ولما أتم حديثه أوى إلى الكهف الخارجي كي يؤدي صلاته لله، وخلف ضيفيه معا في الغرفة الداخلية؛ وحينئذ أخذ السير كنث يحاول بمختلف الأسئلة أن يستخلص من الأمير شيركوه كل ما يعرف عن مضيفه، ولم يكن في استجوابه هذا مدفوعا بحب التطلع فحسب؛ إذ كان عسيرا على السير كنث أن يلائم بين الراهب في تهور خلقه حينما بدا لهما بادئ الأمر، وبينه وهو في تواضعه وسكونه من بعد، ومحال عليه أن يوفق بين ذلك وبين ما كان يعلم من قبل مما لهذا الراهب من المكانة العالية في قلوب الكثير من رجال الدين المستنيرين في العالم المسيحي، فلقد كان تيودوريك راهب عين جدة - كما عرفه السير كنث - يراسل البابوات ومجامع الدين، ويصف لهم في رسائله، في بلاغة وحماسة، ما كان يصيب به الكافرون المسيحيين اللاتين في الأرض المقدسة من ألوان من الشقاء لا تكاد تقل شدة عما كان يوقعه بطرس الناسك في مجمع «كليرمنت» حينما كان يبشر بالحرب الصليبية الأولى؛ فلما رأى الفارس المسيحي من تيودوريك - وهو ذلك الرجل الوقور، وذلك الشخص المبجل - من حركات الجنون ما لا يليق إلا «بفقير» مخبول، تردد قبل أن تصح عزيمته على أن يبلغه تلك الأمور الهامة التي حملها إياه جماعة من قواد الحرب الصليبية.
وكان من أولى الأغراض التي أتى من أجلها السير كنث حاجا، سالكا طريقا غير مطروقة، أن يبلغ الناسك ما حمل من رسائل، ولكن ما شاهده في ذلك المساء دفعه إلى الصمت والتبصر قبل أن يبوح بما عهد إليه؛ ولم يستخلص من الأمير كثيرا من الحقائق، ومجمل ما قال العربي إن الناسك - كما روى له - كان في يوم من الأيام جنديا شجاعا جسورا، حكيما في مشورته، ومجدودا في ساحات القتال؛ وأنه (أي العربي) آمن بذلك لما شاهد من القوة البارعة والحركة الخفيفة يبديهما الناسك في كثير من الأحيان، وقال : «إنه لم يظهر في بيت المقدس في شخص حاج، وإنما في شخص رجل وقف بقية العمر للإقامة بالأرض المقدسة، وبعد زمن وجيز استقر به المقام وسط تلك المجاهل المهجورة التي ألفياه بها، وأن اللاتين يبجلونه لشدة إخلاصه لربه، كما يحترمه الترك والعرب لما يبدو عليه من أعراض الجنون التي ينسبونها إلى الوحي، وهم الذين أطلقوا عليه اسم «هاماكو» وهي كلمة تركية تدل على هذه الصفات، وقد تحير شيركوه نفسه كيف يقدر مضيفه، فقد كان - كما قال - رجلا حكيما، يستطيع حينا أن يلقي دروسا في الفضيلة والحكمة ساعات متواصلة دون أن يزل ولو قليلا، وحينا آخر تراه متوحشا عنيفا؛ ولكنه لم يشاهده قط من قبل شديد الميل لفعل الشر كما بدا لهما في ذلك اليوم؛ وأشد ما كان يثير غضبه إهانة تلحق بدينه. ومما يروى عنه أن جماعة من العرب الرحل اعتدوا عليه في الصلاة، وشوهوا له ظاهر مذبحه، فهاجمهم وقضى عليهم بسوطه القصير الذي كان يحمله عوضا عن كل سلاح آخر. وقد أثار هذا الحادث ضجيجا قويا، وباتت القبائل الجوالة تخشى من الناسك وقع مطرقته الحديدية، كما تنظر إليه ك «هاماكو»، فأصبحوا يحترمون مسكنه ومعبده؛ وقد اتسع مدى صيته حتى إن صلاح الدين أصدر أمرا خاصا بحمايته والتخلي عنه، قد أتى بنفسه أكثر من مرة، مع غيره من كبار المسلمين، زائرين للغار، مدفوعين بحب التطلع من ناحية، ومرتقبين من ناحية أخرى، من رجل عليم كهاماكو المسيحي أن ينفذ ببصيرته في غياهب الغيب؛ ثم استطرد العربي قائلا: «وكان له مرصد عظيم الارتفاع، يرقب منه نجوم السماء وكواكبها، وهي التي بحركاتها وتأثيرها، تسير كل ما يقع للإنسان من أحداث، وتعيننا على التنبؤ، وذلك من عقائد المسيحيين والمسلمين على السواء.»
هذي خلاصة ما كان يعلم الأمير شيركوه عن الناسك، سمعها السير كنث فداخلته الريبة في طبيعة الجنون الذي تلبس به الراهب: هل هو من فرط حمى الحماسة تنتابه الحين بعد الآخر، أو هو وهم يتكلفه كي يفيد من حصانته. وعلى أي الحالين، يظهر أن المسلمين قد بالغوا في احترامه مبالغة شديدة رغم عداوته الصريحة لما يعتقدون، وظن السير كنث كذلك أن بين العربي والناسك تعارفا وقربى أكثر مما كان العربي بكلماته يريده على أن يعتقد، ولم يفته أن الناسك كان يدعو العربي باسم يختلف عما ادعى هذا لنفسه؛ هذه الظروف جميعا أوحت إلى السير كنث بالحرص، بل وبالشك، فعزم على أن يرقب مضيفه عن كثب وألا يتعجل بإبلاغه الرسالة الهامة التي وكلت إليه.
فقال: «حذار أيها العربي! إنني يخيل لي أن مضيفنا يسبح بخياله في الأسماء كما يسبح في غيرها من أمور، أليس اسمك شيركوه، وقد ناداك الآن باسم آخر؟»
فأجاب الكردي: «كان اسمي في خباء أبي «الضريم» وما زال الكثير يناديني بهذا الاسم؛ أما في ساحة الوغى وبين الجنود، فأنا أعرف ب «أسد الجبل»، وهو اسم أكسبنيه حسامي الباتر، ولكن صه الآن يا صاح، فإني أرى هاماكو مقبلا يدعونا إلى الراحة، وأنا أعرف عادته، وهي ألا يرقبه أحد وهو ساهر على ذكر الله.»
وآنئذ دخل الناسك ومثل أمامهما، ويداه على صدره، ثم قال بصوت وقور «الحمد لله الذي جعل الليل لباسا، وجعل النهار معاشا؛ وجعل لنا في هدأة النوم راحة للجسم المنهوك، وطمأنينة للنفس المضطربة.»
فرد عليه المحاربان معا وقالا: «اللهم آمين.» ثم نهضا من المائدة وتأهبا لأن يأويا إلى فراشهما، وقد أشار إليه مضيفهما بيده، ثم ترك الغرفة ثانية بعد أن حياهما معا.
و حينئذ جرد فارس النمر نفسه من سلاحه الثقيل، وقد أخذ زميله العربي يعاونه برفق في خلع درعه وحل أربطته، حتى لم يعد يستتر إلا برداء ضيق من جلد الغزال، كان الفرسان ورجال الحرب يلبسونه تحت السلاح. وإذا كان العربي قد أعجب بقوة نده - وهو مسلح بالحديد - فهو الآن أشد إعجابا بدقة التناسق البادية في جسمه المعروق المفتول العضل؛ وكأن الفارس بدوره قد أراد أن يرد الجميل بالجميل، فمد يد المعونة إلى العربي يعينه على خلع ما تدثر به من لباس حتى يستطيع أن ينام وهو طليق الجسم ، ولشد ما كانت دهشته إذ رأى أطرافا رقيقة وجسما نحيلا، لا يتفق وما أبدى صاحبه من بأس في النزال.
وقبل أن يأوي الفارسان إلى الفراش توجها إلى الله بالصلاة؛ أما المسلم فيمم شطر «القبلة» وهي المركز الذي يتوجه إليه أتباع محمد في الصلاة، وتمتم بالدعاء - بينما انسلخ المسيحي من المكان - وقد تدنس بجوار صاحبه الملحد
4
Unknown page