Tocqueville Muqaddima Qasira
توكفيل: مقدمة قصيرة جدا
Genres
ما هي الديمقراطية؟ يعرفها توكفيل في البداية على أنها المساواة في الأوضاع، وأنها أسلوب حياة. فقط عندما أتى على ذكر البيوريتانيين، بدأ يصفها بأنها شكل من أشكال الحكم؛ فالديمقراطية باعتبارها أسلوب حياة لا تستحق ثناء كالذي تستحقه عندما تعني الحكم الذاتي. بالنسبة إلى تعريف الديمقراطية بأنها المساواة في الأوضاع، ربما نعترض قائلين إن هناك جوانب عدم مساواة واضحة في الديمقراطية اليوم - فضلا عنها في عصره - لكنه كان سيجيب بأن المساواة في الأوضاع كانت تتزايد، وأنه من طبيعة الديمقراطية أن نصبح أكثر ديمقراطية، كما لو كانت المساواة هي الهدف الدائم الوحيد حتى لو كان دائما هدفا غير متحقق. كان في ذهنه الفارق بين الديمقراطية والأرستقراطية، بين الأفراد صعودا وهبوطا على سلم السياسة من جهة والتسلسل الهرمي الثابت المعتمد على الفروق الطبقية من جهة أخرى. وعندما عرف الديمقراطية، ذكر أنها نهج عمره 700 سنة، ترجع بداياته إلى إتاحة الكنيسة الرتب الكهنوتية للجميع، وليس فقط للنبلاء؛ وهو اتجاه خفي بدأ يبرز الآن و«يتجلى بوضوح» في نظام الحكم في أمريكا، وهي الدولة التي ذهب إليها توكفيل لمعرفة «صورة الديمقراطية نفسها ».
غير أنه بخلاف المنظرين الليبراليين لم يحدد منطق الصورة، مع أنه قال إنه سيستكشف «تبعاتها النظرية». لقد تناول الممارسة الفعلية للديمقراطية من «نقطة انطلاقها»، وهي قدوم البيوريتانيين (المتطهرين) إلى أمريكا، وقد اعتبر هؤلاء أنفسهم حجاجا؛ لأنهم جاءوا إلى أمريكا سعيا وراء فكرة وليس من أجل المال أو المغامرة. وتلك الفكرة، بالرغم من أنها كانت دينية بالأساس، كانت أيضا نظرية سياسية خاصة بالديمقراطية، يصبح الشعب في ظلها السيد، وتلك النظرية هي التي تحكم كل المجتمع، وتحدد الأعراف وتقيم نظام التعليم العام. ظهر أن الديمقراطية ليست فقط متعلقة بالمساواة، وإنما أيضا بالحكم الذاتي الذي يسود ويوجه مجتمعا ديمقراطيا أو «حالة اجتماعية». ولا تتمثل نقطة الانطلاق في الحالة الطبيعية التي تنص عليها النظرية الليبرالية، التي ليس فيها سوى الأفراد - ولم يكن فيها للمجتمع وجود بعد - وإنما تتمثل في وجود مجتمع من نوع ما، يكون ديمقراطيا وليس أرستقراطيا.
إن الديمقراطية حالة اجتماعية معينة لا تؤدي إلى الترابط الاجتماعي الشديد، والمثال على ذلك في أمريكا التغيير الذي حدث في قانون الميراث، من البكورة (أي حق الابن البكر في إرث التركة كاملة) إلى المساواة بين الأبناء في الميراث أو توريث الآباء باختيارهم بعض الأبناء. لقد كان الهدف من نظام البكورة في الميراث هو عدم المساس بالملكيات العقارية الأرستقراطية وغرس الافتخار بأسلافنا، في حين أن نظام المساواة في الميراث حرر الأفراد من القيود الأسرية وجعلهم يفكرون في المستقبل بدلا من الماضي. لقد انتشرت المساواة في جميع أنحاء المجتمع، في بعض الأحيان في شكل شغف من أجل التميز القائم على التنافس الذي يرفع الأشخاص البسطاء لمنزلة العظماء، وقد وصف توكفيل هذا الشغف بأنه «شغف إنساني ومشروع»، وفي أحيان أخرى بأنه ميل منحرف للتحاسد يشجع الضعفاء على النزول بالأقوياء لمستواهم. وبدلا من إنتاج الحالة الطبيعية للديمقراطية، كما يرى هوبز ولوك، تنتج الديمقراطية شيئا يشبه الحالة الطبيعية، لا يكون فيها الأفراد بالضرورة في صراع، وإنما ليسوا في حالة ارتباط قوية بعضهم مع بعض وحسب.
كيف يكون الأفراد الديمقراطيون أقوياء وليسوا ضعفاء؟ لم يقل توكفيل إنهم بالضرورة أقوياء أو ضعفاء؛ إن مفهومه الخاص ب «الحالة الاجتماعية» إذا فصلناه عن السياسة، يبدو وكأنه يندرج ضمن علم الاجتماع، وهو علم كان لا يزال في بداياته في عصره. لكنه بخلاف علماء الاجتماع وعلماء العلوم الاجتماعية الأخرى المعاصرة، لم يكن يعتقد أن السمات الاجتماعية هي التي تحدد الأمور السياسية؛ لأن الاعتقاد بذلك يتجاهل تأثير السياسة على المجتمع الذي أوضحه توكفيل من خلال قانون الميراث. فهل هذا القانون نتج عن الحالة الاجتماعية أم حددها؟ راوغ توكفيل هنا حيث قال إن الحالة الاجتماعية هي في الوقت نفسه نتاج حقيقة أو قانون، كما أنها السبب الأول لمعظم السلوكيات الاجتماعية. ويبدو أن أهمية الحرية السياسية محل نظر؛ فما أهمية الحرية السياسية إذا كانت السياسة نتاجا لحالة اجتماعية معينة ولا يمكنها إقرار المسائل المهمة؟ لذا، وبالرغم من قوله بأن الحالة الاجتماعية يمكن اعتبارها السبب الأول لمعظم السلوكيات الاجتماعية، انتقل للحديث عن سيادة الشعب، ملمحا لأهمية من يحكم، لكنه ترك الانطباع بأن الديمقراطية تحكمها حالتها الاجتماعية بقدر حكمها لذاتها.
ذهب توكفيل بعيدا لحد أنه قال: «الشعب يهيمن على العالم السياسي الأمريكي كما يهيمن الرب على الكون»، فالشعب هو «سبب وغاية كل شيء.» لكن إذا كان الشعب الأمريكي مثل الرب، فيبدو أنه سيحل محل الرب باعتباره السيد؛ فالإنسان وليس الرب هو السيد، وهذا تحول واضح في الفكرة البيوريتانية التي قال عنها إنها كانت «نقطة الانطلاق». كانت الديمقراطية البيوريتانية ثيوقراطية، ولن يكون توكفيل ليبراليا إذا كان هذا هو شكل الديمقراطية الذي يريده. تضع الحرية السياسية حدودا للسياسات الديمقراطية؛ مما يمنع الدولة من الفرض الصارم للأعراف التي نصفها اليوم بالمتشددة لأنها ترغب في أن يكون الأفراد الديمقراطيون أحرارا. كان توكفيل من أبرز دعاة مبدأ الفصل بين الكنيسة والدولة، لكنه أثنى على السياسات الديمقراطية التي جلبها البيوريتانيون لأمريكا؛ لأن الشخص لا يكون حرا إلا إذا حكم بنفسه، وفي ظل تلك العلاقة المحيرة بين الإنسان والرب، أوضح أن الحرية تدين للدين، لكنها في نفس الوقت في خصومة معه.
نظام البلدات
إن الأفراد الأحرار في حد ذاتهم ضعفاء، ويجب أن يفسر توكفيل كيف يمكن أن يصبحوا أقوياء بحيث تؤدي المساواة الديمقراطية إلى زيادة قوتهم بدلا من التشجيع على التحاسد فيما بينهم. إن ما يقوي الأفراد هو الارتباط أو الاجتماع، وهو موضوع رئيسي بالنسبة إلى توكفيل، ناقشه عند تناوله للبلدات في نيو إنجلاند. في النظام الأرستقراطي، يكون الأفراد ثابتين في تسلسل هرمي بين من هم أعلى منهم ومن هم أدنى منهم، وهكذا تكون علاقات الارتباط محددة مسبقا بالنسبة إليهم؛ لكن في النظام الديمقراطي، يكون الناس متحررين - أو محرومين - من تلك القيود، ويكون عليهم أن يصنعوا تلك الارتباطات بأنفسهم. وللقيام بهذا، فإن لديهم نزعة طبيعية للارتباط مع الآخرين برغبتهم، وتأتي تلك النزعة في المرتبة التالية فقط لحبهم لذواتهم. مرة أخرى، يعد هذا تعارضا آخر مع مفهوم «الحالة الطبيعية» الذي يرى أن الأفراد في صراع بعضهم مع بعض.
تتكون البلدة على نحو تلقائي وتكون عرضة للتدخل في شئونها؛ إنه «أمر شائع في الطبيعة أنه مع اجتماع الناس في مكان ما، يتحول هذا المكان لبلدة من تلقاء نفسه»، غير أن هذا الأمر موجود فقط في أمريكا، من بين كل الأمم المتحضرة؛ والسبب في ذلك هو أن حكومة البلدة تشبه «مدرسة ابتدائية» للحرية؛ أي إنها غير ناضجة وغير ذات خبرة؛ ولذا تكون السلطات الأعلى مستعدة دائما للتدخل في شئونها وتصحيح أوضاعها. إن أمريكا وحدها هي التي لديها الحكمة، أو الحظ السعيد الذي كان توكفيل من الحكمة بحيث يشير إليه، لعدم التدخل في شئون حكومات البلدات. وصف توكفيل هذا بأنه «شكل» من أشكال الحكومات لأنه منظم وواضح المعالم وعام؛ فهو ليس خفيا ولا معزولا بل يتجلى بوضوح شديد. وتتبع حكومة البلدة بالتأكيد حكومة الولاية، التي انتقل توكفيل لتناولها بعد ذلك، لكنه بدأ تحليله للديمقراطية باعتبارها شكلا من أشكال الحكم من أسفل لأعلى، من حكومة البلدات الأكثر تلقائية.
ينص مبدأ سيادة الشعب على أن الجميع متساوون في «الفهم والخيرية والقوة»، غير أنه إذا أراد الفرد أن يقوم بأي شيء خارج عن قدراته الفردية، يجب أن يرتبط مع الآخرين، وإذا ارتبط معهم، يجب أن يطيع من يتولى أمرهم. استخدم توكفيل الكلمة الإنجليزية
selectmen (مسيري الأمور المحلية) للإشارة إلى المسئولين عن أي بلدة، ولو كان استخدم كلمة فرنسية بدلا منها، لاختار كلمة
Unknown page