحدة - هيئة الأمم المتحدة لمراقبة الهدنة في فلسطين.
1949:
إرسال فريق مراقبي الأمم المتحدة العسكريين في الهند وباكستان لمراقبة الوضع في إقليم كشمير المتنازع عليه.
1950:
بدء الحرب الكورية.
تأسيس مفوضية الأمم المتحدة السامية لشئون اللاجئين.
1952:
استقالة تريجفي لي من منصب الأمين العام للأمم المتحدة.
1953:
تعيين داج همرشولد (السويد) أمينا عاما للأمم المتحدة.
1954:
حصول مفوضية الأمم المتحدة السامية لشئون اللاجئين على جائزة نوبل للسلام.
1955:
خمس عشرة دولة تنضم للأمم المتحدة.
1956:
إرسال أول قوات للطوارئ الدولية إلى منطقة قناة السويس.
1957:
حصول ليستر بيرسون على جائزة نوبل للسلام عن دوره في إنشاء قوات الطوارئ الدولية.
1960:
انضمام سبع عشرة دولة حديثة الاستقلال، منها ست عشرة دولة أفريقية، إلى الأمم المتحدة، وهي أكبر زيادة في عدد الدول تشهدها سنة واحدة.
عمليات الأمم المتحدة في الكونغو، التي تأسست لمراقبة الانتقال من الحكم البلجيكي إلى الاستقلال، تتحول إلى أول عملية لإنفاذ السلام (تنتهي ولايتها في عام 1964).
1961:
مقتل همرشولد، ويو ثانت (بورما/ميانمار) يحل محله أمينا عاما للأمم المتحدة.
منح جائزة نوبل للسلام لداج همرشولد بعد وفاته.
1962:
عدد الدول الأعضاء بالأمم المتحدة يتجاوز مائة دولة.
1964:
إرسال قوات حفظ السلام إلى قبرص.
1965:
تأسيس برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
فوز اليونيسيف بجائزة نوبل للسلام.
1966:
الجمعية العامة تجرد جنوب أفريقيا من انتدابها لحكم جنوب غرب أفريقيا (ناميبيا).
مجلس الأمن يفرض عقوبات إجبارية على روديسيا (زيمبابوي الآن).
الجمعية العامة تتبنى العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. يعرف الاثنان إلى جانب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948 بالشرعة الدولية لحقوق الإنسان.
1967:
مصر تطلب من قوات الطوارئ الدولية المغادرة، وبعدها بفترة وجيزة تندلع حرب الأيام الستة، تبعها تبني مجلس الأمن للقرار 242 كأساس لتحقيق السلام في الشرق الأوسط.
1968:
الجمعية العامة توافق على معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية.
1969:
فوز منظمة العمل الدولية بجائزة نوبل للسلام.
1971:
جمهورية الصين الشعبية تأخذ مقعد الجمهورية الصينية (تايوان) بمجلس الأمن.
1972:
تعيين كورت فالدهايم (النمسا) أمينا عاما للأمم المتحدة.
انعقاد أول مؤتمر للأمم المتحدة عن البيئة في ستوكهولم بالسويد، الذي أدى إلى تأسيس برنامج الأمم المتحدة للبيئة، ومقره نيروبي.
1974:
الجمعية العامة تمنح منظمة التحرير الفلسطينية مركز المراقب.
1975:
عام المرأة الدولي، وأبرز ما فيه انعقاد أول مؤتمرات الأمم المتحدة المعنية بالمرأة في مكسيكو سيتي.
1978:
الجمعية العامة تعقد للمرة الأولى مؤتمرا لنزع السلاح.
عدد الدول الأعضاء بالأمم المتحدة يتجاوز مائة وخمسين دولة.
1980:
منظمة الصحة العالمية تعلن رسميا القضاء على مرض الجدري.
1981:
فوز المفوضية السامية للاجئين بجائزة نوبل للسلام.
1982:
تعيين خافيير بيريز دي كويار (بيرو) أمينا عاما للأمم المتحدة.
1988:
فوز عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة بجائزة نوبل للسلام.
1990:
اليونيسيف تعقد مؤتمر القمة العالمي من أجل الطفل.
1991:
تعيين بطرس بطرس غالي (مصر) أمينا عاما للأمم المتحدة.
بعد ستة عشر عاما من الحرب الأهلية في أنجولا، توقيع اتفاق السلام الذي تم التفاوض حوله تحت رعاية الأمم المتحدة في نيويورك.
1992:
قمة الأرض في ريو دي جانيرو تتمخض عن خطة العمل 21، وهي خطة شاملة لتعزيز التنمية المستدامة.
مجلس الأمن يصدر «خطة السلام» (التي تبرز أهمية الدبلوماسية الوقائية وصناعة السلام وحفظ السلام وبناء السلام).
1994:
مجلس الأمن يصدر «خطة التنمية».
1995:
مؤتمر القمة العالمي للتنمية الاجتماعية ينعقد في كوبنهاجن بالدنمارك لتجديد الالتزام بمكافحة الفقر والبطالة والإقصاء الاجتماعي.
1996:
الجمعية العامة تتبنى معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية.
مجلس الأمن يصدر خطة الديمقراطية.
1997:
تعيين كوفي عنان (غانا) أمينا عاما للأمم المتحدة.
2000:
الجمعية العامة تتبنى الأهداف الإنمائية للألفية.
تقرير الإبراهيمي عن عمليات السلام التابعة للأمم المتحدة.
2001:
الأمم المتحدة والأمين العام كوفي عنان يفوزان بجائزة نوبل للسلام.
2002:
تأسيس المحكمة الجنائية الدولية.
2004:
تقرير بعنوان «عالم أكثر أمنا» صادر عن الفريق الرفيع المستوى المعني بالتهديدات والتحديات والتغيير يدعو لإجراءات عالمية لمكافحة التهديدات البيئية والإرهاب وغيرها من المشكلات العابرة للحدود الوطنية.
2005:
الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومديرها محمد البرادعي يفوزان بجائزة نوبل للسلام.
2006:
قرار الجمعية العامة (أبريل) يؤسس مجلس حقوق الإنسان .
الجبل الأسود تنضم للأمم المتحدة بوصفها العضو رقم 192.
تقرير «توحيد الأداء» الصادر عن الفريق الرفيع المستوى يوضح الحاجة لإصلاح عمليات المساعدة الإنمائية التابعة للأمم المتحدة.
2007:
تعيين بان كي مون (كوريا الجنوبية) أمينا عاما للأمم المتحدة.
في مارس، وبسبب رفض طهران إنهاء تطوير قدراتها النووية، عزز مجلس الأمن بالإجماع العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران.
في مايو، أطلقت الأمم المتحدة «وثيقة العهد الدولي مع العراق» للمساعدة على إرساء الأمن البشري والاقتصادي في هذه الدولة التي مزقتها الحرب.
قوة حفظ السلام المشتركة التابعة للاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة تدخل منطقة دارفور بالسودان.
2008:
في مارس، يمدد مجلس الأمن العقوبات الاقتصادية وجزاءات منع السفر على إيران والحكومة الإيرانية تواصل برنامجها النووي.
في مايو، المجلس العسكري الحاكم في ميانمار يسمح لعمال المساعدات الإنسانية التابعين للأمم المتحدة بدخول البلاد بعد أن ضرب إعصار مدمر البلاد.
بعد الزلازل التي ضربت منطقة سيشوان، شاركت منظمات عديدة تابعة للأمم المتحدة للمرة الأولى في عمليات إنسانية واسعة النطاق في جمهورية الصين الشعبية.
في يونيو، مؤتمر القمة العالمي للأغذية في روما يواجه إمكانية الارتفاع السريع في أسعار الغذاء العالمية. وقد تم التعهد بأكثر من أربعة مليارات دولار من المساعدات الإضافية لمكافحة الجوع وتحسين التنمية الزراعية في أكثر المناطق تضررا.
المراجع
مقدمة
الفصل
الفصل
الفصل
الأمن
الفصل
الفصل
الفصل
البشري
الفصل
قراءات إضافية
It goes without saying that the literature on the various aspects of the UN is vast and the suggestions provided here necessarily limited. Some of the best general accounts covering most aspects of the world organization include: Frederick H. Gareau,
The United Nations and Other International Institutions: A Critical Analysis (Chicago: Burnham, 2002); Thomas G. Weiss, David P. Forsythe, and Roger A. Coate,
The United Nations and Changing World Politics (Boulder, CO: Westview, 2004). One can also benefit from reviewing the UN’s own
Basic Facts about the United Nations (New York: United Nations, 2004, or later edition) and Thomas G. Weiss and Sam Daws,
The Oxford Handbook on the United Nations (New York: Oxford University Press, 2007). For a readable general history and evaluations of the UN readers can turn to
The Parliament of Man: The Past, Present and Future of the United Nations (New York: Random House, 2007).
الفصل الأول: أفضل أمل للبشرية؟ تاريخ موجز للأمم المتحدة
Burgess, Stephen F.
The United Nations under Boutros Boutros- Ghali, 1992-1997 . Lanham, MD: Scarecrow Press, 2001.
Firestone, Bernard J.
The United Nations under U Thant, 1961-1971.
Lanham, MD: Scarecrow
Gaglione, Anthony.
The United Nations under Trygve Lie, 1945-1953. Lanham, MD: Scarecrow Press, 2001.
Heller, Peter B.
The United Nations under Dag Hammarskjöld, 1953-1961.
Lanham, MD: Scarecrow
Lankevich, George J. The
United Nations under Javier Pérez de Cuéllar, 1982-1991.
Lanham, MD: Scarecrow Press, 2001.
Mingst, Karen, and Margaret Karns.
The United Nations in the 21st Century (Dilemmas in World
. Boulder, CO: Westview, 2006.
Ryan, James Daniel.
The United Nations under Kurt Waldheim, 1972-1981.
Lanham, MD: Scarecrow Press, 2001.
Schlesinger, Stephen.
Act of Creation: The Founding of the United Nations: A Story of Superpowers, Secret Agents, Wartime Allies and Enemies, and Their Quest for a Peaceful World.
Boulder, CO: Westview, 2003.
Traub, James.
Best of Intentions: Kofi Annan and the UN in the Era of American Power.
New York: Farrar, Straus and Giroux, 2006.
الفصل الثاني: خليط مستحيل: هيكل الأمم المتحدة
Alger, Chadwick.
The United Nations System . Santa Barbara, CA: ABC-CLIO, 2006.
Fasulo, Linda.
An Insider’s Guide to the UN.
New Haven, CT: Yale University Press, 2003.
Gordenker, Leon.
The UN Secretary-General and Secretariat.
London: Routledge, 2005.
Jolly, Richard.
The UN and Bretton Woods Institutions.
New York: St. Martin’s, 1995.
The United Nations General Assembly.
London: Routledge, 2005.
Taylor, Paul, and A. J. R. Groom, eds.
The United Nations at the Millennium: The Principal Organs.
London and New York: Continuum, 2000.
الفصل الثالث: مواجهة الحروب والتصدي للتهديدات: أعمال مجلس الأمن
Gharekhan, Chinmaya.
The Horseshoe Table: An Inside View of the UN Security Council.
New York: Longman, 2006.
Krasno, Jean E., and James S. Sutterlin.
The United Nations and Iraq: Defanging the Viper.
Westport, CT: Praeger, 2003.
Luck, Edward C.
The UN Security Council: A Primer.
London: Routledge, 2006.
Malone, David.
The UN Security Council: From the Cold War to the 21st Century.
Boulder, CO: Lynne Rienner, 2004.
The United Nations & Regional Security: Europe and Beyond.
Boulder, CO: Lynne Rienner, 2003.
Sutterlin, James S.
The United Nations and the Maintenance of International Security: A Challenge to Be Met.
Westport, CT: Praeger, 2003.
الفصل الرابع: من حفظ السلام إلى بناء السلام
Boulden, Jane.
The United Nations and Mandate Enforcement: Congo, Somalia, and Bosnia.
Kingston, Ontario: Centre for International Relations, Queen’s University, 1999.
Doyle, Michael.
Making War and Building Peace: United Nations Peace Operations.
Hill, Stephen.
United Nations Disarmament Processes in Intra-state Conflict.
New York:
LeBor, Adam. ''Complicity with Evil’’: The United Nations in an Age of Modern Genocide.
New Haven, CT: Yale University Press, 2006.
At War’s End: Building
New York: Cambridge University Press, 2004.
Russett, Bruce, and John O’Neal,
Triangulating Peace: Democracy, Interdependence, and International Organizations.
New York: Norton, 2001.
Thakur, Ramesh.
The United Nations,
to Protect.
New York: Cambridge University Press, 2006.
الفصل الخامس: من التنمية الاقتصادية إلى التنمية البشرية
Berthelot, Yves, ed.
Unity and Diversity in Development Ideas: Perspectives from the UN Regional Commissions.
Bloomington: Indiana University Press, 2004.
Emmerij, Louis, Richard Jolly, and Thomas G. Weiss.
Ahead of the Curve?: UN Ideas and Global Challenges.
Bloomington: Indiana University Press, 2001.
Jolly, Richard, et.al.
UN Contributions to Development Thinking and Practice.
Bloomington: Indiana University Press, 2001.
Murphy, Craig N.
The United Nations Development Programme: A Better Way?
New York: Cambridge University Press, 2006.
Singer, Hans, and D. John Shaw.
International Development Cooperation: Essays on Aid and the United Nations System.
Basingstoke, UK: Palgrave, 2001.
Taniguchi, Makoto.
North-South Issues in the 21st Century: A Challenge in the Global Age.
Tokyo: Waseda University
Toye, John, and Richard Toye.
The UN and Global Political Economy: Trade, Finance, and Development.
Bloomington: Indiana University Press, 2004.
الفصل السادس: الحقوق والمسئوليات: من حقوق الإنسان إلى الأمن البشري
Clapham, Andrew.
Human Rights: A Very Short Introduction.
Oxford: Oxford University Press, 2007.
Dutt, Sagarika.
UNESCO and a Just World Order.
New York: Nova Science Publishers, 2002.
Hunt, Lynn.
Inventing Human Rights: A History.
New York: Norton, 2007.
Loescher, Gil.
The UNHCR and World
New York: Oxford University
Shaw, D. John,
The UN World Food
Basingstoke:
Steiner, Niklaus.
London: Routledge, 2003.
Thakur, Ramesh.
The United Nations,
New York: Cambridge University Press, 2006.
White, Nigel.
The United Nations System: Toward International Justice.
Boulder, CO: Lynne Rienner, 2002.
الفصل السابع: الإصلاح والتحديات: مستقبل الأمم المتحدة
Bowles, Newton. The
Diplomacy of Hope: The United Nations since the Cold War.
New York: I. B. Tauris, 2004.
Muravchik, Joshua.
The Future of the United Nations: Understanding the Past to Chart a Way Forward.
Washington, DC: AEI Press, 2005.
Unknown page