إن النقطة المثيرة للاهتمام التي أثارها بورلينج تتعلق بما إذا كان المرء يستطيع استعادة إحدى اللغات التي اكتسبها في مرحلة مبكرة جدا من طفولته، ونسيها أيضا في مرحلة مبكرة للغاية. يقال إن اللغات التي ينساها المرء تبدو مألوفة ولا يجد صعوبة في نطق أصوات معينة فيها، لكن لم تستطع دراسات فعلية أن تعطينا معلومات واضحة عن مقدار ما يظل محفوظا لدى المرء، ومدى سرعة إعادة تعلم اللغة. لدى كل الذين يمتلكون لغة مخبأة بداخلهم اكتسبوها في طفولتهم؛ توجد رغبة دفينة في أن يتمكنوا ذات يوم من إعادة تفعيل اللغة واستخدامها في الحياة اليومية. وبالنسبة إلى ستيفن، أخبرني روبنز برولينج بالبريد الإلكتروني أن سيتفن لم يعد قط إلى جارو هيلز؛ ومع ذلك ، عندما كان في السادسة من عمره اكتسب اللغة البورمية في مدينة رانجون (المعروفة الآن باسم يانجون)؛ لقد تحدث بها بطلاقة لمدة سنة لكنه نسيها، وكتب لي والده يخبرني بأنه اكتسب في سن الثامنة ثلاث لغات ونسي اثنتين منها!
10
تتحدث الحالة الثانية عن طفل رجع إلى الأحادية اللغوية، وهو أقرب إلينا في الموقع الجغرافي وفي الفترة الزمنية. إن دراسة الحالة هذه، التي ذكرتها عالمة اللغة ليلي وونج فيلمور، تدور حول كاي فونج، الذي ينتمي إلى أسرة صينية (كانتونية) مهاجرة وصلت إلى الولايات المتحدة عندما كان في سن الخامسة. تربى في الأساس على يد جدته الصينية، حيث كان والداه يقضيان ساعات طويلة في مطعمهم الموجود في منطقة سان فرانسيسكو. عندما بدأ كاي فونج الذهاب إلى المدرسة واجه بعض الصعوبات؛ فقد كان الأولاد الآخرون يضايقونه بسبب ملابسه وتسريحة شعره. وبعد حادثة قذف للحجارة شارك فيها، وبعد ما تبعها من توبيخ، بدأ يصبح أكثر عزلة في كل من المدرسة والمنزل. وقد مر بفترة كان يعرف فيها اللغتين الكانتونية والإنجليزية، لكنه سرعان ما تحول إلى الحديث بالإنجليزية مع جدته، التي لم تكن تستطيع فهمه، وعندما صار في العاشرة من عمره، أصبح يقضي المزيد من الوقت خارج المنزل مع أصدقائه الذين يتحدثون بالإنجليزية، وبدا أنه لم يعد يفهم الكانتونية جيدا. ومن بين إخوته الثلاثة، لم يكن يتحدث بالكانتونية مع والديه وجدته إلا أخت واحدة، وكان كل الكبار يشعرون بالقلق من هذا الفقدان السريع للغة الأسرة. تنهي وونج فيلمور تقريرها قائلة:
لقد كان للتحول من الكانتونية إلى الإنجليزية في هذه الأسرة، وضياع لغة الأسرة من الأبناء، تأثير كبير على التواصل بين الكبار والأطفال، وفي النهاية على العلاقات الأسرية. فأصبح هناك توتر في هذا المنزل؛ فالكبار لا يفهمون الأبناء، والأبناء لا يفهمون الكبار؛ فلا يشعر الأب والأم والجدة بأنهم يعرفون الأبناء، ولا يعرفون ماذا يحدث في حياتهم.
11
لحسن الحظ ليست كل حالات نسيان اللغة بمثل هذه الصعوبة؛ فعادة ما يتعلم الوالدان القدر الكافي من لغة الأغلبية حتى يمكنهم التواصل، إلى حد ما على الأقل، مع أطفالهم الذين لا يتحدثون غيرها. في الحالة السابقة على وجه الخصوص، لم تتعلم الجدة الإنجليزية على الإطلاق، وكان الوالدان لا يجيدان التحدث بها على الإطلاق، خاصة الأم. أما بالنسبة إلى كاي فونج، الذي تحول من الأحادية اللغوية في الكانتونية إلى الثنائية اللغوية في الكانتونية والإنجليزية، ثم إلى الأحادية اللغوية في الإنجليزية، كل هذا في خلال بضع سنوات، فقد سألت ليلي وونج فيلمور عن حاله، فأجابتني أنه أصبح في الثالثة أو الرابعة والعشرين من عمره الآن (كان هذا في عام 2008)، وأضافت: «أتمنى أن يكون أكثر تقبلا لما هو عليه.» (3) تفسير
رأينا كيف يمكن للأطفال التحول إلى الثنائية اللغوية ومنها، في وقت قصير جدا. يوضح الشكل
14-1
العوامل الأساسية التي تسهم في هذه الظاهرة. نجد في هذا الشكل أن العامل الأساسي الذي يؤدي إلى تعلم إحدى اللغات هو «الحاجة» لهذه اللغة (اللغة «س» في هذا الشكل). قد تأخذ هذه الحاجة عدة أشكال؛ على سبيل المثال: التواصل مع أفراد الأسرة، أو المسئولين عن رعاية الطفل، أو الأصدقاء الذين قد يكون بعضهم أو معظمهم أحاديي اللغة في هذه اللغة؛ والمشاركة في أنشطة أحد مراكز الرعاية النهارية أو المدارس؛ والتعامل مع الناس في المجتمع. وقد تتمثل هذه الحاجة ببساطة أيضا في مشاهدة التليفزيون وممارسة الرياضة وما إلى ذلك. باختصار، يجب أن يشعر الطفل بأنه بحاجة فعليا للغة معينة. إذا حدث هذا، وكانت العوامل الأخرى مواتية، فإن الطفل سيتعلم هذه اللغة؛ وإذا اختفت الحاجة أو لم تكن موجودة فعليا (ربما يتحدث الوالدان باللغة الأخرى أيضا لكنهم يتظاهرون بعكس ذلك)، وكانت العوامل الأخرى غير مواتية، فإن الطفل سيتوقف عن استخدام هذه اللغة، ويوجد احتمال كبير أن ينساها.
شكل 14-1: العوامل المؤدية لاكتساب لغة أخرى والإبقاء عليها لدى الأطفال.
Unknown page