Turath Klasiki Muqaddima Qasira
التراث الكلاسيكي: مقدمة قصيرة جدا
Genres
أيضا ليس لدى باوسانياس الكثير ليحكيه عن ذلك التاريخ «الآخر» للمواقع التي يدرجها؛ تاريخ الناس الذين بنوها، والأموال التي دفعت لهم، والرجال والنساء الذين استخدموا هذه المواقع واعتنوا بها. ربما كان من صميم مشروعه أن يغفل تفاصيل من هذا النوع. فعلى أي حال، هل هناك دليل إرشادي حديث يكرس الكثير من الوقت للحديث عن حال المحاجر والعمال الذين بنوا المباني التي يصفها الدليل في إعجاب؟ ومع ذلك، بالنسبة لنا، لا محالة أن تثير لحظة تفكير عابرة في هذا المعبد المنعزل بين التلال أسئلة بشأن الكيفية التي بني بها والغرض من وراء بنائه. من الذي تجشم عناء بنائه في هذا المكان القصي المنعزل؟ وكيف بني؟ وما الغرض من وراء بنائه؟
أغلب مستكشفي العصر الحديث، بداية من كوكريل وأصدقائه فصاعدا، تساءلوا عن الأساليب التي وظفها الحرفيون القدماء في إقامة صفوف الأعمدة غير المدعومة بأساس على هذا النحو الأنيق المستقيم، ومحافظتهم على اصطفاف الجدران على نحو متواز. كيف بحق السماء تم عمل هذا باستخدام الأدوات والمعدات المحدودة التي كانت متاحة في القرن الخامس قبل الميلاد؟ في وصف كوكريل نفسه للمعبد، قدم كوكريل رسوما معقدة تفسر البناء الدقيق لأعمدته وسقفه، علاوة على قسم طويل ختامي يغطي المنظومة المعقدة للنسب الرياضية التي لا بد أن جرى استخدامها في عمليتي التخطيط والبناء.
أيضا تتضمن التوصيفات التي أوردها العضوان الألمانيان في الفريق ذاته تفاصيل عن آثار غير منظمة لحروف وجدوها محفورة على بعض أحجار البناء، ويعتقد أن الغرض منها تذكير العمال بالمواضع المحددة التي ينبغي وضع هذه الأحجار فيها (انظر الشكل
5-1 ). ومؤخرا، درس علماء آثار هذه العلامات مجددا، ناظرين بحرص إلى الشكل الدقيق للأحرف. لم تكن طريقة كتابة أحرف اللغة اليونانية القديمة موحدة بالقدر نفسه الذي عليه الحال اليوم، وكانت تتنوع بشكل ملحوظ بتغير المنطقة الجغرافية. لم تكن الحروف المحفورة على هذه الأحجار مشابهة لتلك المستخدمة في الطبيعي في المنطقة المحيطة بباساي، وكانت مشتركة في الكثير مع الحروف المستخدمة بواسطة الأثينيين. هذه إشارة واضحة إلى أن الحرفيين المهرة الذين اشتركوا في بناء هذا المشروع لم يأتوا من منطقة أركاديا وحدها، التي كان ينظر إليها بوصفها منطقة متخلفة حتى في القرن الخامس قبل الميلاد، وإنما جاءوا من أثينا (هل كان إكتينوس المعماري معهم؟) ونحن نحصل على لمحة عن تاريخ عملية البناء وعن الأشخاص المشتركين بها عبر هذه التفاصيل الدقيقة.
شكل 5-1: حروف يونانية خلفها بناءو معبد باساي.
يستحيل أن يكون مستكشفو القرن التاسع عشر غير واعين بالجوانب الأخرى للعمل المطلوب لبناء المعبد. وحين رتبوا رحلة النقل البطيئة التي تمت على ظهور البغال لألواح الإفريز الثلاثة والعشرين من الجبال إلى البحر، لا بد أنهم بدءوا في التساؤل عن صعوبة جلب كل هذه المواد، وأكثر منها بكثير، إلى الموقع أعلى الجبل في المقام الأول. ورغم أن الحجر الجيري المحلي الرخيص، الذي تشكلت منه الجدران الأساسية، كان يجري استخراجه من منطقة قريبة، فإنه كان لا يزال بحاجة إلى رجال ودواب وعملية تنظيم من أجل جلبه إلى الموقع. أما الرخام الأغلى ثمنا والمستخدم في الإفريز وغيره من المنحوتات، فقد جاء من مناطق أبعد، بما يتضمنه ذلك من تكلفة وعمالة إضافيين.
في الواقع، لم يركز كوكريل أو أي من أعضاء فريقه تركيزا كبيرا على مشكلات التوريد والنقل، رغم أنهم هم أنفسهم لا بد وأنهم كانوا واعين لها بشكل كبير. على النقيض من ذلك، يرى المؤرخون والأثريون المعاصرون أن هذه القضايا لها أهمية مطلقة، ليست فقط بالنسبة لقصة باساي، وإنما بالنسبة لكل التاريخ والثقافة الكلاسيكيين. فنقل أي شيء من مكان لآخر في اليونان وروما القديمة كان عملية مكلفة بما يدفع المرء لإعادة النظر في الأمر برمته، وكان النقل البري مكلفا لدرجة تمنع من القيام به. وقد قدر، على سبيل المثال، أن تكلفة النقل البري لحمولة من الحبوب لمسافة 75 ميلا تعادل تكلفة النقل البحري لها لمسافة تمتد بطول البحر المتوسط بأكمله. كيف جرى الترتيب لنقل مواد البناء الثقيلة الضخمة هذه؟ ومن دفع التكاليف؟ وبالمثل، كيف جرى الحصول على المواد؟ وكيف جرى تعدينها أو استخراجها من المحاجر، في وقت لم يكن فيه للماكينات وجود؟
الرق
هذه الأسئلة كلها توجهنا نحو تدبر مسألة الرق؛ فرغم أن هناك آراء مختلفة بشأن مصادر الثروة التي قامت عليها الحضارة الكلاسيكية، فإن جزءا من الجواب لكل سؤال عن المعدات والعمالة في الماضي يكمن في وجود عدد كبير للغاية من العمال. كانت المجتمعات اليونانية والرومانية تشتهر على نحو مخز بالرق، وربما لم تضاهها مجتمعات أخرى في هذه الشهرة المخزية. إن حياة الامتيازات التي عاشها مواطن العالم القديم اعتمدت على عضلات تلك الممتلكات البشرية، دون أن يكون للعبيد أي حقوق مدنية؛ إذ لم يعدوا كونهم مجرد مصدر للعمالة: «آلة ذات صوت بشري» (على حد وصف الكاتب الموسوعي المعارف فارو في القرن الأول قبل الميلاد). لا شك أن أعداد العبيد تباينت على مر الزمان، ومن مدينة إلى أخرى. ووفق أفضل التقديرات، في القرن الخامس قبل الميلاد شكل عبيد أثينا نحو 40 بالمائة (نحو 100 ألف) من عدد السكان الإجمالي، وفي القرن الأول قبل الميلاد وصلت أعداد العبيد في روما إلى زهاء 3 ملايين. ولا يوجد تفسير لأي شيء جرى في العالم الكلاسيكي - من التعدين حتى الفلسفة، ومن البناء إلى الشعر - لا يأخذ في اعتباره وجود العبيد.
كان الرق موجودا في كل مكان وبكل وضوح في كل من بلاد اليونان وروما، لكن كان في الوقت عينه يصعب رؤيته؛ سواء من جانبنا أو من جانب سكان العالم القديم الذين لم يكونوا هم أنفسهم عبيدا. بعض آثار الرق واضحة للغاية: كأطواق العبيد التي جرى التنقيب عنها في شتى أنحاء العالم القديم، وتحمل رسائل مشابهة لتلك الموجودة في أطواق الكلاب في عصرنا الحديث: «في حالة العثور عليه، يرجى إعادته إلى ...» (انظر الشكل
Unknown page