Turath Klasiki Muqaddima Qasira
التراث الكلاسيكي: مقدمة قصيرة جدا
Genres
شكل 4-1: من مكب نفايات روماني: قصاصة من بردية تحمل شعرا لكورنيليوس جالوس.
أيضا من واقع عمليات التنقيب التي جرت في مصر على مدار الأعوام المائة الأخيرة، ظهرت إلى النور مسرحية كاملة للكاتب الهزلي ميناندير، الذي عاش في القرن الرابع قبل الميلاد، علاوة على جزء طيب مما لا يقل عن أربع مسرحيات أخرى. كانت كل أعمال هذا الكاتب قد فقدت في العصور الوسطى، ولا يوجد أي مخطوطات بخط اليد لمسرحياته. إلا أن ميناندير كان واحدا من أكثر الكتاب الإغريق انتشارا، وبسبب الدروس الأخلاقية الواردة في مسرحياته كانت أعماله جزءا أساسيا من دراسة كل طالب في العالم المتحدث باليونانية (والذي امتد من اليونان نفسها إلى مصر، وساحل تركيا وشواطئ البحر الأسود). إن بقايا هذه النصوص المدرسية تحديدا هي التي أنقذت، على نحو درامي، من الأوراق المهملة التي استخدمت في لف أجساد المومياوات المصرية.
إن معرفتنا بالأدب الكلاسيكي معلقة على خيط رفيع للغاية (انظر الشكل
4-2 ). فجزء مما نعرفه اليوم (وما لا نعرفه) يمكن عزوه إلى المصادفة المحضة؛ فقد كان من حسن الحظ، مثلا، أن اختار الأثريون التنقيب في هذا المكب تحديدا في ذلك الحصن الروماني تحديدا في مصر؛ ومن ثم وجدوا المثال الوحيد على شعر جالوس. وبالمثل، ربما تسبب الحظ التعس في جعل أحد رهبان العصور الوسطى يسكب نبيذه على مخطوطة كان ينبغي نسخها؛ وبذا محا كل آثار النسخة الوحيدة المتبقية لأحد الأعمال الكلاسيكية. إن قابلية الكتابات القديمة للتعرض للحوادث، أو الإهمال، كان المحفز وراء الكثير من الأفكار السوداوية، وكذلك وراء كتابة مقدار كبير من الأعمال الأدبية. وهكذا نجد رواية جريفز «أنا، وكلاوديوس وكلاوديوس الإله» تعيد بناء السيرة الذاتية المفقودة للإمبراطور الروماني كلاوديوس. وفي رواية «اسم الوردة» يتخيل أمبرتو إيكو رؤية أكثر سوداوية، يحرق فيها أحد الرهبان مكتبة الدير إضافة إلى النسخة الوحيدة من أطروحة أرسطو «عن الكوميديا».
شكل 4-2: على خيط رفيع: المخطوطة الوحيدة التي نملكها من كتاب تاسيتوس «الحوليات»، 11-16.
بيد أن نمط بقاء الأعمال الكلاسيكية ليس قائما على المصادفة وحسب؛ بل هو يعتمد اعتمادا أساسيا أيضا على التاريخ الكامل للتراث الكلاسيكي واهتماماته وأولوياته المتغيرة، بداية من العالم القديم ذاته، مرورا بالعصور الوسطى، ووصولا إلى الوقت الحاضر. بعبارة أخرى، ليست المصادفة المحضة وحدها وراء العثور على نسخ عدة من مسرحيات ميناندير في مصر؛ فهذا الأمر جاء تبعة مباشرة للمكانة المحورية التي منحها ميناندير في تعليم العالم اليوناني. أيضا ليس من قبيل المصادفة أن نملك عددا كبيرا من نسخ مخطوطات العصور الوسطى ل «قصائد الهجاء» التي كتبها الشاعر الروماني جوفينال؛ ففي كثير من هذه القصائد رسم جوفينال صورة حية يرثي فيها لأخلاقيات المجتمع الروماني في وقته ويحط من قدره (وذلك في بدايات القرن الثاني الميلادي). وقد نسخت هذه القصائد وأعيد نسخها على يد رهبان العصور الوسطى؛ لأنها مثلت إدانات لاذعة للفساد، وكانت مادة مثالية للمواعظ في العصور الوسطى: «أي الشوارع لا يملؤها المتزمتون القذرون ؟ هاه! هل تكبح السلوك الفاسد بينما أنت متخندق وسط عصبة من الفلاسفة المثليين؟ أطراف مشعرة، وربما يغطي الشعر الكثيف أعلى ذراعيك أو أسفلهما، وعد الروح الرواقية، لكن على تلك الاست الملساء يخيط جراح مبتسم بواسيرك المتورمة.» إن حقيقة أننا لا نزال نستطيع قراءة كتابات جوفينال مرتبطة ارتباطا مباشرا باستخدامات التراث الكلاسيكي في كنيسة العصور الوسطى.
جاء علم الآثار نتاجا للقصة عينها؛ فلم يكن أحد الأهداف الأساسية للتنقيب في المواقع الكلاسيكية في مصر هو تحديدا اكتشاف المزيد من النصوص القديمة، غير المعروفة بعد، رغم أن هذا الهدف يكمن بالتأكيد خلف العديد من عمليات استكشاف المواقع المصرية. فعلى مدار جزء كبير من القرن التاسع عشر حدد الأدب أهداف عمليات التنقيب عن الآثار، محددا المواقع التي ينبغي البحث عنها والتنقيب فيها، والمواقع التي صارت مصادر جذب شهيرة. لقد جرى اكتشاف مدينتي طروادة ومايسينيه، على سبيل المثال، في القرن التاسع عشر على يد هاينريش شليمان، وكان سبب هذا الاكتشاف تحديدا أنه ذهب للبحث عن المدينتين المذكورتين في قصيدة «الإلياذة» الملحمية العظيمة لهوميروس عن «حرب طروادة»؛ وذلك إيمانا منه بأنه يستطيع العثور على مدينة أجاممنون؛ مايسينيه، ومدينة برايام وهكتور وباريس وهيلين؛ مدينة طروادة. وكما رأينا، كان ما حفز على استكشاف باساي هو ربط باوسانياس المعبد بالمعماري الذي بنى البارثينون. ولو لم تكن أعمال باوسانياس ظلت باقية، لما كان كوكريل وأصدقاؤه ليحاولوا القيام بمثل هذه الرحلة الخطيرة إلى ذلك الطلل الجبلي النائي، وما كانت الحكومة البريطانية لتفكر في شراء الإفريز والاحتفاظ به في المتحف البريطاني. فبطرق عدة، تعتمد القصة الكاملة التي حكيناها إلى الآن على باوسانياس وأعماله الباقية.
من المفاجئ إذن أننا بتنا نشك الآن في «المعلومات» التي قدمها لنا باوسانياس بشأن المعبد الموجود في باساي. على سبيل المثال خلصت دراسات حديثة أجريت على معمار المعبد إلى أنه استنادا إلى طراز المعبد وتاريخ بنائه، فمن المحتمل ألا يكون لإكتينوس أي دخل بتصميمه. ويرى البعض أن الرابط الذي أقامه باوسانياس بين لقب أبوللو (المعين) وطاعون أثينا العظيم قد لا يعدو كونه محض تخمين، ومن المرجح بشدة خطؤه. بادئ ذي بدء، يؤكد ثوسيديديس صراحة أن الطاعون لم يضرب هذه المنطقة من اليونان. ربما كان باوسانياس يحاول جاهدا البحث عن تفسير للقب غير المعتاد للإله أبوللو. وقد أدى التفسير الذي وجده، أو منح له، بالتأكيد إلى منح باساي شهرة كبيرة من خلال الربط بين تأسيس المعبد وبين فترة ازدهار أثينا الكلاسيكية، ومؤرخها الرسمي.
الاختلاف معهم
هذا تغير آخر كبير بين دراسة التراث الكلاسيكي في القرن التاسع عشر ودراسته في وقتنا الحالي. كان كوكريل ومعاصروه يميلون إلى رؤية النصوص القديمة التي قرءوها بوصفها مصادر يستحيل تقريبا الاعتراض عليها للمعلومات بشأن اليونان وروما. أما نحن، على وجه النقيض، فمستعدون للقبول بأننا في بعض الحالات نملك معرفة أفضل من معرفة الكتاب القدماء بشأن الآثار والأحداث والتاريخ التي وصفوها. إننا على استعداد لتحدي باوسانياس في وصفه لباساي، أو ثوسيديديس في آرائه عن مسببات الحرب البيلوبونيزية الكارثية، أو ليفيوس فيما أورده من تاريخ مبكر لمدينة روما. والأكثر من ذلك، أنه من المبادئ المهمة في دراسة التراث الكلاسيكي اليوم أن الأساليب الحديثة للتحليل يمكنها أن تكشف عن العالم القديم ما هو أكثر مما كان القدماء أنفسهم يعرفونه (تماما مثلما نتقبل أنه في يوم من الأيام سيكشف المؤرخون عن مجتمعنا أكثر مما نعرفه بالفعل). فمن مبررات الدراسة المتواصلة للتراث الكلاسيكي أننا نستطيع تحسين معرفتنا باليونان وروما اللتين ورثناهما.
Unknown page