تمهيد
1 - مقدمة: ثورة الصين غير المكتملة
2 - السياسة تتولى زمام السيطرة
3 - الثقافة: تدمير القديم وبناء الحديث
4 - اقتصاد «الاعتماد على النفس»
5 - السياق العالمي للثورة الثقافية: أصدقاء في جميع أنحاء العالم
6 - التصالح مع الثورة الثقافية
التسلسل الزمني للأحداث
الشخصيات الأساسية في الثورة الثقافية
المراجع
قراءات إضافية
مواقع ويب
تمهيد
1 - مقدمة: ثورة الصين غير المكتملة
2 - السياسة تتولى زمام السيطرة
3 - الثقافة: تدمير القديم وبناء الحديث
4 - اقتصاد «الاعتماد على النفس»
5 - السياق العالمي للثورة الثقافية: أصدقاء في جميع أنحاء العالم
6 - التصالح مع الثورة الثقافية
التسلسل الزمني للأحداث
الشخصيات الأساسية في الثورة الثقافية
المراجع
قراءات إضافية
مواقع ويب
الثورة الثقافية الصينية
الثورة الثقافية الصينية
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
ريتشارد كيرت كراوس
ترجمة
شيماء طه الريدي
مراجعة
محمد إبراهيم الجندي
إلى أنتوني كراوس، أحد القساة المستنيرين!
تمهيد
زلزلت ثورة الصين الثقافية البروليتارية العظمى سياسات الصين والعالم فيما بين عامي 1969 و1976؛ إذ سيطرت على جوانب الحياة الصينية كلها؛ فتشتتت أسر، وسرح موظفون، وتعطل التعليم، وانطلقت مبادرات سياسية مدهشة وسط مشهد من الفوضى، والبدايات الجديدة، وتصفية الحسابات القديمة.
ولكن تظل الحركة محل خلاف لتطرفها، ومداها الطموح، وتأثيرها في حياة ما يقرب من مليار شخص. ومن الصعب فهم هذه الفترة المعقدة، الغامضة غالبا، التي لا تزال باعثة للألم. يحاول هذا الكتاب تقديم سرد مترابط. ولحسن الحظ، يمكننا الآن أن نعول على كتابات حيوية تألفت من المعرفة العلمية والمذكرات والثقافة الشعبية، التي ظهرت داخل الصين وخارجها على حد سواء.
كانت الثورة الثقافية عنيفة، ولكنها أيضا كانت مصدرا للإلهام والتجربة الاجتماعية. فلماذا طرب الناس للثورة الثقافية، ثم أصابت خيبة الأمل عددا كبيرا منهم؟ يكمن التحدي في التعامل مع الثورة الثقافية على محمل الجد بدلا من الاكتفاء برفضها لما تحمله من سلوكيات قاسية وسخافات.
لقد تبين أن جزءا كبيرا مما نعتقد أننا نعرفه عن «الثورة الثقافية» مغلوط؛ فعلى سبيل المثال، كانت الغالبية العظمى من سمات الثورة الثقافية قد ترسخت بالفعل قبل حوالي عامين من بدايتها المعلنة عام 1966، فقد كانت عضوية حركة الحرس الأحمر أكثر انتشارا بكثير مما يتخيل الغربيون، ولكن عنفوان الحركة الشبابية كان أقصر؛ فلم يتجاوز العامين. كانت السياسة المتبعة مع الفنون مدمرة، ولكنها كانت أيضا ومع ذلك جزءا من خطة طويلة المدى لتحديث الثقافة الصينية. وقد هزت الثورة الثقافية الاقتصاد، ولكنها بالتأكيد لم تدمره تماما؛ لأنه كان ينمو بمعدل مناسب. وعلى الرغم من عزلة الصين، فقد وضعت الثورة الثقافية حجر الأساس لتحول الصين إلى منبر تصنيعي لاقتصاد عالمي ليبرالي جديد. إن الثورة الثقافية أبعد ما تكون عن الدخول في طي النسيان في الصين اليوم، إلى جانب أن الحكومة لا تحظر مناقشتها.
إن قصة الثورة الثقافية قصة معقدة، وإني أحاول تقليص الألفاظ الاصطلاحية المتخصصة التي تظهر في الكتابات المتعلقة بالسياسة الصينية، ولكن لا بد من تحذير القراء من كلمة «كادر» الغريبة، التي تعني في هذا الكتاب «حزبا أو مسئولا حكوميا في الجمهورية الشعبية»؛ فالكلمة تشير إلى مسئولين فرديين، وليس إلى جماعة كما هو الحال في الغرب. وقد حاولت أن أقتصد في تقديم أسماء أماكن صينية غير مألوفة، على الرغم من أن هذا قد يجعل الثورة الثقافية تبدو أكثر تمركزا في بكين عما هو مؤكد؛ فقد كانت حركة وطنية ضخمة لها الكثير من السمات المحلية الخاصة. كذلك تلعب أسماء الحملات السياسية دورا أكبر مما تلعبه في الحياة العامة الغربية؛ فهي عند الصينيين تقدم - بدلا من الغموض - وسيلة للتذكرة وسياقا للتقييمات السياسية والعاطفية لتيارات الثورة الثقافية المختلفة.
الفصل الأول
مقدمة: ثورة الصين غير المكتملة
جاءت ثورة الصين البروليتارية الثقافية العظمى إلى الحياة في مايو عام 1966، واستمرت حتى وفاة ماو تسي تونج عام 1976. وقد كانت بروليتارية في طموحها أكثر من واقعها، بالنظر إلى أن أربعة أخماس الصينيين كانوا من الفلاحين. كانت الثورة ثقافية من منظور أن أكثر أهدافها ثباتا كان الفنون والمعتقدات العامة. ولم تكن هذه الثورة عظيمة في نفسها؛ فقد أحدثت الكثير من الصخب، ولكنها أعادت تنظيم الدولة فقط ولم تقوض بنيانها، ومثل معظم الثورات استمرت لأكثر مما هو مرغوب. ويستهوي المرء أن ينظر إلى هذا العقد الصاخب باعتباره الدفعة الأخيرة، وربما النهائية، في مسار الثورة الصينية التي استمرت طوال قرن من الزمان، لتتجه الصين بعدها للمهمة الخطيرة التي تمثلت في بناء أمة حديثة.
لا يولي قادة الصين الحاليون - الذين غالبا ما يكونون هم أنفسهم من أفراد الحرس الأحمر السابقين - اهتماما كبيرا بدراسة الصلة بين «الصين الماوية» والدولة في الوقت الحالي؛ فهم يتجنبون المناقشات المخزية حول فترة شبابهم، ويتمسكون بإدراك غير مصرح به مفاده نبذ الاتهامات المضادة القائمة ضدهم من تلك الفترة. ويجد الإعلام الغربي إغراء في تعميق التفاوت بين الصين ذات الوجه الطيب (التي تملأ محالنا بالمنتجات والسلع وتحمل عنا ديوننا) والصين ذات الوجه السيئ (التي وضعت - فيما مضى - حدا للنفوذ الغربي في العالم). ولكن الروايات التي تدعي ببساطة أن ماو تسي تونج طاغية مجنون، وأن تاريخ الصين الحديث «الحقيقي» يبدأ فقط مع موته، إنما تغفل أبعادا مهمة للتغيير الاجتماعي السريع والنافذ الذي حدث منذ نهاية الثورة الثقافية.
في المقابل، يستنبط هذا الكتاب أوجه الصلة بين الصين كدولة معزولة ومحاصرة في ستينيات القرن العشرين، والصين اليوم كقوة عالمية سطع نجمها حديثا. إن هذين الوجهين لا يقفان على طرفي نقيض، لدرجة أننا أحيانا ما نرغب في أن يكونا كذلك. لقد أراد ماو - شأنه شأن غيره من القادة الصينيين في القرن العشرين - صينا قوية وحديثة، وساهمت بعض سياسات الثورة الثقافية في بلوغ هذا الهدف، والبعض الآخر لم يكن مفيدا إلى حد كبير في هذا الصدد، ولكنها مع ذلك أضافت للاتجاه المميز الذي اتبعته الصين المعاصرة.
وبدلا من مهاجمة الثورة الثقافية باعتبارها مستنقعا تاريخيا، يمكننا التركيز على صلاتها بعالمنا المعاصر، واضعين بذلك تلك الحركة الصينية القومية في سياق عالمي. لقد كانت الثورة الثقافية جزءا من الحركة العالمية للشباب الراديكاليين في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين. وكان المعارضون الغربيون يفتخرون بوجود صلات خيالية أو عاطفية بثوار الصين. وخلال الثورة الثقافية، عملت بكين وواشنطن على تصفية العداء الطويل بزيارة نيكسون في عام 1971، مما أدى إلى إعادة تشكيل سياسات آسيا الدولية، وغرس بذور عقود من النمو الاقتصادي المذهل في الصين. لقد قامت الثورة الثقافية وما تلاها من حركة تطهير ضد اليسار بسحق البيروقراطية في الصين بشكل حاد للغاية، لدرجة أنه لم يكن هناك قدر كبير من التفنيد القوي للسياسات التي حولت الدولة إلى ملجأ ضخم للصناعة العالمية. (1) حركة التحديث والقومية في الثورات الثقافية
يبدأ التراث الثوري المحطم لكل الأيقونات للصين الحديثة على أقل تقدير بثورة تايبنج الفاشلة التي اندلعت في منتصف القرن التاسع عشر، والتي تعد أكثر المحاولات دموية للإطاحة بأسرة تشينج الضعيفة الفاسدة، والتي سقطت في النهاية في عام 1911. وقد أعطى حزب الكومنتانج (الحزب الوطني) الذي تزعمه صان يات سين ثم شيانج كاي شيك الثورة وجها أكثر تحضرا وعصرية في محاولة ممتدة لتوحيد وتحديث الصين. وقد انضم إليهم الشيوعيون، كحلفاء في البداية، ثم كخصوم في حرب أهلية، لتحديد مدى الضراوة التي ستكون عليها الثورة. وعندما تراجع الكومنتانج إلى تايوان في عام 1949، كانت الثورة الاشتراكية على البر الرئيسي في مأمن.
لكن الثورة على الصعيد الثقافي كانت لا تزال في مهدها، وكانت كل موجة من الموجات الثورية التي اجتاحت الصين في القرن التاسع عشر معنية بالتغيير الثقافي بشغف. سيقول الكثيرون إن إلغاء أسرة تشينج لنظام الاختبارات القديم للخدمة المدنية في عام 1905، والذي قضى بدوره على همزة وصل ظلت قائمة لقرون بين التعليم، والحراك الاجتماعي، والرقابة الاجتماعية، والهيمنة الأيديولوجية، كان نذيرا بسقوطها.
شكل : خريطة الصين.
وخلال العقد التالي الذي ساده الارتباك والتخبط عقب تأسيس الجمهورية الصينية في عام 1911، قاد المثقفون المجددون حركة الرابع من مايو في عام 1919. اندلعت المظاهرات في ذلك التاريخ احتجاجا على حصول اليابان على امتيازات الأراضي التي كانت ألمانيا تحظى بها فيما سبق في الصين في نهاية الحرب العالمية الأولى، لكن ناشطي حركة الرابع من مايو كانوا يحملون أجندة تجديدية أوسع بكثير. فقد كانت حركة الرابع من مايو، التي سيطرت على الحياة الثقافية للصين لعقود، تعتبر أن العقبة الرئيسية أمام التقدم الاجتماعي والحداثة تتمثل في كونها ثقافة كونفوشية بنظامها البابوي، ونظام تملك الأراضي، ومناهضة التعلم بالطرق الأجنبية. وقد كان مجددو حركة الرابع من مايو يؤمنون بالحرية التي يبشر بها العلم، وبقدرة الديمقراطية على التغيير. كذلك ادعوا أن للمثقفين مهمة خاصة في قيادة الصين، وهو موقع مميز لا يختلف كثيرا عن الكونفوشية التي كانوا يعارضونها.
كانت سياسات الصين الثورية أيضا قومية بقدر ما كانت مجددة، وكان مما يميزها الإضرابات، والمظاهرات، وحملات مقاطعة الشركات الأجنبية، وقد سحقتها شناعة الغزو الياباني في النهاية. وعلى الرغم من اتهام النقاد لحركة الرابع من مايو بالسعي نحو تغريب الصين واقتلاعها من جذورها، فإن السخط من الإمبريالية حال دون حدوث ذلك. وقد قام حزب الكومنتانج تحت زعامة شيانج كاي شيك بتأسيس «حركة حياة جديدة» لمحاربة الخرافات، وإغلاق المعابد، وتحطيم تماثيل آلهة الإقطاع، والحث على فلسفة أخلاقية جديدة للصين، ولكنها تراجعت بعد ذلك عن هذه الراديكالية المتطرفة.
شدد الحزب الشيوعي الجديد، الذي تأثر بشكل عميق بحركة الرابع من مايو، في مرحلة مبكرة على التغيير الثقافي. ولكن بعد صعود ماو تسي تونج كزعيم للحزب في عام 1935، صار للثقافة دور استراتيجي جديد ومحوري. كان ماو، الذي يعد أحد مؤسسي الحزب الشيوعي في عام 1921، قد أصبح زعيما للحزب من خلال قيادة الثوار الشيوعيين من قواعدهم في جنوب الصين، والتي حاصرتها قوات الكومنتانج، إلى مدينة يونان الواقعة في أقصى الشمال الشرقي وذلك بين عامي 1934-1935. كان لهذا الانسحاب الذي استمر لمدة عام، والمعروف باسم المسيرة الطويلة، دوره في الحفاظ على نواة للقوات الشيوعية، ولكنه أجبر الحزب على إعادة النظر في علاقته بمضيفيهم من الفلاحين المحليين.
مع اشتداد الحرب مع اليابان، أدرك ماو أن الحزب بحاجة إلى كسب تأييد وثقة فلاحي الصين، فأطلق الحزب برنامجا لإعادة تدريب المثقفين الحضريين والعمال السابقين لتحقيق ذلك. وقد شملت هذه الحركة التصحيحية التي انطلقت عام 1942 الرفض الواعي لطرق وأساليب النخبة، وفي بعض الأحيان احتفالا ضخما بالفضائل الريفية، إلى جانب سلسلة من الأعمال الفنية الرامية لنشر القيم الثورية من خلال التودد للجماهير الريفية ومخاطبتهم. أدت حركة التصحيح الماوية إلى شحذ قدرة الحزب على محاربة كل من الغزاة اليابانيين والكومنتانج. وفي الوقت نفسه، أحبطت النزعات الكوزموبوليتانية لحركة الرابع من مايو بتفضيل الفن الريفي على الموسيقى والدراما المستوردين من الخارج. وفي عام 1945 استوحى الشيوعيون عرضا أوبراليا صينيا (بعنوان «الفتاة ذات الشعر الأبيض») ورقصة باليه من رقصة ريفية مشهورة («يانج جي»)، وشجعوا مثقفي الحزب على الكتابة بطرق سهلة وغير أدبية.
كانت الفنون موجهة لخدمة السياسة، غير أن ماو ذهب أيضا إلى أن رفع المعايير الفنية من شأنه أن يصنع دعاية أكثر إقناعا. وقد سار معظم المثقفين في يونان مع هذا النهج القومي المتمسك بالهوية بسعادة غامرة. واستطاعوا أن يروا مدى فاعليته حين أرادت جماهير الفلاحين الذين كانوا يشاهدون أوبرا «الفتاة ذات الشعر الأبيض» قتل الممثل الذي كان يقوم بدور الإقطاعي الشرير. ولكن بعد هزيمة اليابانيين، وبعد هروب الكومنتانج، نبذ العديد من الطرق اليونانية مع تقدم الجيش الأحمر المنتصر نحو مدن الصين، وتولى الحزب الشيوعي زمام حكم أمة ذات ثقافة رفيعة، وليس قاعدة لحرب عصابات في منطقة نائية. واتسعت الأجندة الثقافية للحزب، ليعيد إدخال بعض من الميول الكوزموبوليتانية التي نبذت في يونان، حتى إن رساما شيوعيا صاح في سرور وإثارة قبل أيام من تحرير بكين قائلا: أخيرا سوف نستطيع رسم لوحات بالزيت! (2) السبعة عشر عاما الأولى
كان العقد الأول من عمر الصين الثورية ناجحا إلى حد كبير؛ فقد استعادت الجمهورية الشعبية الجديدة النظام الاجتماعي بعد حرب أهلية مدمرة، وساهم الإصلاح الزراعي والبرامج الاقتصادية الجديدة في تحقيق نمو اقتصادي مذهل، وشجع النجاح العسكري في مواجهة الولايات المتحدة على خلق نظرة احترام جديدة لبكين، وأسعد انتشار التعليم العالي المثقفين المتلهفين لبناء صين أفضل، وانفتح الفن على كل من الإلهام الأجنبي والمحلي التقليدي.
جاءت أولى الدلالات المهمة لحالة التخبط بين قادة الحزب الشيوعي مع حملة المائة زهرة التي انطلقت بين عامي 1956-1957. فمع الثقة المفرطة التي انتابت ماو تسي تونج في أعقاب «تحول اشتراكي» سلس للحياة الاقتصادية في عام 1956، تواصل مع المثقفين خارج الحزب، مشجعا إياهم على التحدث دون خوف عن الشئون العامة، بل وانتقاد الحزب الشيوعي. تردد العديد من المثقفين في البداية، وفي النهاية استجابوا لنداء «دع ألف زهرة تزهر»، ليكشفوا عن كم من الاستياء والمرارة تجاوز توقعات الحزب. وفي تغيير سريع ومفاجئ للمسار، تخلى القادة عن ليبرالية المائة زهرة واتجهوا إلى حملة شرسة مضادة لليمينيين في عام 1957 صنف على أثرها مليون مثقف ك «عناصر يمينية»، وفقد كثيرون وظائفهم، وأرسل بعضهم إلى معسكرات الإصلاح الزراعي على مدى العقدين التاليين.
شجع إخماد أصوات الناقدين على ظهور «القفزة الكبرى إلى الأمام»، وهي محاولة ضخمة لكسر القيود على النمو الاقتصادي عن طريق تعبئة أعظم موارد الصين: قوتها العاملة. كانت القفزة الكبرى حالمة، ومثيرة، ومغلوطة؛ فقد دمجت الجمعيات التعاونية الزراعية المنشأة حديثا في كوميونات أكبر بهدف اكتساب قوة إنتاجية من خلال إعادة التنظيم والهيكلة، بما في ذلك التشارك في رعاية الأطفال والطهي. وبينما أحدثت القفزة الكبرى تغييرات مهمة في البنية التحتية في صورة مصانع زراعية، وطرق، وجسور جديدة، إلا أن غياب المردود الإداري أدى إلى زيادة أهداف الإنتاج غير الواقعية. فبسبب خوفهم من تصنيفهم ك «يمينيين»، كان صغار المسئولين يتسرعون في طمأنة رؤسائهم على النجاح في كل مجال. وكان الحزب يؤكد على الإسهامات التي يمكن أن يقدمها الهواة الملهمون سياسيا، مما شوه القيود التي عادة ما كان الخبراء المحترفون يفرضونها. كان هناك مشروعات ضخمة للأشغال العامة، بعضها كان ناجحا، والبعض الآخر كان عبارة عن حملات هوجاء في الأساس، مثل مصاهر «الأفنية الخلفية» للصلب رديئة التخطيط، أو حملة تدمير العصافير.
أسفرت القفزة الكبرى عن مجاعة هائلة بسبب انهيار الإنتاج الزراعي في العديد من الأقاليم. وبسبب العمل بأرقام متفائلة للإنتاج بلا أي سند لهذا التفاؤل، قامت الدولة بزيادة مخزونها من الحبوب، فيما قللت من الموارد المتاحة للإنتاج الزراعي. وقد أسفرت الأمراض وسوء التغذية عن ما يقرب من 20 إلى 30 مليون حالة وفاة فيما بين 1960-1961، ومن ثم اعتبرت تلك هي المجاعة الكبرى في القرن العشرين.
كان الحزب بطيئا في إدراك هذه الكارثة، وعندما أدرك ماو أن القفزة الكبرى لا تسير على نحو جيد، تنحى في ربيع 1959 عن رئاسة البلاد لصالح ليو شاوشي، أحد القادة المحنكين للتنظيم السري الشيوعي إبان الثورة. وفي وقت لاحق من ذلك العام، عاب العديد من كبار قادة الحزب على القفزة الكبرى سوء إدارتها، وطموحها المبالغ، وعدم تواصلها مع الناس. وكان قائد النقد المارشال بنج ديهواي وزير الدفاع وأحد الثوريين المخضرمين. وكان رد فعل ماو عنيفا وقاسيا. وكان في تطهير المارشال بنج تذكرة للجميع بمدى قوة القدسية التي صنعها الحزب حول ماو تسي تونج، ومدى صعوبة التضييق عليه.
تفاقمت حالة الطوارئ الاقتصادية بانهيار علاقات الصين مع الاتحاد السوفييتي؛ فبعد أن كانت يوما ما «الأخ الأكبر في الاشتراكية»، صار القادة السوفييت يتشككون في تأكيدات الصين بالتزامها مسارا تنمويا مستقلا. وتلاشى التعاون العسكري السابق في كوريا حين سعت الصين لطلب المساعدة لصنع قنبلة ذرية. وبالفعل أعدت قنبلة سوفييتية لشحنها إلى الصين، ولكنهم تراجعوا عن إرسالها لتخوف القادة السوفييت من صنع عدو محتمل. ومع تأزم الصراع، قام السوفييت في عام 1960 باستعادة ستمائة مستشار فني ليرحلوا ومعهم مخططات لمئات المشروعات الصناعية التي لم تكتمل بعد، تاركين الرفاق الصينيين في موقف عصيب.
ربما تكون التوترات مع الاتحاد السوفييتي قد قوت قبضة ماو في فترة شديدة الحساسية عن طريق إذكاء نيران القومية الصينية. وبينما احتفظ ماو بزعامة الحزب، خاضت الصين تجارب مستميتة لإصلاح الدمار الاقتصادي الذي خلفته القفزة الكبرى؛ فخفف القادة المحليون من تعصب قفزتهم الكبرى ضد الأسواق الريفية المدرة للربح من أجل تحفيز الإنتاج الغذائي. وتم التخفيف من الإشراف على الأنشطة الثقافية؛ إذ قام الحزب بتشجيع ورعاية المثقفين والخبراء الذين كانوا قد عاقبوهم مؤخرا. (3) إشعال لهيب الثورة من جديد
كان الموقف السياسي متوترا عندما كان الحزب يسعى لقيادة الأمة لتجاوز «السنوات الثلاث العجاف» 1959، و1960، و1961. احتفظ ماو تسي تونج بمنصبه كزعيم للحزب، وإن كانت الإدارة اليومية في يد الرئيس ليو شاوشي والأمين العام للحزب دنج شياو بينج. كان ليو ودنج يؤيدان تخفيف قبضة الحزب، والإصلاحات السوقية الخفيفة ، ووضع نظام ثقافي أكثر لينا، كل ذلك في إطار لينيني مألوف. لم يتقبل ماو وأتباعه مثل هذا التحرر بسهولة، وراحوا في المقابل يدعمون مزيدا من العمل السياسي للحيلولة دون تخلي الصين عن ثورتها.
من المبادئ الأساسية للسياسة الصينية أن تحافظ النخبة السياسية على مظهر من الوحدة والاتفاق، حتى في حالات الخلاف الشديد، ومن ثم كانت التوترات بشأن القرارات السياسية خفية. والحق أن مجموعة الخيارات السياسية التي كانت قيد التجربة لم يكن ينظر إليها باعتبارها «خطين» سياسيين متعارضين بمعنى الكلمة، إلا بأثر رجعي بعدما بدأت الثورة الثقافية. فعندما بدأت الثورة الثقافية في عام 1966، انتقد الراديكاليون «السنوات السبع عشرة» منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية في عام 1949، وكان هدفهم تقديم مبررات وجيهة لانحراف حاد عن فترة وصفوها خطأ بأنها فترة وحدة واتفاق.
كان الفساد الريفي أحد مجالات النضال؛ فقد انطلقت «حملة للتعليم الاشتراكي» في عام 1962، سعت لتعزيز إخماد روح الثورة داخل الحزب بالتأكيد على النقاء الأيديولوجي وإعادة الصراعات الطبقية التي أتت بالشيوعيين إلى سدة الحكم للأذهان. وقد أثار الخلاف حول الأساليب الماوية للتعامل مع القيادة المحلية في الريف مقاومة من ليو شاوشي، ودنج شياو بينج، وغيرهما من قادة الصف الأول.
وليأسه من قدرة الحملات الإدارية على زعزعة البيروقراطية، وجه ماو زملاءه في عام 1962 إلى ضرورة «ألا ينسوا الصراع الطبقي». وكان هذا يعني الحديث عنه «في كل عام، وكل شهر، وكل يوم، في المؤتمرات، واجتماعات الحزب، والجلسات مكتملة الأعضاء، وفي كل وأي اجتماع.» كان ماو يأمل في تجديد شباب الثورة الصينية بمطالبة الشعب بالإخلاص لجذوره التاريخية بالإطاحة بالرأسماليين وملاك الأراضي، وحماية المكانة الجديدة التي اكتسبها العمال والفلاحين.
ضغط ماو من أجل ثورة داخل الثورة؛ فقد كان في رأي الزعيم أن الطبقات الحاكمة القديمة قد أطيح بها بعد فترة قصيرة من تأسيس الجمهورية الشعبية في عام 1949، إلا أن تأثيرها لا يزال حيا في المعتقدات والسلوكيات اليومية للشعب. لقد دمرت الثورة القواعد المادية للنفوذ الإقطاعي والرأسمالي، ولكن أيديولوجياتها كانت راسخة داخل مؤسسات الصين الجديدة، خاصة التعليم ، والفنون، والثقافة الشعبية . وقد ميز ماو بين نوعين من التأثير المعادي للثورة. وكان الإقطاع، والذي هو نتاج طبقة ملاك الأراضي القديمة، في الغالب في صراع مع الأيديولوجية البرجوازية التي تبناها الرأسماليون الصينيون الذين تأثروا بشدة بعلاقاتهم الأجنبية. ولكن بفعل الهزيمة، اتحدت القوتان الاجتماعيتان المهزومتان معا لإرباك وتضليل الشيوعيين، مما أعاق طموحاتهم المشروعة وأثناهم عن أهدافهم.
وهكذا لم يكن لزاما أن يكون الشخص حاملا فعليا لملكية ما لكي يحمل معتقدات رأسمالية أو إقطاعية. والحق أن مصطلح «أتباع الطريق الرأسمالي» قد أصبح من أكثر المصطلحات المسيئة شيوعا، وكان يسري على الشيوعيين المخضرمين الذين انحرفوا عن المسار الماوي. كان أسلوب ماو غير مادي بشكل مثير للدهشة بالنسبة لشخص عاش عمره ماركسيا، ولكنه كان يجسد جهوده في التعامل مع الآليات الجديدة للصين الاشتراكية، وقدم أساسا فكريا لحركة تطهير ضخمة لأعدائه في الحزب.
بعد الثورة، تأرجح الحزب بين فترات النزعة اليسارية، عندما كانت الفضائل الأخلاقية للعمال والفلاحين والجنود هي العليا، وبين المراحل المحافظة عندما كان مفهوم «حشود الشعب الكادح» مفهوما أكثر شمولية؛ إذ امتد ليضم المثقفين، وموظفي المكاتب، وأصحاب المحال، وغيرهم من المواطنين «البرجوازيين التافهين». وقد كان في نداء ماو لتذكر الصراع الطبقي دلالة على يساريته في وقت كان أعداء حزبه يتساهلون مع أو يشجعون سياسات اقتصادية أكثر انتقائية بكثير. كانت الفكرة الماوية بشأن حزب للعمال والفلاحين والجنود يقابلها فكرة أخرى تتمثل في حزب يصل أيضا للمثقفين، والخبراء التقنيين، والقادة الدينيين، والصينيين في الخارج، والرأسماليين السابقين.
لم يتم احتواء هذه التوترات إلا بالكاد في السنوات الأربع التي مهدت الطريق للثورة الثقافية. فقد كرم ماو تسي تونج من الجميع بالاسم، ولكنه كان يشكو من أن الأمين العام للحزب دنج شياو بينج يعامله وكأنه جثة في جنازة؛ إذ كان يحترم شخصه ولكن يتجاهل آراءه. بينما كان هناك آخرون أكثر دعما وتأييدا، خاصة وزير الدفاع الجديد المارشال لين بياو. حل لين، الذي كان أحد أبطال الثورة، محل معارض ماو، المارشال بنج ديهواي، وقاد برنامجا لتمديد أهمية الجيش وتأثيره السياسي. وعندما قامت الصين بتفجير قنبلة نووية في عام 1964، ازدادت القوات المسلحة هيبة واعتبارا. لقد شكل لين الجيش كمعقل للسياسات اليسارية؛ فألغى الميول نحو إضفاء صفة مهنية على فرق تدريب الضباط عن طريق إلغاء ألقاب الرتب العسكرية وشاراتها. كان الجيش الصيني مكونا من مجندين جدد من الفلاحين، وكانت وزارة الدفاع تعتبر نفسها إلى حد ما الراعي السياسي، بل وصوت الملايين من الفلاحين. كذلك مال ماو نحو مجموعة من المثقفين الراديكاليين، وإلى زوجته جيانج تشينج بشكل متزايد.
أثار زواج جيانج تشينج من ماو في عام 1938 في يونان جدلا بين كبار قادة الحزب؛ فقد كان الكثيرون لا يزالون مغرمين بزوجة ماو السابقة، ولم يكن لديهم ثقة في الممثلة القادمة من شنغهاي التي أغوت قائدهم، فأجبروا الزوجين الجديدين على الموافقة على أن تبتعد جيانج تشينج عن القيادة السياسية. وقبلت جيانج تشينج ذلك على مضض، لتتولى مهام تافهة في المنظمات الثقافية في الخمسينيات. ولكن مع بداية الستينيات تملكها الضجر والاستياء، وصارت حليفا طوعيا لزوجها الذي كانت حدة غضبه في تزايد. ومع تصاعد التوترات في عام 1966، اجتمعت مع لين بياو لتنظيم مؤتمر فبراير عن الفنون داخل جيش التحرير الشعبي، والذي كان إشارة إلى دورها العام الجديد، وتأكيدا على أن الجيش يقف في صف ماو.
ومنذ عام 1962 وحتى عام 1966، نظم ماو وأتباعه العديد من البرامج النموذجية التي أصبحت تعرف فيما بعد بالثورة الثقافية، وتم الإعداد لكتاب ماو «الكتاب الأحمر الصغير» («مقتطفات من أعمال ماو تسي تونج») بواسطة الجيش في عام 1963 لنشر القيم الراديكالية بين الجنود من خلال دراسة سياسية إجبارية، وتم البدء في إعادة توطين شباب المدن في الريف في إطار برنامج جاد تم تعديله لتخليص المدن من الحرس الأحمر المزعج بحلول عام 1968. وبدأ التقديس الماوي للجندي المثالي لي فينج في عام 1963. وقدمت وحدة إنتاج دازهاي، وهو النموذج الماوي للمنظمة الريفية، أوراق اعتماده السياسية في عام 1964، وكذلك فعل حقل داتشينج النفطي، الذي يعتبر النموذج المعادل في قطاع الصناعة. وفي عام 1964 تم إطلاق حملة «الجبهة الثالثة» للتنمية الاقتصادية، والتي تم على أثرها إنشاء صناعات جديدة في مناطق داخلية آمنة، وإن كان ذلك قد تم في سرية.
ليس المقصود بذلك الإيحاء بأن البداية الحقيقية للثورة الثقافية كانت قبل سنوات عديدة من تاريخها الذي نعرفه، ولكن ماو وأنصاره كان لديهم بالفعل برنامج متكامل للصين. وكان مما ساهم بشكل جزئي في تأجيج الاضطرابات السياسية بعد عام 1966 إخفاقاتهم في تنفيذ هذه المبادرات اليسارية في ظل مقاومة نخبة بيروقراطية محترفة، كانت منشغلة بتطوير نظام أكثر استقرارا وروتينية. وكان مما أضافه ماو في عام 1966 لإشعال الثورة الثقافية التعبئة الضخمة للجماعات التي لم يكن لها نشاط في السياسة الصينية فيما سبق.
ولشعور ماو بأن خصومه هم من يهيمنون على تنظيم الحزب، وخوفه من منافسيه، راح يبحث عن حلفاء خارج نطاق الحزب. ومثلما قام بتجنيد قادة جدد من أجل قضيته، اتجه إلى ناشطين غير حزبيين، أولئك «المتمردين» الذين لبوا نداءه من أجل «ثورة بروليتارية ثقافية عظيمة». وقد لمست مناشدات ماو وترا لدى الكثيرين ممن كانوا يرون أن الحياة في الصين غير عادلة، وأنها لم ترق لمثل الثورة.
التقى ماو تسي تونج بالروائي الزائر ووزير الثقافة الفرنسي أندريه مارلو في عام 1965، وقد أخبره ماو بأن «الفكر، والثقافة، والعادات، التي أوصلت الصين لما وجدناها عليه لا بد أن تختفي، وأن فكر، وعادات، وثقافة الصين البروليتارية، التي لم توجد بعد، لا بد أن تظهر.» كذلك كان ماو يعتقد أن وصول الشيوعية قضية خطيرة، وليس مسعى نظريا مجردا. وقد انتقد رئيس الوزراء السوفييتي أندريه كوسيجين في تهكم لقوله إن ««الشيوعية تعني ارتفاع معايير المعيشة» بالطبع! والسباحة طريقة لارتداء سروال السباحة!» (4) الثورة الثقافية من الصعود إلى السقوط، دراما من فصلين
على الرغم من أن الأحد عشر عاما مدة الثورة الثقافية تعامل في العادة كحقبة واحدة مترابطة، فإن بوسعنا أن نفهمها بشكل أفضل إذا ما قسمت إلى مرحلتين شديدتي الاختلاف. اندلعت الحركة بانفجار مفاجئ وحاد للراديكالية من جانب الحرس الأحمر، والعمال المحبطين، وصغار المسئولين الطموحين، فيما بين عامي 1966 و1967. وقد نجحت هذه المرحلة من التعبئة الحاشدة للثورة الثقافية في الإطاحة بخصوم ماو من الحكم. أما المرحلة الثانية للثورة الثقافية، فقد استمرت من عام 1968 حتى عام 1976، وعززت نظاما ماويا جديدا من خلال اللجوء للمفاوضات والقوة لإخضاع الجماعات المتمردة للسيطرة. وهكذا أعقب الثورة حركة قمع مع قيام حزب أعيد تشكيله من جديد بقمع متمردي 1966. وقد توقفت هذه الفترة الثانية في عام 1971 بعد الوفاة الشنيعة للين بياو الذي كان مرشحا لخلافة ماو. فقد أثارت هذه الفضيحة معظم الصينيين، مما أدى بالحركة إلى الاستمرار لفترة طويلة تحت قيادة زعيمه المريض ماو الذي كان يشرف من بعيد وبأسلوب عقيم على الانشقاق الحزبي حتى وفاته في عام 1976. (4-1) الحماس الراديكالي: 1966-1967
اندلعت الثورة الثقافية عندما شعر الزعيم ماو بالإقصاء من جانب الرفاق الأكثر محافظة، وحارب لفرض نفوذه من جديد. بدأت الثورة الثقافية العظمى رسميا في مايو من عام 1966، وكانت مختلفة عن جميع الحملات التي أطلقت خلال السبعة عشر عاما الماضية؛ لأنها كانت موجهة ضد الحزب الشيوعي الحاكم نفسه.
وبينما كان ماو يعد العدة للثورة الثقافية، وجد بكين تحت سيطرة خصومه، فاتجه لثاني كبرى المدن الصينية، وهي مدينة شنغهاي، بحثا عن الدعم السياسي، وهناك وجد الكتاب الماويون منفذا لمقالاتهم التي لم يكن أحد في العاصمة ليقدم على نشرها، وكرس العديد من الشخصيات ذات الموهبة والطموح أنفسهم لنصرة القضية الماوية.
وبناء على طلب من ماو، قام الكاتب ياو وين يوان من شنغهاي بكتابة نقد لمسرحية «إقصاء هاي روي من السلطة» التي عرضت في عام 1961. وعلى الرغم من أن أحداث هذه المسرحية وقعت في عهد أسرة مينج، فقد كان من الممكن قراءتها بشكل مجازي كدفاع عن المارشال بنج ديهواي لتجرئه على نقد ماو تسي تونج بسبب مشروع القفزة الكبرى. لم يكن كاتب المسرحية، ووهان، حديث العهد بالسياسة، إذ كان نائبا لعمدة بكين. كانت خطة ماو هي عزل قادة الحزب المحافظين بمهاجمة التابعين لهم، ومن ثم، عندما عجز رئيس الحزب الشيوعي في بكين، بنج تسين، عن إيقاف نقد ووهان وحجب هذا العضو المنتمي لبطانته السياسية، أقصي هو نفسه من السلطة. وفي ظل الفوضى التي اجتاحت مكتب الحزب ببكين، وجد ماو سهولة أكبر في مهاجمة ليو شاوشي ودنج شياو بينج.
وبينما كان ماو يكافح من أجل تحسين أوضاع حزبه، تغلب على المقاومة من خلال الاستعانة بحلفاء جدد من خارج المنظومة الحزبية الطبيعية. وعن طريق توسيع نطاق المشاركة السياسية، اتجه ماو بشكل خاص إلى الطلاب، الذين استجابوا بتكوين منظمات «الحرس الأحمر» العشوائية، والتي كانت متلهفة لمواجهة المعلمين، وقادة الحزب المحليين، وأي شخص تقريبا في موقع سلطة. ففي ظل مجتمع مستبد تقل فيه المناسبات التي تتيح التعبير عن الرأي صراحة بلا خوف، شجع ماو المراهقين على مهاجمة أعدائه. وسرعان ما نظم الحرس الأحمر لقاءات جماهيرية، ونشروا صحفا، وقاموا بتعليق «الملصقات ذات الأحرف الكبيرة» في الأماكن العامة، وهاجموا منازل الأعداء الخياليين، بل وأقاموا سجونا للمسئولين المخلوعين. ولم تكن حداثة سنهم وافتقادهم للمسئوليات الاجتماعية وقودا لحراكهم النضالي فحسب، بل شجعا كذلك الانقسامات الداخلية والسلوك غير المسئول.
ومع انهيار التنظيم القائم للحزب، كون الماويون مجموعة مركزية جديدة للثورة الثقافية مخصصة لخدمة أغراضها. في البداية واجهت المجموعة صعوبة في تأسيس سلطتها خارج نطاق بكين. لقد أطاحت «عاصفة يناير» في شنغهاي بالتنظيم المحلي القديم للحزب، إلا أن الراديكاليين وجدوا صعوبة في تعميم هذا النموذج عبر جميع أنحاء الأمة. وراحت منظمات الحرس الأحمر المتناحرة، والتي غالبا ما كانت ترتبط بداعمين مختلفين في الحكومة والإدارة البيروقراطية للحزب، تحارب إحداها الأخرى. حتى مؤيدو ماو صدموا من العنف والفوضى السياسية السائدة. وكان في الإذلال العلني لمن كانوا يوما مسئولين كبارا لهم احترامهم واعتبارهم في لقاءات النقد والهجوم الجماهيرية استفزاز للكثيرين ممن تحالفوا مع الزعيم. وعبر بعضهم عن رفضهم لذلك في سلسلة من اللقاءات في بداية عام 1967، والتي لقبت ب «تيار فبراير المعادي» على سبيل الانتقاد. ولكنهم أوصلوا فكرتهم. تردد الجيش في التدخل في النزاعات القائمة بين الجماعات المتنافسة بزعم الحفاظ على النهج الثوري الحقيقي، ولكن لم يكن هناك مناص من إدخاله في الصراع. فمع بداية عام 1968، تدخل الجيش لاستعادة النظام بمعدل متزايد، خاصة في المناطق التي شنت فيها فصائل الحرس الأحمر حربا أهلية محلية. (4-2) إقامة النظام الثوري: 1968-1976
بدأت التغطية على الجانب الوحشي للسياسة الجماهيرية بشكل جاد في عام 1968. في ذلك الحين، كانت حركة تطهير المسئولين المحافظين مثل الرئيس ليو شاوشي وغيره من «أتباع الطريق الرأسمالي» قد انتهت. ولكن استمرار الصراعات بين منظمات الحرس الأحمر والمتمردين ظل فوضويا، مما عمل على تعطيل الاقتصاد. كذلك انتبه الماويون إلى الضغوط الخارجية؛ فعلى الجبهة الشمالية، ازدادت حدة التوترات العسكرية مع الاتحاد السوفييتي، فيما كانت الولايات المتحدة، على الجبهة الجنوبية، تصعد هجومها على فيتنام.
اتخذ الماويون المنتصرون عدة إجراءات لاستعادة النظام، كان أولها إجبار المنظمات الراديكالية المتنافسة على التوحد. كان التفاوض من أجل إعادة تشكيل السلطة المحلية معقدا، وكان الدور السياسي الجديد للجيش - الماويين المسلحين - في غاية الأهمية؛ فقد قام الجيش بتدعيم «اللجان الثورية» الجديدة، والهيئات الإدارية المحلية التي اعتمدت على «تحالف ثلاثي» بين الناشطين الثوريين، والبيروقراطيين اليساريين، والقادة العسكريين. وقام القادة العسكريون بدور الوسيط في التدابير المحلية، في كل الأقاليم، إقليم بإقليم، وعادة ما كانوا يتولون السلطة العظمى. تمثل الإجراء الثاني في إرسال الحرس الأحمر إلى الريف للاشتغال بالزراعة كمشاركين في حركة «الصعود إلى الجبال والنزول إلى القرى». وقد أدى توسيع هذا البرنامج إلى إخلاء الساحة السياسية بإجبار الحرس الأحمر على تقوية أنفسهم من خلال الحياة والعمل مع الناشطين القرويين. أما الإجراء الثالث، فتمثل في إطلاق حملة سرية ل «تطهير الرتب العليا»، قامت بمراجعة الملفات الفردية والتخلص من كثير ممن لم يكن مرغوبا فيهم في القيادة الماوية. وقد كانت حركات التطهير تلك هي الجانب الأعنف للثورة الثقافية، ولكنها كانت أقل وضوحا وعلانية بكثير من المؤتمرات الشعبية الصاخبة للحرس الأحمر في أوج ازدهاره.
وبحلول مايو من عام 1968، ومع إرسال الحرس الأحمر إلى الريف، انتهت حركة الثورة الثقافية للتعبئة الجماهيرية للمعارضة الاجتماعية. وقد أشار ماو إلى تغير موقفه ضد الهجمات المتواصلة على السلطة بقوله: «لا بد أن نؤمن بأن أكثر من 90 بالمائة من كوادرنا جيدون أو جيدون نسبيا، وغالبية هؤلاء الذين ارتكبوا أخطاء يمكن تقويمهم.»
وقد كان المؤتمر التاسع للحزب الشيوعي في أبريل من عام 1969 إيذانا بإعادة تأسيس نوع من الاستتباب السياسي. ومهدت حركة تطهير القادة المحافظين الطريق لترقية الماويين المخلصين إلى المواقع العليا بالحزب. وقد تم إقصاء حوالي 70 بالمائة من أعضاء اللجنة المركزية الثامنة الذين نجوا من التطهير من اللجنة التاسعة، والتي تم اختيارها من جانب مؤتمر الحزب الجديد. وفقد حوالي خمسة وعشرين من أصل تسعة وعشرين سكرتيرا محليا أول لأفرع الحزب الإقليمية وظائفهم. وحظيت جيانج تشينج وغيرها من المدنيين ممن كونوا مجموعة الثورة الثقافية بمكانة جديدة أسمى. وكذلك الحال بالنسبة لكبار قادة جيش التحرير الشعبي، خاصة في أعقاب المعركة الحدودية مع الاتحاد السوفييتي على جزيرة نهرية متنازع عليها في مارس من عام 1969. وجاء على رأس هؤلاء وزير الدفاع لين بياو الذي سمي نائبا لزعيم الحزب الشيوعي، وكان يعامل كخليفة ماو المنتظر باعتباره أقرب رفاق السلاح له.
جمع بين السنوات المتبقية من عمر الحركة خطاب بلاغي مشترك وإيماءات مألوفة، غير أنها كانت مختلفة من حيث النوعية؛ إذ كان الماويون منشغلين بتعزيز سلطتهم بدلا من الفوز بها، وكانت السياسات على المستوى المركزي مائعة وقابلة للتغيير. وعلى الرغم من أن الحزب كان يشجب الحزبية، كانت هناك انقسامات واضحة أحدثت شقاقا بين الراديكاليين المدنيين، والمسئولين البراجماتيين تحت قيادة رئيس الوزراء شو إن لاي، والقادة العسكريين (بانقساماتهم الداخلية). وكان الجميع يتنافسون من أجل لفت انتباه الزعيم ماو، الذي كان بمثابة قوة توازن رائعة بين الأصوات المتنافسة.
بدت الصين أكثر انسجاما من الخارج عما كانت تبدو عليه داخل المقرات الرئيسية للحزب في زونجنانهاي. وبعد خمس سنوات من الاضطرابات السياسية، استيقظت الأمة على صدمة جديدة، وهى الحادث البشع الذي أودى بحياة لين بياو في سبتمبر من عام 1971. كان لين (أو مرءوسيه على الأرجح) قد خطط لانقلاب عسكري فاشل ضد ماو تسي تونج. كثير من تفاصيل القصة الرسمية للحدث تتجاوز حد التصديق، ولكن المحصلة كانت حادث تحطم طائرة مشئوما في منغوليا ، عندما كان لين وزوجته وابنه يحاولون الفرار من الصين. وتمثلت العواقب السياسية للحادث في حركة تطهير لكبار مساعدي لين بياو، وأزمة ثقة عامة، وعمليات إعادة تأهيل لبعض المسئولين الذين تم إقصاؤهم خلال المعارك الأولى للثورة الثقافية.
أبرزت السنوات الأخيرة للثورة الثقافية مؤامرة حزبية في الداخل؛ إذ تنافست جماعات للفوز بالحظوة والمنصب في بلاط ماو تسي تونج الذي سقط فريسة للمرض. في المقابل باتت السياسة الجماهيرية أكثر هدوءا عما كانت عليه منذ عام 1966؛ إذ تراجع الأشخاص العاديون عن الأشكال المفرطة للمشاركة السياسية. لقد بدت الصين أكثر طبيعية على السطح، بينما بدت من الداخل أكثر غرابة.
أدى سقوط قادة الجيش اليساريين بعد قضية لين بياو إلى تدعيم مجموعتين؛ الأولى هي الناشطون المدنيون الذين ارتبطوا بماو من خلال زوجته جيانج تشينج. أما المجموعة الثانية، فتألفت من مسئولين أكثر اعتدالا بقيادة رئيس الوزراء شو إن لاي. وفي المؤتمر العام العاشر للحزب الشيوعي في عام 1973، كان هناك أربعون من أعضاء اللجنة المركزية من ضحايا الثورة الثقافية ممن خضعوا لإعادة التأهيل، وكان من ضمنهم دنج شياو بينج، الذي كان يوما ما محل انتقاد شديد لكونه «قد اتخذ طريق الرأسمالية وهو ثاني رجل في السلطة.» وكان ليو شاوشي، الملقب ب «خروشوف الصين»، قد توفي تحت ظروف بائسة في عام 1969. لم يكن ماو ينظر إلى دنج نظرة شديدة الصرامة، مما حال دون فصله من الحزب مع ليو. وبعد النفي الداخلي في إقليم جوانجشي، استدعي دنج إلى بكين كنائب لرئيس الوزراء في عام 1973، ليعمل مع شو على تطوير برنامج للتحديث. وفي عام 1975، أعيد دنج إلى دائرة السلطة الداخلية؛ أي اللجنة الدائمة للمكتب السياسي للحزب الشيوعي، واضعا نصب عينيه بالطبع صحة شو إن لاي المتدهورة والحاجة لبديل محنك لخلافته.
وعلى مدار فترة بدايات السبعينيات، تكشفت خصومات النخبة من خلال حملات سياسية عامة، والتي غالبا ما كانت عبارة عن قضايا موجهة ومبهمة حلت محل الصراعات القائمة بين كبار القادة. ما المعنى الحقيقي وراء «حملة لانتقاد لين بياو وكونفوشيوس»؟ لقد أصبح لين بياو الشخص الشرير، والصينيون التقدميون كانوا يجدون سعادة في صب اللعنات على كونفوشيوس باعتباره رمزا للمجتمع القديم منذ حركة الرابع من مايو. ولكن لم الربط بين الاثنين؟ أي طريقة سرية تلك التي كانت بها هذه الحملة ضربة موجهة من جيانج تشينج ضد شو إن لاي؟ وفي أعقاب مؤامرة لين بياو، لم تكن مثل هذه الظلامية تساهم كثيرا في بث الثقة.
في مقابل هذه الحملات السياسية الغامضة المدعومة من اليسار جاءت الدعوة الحاسمة لرئيس الوزراء شو إن لاي ل «التحديثات الأربعة» في مجالات الزراعة، والصناعة، والعلوم، والتكنولوجيا، والدفاع الوطني. كانت فصاحته البلاغية متماشية مع أجواء الثورة الثقافية، ولكن مضمون الدعوة أظهر النزعة العملية الاقتصادية لدنج شياو بينج والكوادر القديمة الأخرى التي أعيد تأهيلها.
كان شو إن لاي يشرف على الإدارة اليومية على مدار فترة الثورة الثقافية، ولا يزال شخصا مثيرا للجدل. هل كان الوسيط الكبير الذي أخضع حمية ماو لقدر من السيطرة؟ أم كان الانتهازي الكبير، وأحد متملقي ماو الذي كان يحمي بعض الأتباع بينما يضحي بآخرين عندما يجد في ذلك منفعة له؟
كان جنون الارتياب السياسي على أشده، وأدت صحة ماو المتدهورة (إذ كان يعاني من الشلل الرعاش ومرض القلب) لعزل الشخصية المحورية الوحيدة التي كانت قادرة على الفصل بين الفصائل المتصارعة. فقد توفي شو إن لاي في يناير من عام 1976؛ وقد مكنت مظاهرات أبريل التي اندلعت في ذكراه في ميدان تيانامين ببكين، الراديكاليين من إقناع ماو بالتخلص من دنج شياو بينج للمرة الثانية. وتمت تسمية وزير الأمن العام، هوا جوفينج، الذي صعد نجمه مع الثورة الثقافية، رئيسا للوزراء بالنيابة والنائب الأول لزعيم الحزب. وبحلول شهر يونيو، كان ماو قد وصل إلى حالة من الضعف عجز معها عن استقبال الزوار الأجانب، وأصبح فهم صوته وخط يده ضربا من المشقة. وعندما أودى زلزال تانجشان بحياة ربع مليون من سكان تلك المدينة الواقعة شمال الصين في يوليو، بدأ العرافون في التساؤل عن إمكانية فقدان «مفوض السماء» التقليدي.
عند وفاة ماو في التاسع من سبتمبر عام 1976، اندلعت عملية تصفية حسابات سريعة بين الفصائل المتصارعة، فأصبح هوا جوفينج رئيسا للحزب، وقامت مجموعة من أنصار ماو باعتقال مجموعة أخرى، وتم القبض على الراديكاليين المدنيين الأساسيين - وهم أرملة ماو، جيانج تشينج، والناقد الأدبي ياو ون يوان، ورئيس شنغهاي ونائب رئيس الوزراء تشانج تشون شياو، ونائب رئيس الحزب وانج هونج ون - في انقلاب نظمه قادة الجيش والحارس الخاص لماو. اتهم الراديكاليون، والذين كانوا قد لقبوا لتوهم ب «عصابة الأربعة»، في البداية بهدم الثورة الثقافية، ولكن الصين في الواقع كانت قد بدأت عملية طويلة من التبرؤ من حركة ماو الجماهيرية الأخيرة. (5) التفسيرات
توقع ماو أن تستمر الثورة الثقافية لمدة عام. ويجادل الكثيرون ببعض الفصاحة والبلاغة بأن الثورة الثقافية قد انتهت في الواقع مع قمع حركة الحرس الأحمر النضالية في عام 1968، غير أن ماو وحلفاءه استمروا في الإشارة إلى الثورة الثقافية بعد انتهاء التعبئة الجماهيرية، ولم يعلن الحزب انتهاء الحركة إلا في عام 1977. وتاريخ نهاية الثورة له أهميته؛ فإذا حصرنا الثورة الثقافية فيما بين عامي 1966 و1968، سوف تبدو الكثير من الأحداث التي وقعت خلال الثمانية أعوام التالية (من الانفتاح على الغرب، وانتشار التعليم، واستثمارات البنية التحتية) أقرب لأن تكون مؤشرات لفترة الإصلاح التي لم تبدأ رسميا حتى عام 1978. وإذا تعاملنا مع الفترة ما بين 1966-1976 كوحدة واحدة، فسوف يتم التعتيم على الفرق بين التعبئة الجماهيرية الراديكالية وإعادة بناء سيطرة الحزب. وهذا الكتاب يحترم وحدة الخطاب البلاغي لعقد الثورة الثقافية، ولكن مع التنبيه بأنه في السياسة، والثقافة، والاقتصاد، والعلاقات الخارجية، لا بد للمرء أن يدرك الفوارق الحادة بين بدايتها الراديكالية وبين فترة توطيدها وتعزيزها التي تمتد لفترة أطول.
بدأ تحليل ونقد الثورة الثقافية قبل انتهاء الحركة بفترة طويلة. في البداية، قام الراديكاليون، الذين كانوا يعتقدون أن الحركة لم تحقق نجاحا كافيا، بالضغط لتوسيع نطاق الهجوم على أهل السلطة. وعندما أعيد تأهيل دنج شياو بينج في بداية السبعينيات، قام بمراجعة سياسات الثورة الثقافية بهدف التخفيف منها. ولكن خلال حياة ماو، كانت التحليلات اليمينية واليسارية على حد سواء تصاغ بلغة الزعيم بشكل دفاعي.
وقد ظهرت ثلاثة تفسيرات عامة لقضايا الثورة الثقافية: (1) الصراع بين النخبة السياسية، (2) التوترات داخل المجتمع الصيني، (3) موقع الصين الدولي.
من بين المناهج المعالجة لصراع النخبة، لاقت الرؤى التي تمحورت حول ماو رواجا لدى العامة، فيما حظيت برواج أقل لدى الباحثين. فبينما كانت الثورة الثقافية في أوج انطلاقها، صور ماو للحشود الثورية كمحارب رائع من قبل كثيرين. وبعد وفاته، ولا سيما خارج حدود الصين، كان غالبا ما يصور ماو كوحش لديه عزم متهور على غرس بذور الفوضى من أجل تطلعاته النرجسية. وقد استغل أحد الفنانين الصينيين المنفيين هذه الروح عن طريق رسم لوحة زيتية ضخمة على القماش تظهر ماو وهو يستقبل بالترحاب في الجحيم من زمرة من الطغاة، من بينهم هتلر، وستالين، وتشين شي هوانج دي، موحد الصين الأول الأسطوري المتوحش.
كان لماو جوانب بطولية وشيطانية على حد سواء، ولا بد أن يشغل موضعا مهما في أي تفسير. ولكن بعض الرؤى الشائعة تجسد ماو وهو يشق طريقه بالقوة على حساب مجتمع بأكمله. وهذه الرؤى تشبه تلك التي صاغها الرايخ الثالث والتي تمحورت حول هتلر ولم تترك سوى مساحة ضئيلة للشعب الألماني نفسه لكي يكون شعبا إمبرياليا ومعاديا للسامية. والرؤى التي تجسد ماو كوحش ملائمة سياسيا أيضا للنخب الصينية الحالية التي تتجنب النظر في ماضي الصين القريب نظرة عميقة، إلى جانب أنها ترضي الجماهير الغربية، التي غالبا ما تهوى تخيل الشعب الصيني كضحايا. ولكن هذه المناهج ترتكز على معرفة رديئة؛ إذ تتجاهل العلاقات المعقدة في سبيل رسالة بسيطة.
لم يكن ماو، شأنه شأن الكثير من ساسة الصف الأول في أية دولة، شخصية متزنة؛ فقد كان مضطرا للتواجد في قلب الأشياء، وجعلته الثورة الثقافية شخصية لا غنى عنها على المستوى السياسي. ومن الحماقة التغاضي عن دوره المحوري، أو تجاهل سماته الشخصية، مثل افتقاده لعلاقات الصداقة مع القادة الآخرين أو الاعتلالات الجسدية الخطيرة التي أصيب بها قبل وفاته. غير أن التصريح ببساطة بأن الثورة الثقافية حدثت لأن ماو كان شخصية شريرة يعفينا من أية مسئولية عن التفكير في العوامل الأخرى.
بعض الدراسات الأكثر دقة وتفصيلا تتجاوز ماو لتشمل العلاقات ما بين كبار قادة الصين. بعض هذه الدراسات يبحث في التحالفات الحزبية التي ظلت قائمة لفترة طويلة، مثل التوترات التي امتدت ما بين الثلاثينيات إلى الأربعينيات من القرن العشرين بين الشيوعيين الذين تعاونوا معا في العاصمة الحمراء يونان وهؤلاء الذين عملوا سرا، خلف خطوط العدو. والبعض الآخر يبحث في العلاقات الشخصية، مثل نمط التفاعلات بين القيادة العسكرية العليا والقادة المدنيين للثورة الثقافية. وهذا النوع من التحليل يتفادى اختزال الثورة الثقافية إلى هجوم قاده ماو ضد الجميع، ويعترف بدور الثأر والانتقام، ولكنه يعترف أيضا بالمثالية، والنضال، والمناقشات السياسية والثقافية الجادة. ويفرض الخطاب البلاغي للثورة الثقافية أسئلة وجودية بشكل كاسح. ما الذي يجب أن تصبح عليه الثورة الثقافية؟ متى وكيف تنتهي أية ثورة؟ كذلك كان من شأن الصراعات، على المستوى العادي، أن تثير العداوات القديمة بين الرفاق الثوريين، والأحقاد والضغائن الشخصية التي تراكمت عبر مشوار الحياة المهنية الطويلة، والذكريات العصيبة لأخطاء الماضي.
ثمة نوع آخر من التفسير يركز على عوامل اجتماعية أو ثقافية أعم. تفترض هذه المناهج أن السياسة الصينية تشترك في أمور كثيرة مع السياسة في أي مكان آخر: إذ يصبح الأشخاص على وعي بالمعاناة والظلم، ويبحثون عن فرص للتنفيس عن غضبهم، ويعقدون صفقات سياسية جديدة بمساعدة الوسطاء السياسيين في الغالب. كذلك يتأمل بعض المحللين في مسألة المستفيدين من الدعوة للثورة الثقافية. على سبيل المثال، عند حشد الشباب للانضمام لحركة الحرس الأحمر، استندت دعوات المثاليين إلى اعتراف غير معلن بأن المجتمع الصيني به عدد ضخم من الشباب يتعذر معه تحقيق الأحلام المهنية لكل شخص. فقد كانت الزيادة الهائلة في عدد السكان التي تولدت من حالة السلام والرخاء التي سادت المجتمع تحمل بين طياتها عواقب سياسية. ونظر بعض الباحثين إلى تأثير الاختيارات السياسية السابقة، مثل اعتماد الحزب على الحملات السياسية والرقابة المحكمة على أعدائه الخياليين، فيما ركز آخرون على التأثير المتواصل للأوتوقراطية التقليدية، وغالبا ما يكتنف ذلك نزعة لينينية. فمن السهل أن ترى في طقوس وسلوكيات الثورة الثقافية تأثير التقاليد الصينية الهرمية. ومثل هذه الاعتبارات الثقافية تسلط الضوء على الشكل الذي تكشفت به الأحداث، ولكنها لا تفيد كثيرا في تفسير سبب وقوعها.
ثمة نوع مختلف من المجادلات يبحث في القوى العالمية. على سبيل المثال، عندما بدأت الثورة الثقافية، قام الكثير من المحللين الغربيين بتفسيرها كرد فعل على تصاعد الهجوم الأمريكي على فيتنام، وإن كان عمق الحركة سرعان ما جعل ذلك يبدو تفسيرا خاطئا. غير أنه فيما يبدو أن السياق الأوسع للحرب الباردة، مقترنا بالعزلة الدولية التي فرضت على الصين، قد أضاف عبئا على النظام السياسي للصين. وقد ساهم الشقاق مع الاتحاد السوفييتي في هذه العزلة. ورأى البعض أن دراسة ماو للطرائق البيروقراطية السلبية للاتحاد السوفييتي كانت عاملا مساهما في ذلك. غير أن المرآة السوفييتية ربما عكست ما أراد ماو أن يراه، ومن الصعب أن نتخيل أنه قد أطلق الثورة الثقافية بسبب تطورات حدثت في دولة أجنبية. فالثورة الثقافية عززت عزلة الصين في البداية، ثم بدأت في هدمها.
إن معظم الباحثين في مجال الثورة الثقافية كانوا سيتفقون على عدم وجود منهج واحد كاف. فالأزمة السياسية الكبرى التي حدثت في بداية الستينيات عملت على تأجيج صراع النخبة، وتفاقم التوترات الاجتماعية، وفصل الدولة عن بقية المجتمع الدولي. ويبدو من غير الملائم أن نحصر تركيزنا في بيان مبسط لتوضيح من فعل ماذا ولمن، متجاهلين القضية الأعم، والمتعلقة بالكيفية التي يمكن أن يرتبط بها عقد الاضطرابات الذي شهدته الصين بموقعها في السياسة العالمية في القرن الحادي والعشرين.
الفصل الثاني
السياسة تتولى زمام السيطرة
كانت عبارة «السياسة تتولى زمام السيطرة» شعارا ماويا معروفا لتذكير الثوار الثقافيين بأن الاختيار السياسي الصحيح وقوة الإرادة لتطبيقه من شأنه أن يقيم حركتهم أو يهدمها. وهناك ثلاث سمات في الأدوات القياسية للسياسة الصينية ساهمت في عزلها عن الممارسات الغربية.
السمة الأولى أن الحزب الشيوعي كان يحكم بدون أي تحديات جادة، ليستمتعوا بذلك بتفوق لوث التمييز المنهجي الذي وضعه الغرب بين الحزب والدولة. لقد كانت الصين تفتقر لرئيس دولة يقف في صف الثورة الثقافية، ولم يبد ذلك مهما. فعلى الرغم من الخطاب البلاغي للثورة الثقافية والفوضى المصدق عليها من قبل الدولة، استمر الحزب الشيوعي في التوسع والانتشار، ليزداد عدد أعضائه من 18 مليونا في عام 1966 إلى 34 مليونا في عام 1976. غير أن الخوف من تأثير البرجوازية أغلق المنظمات التابعة للحزب المخصصة للشباب والمرأة، وأغلقت الأحزاب الديمقراطية الثمانية المزعومة التي كانت تشارك الشيوعيين الحكم ظاهريا.
السمة الثانية أن الحزب كثيرا ما كان يتجه لأساليب بيروقراطية من الطراز الأول، لا سيما الحملات الجماهيرية التي كانت تنظم خارج الهيئات الحكومية الطبيعية، والتي كانت تحشد المسئولين والناشطين والمواطنين العاديين لتحقيق هدف بعينه. وقد شملت هذه الحملات أهدافا متباينة مثل محو أمية المرأة، أو الإصلاح الزراعي، أو القضاء على البلهارسيا (وهو مرض كبدي معد ينتشر في جنوب الصين)، أو كتابة الشعر، أو بناء مصاهر الأفنية الخلفية للصلب خلال مشروع القفزة الكبرى إلى الأمام. كانت الحملات تجيد تسخير الموارد، ولكنها لم تكن بارعة للدرجة في توزيعها، كما قد توحي المصطلحات العسكرية. لقد كانت أكثر ملاءمة لبعض المهام عن غيرها، ولكنها تركت البيروقراطية - عمدا - في حالة من التحفز والدفاعية. وفي بعض النواحي كانت الثورة الثقافية نفسها حملة ممتدة تألفت من حركات أصغر لها بؤرة تركيز أضيق.
أما السمة الثالثة، فتتمثل في قيام الحزب بوضع نظام لتصنيف المواطنين الصينيين وفقا لمكانتهم السياسية. ويرجع أصل نشأة هذا النظام إلى حملات الإصلاح الزراعي الكبرى التي صاحبت الثورة، عندما كان الحزب بحاجة إلى معرفة ملاك الأراضي من الفلاحين الذين لا يملكون أية أراض حتى يتسنى مصادرة الموارد من مجموعة لمنحها للأخرى. أصبحت التصنيفات رسمية وبيروقراطية، ولكن بتداعيات مهمة بشكل واضح. وبعد الإصلاح الزراعي، تم تجميد التصنيفات الطبقية، ثم ورثت للأبناء بعد ذلك. وجاءت حملات سياسية لاحقة عززت هذه التصنيفات؛ إذ اتجه الحزب «للفلاحين المعدمين» أو أبنائهم لدعمهم ومساعدتهم ، فيما نظروا شزرا لمن كانوا يوما ما ملاك أراض وأبنائهم. وأضيفت تصنيفات أخرى بناء على المكانة السياسية وليس على أساس الموقف الاقتصادي السابق. وعندما بدأت الثورة الثقافية، تألفت «العناصر الخمسة السوداء» من أصحاب الأراضي، والفلاحين الأثرياء، ومعارضي الثورة (الذين قاوموا الحكم الشيوعي)، والعناصر الفاسدة (الذين ارتكبوا جرائم)، واليمينيين (الذين راحوا ضحية لحملة عام 1957 ضد منتقدي الحزب).
تقدم الثورة الثقافية موسوعة لمعالم السياسة الصينية، بما في ذلك المثالية، والشغب، والمؤامرات، والشبكات الاجتماعية، والروتين البيروقراطي، والسجن السياسي، والعرائض، والرشاوى، والمال الانتخابي، والدراما، وصفقات الغرف الخلفية، والانقلابات العسكرية. وكان لهذه الممارسات أثرها في تضخيم وتشويه النظم السياسية الروتينية العادية في الصين. ولعل من الموضوعات التي توضح مدى التعقيد السياسي الذي اتسمت به الحقبة: التصنع، وتأليه ماو، والتمرد، والنظام، والحزبية. (1) التصنع
كانت سياسات الثورة الثقافية متصنعة بشكل مخجل؛ فقد كان الممثلون الشعبيون للحركة يتخذون وضعا معينا لترك تأثير درامي على مسرح التاريخ. فمع اكتساب الحركة قوة جاذبة، أكد ماو تسي تونج ذو الاثنين والسبعين عاما على حيويته وعلى أواصر العلاقة التي تربطه بالشباب من خلال جولة سباحة روج لها ترويجا مكثفا في نهر يانجتسي بمقاطعة ووهان، ليقفز خلفه سريعا ملايين الشباب في الماء تقليدا له. وبعد سلسلة من المؤتمرات الشعبية لملايين من الحرس الأحمر في ميدان تيانامين، والتي حظيت بتنظيم دقيق، رفض بعض الشباب المشاركين غسل أيديهم التي لامست الزعيم، في مشهد مؤثر. وكان ماو يدعو مؤيديه للعمل من خلال إشارات مهيبة ومبالغة، مثل ارتداء شارة الحرس الأحمر وكتابة «ملصقه ذي الأحرف الكبيرة» تقليدا لمئات الآلاف من الإعلانات الثورية التي كان شباب الثوار يلصقونها على الحوائط في الأماكن العامة.
وفيما بعد، عندما أراد ماو كبح جماح الحرس الأحمر، قدم بكل فخر ومباهاة هدية من ثمار المانجو لأعضاء فريق دعاية من العمال، وهو مؤسسة جديدة أنشئت لاستعادة النظام من خلال فرض السلام على الجماعات الطلابية المتحاربة. كانت المانجو، التي قدمت لماو من قبل زوار باكستانيين، إشارة إلى أنه بحلول عام 1968، صار الزعيم يقدر أفراد الطبقة العاملة الذين يعتمد عليهم تقديرا أعلى بكثير من الطلاب المفتقرين للنضج. وقد شملت النشوة المنظمة للحظة محاولات روج لها بشكل جيد لحفظ الفاكهة حتى يمكن تقديرها وتعظيمها للأبد، مثلما كان مسيحيو العصور الوسطى يقدسون عظام القديس.
كان لمثل هذا التصنع هدف عملي تمثل في نشر رسائل سياسية شاملة في مجتمع لا يحظى سوى بوسائل محدودة للتواصل، وغالبا ما كانت وسائل الإعلام فيه، والتي سيطر عليها الحزب، تبدو مملة ورتيبة. وقد شجعت الكثير من الأحداث التي تم تنظيمها على النحو الأمثل أشكالا جديدة للمشاركة من قبل الشباب، الذين كانوا يحيون حياة سياسية سلبية ونظامية، وكان التواصل معهم يتم عن طريق الرواد الصغار (بالنسبة للطلاب في سن المرحلة الابتدائية) الذين كانوا حينئذ موصومين، أو اتحاد الشباب الشيوعي (بالنسبة لطلاب المرحلة الثانوية) الأكثر انغلاقا. وقد قام الحرس الأحمر بإعادة تمثيل المسيرة الطويلة التي قام بها الجيش الأحمر بين عامي 1934-1935، مستنسخين رحلة مقدسة ربطتهم بشكل أقوى بالزعيم ماو وذكرى الثورة. كان هناك طقوس إذلال علني للمسئولين المطاح بهم، والذين كانوا يجبرون على الوقوف لفترات طويلة مرتدين في بعض الأحيان قبعات طويلة ولافتات، وكانوا يتعرضون لإساءات لفظية وأحيانا جسدية. لم يكن الهدف هو تحطيم نفوذ العتاة فحسب، وإنما أيضا أن يثبت لدى الثوار الشباب أنهم قد تم تمكينهم.
شكل 2-1: ماو تسي تونج يرتدي شارة الحرس الأحمر لإظهار دعمه لشباب الثوار.
1
لم يقتصر الجمهور المحب لإيماءات الثورة الثقافية الدرامية على الشباب الصينيين، بل امتد ليشمل النخب السياسية نفسها. فقد ساعدت حرارة العروض على إرسال رسالة إلى أعضاء النخبة المذبذبين بأنه لا بد من عدم مقاومة الحركة. إن جميع الدول توظف الطقوس، والتقاليد السياسية للصين غنية باستخدام الدراما التمثيلية. فالكثير من الفلاحين الثائرين الذين ثاروا على الأباطرة السابقين كانوا يرتدون ملابس الأوبرا بينما يقدمون أنفسهم لمؤيدي سلالاتهم الحاكمة الجديدة المزعومة، مما أوحى بوجود خط منفذ بين الدراما التمثيلية والحركة السياسية.
غير أن الجانب المتصنع للثورة الثقافية كان يعني ما هو أكثر بكثير من مجرد التلاعب. فقد كانت الحركة الماوية تعكس وتحفز أحداثا شديدة الدرامية بكل الأشكال، وتعد المؤامرة، والخيانة، والإنقاذ، والتمرد من بين الأفكار الرائعة لأي نوع من الفنون. والكثير من الحلقات المستحوذة على الانتباه لدراما الثورة الثقافية كانت تؤدى بقليل من التوجيه، إن وجد، وهو ما كان يتعارض في الغالب مع تفضيلات مديري المسرح الماوي.
كانت قضية لين بياو، على سبيل المثال، مثيرة ودرامية، ولكن ليس بالطرق المرغوبة لدى الماويين. فعندما أراد ماو بشكل واضح أن يضع بعض القيود على السلطة السياسية للجيش، رأى لين، خليفة ماو المفترض، نفوذه ينهار؛ فقام إما بتنظيم مؤامرة اغتيال حمقاء وانقلاب عسكري، أو أن ابنه (وهو الأكثر منطقية)، لين ليجو، قد قام بذلك نيابة عنه. وعلى الأرجح أن لين بياو لم يكن يعرف الكثير عما كان يحاك له، وربما يكون قد تم تخديره عندما تم وضعه على متن طائرة تحطمت في منغوليا في 13 سبتمبر 1971.
ولا تكمن الدراما في المؤامرة التي حيكت من قبل معسكر لين، وإفصاح ابنة لين عن المخطط لرئيس الوزراء شو إن لاي فحسب، ولكن أيضا في التعامل الرسمي مع الحادث. وقد صدم ماو ومجموعة الثورة الثقافية وانتابهم القلق خشية أن يحطم نبأ الحادث ثقة ملايين الصينيين في الثورة الثقافية. ومع قيام ماو بتطهير الرتب العليا في جيش التحرير الشعبي، ظهر مستوى الفوضى السياسية من خلال إلغاء العرض العسكري والاحتفال بالعيد القومي الذي يوافق الأول من أكتوبر (1971)، في واقعة لم يسبق لها مثيل.
أصبحت الدراما متمثلة في غياب دراما منظمة؛ إذ حاول الثوار الثقافيون تلفيق تفسير يوضح كيف أمكن «لأقرب رفاق ماو في السلاح» أن يخونوه. فقامت جهات السلطة المركزية بإعداد وثائق حاولت شرح الفضيحة، ولكن ربما ليس بالدهاء الذي فسرت به لجنة وارين في الولايات المتحدة حادث اغتيال جون إف كينيدي. فلم يتم إطلاع أحد في الأسبوع الأول سوى أعضاء المكتب السياسي، فيما انتظر المواطنون العاديون لما يقرب من عام، عندما انتشر الخبر عبر جميع أنحاء البلاد عبر نظام متطور وسري لتسريب المعلومات. وحدث ما كان ماو يخشاه؛ فقد اعتبر المؤيدون المتحمسون للثورة الثقافية قضية لين بياو هي تاريخ تحررهم من الأوهام. وفي هذه الحالة، عملت الدراما على إحباط التأييد للثورة الثقافية بدلا من استثارة متحمسين جدد لقضيتها.
أما على مستوى سياسيي النخبة، فقد جلبت الثورة الثقافية دمارا شخصيا وسياسيا لثلاثة من المطالبين بخلافة ماو، كان أولهم الرئيس ليو شاوشي، الذي انحدرت به الظروف من وريث محتمل لماو إلى الموت وحيدا في عام 1969 بسبب الإهمال الطبي. وكان في الوفاة البشعة للين بياو في عام 1971 تذكرة للجميع بأن الدراما السياسية للصين لم تتبع سيناريو محكما رغم كل شيء. أما الخليفة الثالث، فهو الراديكالي المدني وانج هونج وين، الذي رقي «بسرعة الصاروخ» في سن الثامنة والثلاثين إلى نائب لرئيس الحزب، لتتم الإطاحة به بواسطة وزير الداخلية، هوا جوفينج، ويتم القبض عليه لاحقا كأحد أفراد «عصابة الأربعة». (2) تأليه ماو
مع تزايد نفوذ ماو، أصبحت كلماته، وأفعاله، وصورته، مشربة بقدسية أشبه بالتأليه، حتى في عام 1963، كان في إنتاج الجيش ل «الكتاب الأحمر الصغير» الذي يضم مقتطفات من كتابات ماو، نذيرا بشيء غير عادي. كذلك أعيد نشر أعمال ليو شاوشي من أجل الدراسة السياسية، ولكن توزيع أعمال ماو أصبح بمثابة تسونامي أيديولوجي. وكان كتاب «الأعمال الكاملة» المكون من أربعة مجلدات، من الأدوات الشهيرة في حفلات تقديم الجوائز للعاملين المثاليين، ومع خضوع الرفاهيات البرجوازية للمناقشة والتساؤل، أصبحت تقدم كهدية لحديثي الزواج. وقد تنوعت نسخ كتابات ماو بحسب الطبقة الموجهة إليها. فالطبعة الموجهة للموظفين الحكوميين من كتاب «قراءات مختارة من أعمال ماو تسي تونج» كانت أطول مرتين من الطبعة الموجهة للعمال والفلاحين، والتي كانت تحوى مقالات أقصر والمزيد من الحواشي التوضيحية. كذلك قدم الكتاب الأحمر الصغير اقتباسات بليغة تم ترتيبها بشكل عملي بحسب الموضوع لتقديم مادة خصبة لأي معلق، سواء أكان هاويا أو محترفا. وكان الحرس الأحمر يحملون نسخهم من الكتاب الأحمر الصغير كمرجع عملي في متناول اليد. حتى القادة الأقوياء كانوا يلوحون بكتبهم في المؤتمرات الجماهيرية الحاشدة، وكانوا يقتبسون أقوال ماو باستمرار، ولكن مع إضافة فارق سياسي تمثيلي طفيف. وكان الزعيم يتقاضى عمولات على أعماله، استخدمها فيما يبدو كتمويل للرشاوى السياسية، فيما يعد تمويلا ذاتيا لبعض جوانب تأليهه.
وقع النشيد الوطني للصين، «أنشودة المتطوعين»، في غياهب المجهول مع كاتب كلماته تيان هان، وكان البديل غير الرسمي له هو «الشرق أحمر»، وهي قصيدة غنائية مأخوذة من لحن شعبي من شمال الصين:
الشرق أحمر، والشمس عالية في السماء.
لقد أنجبت الصين ماو تسي تونج.
إنه يعمل من أجل سعادة الشعب، وهو
المنقذ الأعظم للأمة الصينية.
وقد انهارت شعبية هذه الأغنية بعد عام 1949. بل إن ماو ربما يكون قد فكر أنها بعيدة كل البعد عن التواضع، وتمثل أيضا استخفافا لا داعي له بالقادة الشيوعيين الآخرين. ولكنها عادت بدافع انتقامي في عام 1966؛ إذ كانت تغنى في اللقاءات المفتوحة، وتبث عبر مكبرات الصوت في الشوارع، وفي عام 1970 تم بثها إلى أنحاء البسيطة كافة من أول قمر صناعي أطلقته الصين.
كانت الأغنية الأولى الأخرى للثورة الثقافية هي أغنية بوتييه ودي جيتر «نشيد الأممية»، التي لحنت في عام 1888، وهو النشيد الراديكالي الذي تغنى به الفوضويون، والشيوعيون، والديمقراطيون الاجتماعيون في جميع أنحاء العالم. وقد ترجمه تشو تشيو باي، رئيس الحزب الشيوعي في أواخر العشرينيات من القرن العشرين إلى اللغة الصينية. وخلال الثورة الثقافية، لم يلفت أحد الانتباه إلى التناقض بين «الشرق أحمر» والمقطع الثاني من «نشيد الأممية»:
لم يكن هناك يوما أي منقذ للعالم
ولا آلهة، ولا أباطرة يعتمد عليهم.
ولكي نصنع سعادة البشر
لا بد أن نعتمد على أنفسنا!
تنافست المؤسسات لإظهار ولائها لماو؛ فقامت الصحف بطباعة كلمات الزعيم بالمداد الأحمر، وكان من الممكن أن يؤدي سوء استخدام عدد الأمس من الجريدة بطرق قد توحي بازدراء تلك الكلمات المقدسة إلى نقد سياسي خطير. وكانت شارات ماو، التي كانت تنتج بالملايين، سرعان ما يتم جمعها وتداولها، وكأن اقتناء الكثير من الشارات قد يظهر قناعة ثورية. كذلك كانت «رقصات الولاء» تمثل الموقف السياسي للشخص. وظهرت أغنيات جديدة كان من ضمنها مجموعة وضعت مقولات ماو على ألحان مناسبة . وكان صدى صيحات «يعيش الزعيم ماو» يدوي في الساحات العامة. وعززت الجرائد السينمائية، واللوحات، والملصقات، والتماثيل من تأليه ماو. وقد كانت الصين غارقة في المنحوتات التي تجسد الزعيم. كانت بعض هذه الأعمال ضخمة، وعلى الرغم من أنها لم تكن مثيرة للانتباه كعمل فني، فقد كان الهدف من ضخامتها هو الترويع أو التخويف. وهناك تماثيل أخرى نصفية أصغر لقائد الصين. وقد كان عرض صورته، سواء من قبل مدينة أو من قبل فرد، دلالة على الولاء والالتزام الخارجي - على الأقل - بسياساته.
في عام 1966، حاز ماو سلطة معنوية هائلة على الشعب الصيني؛ فقد آمن الناس بأن أفعاله كانت بدافع تحقيق الخير للصين، والثورة، والاشتراكية. وقد نما تأليه ماو من منطلق هذا التبجيل التلقائي، والذي استغله الراديكاليون من أجل مصالح سياسية. ربما يكون ماو قد فكر أن هذا الإعجاب الشعبي هو استحقاق له، أو ربما يكون فقط قد أدرك فائدته في سحق خصومه، ولم يفعل الكثير من أجل منع حتى أكثر مظاهر تأليه ماو سفورا أو الحط من شأنها. وعندما تمت الاستعانة بالهالة الضبابية التي اكتنفت تأليه ماو من أجل أهداف سياسية آنية، تقلصت سلطته المعنوية؛ فشتان الفرق بين أن يحارب ماو المثالي من أجل ثورة مثالية، وبين أن يقوم بطرد ليو شاوشي الفاسد من الحزب الشيوعي باعتباره منشقا.
شكل 2-2: المسئولون يتعهدون بالولاء لماو تسي تونج بالتلويح بالكتاب الأحمر الصغير الذي يحوي مقولاته. وخلف ماو بمسافة قصيرة يسير رئيس الوزراء شو إن لاي ووزير الدفاع لين بياو. ويزيد لين في إظهار ولائه بارتداء شارة ماو.
1
في أحد العروض الغنائية الراقصة الخاصة بالثورة الثقافية في شيان، تم إهداء المؤدين تمثالا نصفيا من الجبس لماو. وكانت تلك الهدية في سنوات الكتاب الأحمر الصغير والمؤتمرات الجماهيرية الحاشدة ترمز إلى الحماس الثوري المشترك. بعد أن نزل المؤدون خلف الستار، انزلق التمثال من بين أصابع أحد الموسيقيين ليسقط على الأرض حطاما. لقد تحطم رأس ماو، أكثر ينابيع الحكم الثورية إجلالا وتمجيدا، وتحول إلى كومة من الشظايا الجبسية. صدم المؤدون من التحطم المفاجئ لصورة الزعيم وانتهاك حرمتها، إلى جانب خطر الاتهامات السياسية الخطيرة التي ستوجه لهم. وفي صمت تام، تجمعوا في دائرة وجعلوا يسحقون حطام رأس ماو بأقدامهم ليتحول إلى تراب، وأدركوا أنهم قد أصبحوا شركاء في اتفاق غير معلن لإخفاء فعلتهم السرية.
لعل من أحد جوانب القيود المفروضة ذاتيا في الاحتفاء بماو، والتي تبدو مستغربة للغربيين، هو حرص الصينيين الشديد على تجنب صيغة «ماوية». فعلى الرغم مما هو باد من أن مصطلحي ماوية وماوي يعبران عن روح العصر، فقد تفاداهما الصينيون تفضيلا للمصطلح الأقل ملاءمة «فكر ماو تسي تونج». كان مصطلح فكر ماو تسي تونج، الذي يعد مصطلحا غير واف في الصينية والإنجليزية على حد سواء، نوعا من القيود؛ إذ يقاوم بشكل محدود التأكيد على أن ماو قد أسس «مذهبا» جديدا على غرار الماركسية أو اللينينية. وكان في هذا المصطلح الأقل ملاءمة إشارة إلى أن الأمر لا يتعدى كون ماو قد ورث الماركسية واللينينية وعمل على تطويرهما. ولكن لا يسعنا هنا إلا أن نرى قدرا كبيرا من التواضع؛ لأن فكر ماو تسي تونج كان يعرف عادة بأنه «قنبلة ذرية روحانية».
شكلت الإدارة القائمة على تأليه ماو عالمها السياسي الخاص؛ فقد بنى لين بياو نفوذه السياسي الشخصي على استغلال صورة ماو. على سبيل المثال، حملت العديد من تماثيل ماو نقوشا برونزية بخط يد لين بياو تمتدح «المعلم العظيم، والقائد العظيم، والحاكم العظيم، وقائد الدفة العظيم.» وبعد وفاته والتشهير به، لم يعد مسموحا للين بالمشاركة في إشعاع وتألق الزعيم، وتم محو نقوشه. ومع اتخاذ الثورة الثقافية منحى أكثر محافظة، تم أيضا تعديل «فكر ماو تسي تونج» ليوائم احتياجات سياسية أقل ثورية. وكان بالإمكان التنقيب عن كتابات ماو الغزيرة بحثا عن ذخيرة معلوماتية لإضفاء شرعية على البيروقراطية الحاكمة وكذلك دعم شباب الثوار.
انحسر تأليه ماو في السبعينيات تزامنا مع انحسار الاستخدام الفعال للدراما من قبل ماو. فمع تدهور صحة ماو، أصبحت كلماته مبهمة وغامضة أكثر منها ملهمة . وركزت إحدى الحملات التي انطلقت في عام 1975 على رواية «حافة الماء»، وهي رواية كلاسيكية عمرها خمسمائة عام تدور حول قطاع الطرق الفلاحين. وفي تعليق مرتجل، قال ماو تسي تونج إن هذه الرواية المحببة إليه أبرزت مثالا سلبيا ل «أنصار الاستسلام». واستشهد بكلمات ماو في افتتاحيات الصحف، وبدأ مثقفو الأمة، الذين لم يزالوا يترنحون من صدمة السنوات الأولى للثورة الثقافية، في إجراء تحليلات موجعة للرواية، باحثين عن أدلة أو إشارات لتحديد السياسي الذي تمثله كل شخصية من شخصيات الثوار من الفلاحين. لم يكن ماو يتجه لمرحلة الخرف، ولكنه كان مصابا بمياه بيضاء على العين، مما جعل القراءة مهمة صعبة، فأدلى بملحوظته لأكاديمي شاب مكلف بالقراءة له بصوت عال. غير أن التعليق نقل واستخدم بشكل أخرق من قبل راديكاليي الثورة الثقافية.
وجاء زلزال تانجشان الكبير الذي وقع في عام 1976 ليقتل أكثر من ربع مليون نسمة، وكان شكلا آخر من أشكال الدراما غير المخطط لها. ورآه البعض فألا حسنا، فيما رآه البعض كارثة بدت نذير شؤم. وفي كلتا الحالتين، لم يكن بالإمكان السيطرة على المشهد أو إخفاؤه بدعوات «تعميق النقد لدنج شياو بينج بشأن أعمال الإغاثة». (3) التمرد
بغض النظر عن مدى التكلف في إيماءات قادة الصين، لا يجب أن يتخيل أحد أن ماو قد استحضر الثورة الثقافية من العدم بإشارة من إصبعه. لقد أطلقت الثورة الثقافية المرارة المتراكمة منذ عام 1949، وساهمت التوترات الممتدة في انقسام النخبة السياسية بشأن الكيفية التي يجب أن تتعامل بها الصين مع إرثها الثوري وأعباء التنمية الاقتصادية. وقد كانت هذه التوترات ملموسة من قبل المواطنين الآخرين، إن لم تكن تبدو واضحة أحيانا. وتسارعت وتيرة هذه التوترات مع تفاعلها مع العوامل الديموغرافية. فقد كان للسلام والرخاء أثرهما في زيادة أعداد الشباب الصيني، والانتشار السريع للمدارس كان يعني أن أعدادا كبيرة من الشباب متعلمون ويطمحون لوظائف جيدة في مجالات بعيدة عن الزراعة. ولكن ثورة 1949 نصبت مجموعة من القادة الشبان نسبيا. ومع ذلك ظل أغلب القادة في أماكنهم يعترضون سبيل فرص الترقي الوظيفي للجيل الأصغر. في الوقت نفسه، كانت المدارس والجامعات تعج بالمواطنين المحبطين والتعساء بشكل عام، على أثر حملة عام 1957 المناهضة لليمينيين التي استهدفت المعلمين باعتبارهم «عناصر يمينية».
وهكذا كان من السهل على الماويين تعبئة الشباب في بداية الثورة الثقافية؛ فشارك معظم شباب الحضر الصينيين. وكانت الغالبية العظمى من الحرس الأحمر من طلاب المرحلة الثانوية. ويوجد فئة عمرية معينة من سكان الحضر الصينيين اليوم كانوا من الحرس الأحمر بشكل شبه مؤكد؛ فعضو الحرس الأحمر ذو الستة عشر عاما ولد في عام 1950. لم يكن تنظيمهم من قبل الدولة، ولكنهم وجدوا بشكل عفوي، ليقوم الماويون بعد ذلك بتوسيع نطاق دعمهم السياسي، مما مكن الحركة من الانتشار بشكل أسرع.
كان من أحد أدوات الدعاية لدى الحرس الأحمر «الملصقات ذات الأحرف الكبيرة»، وهي مقالات سياسية في حجم الملصق كان يتم تعليقها على أحد الحوائط العامة. كان من الممكن أن تكون الملصقات ذات الأحرف الكبيرة عبارة عن مجادلات، أو إعلانات، أو مكاشفات عن السلوك السياسي السابق للمسئولين قيد الهجوم. وغالبا ما كان الحرس الأحمر يلجئون للحلفاء الراديكاليين في الحزب من أجل تسريب الوثائق والمعلومات حسبما كتبوا. وقد كتب ماو تسي تونج معلقته ذات الأحرف الكبيرة - «اقصفوا المقار الرئيسية» - للتشديد على دعمه لحركة الحرس الأحمر الوليدة. وقبل ذلك بفترة طويلة، كانت المعلقات تدعم بصحف ومجلات الحرس الأحمر، المليئة بالبيانات الصحفية، والتي كانت خارج سيطرة الإعلام الذي يديره الحزب الذي كان لا يزال تحت سطوة المحافظين. كانت المعلومات التي يتم إفشاؤها دقيقة بشكل عام، يصاحبها تسجيلات لاجتماعات على مستوى رفيع واقتباسات غزيرة من الخطب التي تم إطلاق سراحها من ملفات الحزب. وكانت هذه المواد غالبا ما تقطع من سياقها أو تعطى أسوأ تأويل ممكن، ولكن لم تكن تزيف هكذا ببساطة.
كانت مشاركة الحرس الأحمر عملا سياسيا، ولكنها أيضا كانت شكلا من أشكال تمرد المراهقين، مما أتاح فرصا لخبرات وتجارب كانت ستصبح ممنوعة. ولتيسير عملية «تبادل الخبرات الثورية»، قامت شبكة السكك الحديدية الصينية بتوفير وسائل انتقال مجانية للحرس الأحمر في خريف عام 1966. وقد مكنت «السياحة الثورية» الشباب من السفر لأول مرة، وزيارة مدن بعيدة باسم الثورة. كانت نشوة الشباب هي الحالة المبدئية المسيطرة، دعمتها لغة صارمة ذات طابع عسكري؛ إذ كان الأعضاء السابقين لاتحاد الشباب المنحل في ذلك الوقت يعيدون تصور أنفسهم في تنظيمات على غرار «مجموعات مقاومة الراية الحمراء» و«محاربي 16 مايو الثوريين». وأحيانا ما كانت مثل هذه المسميات المهيبة قناعا يخفي تحته مجرد مجموعات صغيرة من الأصدقاء يجمعهم اهتمام مشترك بالرياضة أو الراديو. وكانوا يقوون عزيمتهم بواحد من الاقتباسات المفضلة لدى ماو من رواية «حلم الغرفة الحمراء»: «من لا يخشى الموت من ألف جرح، لديه الجرأة على طرح الإمبراطور من على صهوة جواده.»
انبثق قدر من العنف الأحمق للثورة الثقافية في بداياتها من حقيقة أن البلاد قد سلمت فيما يبدو لعصابات من طلاب المرحلة الثانوية، دون أن يجرؤ أحد على كبح جماحهم خوفا من شبهة معاداة الثورة. وقد شهد شهرا أغسطس وسبتمبر من عام 1966 حالة هياج من قبل الحرس الأحمر، تخللها بحث عاصف عن أعداء خياليين. ففي بكين، أغارت فرق من الحرس الأحمر على أكثر من 100 ألف منزل بحثا عن مواد رجعية معادية، وأجبروا المثقفين وبعضا ممن كانت لهم مصادمات سابقة مع النظام على إصدار انتقادات ذاتية. وقام بعض أفراد الحرس الأحمر بضرب الناس بأبازيم الأحزمة، وتعذيبهم بالماء المغلي. وقد مات 1700 شخص في بكين، فيما قضي سكرتير حزب تيانجين، وقائد أسطول بحر الصين الشرقي، ووزير صناعة الفحم نحبهم بعد اجتماعات النقد. وكان هناك حالات انتحار مشهورة بعد اعتداءات الضرب التي قام بها الحرس الأحمر، كان من ضمنها حادث انتحار الروائي المعروف لاو شه. وكان المسئولون المحنكون المعروفون من أشد المطلوبين لحضور طقوس اجتماعات النقد، حيث كانت الحشود الثورية تعبر عن كراهيتها للقادة الذين تعرضوا للتطهير. وقد اقتيد نائب رئيس الوزراء، بو ييبو، رئيس المفوضية الاقتصادية الحكومية، لمائة جلسة من جلسات النضال. ولعدم قدرة زوجته على تحمل التوتر والإجهاد، قتلت نفسها. غير أن الغالبية العظمى من الحرس الأحمر الذي يقدر أفراده بالملايين لم يتسموا بالعنف، والكثير منهم كانوا يجهرون بمعارضتهم للعنف، وإن كان بتأثير مختلط.
ومع اعتبار المشاركة شبه الشمولية للحرس الأحمر، فليس من المستغرب أن يحدث بينهم انقسامات داخلية خطيرة؛ فقد كان الجميع يدعون «الثورية»، بما في ذلك أبناء المسئولين الذين استهدفتهم الهجمة الماوية. واعتمدت إحدى الوحدات سيئة السمعة التابعة للحرس الأحمر، وهي وحدة «المقار الرئيسية للحراك الموحد» نظرية «وراثية» في هذا الصدد، فقد زعم أن أبناء العمال، والفلاحين الفقراء، والكوادر الثورية، ثوريون بالفطرة، بينما لا يمكن أبدا لأبناء الرأسماليين وملاك الأراضي التغلب على أصلهم الملوث. وقد تجنبت نظرية الوراثة بإتقان وعناية دعوات ماو للتركيز على «أتباع الطريق الرأسمالي» داخل الحزب بصرف الأنظار إلى أعداء الثورة الذين دحروا بالفعل. تم قمع نظرية الوراثة، لكن ظلت النزعة للتضحية بمن هم في موضع هجوم أو نقد. وقد كان هذا يعني لبعض الشباب الصيني «رسم حد فاصل واضح» بينهم وبين أفراد عائلاتهم ممن لديهم خلفية طبقية سيئة، أو تاريخ سياسي معقد (كابن عم في تايوان أو مجند في جيش الكومنتانج). وكان هذا يعني للجميع تقريبا أن أعضاء «الفئات الخمس السوداء» (ملاك الأراضي، والفلاحين الأثرياء، والمعادين للثورة، والعناصر الفاسدة، واليمينيين) قد عزلوا، حتى وإن لم يتعرضوا فعليا للإذلال والإساءة.
لمع نجم الحرس الأحمر خلال فترة قصيرة. وكان «أغسطس الأحمر» من عام 1966 هو أوج تألقهم، حينما وقع معظم أعمال العنف ضد المعلمين والمسئولين. وقد اقتصر تدمير المنشآت الثقافية والغارات على منازل الأثرياء على الأيام الأولى للثورة الثقافية. وبقدر شناعة أعمال العنف، فقد خبت جذوة هذه الهجمة الاستهلالية العنيفة للثورة الثقافية سريعا؛ إذ جاهدت السلطات الماوية بقوة لتحجيم هذه الهجمات العلنية. ومن ثم لا يجب أن نتخيل أن هذا العقد كان عقد اغتيالات واعتداءات بالضرب. وعلى الرغم من أن معظم الحرس الأحمر لم يكن يعتدي على الناس بالضرب، فإن هؤلاء الذين اتسموا بالعنف وجهوا غضبهم بعد ذلك ضد فصائل الحرس الأحمر المعادية. فكان الحرس الأحمر يصنع الأسلحة، أو يستولي على البنادق من الجيش ، بما في ذلك الأسلحة الروسية أثناء عبورها إلى فيتنام. وبحلول عام 1968، انتهت هذه المرحلة من الثورة الثقافية. وتم إرسال سكان المدن من الشباب إلى الريف «للتعلم من الفقراء وفلاحي الطبقة الدنيا».
لم يكن التمرد قاصرا على الحرس الأحمر؛ فقد انضم صغار المسئولين إلى ركب المتمردين بأعداد كبيرة، إلى جانب الكثير ممن كان لهم عداوات مع سياسات السنوات السبع عشرة. واستخدم ناشطون من طبقات العاملين المؤقتين، الذين حرموا من الامتيازات الكاملة للعاملين الدائمين، الثورة الثقافية للمطالبة بتعويضهم. وعلى الرغم من إخفاقهم، فقد انزعجت السلطات من إمكانية حدوث اضطرابات على مستوى المصانع. وفيما بعد، عندما يئس القادة الماويون من حلفائهم من الطلاب، قاموا بزرع مجموعة من المتمردين من الطبقة العاملة الذين سيكونون متزنين سياسيا.
ولا ينبغي أن ننبذ رغبة هؤلاء المتمردين تفضيلا للديمقراطية الراديكالية، فهم لم يسعوا للديمقراطية الإجرائية على الطريقة الغربية، بما تحويه من نظم تصويت دقيقة وضمانات لحقوق الإنسان. لقد كانت حركة مضادة للاستبداد والفاشية، وربما كانت أعظم تجارب الصين في الديمقراطية التشاركية، وتطلعت لديمقراطية نتائج، لا إجراءات. (4) التهذيب
يسهم شعار «السياسة تتولى زمام السيطرة» في تهذيب وضبط التمرد، وكذلك إلهامه. لقد فوجئ ماو بمدى عنف الحرس الأحمر، فقد كان الحرس الأحمر أداة سياسية خرقاء: فهم حديثو السن، وجامحون، ومن الصعب توزيعهم بأي قدر من الدقة.
ظهر نموذج متميز للاستيلاء على السلطة في يناير من عام 1967، بتأسيس «كوميون شنغهاي». كان واضحا أن هذا المشروع الذي استمر لمدة شهر لتجميع البروليتاريين في شنغهاي قد استوحي من كوميون باريس الذي أنشئ عام 1871. وقد صنع قاعدة سياسية لثلاثة سياسيين راديكاليين: مسئول الدعاية تشانج تشون شياو، والناقد الأدبي ياو ون يوان، ومسئول الأمن الصناعي وانج هونج ون، الذين أدينوا فيما بعد مع جيانج تشينج ضمن عصابة الأربعة.
وبشكل سريع نوعا ما، استبدل نموذج كوميون شنغهاي بنموذج ثان شمل جميع أنحاء البلاد، وهو «اللجنة الثورية». أولت اللجان الثورية أهمية حقيقية لمشكلة الوحدة؛ فقد كانوا منظمين في «تحالف ثلاثي» مكون من المنظمات الجماهيرية، وممثلي الجيش، والمسئولين المحنكين الذين يدينون بالولاء للثورة الثقافية. وكان الجيش هو المنوط بمهمة التنفيذ في التفاوض حول هذه الصفقات، وعمل بصبر لإيجاد مجموعات ملائمة من المتمردين الراديكاليين وكوادر محنكة مقبولة لتشكيل حكومة محلية ماوية جديدة. وحتى مع مشاركة الجيش، كانت المهمة شاقة للغاية؛ إذ كانت الثورة الثقافية قد أطلقت قوى اجتماعية ثبت أن من الصعب احتواءها. وقد شملت هذه القوى المنافسات المحلية، أو الطموح الجامح، أو الغرور السياسي. ففي إحدى مناطق التبت، واجه أحد التحالفات متاعب بسبب راهبة غير متزنة تعرضت لزيارات من إحدى الآلهة وأمرت الأتباع المسلحين الذين قاموا بدورهم بتقطيع أذرع وأرجل أعدائهم المتعصبين.
بدأ الجيش استعادة النظام بالتفاوض على إقامة سلام محلى في كل إقليم. فضل الجيش في البداية التزام الحياد، ولكن استمرار العنف والفوضى استدرجه في النهاية بشكل أعمق للتدخل في الإدارة المحلية. ولعل من إحدى اللحظات الحاسمة الأزمة التي وقعت في صيف عام 1967 في ووهان، حيث اندلعت حرب شبه أهلية، وعندما حاول قائد بكين التفاوض، تم اختطافه مما استوجب إنقاذه بواسطة قوات محمولة جوا. ووقعت معارك مسلحة أخرى بين آلاف المدنيين الشباب، كان من شأنها كسر حاجز التردد لدى الجيش. وأصبح لمعظم الأقاليم لجان ثورية جديدة بحلول صيف عام 1968.
شارك الجيش في الثورة الثقافية بحذر شديد من خلال توفير حرس مسلح للمنشآت النووية وغيرها من منشآت الأبحاث العسكرية، وكذلك للمعالم الأثرية الثقافية المهددة من قبل المخربين التابعين للحرس الأحمر. وعندما شرع الحرس الأحمر في تسليح أنفسهم بأسلحة تم الاستيلاء عليها من قطارات متجهة إلى فيتنام، تبدد تردد الجيش. وبحلول صيف عام 1968، تحول صبر الجيش إلى شراسة، حين قام بسحق مجموعات الحرس الأحمر غير الراغبة في الانصياع لقيادتها.
لم تأت أشد أشكال العنف للثورة الثقافية من وحشية الحرس الأحمر، ولكن من القمع الماوي للمنظمات الجماهيرية التي وجدت بشكل عفوي. ففي نهاية عام 1967، نظمت مجموعة الثورة الثقافية تحقيقا في مؤامرة مزيفة أطلق عليها «مؤامرة 16 مايو»، وقد أدى هذا إلى اعتقال كبار الساسة الراديكاليين بتهمة مؤامرة لم يكن لها وجود مطلقا. ومع انتقال الحملة إلى المستوى الإقليمي، خضع ملايين للتحقيق وقتل عشرات الآلاف. وانطلقت حملة مشابهة ل «تطهير المناصب العليا» قتلت المزيد؛ إذ تم تمحيص التاريخ السياسي والعائلي بحثا عن الخطايا السياسية. كان ضربا من العذاب أن يكون لك علاقات بالصينيين المغتربين بالخارج، أو شقيقة متزوجة من عائلة رأسمالية سابقا. وتعكس هذه الوحشية بشكل جزئي السيطرة الهزيلة من قبل قادة الصين الجدد المقترنة باندفاعهم في القضاء على خصومهم المحتملين من أجل مناصبهم الجديدة. وعززت اللجان الثورية الجديدة نفوذها بتفكيك منظمات السياسة الجماهيرية، مبتدئة بالمنظمات التي قاومت شرعيتها. ووقعت الكثير من أعمال العنف في المقاطعات الريفية، حيث كان العنف أقل وضوحا عن عنف الحرس الأحمر في بدايته. فقد لاحظ مواطنو هونج كونج، على سبيل المثال، جثثا طافية على المجرى المائي في اتجاه مصب نهر اللؤلؤ. غير أن العنف ضد الراديكاليين، في رأي كثير من المراقبين، ربما بدا أقل أهمية مقارنة بالعنف الذي مورس ضد المثقفين والمسئولين.
وقد اتخذ التهذيب أشكالا أقل عنفا بالنسبة لغالبية الناس؛ فقد أصبحت دراسة السياسة ذات طابع رسمي إلى حد كبير، إذ أصبح الجميع مطالبين بحفظ النصوص، وعقد مناقشات جماعية مصغرة، وتأليف مفكرات عامة عما يحرزونه من تقدم أيديولوجي. وقد قامت مثل هذه الممارسات على ثقافة قديمة من النقد والنقد الذاتي كان يتوقع فيها من الناس أن يقدموا اعترافا طقسيا بمثالبهم ونقائصهم السياسية. وقد أصبح هذا فنا أدائيا أيضا، ولكن كان له أصول كونفوشية من حيث عدم الاهتمام بالروح الداخلية والتركيز على السلوك الفعلي.
شكل 2-3: عند حل حركة الحرس الأحمر التي أنهكها الشقاق والعصبية، جسد هذا الملصق نموذجا مثاليا لاثنين من العمال يحضان على الوحدة بصمود وإخلاص من خلال دراسة أعمال ماو تسي تونج: «انبذوا الفرقة، قطعوا الأيادي السوداء! وحدوا الثورات البروليتارية!»
1 (5) اللجوء للعلاقات الشخصية
كان كل فصيل من فصائل الثورة الثقافية يرفع راية ماو تسي تونج، مما أوحى بوجود وحدة على السطح على الرغم من واقع تمزق إلى نزاعات متعصبة يسودها قدر هائل من الشك وعدم اليقين. وظهرت الأخطار عندما راح الانتهازيون يبحثون عن الفرصة المثلى لحصد المكاسب، وبات المواطنون يضطهدون لخلفياتهم المشكوك فيها سياسيا.
ومع تمزق المؤسسات الطبيعية، اتجه المواطنون من جميع المستويات بشكل متزايد إلى العلاقات الشخصية بحثا عن الأمان. وقد كانت العلاقات القائمة على النسب، أو الموطن الأصلي المشترك، أو التعليم، أو الخبرة المهنية موجودة بالفعل في جميع السياسات، وقد لعبت هذه العلاقات دورا استثنائيا في الصين لفترة طويلة، على الرغم من جهود الدولة في أن تستبدل بها معايير «موضوعية» ونزيهة. فقد قوض الخطاب البلاغي للثورة الثقافية بفعل انعدام ثقتها في المؤسسات العادية، وهو ربما ما مثل ضمانة لفكرة أن العلاقات الشخصية قد جاءت لتسيطر.
وقد قويت التحالفات الشخصية بين أهل النخبة بعد صدمتي قضية لين بياو وتدهور صحة ماو. حتى إذا كانت الصلات الشخصية ليس لها دور فعلي، فإن معظم الصينيين يسلمون بأن لها دورا، وسوف يفسرون أبسط التطورات المحلية أو القومية بسرد الصلات بين الأشخاص ومن يعرف من. على سبيل المثال، جاءت جيانج تشينج ومسئول الأمن بالحزب كانج شينج من نفس المقاطعة بإقليم شاندونج. فهل كان محل الميلاد المشترك هذا أهم من أي منصب سياسي مشترك؟ كثير من الصينيين يعتقدون ذلك، ويذهبون إلى أن ذلك قد جعل تحالفهما الأيديولوجي على الأقل قائما على أساس أكثر صلابة.
كان البحث عن الأمان الشخصي على نفس الدرجة من القوة بين المواطنين العاديين، خاصة في ظل حالة التشاؤم والاستخفاف الجديدة التي سادت في أعقاب وفاة لين بياو. فقد أصبحت الهدايا والرشاوى وليس التعصب السياسي (أو بجانب إعلان الحماس السياسي) وسيلة لتأمين الحصول على ميزة ما من «باب خلفي»، من الحصول على مسكن أفضل إلى الرعاية الطبية المتخصصة، أو من أجل نقل طفل من أطفال المدن من العمل بالزراعة وإعادته إلى المدينة.
اتخذت السياسة منحى بذيئا وكريها حتى بالنسبة للماويين الملتزمين؛ فقد جعلت القلاقل والاضطرابات فكرة الانتقام تطفو على السطح، مما منح رواية ألكسندر دوماس «كونت دي مونت كريستو» الصادرة عام 1844، والتي تدور حول الانتقام، قاعدة عريضة من القراء في حقبة لم يحظ فيها الفن الغربي بالكثير من الاستحسان والقبول. والحق أن العنوان الصيني للرواية (سجل العرفان والثأر لمونت كريستو) يزيد من جاذبيتها لدى جمهور ينشد الأمان في عالم فاسد وغير موثوق. فالكونت، الذي يدعى إدموند دانتس، يستعيد حقه، ساخرا من الافتراض المسبق بأن القوانين الغربية تتفوق أخلاقيا على شبكة العلاقات الشخصية في الشرق.
ربما كانت جيانج تشينج طموحة وصعبة المراس، ولكن ماو اعتمد عليها لأنه لم يكن يثق ثقة كاملة في أي شخص خارج نطاقه الشخصي. وعلى كل أخطائها، فقد كانت وفية. وكما قالت أثناء محاكمتها: «كل شيء فعلته كان بناء على توجيه من الزعيم ماو. لقد كنت كلبه الوفي؛ أيما شيء يأمرني بعضه، عضضته.» وفي السبعينيات لجأ ماو أيضا لابن أخ له، هو ماو يوان شين، الذي أصبح مسئولا بارزا في الإقليم الصناعي الحيوي لياونينج.
في نهاية الثورة الثقافية، وعقب الضربات المتتالية التي وجهت ضد المؤسسات السياسية التقليدية، عمل قادة انقلاب ما بعد ماو في الأساس انطلاقا من رغبتهم في التخلص من منافسيهم، ولكنهم عملوا أيضا انطلاقا من رغبتهم في التخلص من القلق. فعلى الرغم من أنهم كانوا يحوزون الأغلبية في المكتب السياسي، فقد كانوا يخشون احتمالية توجيه الأغلبية في اللجنة المركزية دعمها لجيانج تشينج وحلفائها في أية مواجهة حاسمة قد تحدث. وفي خضم دفاعهم عن تصرفهم، أسس المتآمرون شبكة علاقات شخصية، هي «عصابة الأربعة»، والتي كان أساسها مقلقلا نوعا ما على أرض الواقع. لم تكن تلك عصابة بالمعنى المفهوم؛ إذ كان ثلاثة من أفرادها الأربعة لا يدعمون حتى وانج هونج ون أمام هوا جوفينج ليكون خليفة ماو، ولكن البعض حزنوا لرؤية جيانج تشينج المستبدة تزاح، فيما أصبح الأربعة، إلى جانب جنرالات لين بياو، كباش الفداء العلنية للثورة الثقافية.
هوامش
الفصل الثالث
الثقافة: تدمير القديم وبناء الحديث
لماذا اعتقد الماويون في ضرورة قيام ثورة ثقافية في الفنون؟ إن ما حدث في عام 1949 من استيلاء على السلطة السياسية، وما تبعه من سيطرة على الاقتصاد، لم يحقق تمكينا حقيقيا للطبقة العاملة ؛ فمن كانوا يوما ما ثوارا محاربين بواسل لانوا بفعل الثقافة الجذابة والمفسدة في الوقت ذاته الآتية من ماضي الصين الإقطاعي أو من الأمم البرجوازية الأجنبية. وكانت الوصفة الطبية الماوية لعلاج ذلك تتمثل في الحد من هذه «الطلقات المغلفة بالسكر»، مع تشجيع فن جديد وقوي ذي شكل ومضمون بروليتاري بحق.
قبيل الثورة الثقافية، شكا ماو من أن وزارة الثقافة قد أصبحت «وزارة المومياوات الميتة»، ومن ثم أصبحت المومياوات الميتة الباقية من التراث الصيني هدفا رئيسيا للحرس الأحمر. فراحوا يفتشون المنازل الخاصة بحثا عن دلالات لأي أثر إقطاعي أو برجوازي. لقد كان هناك حاجز فصل بين فترة الازدهار الأولى للحرس الأحمر وبين فترة السيطرة وتعزيز النفوذ التي امتدت لأمد أطول. عملت السياسة التي اعتمدت فيما بعد على تحجيم دور الفن التقليدي أو الأجنبي، ولكنها حققت نجاحا أقل بكثير في استبدال أعمال جديدة به. فقد قادت جيانج تشينج، قرينة ماو، حركة لصنع أعمال مسرحية نموذجية معبرة عن الثورة، لاقت بالفعل جمهورا عريضا من خلال تركيبة جمعت بين تحديث موسيقى أوبرا بكين، والمساواة بين الجنسين، وإضفاء الطابع العسكري. (1) تدمير القدماء الأربعة
كان الحرس الأحمر القائم الأوحد تقريبا على تدمير المعالم الثقافية، وقد وقعت موجة التحطيم الجنوني التي قادها فيما بين منتصف أغسطس ونهاية سبتمبر من عام 1966. فكان الشباب يتنافسون فيما بينهم في التصدي ل «القدماء الأربعة» (الأعراف، والثقافة، والعادات، والأفكار القديمة). كان القدماء الأربعة يشمل رموز المجتمع الصيني التقليدي فيما قبل الحداثة، مثل الأعمال الفنية التي تحتفي بالنخبوية الكونفوشية. وقد كان يندد بهذه الرموز صراحة لكونها «إقطاعية» في وقت كان فيه المجتمع القديم لا يزال ذكرى حاضرة في أذهان الكثيرين، ولم يكن تراثه الظاهر يشمل اللوحات الكلاسيكية، والكتب ذات الخيوط فحسب، بل شمل أيضا السيدات العجائز ذوات الأقدام المربوطة. ولعل أفضل تفسير لهمجية هذه الاستجابة الجمالية لدعوة ماو للثورة الثقافية هو كونها جهلا وطيشا شبابيا، امتزجا بقلق معمم من رغبة المناهضين للثورة في إعادة المجتمع القديم.
قام الحرس الأحمر بتفتيش منازل أعداء الثورة المشتبه بهم، كان من بينها ما يزيد على 100 ألف منزل في بكين. وعندما انتشرت أخبار هذه الغارات، قام العديد من المواطنين - على سبيل الاحتياط - بتدمير بعض من مقتنياتهم التي قد تمثل إدانة لهم. ولم يكن الحرس الأحمر يسرقون؛ لأنهم كانوا مدفوعين بحماس ثوري خالص؛ فإذا عثر على شيء قيم بشكل واضح، كان الحرس يسلمونه للدولة. ولكنهم أيضا لم يكونوا نقادا فنيين، وعندما يكونون في ريبة من أمرهم، كانوا غالبا ما يختارون تمزيق أو حرق أي شيء؛ وكانت الكتب التي تحمل شبهة سياسية تمزق إربا. من الصعب حصر كم الدمار الذي لحق بالثروات القومية على يد شباب الثوار، ولكن الكثير من المتعلقات الشخصية، بما في ذلك سجلات الأنساب، واللوحات، والكتب، وأسطوانات الفونوغراف، والصور الدينية، كانت تضيع للأبد أيضا.
لم يوافق الكثير من أفراد الحرس الأحمر على الغارات على منازل «الفئات الخمس السوداء» (انظر الفصل
الثاني ) أو المشاركة فيها، وكذلك استاء الكثيرون من العنف ضد المعلمين ومسئولي المدارس. وفي كثير من الحالات كانت الدولة تتدخل لحماية معالمها الأثرية الكبرى. فقام رئيس الوزراء شو إن لاي بوضع قوة من الحرس العسكري في المواقع الثقافية المهمة؛ حتى القادة اليساريين، أمثال تشن بودا وتشي بنيو، ساعدوا في الحد من الدمار. وفي بعض الحالات كان السكان المحليون يتدخلون لحماية الكنوز التاريخية، مثل مواقع الأسرة الكونفوشية في كوفو بإقليم شاندونج. وقام الطلاب وهيئة التدريس بإخفاء مكتبة التسجيلات لمعهد الموسيقى العالي، ووجدت الكثير من العائلات طرقا مبتكرة لإخفاء المقتنيات القيمة.
جانج هوا «تقرير عن تدمير الكتب»
فوجو وانباو (18 أبريل، 1989)
أنا مدرس تستطيع القول بأنه مدمن للكتب، ومع ذلك فقد اشتركت يوما في تدميرها. ليس لدي تفسير منطقي لهذا الخطأ الفادح. الزمان: ذروة صيف عام 1966. المكان: مصنع الورق حيث كنت أعمل. كنت قد أخرجت من المدرسة، وأمرت باجتياز فترة عمل، وجاء يوم عصيب ترك بداخلي شعورا مضطربا. عندما دخلت المصنع، لم أسمع الأصوات المعتادة للشاحنات التي تقوم بنقل المخلفات. كان المصنع بأكمله الذي كانت مساحته مائة متر مربع يعج بتل رهيب من الكتب: كتب على الطراز الأجنبي مجلدة بأغلفة صلبة، وكتب ذات خيوط على الطراز القديم، وكتب ذات أغلفة ورقية. اقتربت من كومة الكتب وألقيت نظرة على المجلدات الممتدة أمامي. وانتابني الغضب حين وجدت الكتاب الذي يعتلي القمة هو كتاب «أعمال دو شاولينج» الذي طالما أعجبت به. وبالتنقيب داخل الكومة، وجدت «كتاب القصائد الغنائية»، و«شاو مينج وين شوان» و«قصائد جديدة من جايد تراس»، و«سو دونج بو يوفو».
دعا رئيس العمال لاجتماع قبل بدء العمل، وراح يقرأ بعض مقولات الزعيم ماو وتلا علينا مهام عملنا. «لقد قالت السلطات إن هذه الكتب من القدماء الأربعة؛ فالمجموعة بأكملها إما إقطاعية، أو رأسمالية، أو تعديلية. وقد تم إرسالها إلى هنا بعد حملات تفتيش للمنازل من أجل تمزيقها ... والكتب التي لا يتم الانتهاء منها سوف تترك لنوبة العمل التالية.»
لم يكن لي أي رد فعل للحظة، بعدها وكزني السيد شاو قائلا: «اذهب إلى الحوض رقم واحد ومزق هذه الكتب السميكة.» ترددت قليلا ثم توجهت إلى فوهة الحوض رقم واحد وجلست القرفصاء، لأرى أمامي كتبا ضخمة مثل «قاموس الإنجليزية إلى الصينية»، و«قاموس الروسية إلى الصينية»، و«الرياضيات المتقدمة»، وكتب أخرى بلغات أجنبية لا أتذكر أسماءها. تجولت عبر عدة صفحات من الكتب ثم توقفت دون وعي مني. رفعت رأسي فرأيت السيد دنج والسيد جيانج يمزقان الكتب برشاقة وخفة يد، مقطعين أربطة أغلفة الكتب بسكاكين صغيرة، وأخذوا يبعثرون الصفحات على فوهة الحوض بشكل تلقائي كما لو كانت الشاحنة قد سلمت كومة من الأوراق المهملة. وعندما شاهداني أتسكع وأضيع الوقت، نادياني بحدة قائلين: «ماذا تظن أنك فاعل؟ لتبدأ العمل!» وبيدين مرتعشتين، رحت أنتزع صفحات من الكتب، ولكنني شعرت بطعنة ألم كما لو كنت أمزق قلبي. فكرت لوهلة في إخفاء كتاب «أعمال دو شاولينج»، ولكن انتابني الخوف من احتمال قيام الحرس الأحمر بهجمة مفاجئة، ولم أكن أريد أي متاعب. ولم يمر وقت طويل حتى كنت أمزق الكتب إربا دون أية مبالاة ، واضعا الصفحات الممزقة داخل فوهة الحوض. ورأيت بأم عيني ما يقرب من طنين من الكتب يتحول إلى عجينة ورقية صفراء تقلب جيئة وذهابا خلال عملية صناعة عجينة الورق.
منذ بداية حملة تدمير القدماء الأربعة، سمعت أن مصنعنا وحده ألقى حوالي عشرين عربة ورق في المرجل. وبغض النظر عن كونها بيضاء أم حمراء، فقد ابتلعها المرجل جميعا!
إن التاريخ الصيني والأجنبي يزخران بسوابق مماثلة في تدمير الكتب بما يكفي، لكن تشين شي هوانج دي لم يحرق كتبا عن الزراعة والطب، ولم يحرق هتلر سوى الكتب ذات «الأيديولوجية المعادية للألمان»، وكتب الجنس (لو شون، «مقارنة بين حرق الكتب لدى الصينيين والألمان»): فكلاهما كان ينتقي ما يحرقه. لقد كان نمط وروح هذه الحرائق مختلفا اختلافا واضحا عن تدميرنا للكتب؛ ففيما عدا مجموعة معينة من الكتب الحمراء، كان بالإمكان إدراج جميع الكتب ضمن فئة القدماء الأربعة وتدميرها. علاوة على ذلك، كانت وصفتنا لتدمير الكتب - استخدامها كمخلفات - تتفوق تفوقا هائلا على نهج تشين شي هوانج دي وهتلر. من يمكنه أن يدعي أنهما كانا أكثر همجية منا؟
وقع في نفس المصيدة مع القدماء الأربعة رموز الفن البرجوازي، بما في ذلك الكتب والموسيقى الواردة من الخارج، وكذلك المنتجات الصينية الحديثة في الفترة من 1911 إلى 1949. فقد انتقدت الأعمال المرتبطة بالكتلة السوفييتية انتقادا عنيفا باعتبارها منتمية للتيار التعديلي. فقد كانت مرحلة التعبئة الجماهيرية للثورة الثقافية، والتي اتخذت نبرة قومية من البداية، تظهر توجها قوميا متعصبا للهوية الوطنية كان واضحا كل الوضوح في المجتمع الصيني. وقام الحرس الأحمر في مدينة هاربن الشمالية الشرقية بشكل مستبد وعنيد بهدم كنيسة أرثوذكسية خشبية بأكملها، وكانت من أطلال التأثير الروسي.
كان الحرس الأحمر يتعرضون لمواطنيهم ممن كانوا يصففون شعرهم بطرق لا تتسم بالبساطة بما يتفق مع التقاليد، ومن ثم كان يفترض أنهم «برجوازيون»، وأحيانا ما يهذبون لهم شعرهم على قارعة الطريق دون طلب. وكانوا يرفضون الأحذية المستدقة، والبنطلونات الضيقة، والعطور، والحيوانات المنزلية، والقمار، والمجوهرات، والدعابات البذيئة، وألعاب المقامرة. وحلت المعاطف الثقيلة الضخمة لأفراد جيش التحرير الشعبي محل طراز هونج كونج لجعل الشكل الجديد هو الموضة السائدة. كذلك قام الحرس الأحمر بتغيير أسماء الشوارع، تاركين السفارة السوفييتية في شارع أنتي ريفيجونيست (بمعنى المعادي للتعديلية)، إلى جانب إعادة تسمية شارع وزارة الخارجية ليصبح شارع أنتي إمبرياليست (بمعنى المعادي للإمبريالية). وكان على رئيس الوزراء شو إن لاي الاعتماد على كل مهاراته الدبلوماسية لمنع إشارات المرور الحمراء من التحول إلى إشارة ثورية «للانطلاق» بدلا من التوقف. كذلك قام الأفراد بتغيير أسمائهم، كتطهير من رائحة الإقطاع العفنة. وأطلق على الأطفال أسماء تفوح منها رائحة الفضائل الثورية والمادية، كأن يسمى الطفل «ريد هيرو» (البطل الأحمر) بدلا من «بريشيوس جايد» (اليشم الثمين).
وبقدر قصر مرحلة تدمير القدماء الأربعة، فقد ارتبطت ببعض من أحط أشكال العنف، وهو ما دفع بعد ذلك إلى إدانة الحرس الأحمر ليس فقط لأفعالهم الشائنة، ولكن أيضا لأفعالهم التخريبية السابقة ضد تاريخ الصين، بما في ذلك ناشطي الكومنتانج المنتمين لحقبة العشرينيات، ولصوص الفن الشرقي المنتمين للحقبة الإمبريالية. فعلى سبيل المثال، أحيانا ما يلقي السائحون الأجانب باللائمة - خطأ - على الحرس الأحمر في حادث التدمير الشهير الذي حل بحديقة الإشراق المثالي (يانج مين يوان) الإمبراطورية ببكين، والتي تم حرقها - في الحقيقة - على يد جيش بريطاني فرنسي في عام 1860.
تزامن مع الهجوم ضد القدماء الأربعة انطلاقة لصناعة الفن الثوري، خاصة من قبل الطلاب المنتمين للحرس الأحمر من المعاهد الموسيقية وأكاديميات الفنون الجميلة. كان الحماس أهم من الجودة، على الرغم من أن الطلاب الأكثر تفوقا في الخط غالبا ما كانوا يجندون لكتابة الملصقات ذات الأحرف الكبيرة، التي كانت وسيلة أفضل لجذب القراء.
عندما ساور السلطات المركزية القلق بشأن كيفية السيطرة على الحرس الأحمر، حاولوا تحجيم عروض الشارع الارتجالية، والتي لم تنجح سوى في إثارة الحشود. وبحلول الرابع من ديسمبر من عام 1966، التقى شو إن لاي بالمتمردين من مؤسسات فنية عديدة، زاعما أن ماو تسي تونج قد أخبره أن الدعاية التي تمارس في الشوارع ليس من السهل القيام بها على نحو جيد، بل وقد تكون غير آمنة وسط حشود بكين الضخمة. وأكد شو إن لاي للحرس الأحمر أنه سيكون من الأفضل للجميع أن تقوم المدينة بتنظيم العروض الدعائية الكبيرة. وبحلول فبراير من عام 1967، سعت السلطات المركزية لإحكام السيطرة بالتصريح بأن الفنانين الشبان «لا بد أن يمتنعوا تماما عن الخروج لتبادل الخبرات.» وكان على الفنانين العودة في الحال إلى مدارسهم وأماكن عملهم الأصلية لإعداد الفن الثوري من أجل العمال، والفلاحين، والجنود.
لم يكن ماو تسي تونج وقادة الثورة الثقافية الآخرون راضين عن الصخب القومي بشأن القدماء الأربعة والهجمات على المنازل، لكونها قد صرفت الانتباه عن هدفهم الأساسي، ألا وهو «ممثلو البرجوازية» القابعون في مواقع السلطة. وفي الواقع، كان لأعضاء النخبة السياسية في الصين أذواق ثقافية كانت لتحبط آمال الكثير من أفراد الحرس الأحمر. فكان ماو عاشقا للأوبرا والروايات القديمة، ويستمتع بممارسة فن الخط لبعض الوقت، ويتبادل القصائد الشعرية مع الثوار القدماء الآخرين. وكان أحد منافسيه، وهو تشين يون مسئول الاقتصاد، راعيا أساسيا لغناء القصص الشعرية في منطقة يانجتسي السفلى «بينجتان». كذلك كان كانج شينج، المسئول عن أعمال الأمن بالحزب، رساما رائعا للوحات أزهار الأقحوان.
أراد ماو إعادة توجيه أكثر جدية للثورة الثقافية تتجاوز الانتفاض ضد ارتداء الأحذية المستدقة والعزف على آلات الكمان. واشتكى في عام 1963 من أن الإنجازات في مجال الفن الثوري كانت قليلة للغاية، على الرغم من الجهد الكبير المبذول: «أليس من السخف أن يكون الكثير من الشيوعيين متحمسين للترويج للفن الإقطاعي والرأسمالي، وليس للفن الاشتراكي؟» (2) جيانج تشينج والأعمال المسرحية النموذجية
وضع ماو مهمة الترويج للفن الاشتراكي بين يدي زوجته، الممثلة السابقة جيانج تشينج، التي قامت بتنظيم سلسلة من الأعمال المسرحية النموذجية. ولعل النظر إلى جيانج تشينج كمنتجة تعمل مع مجموعة من المطربين، والراقصين، والملحنين المحترفين، من ضمنهم وزير الثقافة يو هوي يونج، هو أفضل منظور يمكن النظر منه إليها. وقد انضمت تلك الأعمال إلى تيار قديم لتحديث الفن من خلال دمج عناصر غربية بشكل انتقائي، مثل الأوركسترا والباليه، ولكنها هنا من أجل خدمة الثورة وليس للترفيه. وكانت جيانج تشينج فخورة بأعمالها الإنتاجية الجديدة، ولكنها لم تكن تحتمل المنافسة. وعلى الرغم من أنها قد بدأت نشاطها قبل الثورة الثقافية، فإنه لم يهيمن حتى وقوع حركة تطهير اليسار المدني وانتهاء التعبئة الجماهيرية. وقد قدمت جيانج تشينج مجموعة من ثمانية أعمال نموذجية للأمة في مايو من عام 1967، حين كانت الثورة الثقافية تعمل على تفكيك حرسها الأحمر بالقوة.
كانت هناك مسرحيات أخرى، عرض بعضها كمسرح شارع، ولكن عرضت مسرحيات أخرى بطموحات أكبر، مثل مسرحية غنائية عرضت في ووهان بعنوان «اقصفوا وانج كوانج، أحد أهل السلطة يتخذ الطريق الرأسمالي». ثمة عمل آخر أكثر شهرة بعنوان «مجنون العصر الحديث»، وهي مسرحية عرضت في تانجين. كان بطل المسرحية هو تشين لينينج، الذي أودع أحد مستشفيات الأمراض العصبية قبل الثورة الثقافية لاحتفاظه بمذكرات نقدية عن كتابات ليو شاوشي. وعندما أطيح بليو من السلطة، أفرج عن تشين واحتفي به كأسير سياسي محرر. وقد دعم المسرحية وانج لي وتشي بنيو من مجموعة الثورة الثقافية. ولكن تشين لينينج كان يحتفظ بمذكرات نقدية لماو، والتي اكتشفت، بينما كانت حركة التطهير ضد يساريي الثورة الثقافية تكتسب زخما. وقد أعلنت جيانج تشينج أن تشين لينينج ليس بطلا، ولا حتى مجنونا، ولكنه معاد للثورة. وقد وصمت هذه المسرحية بصلات مزعومة لها بمؤامرة 16 مايو، وهي مؤامرة ضد الماويين لم يكن لها وجود، ولكنها اختلقت للإطاحة بالسياسيين اليساريين الصاعدين أمثال وانج وتشي.
كانت جيانج تشينج تغار من أية منافسة لمشروعاتها الفنية ذات التخطيط الدقيق، وكانت شديدة الحساسية تجاه ابتكارات الحرس الأحمر التلقائية. واستغلت انتهاء حركة الحرس الأحمر لإيقاف تمسكهم البالغ التطرف بالهوية الثقافية. ومن ثم تدخلت جيانج تشينج لحماية شكلين مستوردين من الفن، هاجمهما الحرس الأحمر باعتبارهما من الفنون البرجوازية، وهما: الرسم بالزيت وموسيقى البيانو. فقد رأت جيانج تشينج كلا الفنين كفرص لتغيير الفن الصيني. وعلى الرغم من سعادتها برؤية فن الفنانين الفرديين والمتعصبين يعاني، فلم تكن راغبة في السماح لأعضاء الحرس الأحمر السذج بحرمانها من الألوان العميقة والبراقة للرسم الزيتي، أو من لوحة الألوان الصوتية الغنية للموسيقى الغربية. وقد أشادت حملتان مزدوجتان دشنتا في عام 1968 بلوحة «الزعيم ماو في أنيوان»، ونسخة البيانو من الأوبرا النموذجية «المصباح الأحمر» بوصفهما إنجازات ثورية جديدة؛ إذ أبرز كلاهما فنانا شابا جديدا. فقد صور الرسام ليو جون هوا الشاب ماو بملامح القديسين وهو في طريقه إلى إضراب لعمال التعدين وقع في عام 1924؛ وقد تم توزيع تسعمائة مليون نسخة من هذه اللوحة في جميع أنحاء البلاد. أما عازف البيانو يين تشينج تسونج، الحائز على جائزة في مسابقة تشايكوفسكي بموسكو، فقد صنع مقطوعة مصاحبة بالبيانو لواحد من أشهر أعمال جيانج تشينج النموذجية. وظل الرسم والموسيقى الفعليان المستوردان من الغرب محل جدل على مدار حقبة الثورة الثقافية، غير أنه لا أحد كان سيتساءل عن تعديل وسائلهما وموادهما الأساسية، والتي كانت تنقى في ذلك الوقت من أجل الثورة.
كانت أوبرا «المصباح الأحمر» واحدة من المجموعة المبدئية من «الأعمال المسرحية النموذجية» الثمانية، التي كان خمسة منها عبارة عن عروض أوبرالية بأوبرا بكين تناولت موضوعات ثورية، تم تحديثها ليس فقط في القصة، وإنما أيضا في التوزيع الموسيقي وطريقة العرض، فيما كان اثنان منها عبارة عن عروض باليه وواحد عبارة عن مقطوعة سيمفونية، وكلاهما كان شكلا ورد حديثا للصين، على الرغم من أن جيانج تشينج قد قللت من أهمية أصولهما الأجنبية.
كانت لهذه الأعمال المسرحية النموذجية شعبية بالغة، وتم عرضها في جميع أنحاء البلاد. على سبيل المثال، يدور باليه «الفتاة ذات الشعر الأبيض» عن فلاحة شابة أجبرت على الاختباء في الجبال بسبب إقطاعي حاقد حتى اشتعل رأسها شيبا، وظنها الفلاحون شبحا. ولكنها تعود إلى موطنها بعد أن قضت الثورة على الإقطاعي. فكرة العرض ثورية، ولكنها أيضا تتعلق بالمرأة والمساواة (على الرغم من أن الثورة الثقافية لم توظف هذا المصطلح). وعلى الرغم من أن الموسيقى صينية بشكل واضح، فإن النوتة الموسيقية مؤلفة لتناسب آلات أوركسترا سيمفونية غربية.
وعلى عكس الأوبرا الصينية التقليدية، أصبحت الموسيقى أعلى، لتنفصل بذلك عن المجموعات الصغيرة من الآلات الوترية التقليدية. ولكن ثمة اختلاف أكبر تمثل في محتوى الأعمال الجديدة؛ فبينما كانت الأوبرا التقليدية تركز على قصص الوعظ الأخلاقي المستقاة من أساطير الأسر المالكة القديمة، كانت الأعمال المسرحية النموذجية تجسد في الحاضر، مشتقة دروسا من الحقبة الثورية.
وقع اختيار الراديكاليين على الفنون الأدائية لما تحويه من تجديدات؛ لأن الأدب، ذلك الفن الذي كان الأقرب تاريخيا للسلطة في الصين، كان يخضع لسيطرة صارمة من قبل خصومهم. ولم يكن الاستيلاء على السلطة في المسرح أسهل فحسب، ولكن خلفية جيانج تشينج كممثلة منحتها ثقة بالنفس إزاء المسرح، افتقدتها مع الفنون الأخرى. كذلك تتسم الأوبرا الصينية كشكل فني بشعبية أوسع من الأدب، مما جعلها أكثر ملاءمة للإصلاحات الشعبية. وأخيرا، كانت الأوبرا ملائمة للعروض النموذجية، بما في ذلك عروض الهواة والنسخ الفيلمية، بطريقة لم تتح للروايات أو القصائد. وهذه الاختيارات منحت فنون الثورة الثقافية حيوية فورية واتجاها سياسيا.
بعض اختيارات جيانج الفنية الأخرى كانت شخصية إلى حد كبير؛ فقد كانت تكره الأغاني الفولكلورية، ورفضت فرصة لدمج ألحان لها شعبية مثبتة في أعمالها. كذلك كانت تراجع الآلات المستخدمة في اللحن السيمفوني بشكل منتظم، وقررت أن آلة التوبا قبيحة ومن ثم لم تجد مكانا لها في برنامجها. لقد مزج الفن المركب الذي أنتجته بين الفن غير الراقي والفن الرفيع، وهو يناسب نهج حركة الرابع من مايو في تحديث الصين من خلال ثقافتها. (3) جماليات الثورة الثقافية
الأهم من نزعات جيانج تشينج الشخصية أن الثورة الثقافية قد استفادت من بعض التقاليد القديمة على الرغم من أنها كانت تنادي بفن راديكالي جديد. لم يسبق لمصطلح الفن لأجل الفن أن ساد في الصين مطلقا، فغالبا ما يعتقد الغرب أن الفن لا بد أن يسمو بالروح، وأن قراءة رواية «الحرب والسلام» لتولستوي، أو التحديق في تمثال فينوس دي ميلو يساعد في تكوين إنسان أكثر تحضرا ورهافة. وتلك أمنية إنسانية بحتة: أن تمكننا الفنون من فهم الحقائق الأساسية عن الطبيعة البشرية. كذلك يقل لدى الغرب التقاليد الفنية الموجهة للإقناع، مثل لوحات فرانسيسكو جويا المريعة عن الحروب النابليونية، أو أفلام سيرجي أيزنشتاين عن الثورة الروسية. والفن ذو الرسالة في الصين تقليد أساسي؛ فالفنانون الصينيون على اختلاف قناعاتهم السياسية يسلمون بديهيا بأن فنهم لا بد أن يكون بمثابة تعليق على الحياة العامة، إما كموظفي دعاية مدفوعي الأجر أو كنقاد منشقين عن النظام. إن الفن ليس بحاجة لامتلاك قناعة سياسية، ولكن معظم الفنانين يتفقون في الرأي على أن الفن لا بد أن يثقف ويوعي. والحق أن البعض يعتبرونه عملا سياسيا حين يتجه الفنانون إلى الداخل لأفكار شخصية تأملية.
ويتوافق هجوم الثورة الثقافية على التجارة تماما مع فكرة أن النشاط التجاري قد لوث الفن. والواقع أن جزءا كبيرا من عالم فنون ما قبل الحداثة في الصين ارتبط بالتجارة. ولكن الأنشطة التجارية غالبا ما كانت تتخفى في شكل هدايا أو لا تسجل، حتى يتسنى للجميع الإبقاء على ذلك الوهم الأرستقراطي الأنيق بأن الفن يسمو فوق المال. وقد شجعت الثورة الثقافية تقديس الهواة، للتحقير من نخبوية الفنانين المحترفين. فقد خيل للراديكاليين أن العمال، والفلاحين، والجنود يمكنهم أن يصبحوا فنانين ومؤدين من شأن مشاركتهم أن تحدث ثورة ثقافية جديدة. والحقيقة أن إصرار جيانج تشينج على المعايير العالية قد أدى إلى الاستغلال غير المعلن للمحترفين كمعلمين للفنانين الهواة، وهو الأمر الذي تم إخفاؤه بحرص عن أنظار الرأي العام.
لم يصور نموذج الهواة لحركة النضال الماوي الفن كمتعة ترويحية؛ فقد كان الفن على قدر عال من الجدية لا يسمح بمثل هذا التوجه التعديلي. لقد كان الفن نفعيا بشكل عنيف، وليس به سوى مساحة محدودة لأي طابع خيالي حالم، وهو عنصر من المدهش غيابه في حركة لها مثل هذه الطموحات اليوطوبية الحالمة. ولكن إذا لم يكن الفن من أجل المتعة، فقد ظهرت المتعة رغم ذلك، خاصة في الريف المعدم ثقافيا. فقد استمتع الناس بمشاهدة وأداء العروض الأوبرالية، واستمتع الكثيرون بالوضوح الجلي للرسالة. والحق أن غياب البدائل الفنية ربما يكون قد ضاعف من قوة التجربة. غير أن الآخرين كانوا دائما ما يتضررون من الحدود الضيقة للفن المقبول . فلم كان الاستمتاع بلوحة لسمكة ذهبية عداء للثورة؟
لم يكن لدى الثورة الثقافية الكثير من الهوادة والتسامح تجاه الجماليات الصينية التي كانت تتلاعب بالزخرفة، والتعقيد، وإظهار ولع عفوي بالتحف الفنية. فقد كان فن الثورة الثقافية في شدة التزمت لنقل الكثير من حس اللهو، ويتضح ذلك على وجه الخصوص في الصناعات اليدوية التقليدية. فقد وضعت الثورة الثقافية نهاية جبرية للمنتجات التي تحمل أسماء مثل: «جويفي المحظية الثملة»، أو «الجنرال والوزير يعقدان صلحا»، أو «الثمانية الخالدون» (في الطاوية)، أو «بوذا المنتفخ»، تلك المنتجات التي كانت مهددة بالفعل من قبل الثورة، التي قضت على جامعي التحف الأثرياء الذين كانوا يشترون الآنية المطلية باللك، والمنحوتات المصنوعة من المينا المزخرفة، أو العاج، أو اليشم. وتعلم مصنع جينجدتشن الشهير لصناعة الخزف الصيني إنتاج شارات ماو (المرغوبة بشدة). وتوصل مصنع ببكين إلى تصميمات جديدة للتماثيل الصغيرة المعبرة عن الثورة، من ضمنها تماثيل لشخصيات مشهورة من عروض الأوبرا النموذجية، والجندي المثالي لي فينج، والشهيد الكندي نورمان بيثون شهيد الثورة الثقافية. غير أن الولع بالتحف الفنية استمر واتجه آنذاك نحو الثورة. فقد عرضت أحد المتاجر متعددة الأقسام المملوكة للبر الرئيسي لهونج كونج ناب فيل نقش بدقة وإحكام رائع لتجسيد معركة هائلة من معارك المسيرة الطويلة، وفيها كانت تماثيل صغيرة لجنود الجيش الأحمر تهاجم العدو بإلقاء قذائف يدوية على طول الطريق نحو سن الناب. ولكن سوق هذه السلع الثورية المترفة كان محدودا.
شكل 3-1: «ساحة جمع الإيجارات» هي مجموعة من مائة تمثال من الصلصال تجسد إقطاعيا جشعا، ووكلاءه، والفلاحين المعذبين في إقليم سيشوان.
1
لم تبذل الثورة الثقافية الكثير من أجل تقويض المفهوم الصيني القديم من أن الحكام الجيدين يهتمون بالثقافة، مما أضفى شرعية على الجهود الماوية من أجل إعادة تعريف فنون الصين. غير أنه صنع بعض التنافر. ففي ظل النزعات الجمالية للكثير من القادة الشيوعيين، شجعت القيود الجمالية للثورة الثقافية على النفاق. فحين حظرت عروض الأوبرا التقليدية، كان ماو تسي تونج يشاهد مجموعة من العروض المصورة خصيصا في مسكنه الخاص. وكان قادة المستوى الأدنى للحزب يستطيعون مشاهدة الأفلام الأجنبية المحظور عرضها للعامة، بداعي «الدراسة»، فيما قضى تشو دي - قائد الجيش الأحمر الذي لم يكن له أية فاعلية على المستوى السياسي - فترة الثورة الثقافية في مشاهدة أفلام أبوت وكوستيلو، ذلك الثنائي الكوميدي الأمريكي الذي اشتهر في فترة الأربعينيات من القرن العشرين. وكان الأكثر خبثا من هؤلاء هو الخبير المحنك كانج شينج، أحد حلفاء ماو الأساسيين الذي اختار آلاف اللوحات، والأختام الصينية المنحوتة، والكتب لضمها لمجموعته الخاصة من غارات الحرس الأحمر على الملاك البرجوازيين.
انفصل الفن الماوي انفصالا حادا عن تقليد النظر إلى أي ماض مقدس؛ فقد كان تقديس الصين لعصر ذهبي قديم يتعارض مع التقديس الغربي للتقدم وأن الأفضل قادم. وهنا انضم الماويون إلى نهج حركة الرابع من مايو من مقت واحتقار الثقل الكبير لتراث الصين، الذي اعتبر بمثابة وعاء للقيم الإقطاعية. واستمر الثوار الثقافيون في الإصلاح اللغوي، تلك الحملة الموجهة لتوحيد وتبسيط الحروف الصينية المكتوبة من أجل الحد من العوائق التي تحول دون محو الأمية.
لقد قضى الماويون على هيمنة الأدب التي استمرت لزمن طويل باعتباره الشكل الفني الأجل والأبرز عن طريق رفع مكانة واعتبار الفنون الأدائية، التي لم يكن نهج رجال الأدب يقيم لها ثقلا كبيرا. وقد شمل النجوم الجدد المطرب تشيان هاوليانج، والراقص ليو تشينج تانج (اللذين عينا نائبين لوزير الثقافة)، وعازف البيانو يين تشينج تسونج (ملحن «كونشرتو النهر الأصفر» الشهير ونائب رئيس الجمعية الموسيقية المركزية). وكان الروائي الأشهر في تلك الفترة هو هاو ران، الذي باعت روايته «الطريق الذهبي» 4 ملايين نسخة في أول عام نشرت فيه، وهو عام 1972. ولكن هاو تميز بعدم وجود أقران له في الأدب؛ فقد كان الكاتب الوحيد الذي كان يحصل على عمولات في بداية السبعينيات، متمتعا بذلك بمعاملة مادية متفردة مساوية لتلك التي حظي بها المسئولون على المستوى الوزاري.
وأخيرا، تتميز فنون الثورة الثقافية لرفضها العنصرية الجنسية التقليدية؛ فالكثير من الأعمال تبرز بطولة نسائية قوية بشكل واضح، مما يؤكد سعي الحركة الحثيث من أجل دمج المرأة في المناصب القيادية. وربما رأى البعض حتما تجسيدات لجيانج تشينج بغرض التزلف والتملق في المحاربات في باليه «الانفصال الأحمر للنساء»، أو البطلة الشجاعة الذكية في أوبرا «المصباح الأحمر»، لي تيمي. (4) السيطرة السياسية والخوف من التلقائية
كانت الإصلاحات الفنية أيضا بمثابة نظام للسيطرة السياسية. ولا يقصد بهذا السيطرة على الأفراد، الذين بدوا قادرين تماما على التمييز عندما يتغنون مع ماو لا أكثر، أو فقط يستمتعون بوقت طيب، بل يقصد بذلك الإشارة إلى دور الفنون في تعزيز حس من المشاركة السياسية المشتركة.
كانت الثورة الثقافية فترة من اللامركزية الراديكالية، وقد كان هذا متعمدا بشكل جزئي؛ فالسياسات الاقتصادية القائمة على الاعتماد على النفس استغلت الحاجة إلى تجنب إثقال نظام النقل المتهالك في الصين أكثر من اللازم. كذلك كانت اللامركزية غير متعمدة، كما ظهر في الانهيار الوشيك للبنية الإدارية القومية عندما تعرضت مؤسسة الحزب للنقد الشديد. وعلى عكس الاتجاهات السياسية والاقتصادية التي كانت تتجه نحو اللامركزية، كانت فنون جيانج تشينج تميل نحو المركزية إلى حد كبير.
يستعير الاسم الصيني «للأعمال المسرحية النموذجية»، (yangban xi) ، المصطلحات الزراعية الخاصة بالحقول الزراعية التجريبية للإيحاء بوجود دور للمسرح التجريبي. فمثل جدائل اللؤلؤ، كانت الأعمال النموذجية تنسخ وتوزع عبر البلاد، مع إتاحة مساحة محدودة للتنويع المحلي. وقامت بكين بنشر كتب حددت بدقة تصميم الملابس، ومقاييس الأدوات المستخدمة، والحركات على خشبة المسرح لكل عمل فني. وانتشرت الأوبرات مثلما انتشرت تماثيل ماو الضخمة المتطابقة وهو يرفع نفس الذراع دائما، وكأنه ينظم المرور. وأخيرا ظهرت تعديلات محلية لأوبرات بكين، ولكن المدهش هو قلة التنويعات، حتى عندما أيدت جيانج تشينج تحويل أوبرا بكين إلى أوبرا كانتونية أو أي أوبرا إقليمية أخرى. وعلى الرغم من أن معظم الصينيين قد تعلموا لكنة الماندرين المعتمدة رسميا في بكين في المدارس، فقد ظلت اللغات المحلية الصينية الأخرى مستخدمة يوميا على نطاق واسع، وكانت مرتبطة ارتباطا وثيقا بالأشكال الفنية المحلية المحبوبة، مثل الأوبرا المحلية. وكانت الأعمال النموذجية تنتشر عبر جميع أنحاء البلاد عبر وسائل عدة، من بينها الأفلام . وكان الملايين من شباب المدن المقيمين في الريف يروحون عن أنفسهم وعن مضيفيهم من الفلاحين بغناء ألحان أوبرالية.
ساهمت عسكرة الثقافة الصينية في تسخير الحس الفني لخدمة الأمة بأسرها، خاصة قبل وفاة لين بياو في عام 1971؛ فقد سيطر الجيش على وزارة الثقافة في عام 1965، خلال فترة الإعداد التي سبقت الثورة الثقافية. وفيما بعد، أصبحت مجموعات ثقافية كاملة، مثل أوركسترا الجمعية الموسيقية المركزية، تؤدي عروضا في ملابس عسكرية؛ إذ كانوا يسعون لنيل حماية ورعاية الجيش. كذلك قامت مجموعات الفنون الأدائية ذات الاحترافية العالية للجيش بأداء أعمال جديدة.
شكل 3-2: «لن نتخلى عن إنش واحد من وطننا الجميل.» موسيقيو جيش التحرير الشعبي يؤدون أغنيات وطنية في الميادين المفتوحة.
1
كان للسيطرة الماوية المركزية على الثقافة أثرها في تمكين السلطة المركزية من رسم صورة لأمة أكثر توحدا مما هو مكفول في الواقع. فقد حققت الثورة الثقافية ظاهريا التجانس بين الفوارق العرقية، والاقتصادية، وحتى النوعية. ويشكل تعداد الصين السكاني الهائل ومساحتها الشاسعة الأساس لخصائص ثقافية إقليمية فريدة وعظيمة. وغالبا ما تمثل هذه الخصائص حدا فاصلا بين الشمال والجنوب، ولكن بخواص فنية فريدة، سواء إقليميا أو حتى على مستوى المقاطعات، في الأوبرا، وسرد القصص، والرسم، والصناعات اليدوية. وقد أحبطت بعض التفضيلات الثقافية المحلية، إن لم تكن قد قمعت، قبل الثورة الثقافية. وصرفت الثقافة الصاخبة اللافتة القادمة من بكين الانتباه عن التنويعات المحلية العديدة التي عادت للظهور بشكل عملي، كنتيجة للفوضى الإدارية واللامركزية الاقتصادية.
فرضت حركة جيانج تشينج للإصلاح الثقافي سيطرة مركزية على التلقائية؛ فقد سعت مع زملائها لصناعة فن بدا ملهما دون إعادة تعبئة منظمات السياسة الجماهيرية فعليا. وكان من إحدى عواقب هذه المهمة المستحيلة غياب التنوع الفني، ونقص الأعمال الفنية الجديدة حتى في عيون الماويين المخلصين. ولم يستطع فريق الإنتاج الخاص بجيانج تشينج، برئاسة وزير الثقافة الجديد يو هوي يونج زيادة الإنتاج بالسرعة الكافية للحيلولة دون انتقاد الزعيم ماو لهم.
غالبا ما يقال إن فنون الثورة الثقافية تألفت فقط من أعمال جيانج تشينج المسرحية النموذجية الثمانية . وتلك مبالغة، ولكنها تحمل إشارة إلى النقص الثقافي. فقد ظهرت مزيدا من الأوبرات الثورية، إلى جانب كونشرتو بيانو، وسيمفونية، وثلاث مجموعات من المنحوتات، وعرضين للباليه، وبعض الأفلام والمسرحيات الناطقة، بالإضافة إلى حوالي مائة رواية، وقصائد قصصية محلية، ومسرح للعرائس. وكان هناك ملصقات دعاية، ولوحات، وأغنيات. علاوة على ذلك، شملت الفنون الأخرى قصائد ماو الشعرية، والرواية الكلاسيكية «حافة الماء»، وأدبيات قانونية أعيد طباعتها جميعا إبان الحملة المضادة للين بياو وكونفوشيوس. وكانت الأفلام والروايات الأجنبية متاحة لذوي الحظوة السياسية. غير أنه من المستغرب أن تكون قادرا على تدوين معظم الفنون المتاحة لمواطني مثل هذه الأمة المثقفة ذات الكثافة السكانية على مدار عقد كامل.
ساهمت عوامل عدة في إبطاء حركة الإبداع، من بينها ضخامة وغرور الهدف الذي حددته جيانج تشينج؛ فقد كانت شخصيتها المستبدة والانتقامية تذكر الجميع بأن السيطرة على الفن أسهل من إنتاجه.
لقد كان الثوار الثقافيون يرغبون حقا في ثقافة مزدهرة، وحماسية، وثورية لتحل محل كل ما مضى، ولكنهم كانوا يخشون ما يمكن أن تطلقه المشاركة الجماهيرية. ففي عام 1971، حث جانج تشن شياو على تخفيف محدود للرقابة على الفنون، موجها إلى أن الأغنيات الجديدة لا تحتاج للحصول على موافقة من السلطات المركزية، ولكن في عام 1967، كانت وزارة الثقافة لا يزال لديها مكتب لتقييم الأغنيات الجديدة، من بينها ستمائة لحن تهاجم دنج شياو بينج (الذي أطيح به للتو من منصبه كنائب لرئيس الوزراء)، و«الانحراف اليميني».
لم تكن العقوبات على الفنانين تطبق إلا عندما يتجاوز مقال أو لوحة «حدا فاصلا». لكن الحدود كانت نادرا ما تحدد بوضوح، مما ولد مزيدا من القلق والاضطراب لدى الفنانين. وظل الرؤساء على حذر، ليس فقط بسبب «رؤسائهم»، ولكن أيضا لأن الماوية كانت تعمل بشكل غير رسمي، عن طريق تحريض المواطنين الغاضبين لإبداء تذمرهم الشديد من الانتهاكات الأيديولوجية. كان النظام يعمل بشكل فعال في ظل وجود ملايين الماويين المتقدين بالحماس؛ ولكن عندما خفت الحماس السياسي بعد الثورة الثقافية، خفتت كذلك فاعلية الرقابة .
كان لقلة منافذ النشر دورها في تسهيل مراقبة نشاط الكتاب؛ فبحلول عام 1973، لم يكن هناك سوى خمسين مجلة وصحيفة، من إجمالي 1330 في عام 1960. وأدى انهيار المؤسسات في عام 1966 إلى انهيار وسائل الإعلام التي كانت تقوم برعايتها. ولكن تعطيل الروابط والاتحادات المهنية للفنانين وغيرهم من المثقفين كان يعني أن الثوار الثقافيين يعملون بدون منظومة الدعم التي نمت خلال الأعوام السبعة عشر. لقد عمد العديد من المثقفين لمساعدة النظام الجديد، ولكن الفنانين المحبطين لم يكونوا ليرغموا على الكتابة، أو الرسم، أو تصميم الرقصات.
لم تبدأ مبادرات أخرى جديدة، مثل الرسم الريفي، إلا في مرحلة متأخرة من الثورة الثقافية. تطورت هذه المشروعات ببطء، ويرجع ذلك في جزء منه إلى الحاجة الماسة إلى الاستعانة بمحترفين مدربين تدريبا رسميا (ولكن موصومون أيديولوجيا) لتدريب الفنانين الجدد من الفلاحين.
كانت بعض العقائد التي تحكم العمل في الأعمال المسرحية النموذجية تشكل عقبات؛ فكان من الصعب أن تجسد العدو، خوفا من إظهار الملاك، والغزاة اليابانيين، و«الأعداء الطبقيين الخفيين» المتواجدين حاليا كشخصيات شائقة ومثيرة أكثر من اللازم. وقد وضعت «نظرية الشخصيات المرموقة الثلاث» قواعد للفنانين: «من بين جميع الشخصيات، سلط الضوء على الشخصيات الإيجابية؛ من بين الشخصيات الإيجابية، سلط الضوء على شخصيات الأبطال الأساسيين، من بين جميع الأبطال، سلط الضوء على الشخصية المحورية.» وكان هذا يعني على الصعيد العملي أن الأبطال كانوا يحتكرون الحدث، ويفيضون بضوء من الشمس، كما ظهر في كثير من ملصقات ماو تسي تونج.
عاودت التلقائية الفنية الظهور خلال مظاهرات الخامس من أبريل عام 1976، التي خرجت ترثي وفاة رئيس الوزراء شو إن لاي؛ إذ قام الكثير من الناس بتعليق قصائد شعرية وسط أكاليل الزهور التي وضعت في ميدان تيانامين تكريما له. وشن عدد ليس بالقليل من هذه القصائد هجوما شرسا على جيانج تشينج وحلفائها. وحتى هذه القصائد التي كانت عفوية في البداية، وانتهى الأمر بنشرها بعد وفاة ماو كجزء من حملة منظمة ضد الثورة الثقافية، ذكرت القراء كيف أصبح الفن متداخلا بعمق مع السياسة. (5) مخاطر العمل الثقافي
غالبا ما كان الفنانون العجائز وأبناؤهم مستهدفين من الثورة الثقافية، إذ كان كثير منهم ينحدر من عائلات ذات مستوى تعليمي راق، كانت تساند الحزب الشيوعي في البداية في عام 1949. ولكن الضربتين المزدوجتين المتمثلتين في حملة 1957 المضادة لليمينيين والثورة الثقافية جعلت الحزب يجد صعوبة في جذب حماسهم والاستفادة من علمهم.
خلال فترة الثورة الثقافية، ارتفعت مخاطر العمل في مجال الفن؛ فبحلول عام 1969، كان الحزب ينتقد بشكل دفاعي «النظرية الخاطئة بأن العمل الثقافي خطير»، وهو الاعتقاد بأن البرجوازيين يعتبرون الثقافة ملكية لهم بالوراثة، مما أخاف العمال والمثقفين الثوريين. وقد ذهب الحزب إلى أن النضال في مجال الثقافة معقد بشكل خاص، وهو ما كان رسالة غير مطمئنة للفنانين القلقين.
إلى أي مدى يمكن أن يكون العمل الثقافي مصدر عناء وقلاقل؟ على سبيل المثال، كان تشن مين يوان باحثا في معهد السمعيات بأكاديمية العلوم في الثانية والعشرين من عمره. حين كان طفلا، التقى بجوو مورو، الكاتب المسرحي وعالم الآثار المنتمي لليسار، والذي علم تشن الصغير كيفية كتابة الشعر. وفيما بعد، أرسل تشن أشعاره إلى معلمه، ويبدو أن هذه الأشعار قد اختلطت مع أشعار أخرى من أحد المراسلين الآخرين لجوو مورو، هو ماو تسي تونج. وفي أكتوبر عام 1966، أنتج الحرس الأحمر طبعة مستنسخة من كتاب «قصائد لم تنشر للزعيم ماو». ومن بين أربع وعشرين قصيدة احتواها الكتاب، لم يكتب ماو سوى قصيدتين فقط؛ فيما كانت عشر منها لتشن. عندما سمع تشن أفراد الحرس الأحمر يقرءون قصائده خارج أكاديمية العلوم، أفصح عن ذلك فقط ليوصف ب «المعادي للثورة» لتجرئه على نسب أعمال الزعيم لنفسه. وسجن تشن حتى سقوط لين بياو، حين سمح له بالعودة إلى الأكاديمية، ومع ذلك لم يسمح له باستئناف نشاطه العلمي حتى عام 1978. ولم يجرؤ أحد على أن يسأل ماو إن كان قد كتب هذه القصائد.
هجر كثيرون الفن للهروب من السياسة كلية؛ فقد توقف اثنان من أعظم أدباء الصين، هما شيان شونج شو وشين كونج ون، عن الكتابة في عام 1949. ولم يستطع رفض نظام عمولات الرسم علنا وبشكل صريح إبان الثورة الثقافية سوى قليلين، ولكن كثيرين وجدوا أن الإبطاء والعمل بلا روح أو حماس بمثابة إجراء عملي. كان معظم الفنانين موظفين حكوميين، وحتى الفنانون المتمارضون استمروا في صرف رواتبهم الحكومية من وحدات عملهم. ولكن عازف الكمان جانج شيهانج تجنب هذه الحيلة؛ فنظرا لانشغاله بالموسيقى فقط، لم يكن لديه أي نشاط سياسي يؤخذ عليه، وأعطاه أحد الأطباء شهادة مرضية تفيد بإصابته بمرض مزمن، وأدخل المستشفى أربع مرات، وقضى الكثير من الوقت في تعليم طفليه العزف على الكمان.
وجد الكثير من الحرس الأحمر المحبين للاطلاع والقراءة ملاذا في الفنون بعد إرسالهم إلى الريف. ففي كثير من القرى، كان الفلاحون الأميون يكنون احتراما كبيرا للتعليم، وقرروا أن يمنحوا المثقفين الشبان مساحة لممارسة فن الخط أو قراءة الكتب الكلاسيكية التي حظيت بتبادل سري نشط.
غير أن آخرين من أفراد الحرس الأحمر استخدم الفن كطريق للخروج من الريف، أو على الأقل من العمل اليومي في الحقول. فقد خلق الضغط من أجل توسيع نطاق الفرق الغنائية والراقصة المتجولة حاجة جديدة لشباب موهوبين موسيقيا. وظهر اتجاه مماثل في المصانع الحضرية، حيث كان الموسيقيون والرسامون من العمال يعفون من مهامهم الاعتيادية من أجل البروفات والعروض لتحفيز زملائهم على بذل جهود أكبر. وقد أدت هذه الاتجاهات إلى ارتفاع حاد في أسعار آلات الكمان والأوكورديون المستعملة.
عند وفاة ماو في عام 1976، كانت جيانج تشينج وحلفاؤها يقفون على قاعدة سياسية في غاية الضيق؛ فعلى قدر قوة الثقافة، فإن قوتها لا تتكشف إلا على المدى الطويل؛ فلا يمكنها أن تتفوق على مصانع الصلب أو الجنود في أية مواجهة، ومن ثم قام دنج شياو بينج بجمع تقارير من الفنانين المحبطين، ثم استخدمها لمحاولة تقويض دعم ماو لجيانج تشينج.
كانت التحديات التي فرضتها الفنون الماوية على الثقافة الصينية ضخمة، ولكن هذه القضايا الفنية كانت أكثر اختلافا عن كونها مجرد قضية هدم مقابل وقاية. أيضا لم تختزل الانقسامات إلى صراع بين الحزب الشيوعي والفنانين، فكلاهما سقط معا، وكلاهما عاد معا. لقد كانت الثورة الثقافية أداة هدم وإحياء على حد سواء، ونهايتها لم تضمن عصرا من الحرية الفنية.
بالنظر إلى الوراء، نجد أن الثورة الثقافية قد بنيت على برنامج قوي قائم للتحديث الجذري لحركة الرابع من مايو، بما يحمله من رفض لعبء القيم «الإقطاعية» الثقيل. غير أن الثورة الثقافية أيضا نبذت التغريب الكامل المؤيد من جانب نشطاء الرابع من مايو الأكثر تطرفا، بل قام الماويون، بدلا من ذلك، بتنمية قومية صينية مدعمة بالتقنيات الغربية.
وبالنظر إلى المستقبل، نجد أن الثورة الثقافية قد صنعت جمهورا ثقافيا متجانسا، شحذ برسائل وعظية، وتشكل لاستبعاد أدوار تروق بشكل أساسي لمنطقة، أو طبقة، أو عرق. وقد أصبح ذلك فيما بعد سوقا تجارية واسعة للترفيه، مما يعد استكمالا للسعي إلى التجديد التقني تحت راية التحديث. والأهم من ذلك أن الثورة الثقافية كانت ضربة موجهة لتحطيم الدور المميز للنخبة المثقفة في الحياة السياسية، وجاءت مطرقة السوقنة التي لا ترحم لتضعف مكانتهم أكثر. حتى ضغط الثوار الثقافيين على الفنون الأدائية يظهر الآن كجزء من اتجاه عالمي أطول، تقلص بفعله دور المثقف المتحضر، من خلال التوجيه السياسي أولا، ثم لامبالاة السوق.
هوامش
الفصل الرابع
اقتصاد «الاعتماد على النفس»
كان «الاعتماد على النفس» هو الشعار المرشد لاقتصاد الصين خلال الثورة الثقافية، مما يعكس عزلة الصين كدولة ورغبات الماويين في استبدال العمالة البشرية الوفيرة برأس المال النادر كاستراتيجية للتنمية الاقتصادية. لقد كان الاقتصاد يتقدم بشكل أفضل مما اعترف به الإصلاحيون في حقبة ما بعد ماو، ولكنه لم يعمل وفقا لأنماط تنموية روتينية؛ فقد كان معدل دخول الصينيين منخفضا، ولكنهم حظوا بمستوى ثقافي ومتوسطات أعمار أعلى كثيرا مما يوحي به مثل هذا المستوى من الفقر في العادة. فقد ارتبط الاعتماد على النفس للصين بتزمت أيديولوجي للحد من الاستهلاك الفردي في سبيل الاستثمار العام. في البداية تسببت الثورة الثقافية في تعطيل الاقتصاد، ولكن النظام عاد إلى مدن الصين بعد عام 1968، مع إرسال ملايين من أفراد الحرس الأحمر للعمل في الريف ، الذي لا يزال موطنا ل 80 بالمائة من السكان. وعلى الرغم من نمو الاقتصاد بشكل كبير، ظلت الفجوة بين المدينة والريف محل إشكالية. فقد كانت الثورة الثقافية هتاف تشجيع أخيرا للمبادرات الاقتصادية الماوية المتميزة. غير أن الاستثمار الماوي في البنية التحتية ورأس المال البشري وفر أساسا لا غنى عنه للانفتاح الاقتصادي اللاحق للصين على العالم الخارجي. (1) الفقر والنمو الاقتصادي
كانت الصين دولة فقيرة؛ فكان معدل دخل الفرد الواحد 859 دولارا بقيمة الدولار في 2010، غير أنه كان متساويا نسبيا؛ فقد قللت الثورة من الفروق في الثروات من خلال القضاء على الطبقات التي كانت تعيش في بذخ وترف شديدين، فانتزعت الملكيات من ملاك الأراضي القرويين من خلال قانون الإصلاح الزراعي، وأضعفت المؤسسات العائلية الممتدة التي عززت نفوذها بشكل هائل، وفقد أصحاب رأس المال الخاص سيطرتهم على أصولهم خلال حركة تأميم للملكيات قامت في عام 1956، على الرغم من أن الحكومة قد استمرت في دفع سندات أصدرت على سبيل التعويض.
عززت الثورة الثقافية من مبدأ المساواة. وما كانت هجمات الحرس الأحمر على أساليب الحياة «البرجوازية» سوى مجرد تأكيد على سياسات حكومية قائمة. وقد خلقت القيود المتكررة على الشركات الصغيرة نقصا حادا في السلع الاستهلاكية للجميع. وفي عام 1952 كان لدى الصين مطعم واحد لكل 676 شخصا؛ وبحلول عام 1978 كان هناك مطعم واحد لكل 8189 شخصا. وكانت القسائم التموينية أساسية لشراء الملابس القطنية، والحبوب، واللحم، والسمك، وزيت الطهي، والبيض، وهو ما كان محبطا للبعض، إلا أنه كان يعوق تخزين السلع التموينية ويضمن توزيعا أكثر مساواة للسلع النادرة. وحلت المكانة البيروقراطية محل الثروة في تسهيل الوصول إلى السلع والخدمات. ولكن فيما عدا الرفاهيات التي لم يكن يحظى بها سوى صفوة القادة، كان نطاق الامتيازات الرسمية محدودا.
كان العمل اليدوي يحتفى به في الأراضي، حيث اعتاد السادة التباهي بإعفائهم من العمل البدني بإطالة أظافرهم وارتداء ملابس طويلة. وسعى الماويون للتخفيف من حدة الفقر في الصين من خلال حملات ل «تذكر مرارة الماضي»، حيث كان العمال والفلاحون الأكبر سنا يلتقون ليخبروا جماهير الشباب بمدى معاناتهم قبل 1949.
هل ينبغي أن تكون الاشتراكية إطارا للمساواة في الاستهلاك، أم ينبغي أن تكون محركا لزيادة الإنتاج؟ من الصعب أن تكون الاثنين معا في آن واحد. وقد جاهدت الحكومات الاشتراكية لحسم هذا التوتر أو على الأقل إخفائه. وفي ظل معرفتهم بأن الصين لم تزل لا تستطيع تحقيق شيء سوى الفقر المتساوي، رفع الماويون التقشف الفردي ونمط الاستهلاك المتسم بالزهد والتقشف إلى مستوى المثل العليا لتحرير مزيد من الأموال للاستثمار العام. وغالبا ما كان الثوار الثقافيون يخصصون هذه الاستثمارات بشكل يفتقر للكفاءة؛ فقد أشرفوا على نظام تخطيط تجاهل احتياجات القطاع العام، وتهاون مع الفجوات الإقليمية الكبيرة، ولم يسمح سوى بارتفاع بطيء في معايير المعيشة.
ومع ذلك، لم يكن الوضع الاقتصادي إبان الثورة الثقافية كارثيا كما يوصف في الغالب؛ فقد كان إجمالي الناتج المحلي للصين ينمو بمعدل يقارب 6 بالمائة سنويا، وهو معدل أبطأ قليلا مما كان عليه خلال السنوات الأولى للجمهورية الشعبية، ولكنه يظل أداء يحترم. ولا يظهر انخفاض الأرقام إلا بمقارنتها بالاقتصاد المنتعش في فترة ما بعد الثورة الثقافية. ومن الصعب تفسير هذه الأرقام ككارثة.
صمد معدل النمو في الصين خلال حقبة الثورة الثقافية أمام المقارنات خلال نفس الفترة بنظيرتها في عملاقين آسيويين آخرين، هما الهند وإندونيسيا. فتلك الدول الثلاث واجهت جميعا مشكلات وقيودا مماثلة في تحويل مجتمعاتهم الزراعية الكبيرة إلى مجتمعات صناعية. كان معدل النمو في الصين أبطأ منه في إندونيسيا إلى حد ما، ولكنه كان أسرع مرتين من الهند، وكان معدل النمو في الدول الثلاث أبطأ من تايوان، وكوريا الجنوبية، وسنغافورة، وهونج كونج. وقد أصبحت تلك المناطق الأربع الصغيرة تعرف فيما بعد ب «النمور» الآسيوية، نظرا لنموها السريع (8-9 بالمائة)، متبعة في ذلك معادلة مزجت ما بين المساعدات الخارجية والاستثمار وبين تصدير السلع الاستهلاكية للدول الأكثر ثراء. لقد اندمجت هذه الخارجية والاستثمار وبين تصدير السلع الاستهلاكية للدول الأكثر ثراء. لقد اندمجت هذه الدول الصغيرة ذات الاستبدادية الحادة، بما أتيح لها من منافذ للنقل البحري، بيسر وسهولة بحيث شكلت سوقا عالمية متنامية للنسيج، والكيماويات ، والإلكترونيات، للمستهلكين في الغرب.
ساهم الاضطراب الذي ساد العامين الأولين من الثورة الثقافية في توقف النمو وتقليص الاقتصاد. وفي سبتمبر من عام 1966، حاول كبار القادة منع المتمردين من عرقلة وتمزيق الاقتصاد بمطالبة الجميع بضرورة «التمسك بالثورة، ورفع الإنتاج». كان الشعار المصاحب لحركة تشتيت الحرس الأحمر بحلول عام 1968 هو: «الطبقة العاملة ينبغي أن تمارس القيادة في كل شيء»، وذلك حينما أدى استعادة سلطة الحزب إلى عامين من النمو الاستثنائي. أما الفترة المتبقية من عمر الثورة الثقافية، فقد جلبت زيادات متوسطة، وإن كانت متفاوتة، عدا في عام 1976، حين ساهمت الاضطرابات السياسية مرة أخرى في تدهور الإنتاج.
جدول 4-1: النمو الاقتصادي الصيني (إجمالي الناتج المحلي) قبل، وأثناء، وبعد الثورة الثقافية.
1952-1965
6,85٪
1966-1976
5,94٪
1977-2009
9,63٪
جدول 4-2: معدلات النمو الاقتصادي (إجمالي الناتج المحلي) لعمالقة آسيا الثلاثة، من عام 1966 إلى 1976.
الصين
5,94٪
الهند
2,95٪
إندونيسيا
6,95٪
ربما لا يكون التناقض بين المثالية والبراجماتية مطلقا مثلما قد يدركه البعض؛ فعلى مظهر المساواة الذي ظهرت به الصين خلال الثورة الثقافية، فقد احتفظت بأجندة تنموية بشكل عنيد. وقد شارك ماو هذه الأجندة مع غريمه ليو شاوشي وسياسات الأعوام السبعة عشر (انظر الفصل
الأول ). واستمرت نظرية تنموية مشابهة خلال برنامج دنج شياو بينج الإصلاحي. وعلى الرغم من الاختلافات في المنهج ونقطة التركيز، فقد اتفق قادة الصين على أن مهمة الحكومة هي جعل الصين دولة غنية وقوية بأسرع ما يمكن. (2) المثل والبلاغة الاقتصادية
كانت الثورة الثقافية حركة سياسية أكثر منها اقتصادية؛ فقد فرض الراديكاليون الماويون سيطرة محكمة على وسائل الإعلام، والقطاع الثقافي والدعائي، ولكن هذه السيطرة كانت أقل إحكاما على الوزارات التي تشرف على الإنتاج. لقد سيطر الراديكاليون على صوت الثورة الثقافية، دون أن يتمكنوا من السيطرة دائما على محركات الإنتاج. ونتيجة لذلك صار هناك بلاغة اقتصادية تعبر عن المثل العليا للثورة الثقافية، ولكنها لا تدرك بالضرورة حقائقها الاقتصادية. لقد ملأ الراديكاليون العالم ضجيجا لكي تتجه الصين إلى اليسار. وقد فعلت على وجه العموم، إلا أن المصانع ظلت تصنع المنتجات بالطرق المعتادة، واستمرت جهات التخطيط المركزي في تخصيص الموارد ، وإن كان بحساسية أعلى للمثل العليا للحركة. فقد أعيد تأهيل دنج شياو بينج في عام 1973، بعد أن أدين في بداية الثورة الثقافية باعتباره «ثاني شخص في السلطة يتبع الطريق الرأسمالي»، وتولى الحكومة من عام 1974 وحتى الإطاحة به للمرة الثانية في عام 1976. لقد كانت حقبة الراحل ماو عملية أكثر مما يوحي خطابها البلاغي.
حمل شعار «الاعتماد على النفس» (
zili gengsheng ، أو «التجديد والتحديث عبر الجهود الذاتية»)، إرث يونان، العاصمة الشيوعية الثورية خلال الحرب في الشمال الغربي الفقير النائي. وهذا الحق المكتسب بالميلاد ولد حملات مكثفة من أجل مواجهة العزلة الشديدة والموارد المحدودة، وساهم أيضا في ترسيخ الحزب الشيوعي في الثقافة القروية المحلية. وكان لإحياء هذه القيمة العليا خلال الستينيات دورها في استدعاء ذكريات الثورة، ولكنها صارت آنذاك سارية على المستوى القومي والتعقيد الأكبر الذي صارت عليه الجمهورية الشعبية.
كذلك تأقلم عصر «الاعتماد على النفس» الماوي على الانقطاع المفاجئ للمساعدات الخارجية، فحين احتدم النزاع مع الاتحاد السوفييتي في الستينيات، قامت موسكو فجأة باستدعاء 6000 مستشار، مما أدى لتوقف العمل في 165 مشروعا اقتصاديا كبيرا. واصطحب المستشارون السوفييت معهم مخططات المشروعات. وهكذا أصبح الاعتماد على النفس هو المسار العملي الوحيد للصين.
كان المروجون لسياسة الاعتماد على النفس في ريبة من أمرهم بشأن التقسيمات الحادة للعمالة، مما حدا بالماويين إلى تشجيع «التنمية الشاملة» داخل الوحدات الاقتصادية. فكان من المفترض بالأقاليم أن تصبح مكتفية ذاتيا، كوسيلة للوصول بتكاليف النقل والاختناقات المرورية إلى أدنى حد لها. فقد كان الاعتماد على النفس، بالنسبة للأمة بأسرها، يتطلب الاستعاضة عن الاستيراد بتعلم تصنيع السلع في الصين، من عربات القطارات إلى المضادات الحيوية التي كانت ستشترى من الخارج دون ذلك. وكان لتعزيز الصناعة المنزلية دوره في الحد من إهدار العملة الصعبة النادرة وتحفيز الابتكار المحلي. وقد كانت الاستعاضة عن الاستيراد شائعة في آسيا وأمريكا اللاتينية في الستينيات، قبل ظهور أساليب التجارة الحرة الليبرالية الجديدة. ومن ثم فبينما كان تشجيع الصين لهذه السياسة قويا متعنتا، لم تكن هي في حد ذاتها غريبة في عصرها.
كان الماويون يغلفون تصريحاتهم الاقتصادية بالبلاغة الثورية من خلال الإشارة ضمنا إلى أن البديل الوحيد المتوافر هو الرأسمالية، ولكن الصدام بين ماو وليو شاوشي لم يكن مواجهة بين الاشتراكية والرأسمالية، بغض النظر عن رغبة الكثير من المعلقين الحاليين في أن يكون كذلك. فقد كان الماويون وخصومهم متفقين على ضرورة أن يكون للدولة دور مسيطر على الاقتصاد، وإن كان بفوارق دقيقة مهمة في المضمون.
كيف اختلفت الصين عن الاقتصاد الشمولي للاتحاد السوفييتي؟ كانت الصين أكثر بعدا عن المركزية إلى حد كبير (وهو ما يعود في جزء منه إلى سوء حالة نظام النقل)، بالنظر إلى ما لديها من شركات ذات نطاق أصغر بكثير. وكانت اللامركزية تسعى لاستقلال قومي وإقليمي بعيد تماما عن النظام السوفييتي. فكانت الصين تقدم مجموعة أضيق من الحوافز المادية وتؤكد على التقشف الذاتي، بما يؤدي إلى إبطاء النمو في الاستهلاك الفردي. وأخيرا، شجعت الصين تنمية التقنيات المحلية إلى جانب التكنولوجيا المتقدمة، فيما أطلقت عليه «السير على ساقين»، مثل جهودها لمزج الطب الغربي مع طرائق الطب الصيني التقليدي من الأعشاب والوخز بالإبر.
لم يكن الماويون يثقون بالحوافز المادية، على الرغم من أنهم لم يحرزوا نجاحا كبيرا في تحجيمها، وكان الفلاحون يقسمون أرباح الحصاد الجماعي وفقا لنظام حساب نقاط العمل، والذي يقيم مهارات الزراعة، والاجتهاد، والالتزام السياسي. أما العمال الحضريون، على الجانب الآخر، فقد ظلت أجورهم تحتسب بالنظام القائم لحساب مستوى العمل، فيما ظلت طريقة تصنيف المسئولين وتحديد أجورهم كما هي.
في غضون ذلك، تبنى الخطاب البلاغي للثورة الثقافية أسلوبا نضاليا عاصفا تنتصر فيه قوة الإرادة الثورية المحضة على القيود المادية. ويعرف ذلك في النظرية الماركسية ب «الطوعية»، التي تسرع قوى التاريخ بقوة دفع موجهة بشكل جيد. فكانت فرق الغناء والرقص تسري عن العمال وترفع الروح المعنوية، ويا حبذا لو ألهمتهم الأغنيات الثورية بالعمل بمزيد من الكد. وقد كانت جيانج تشينج راعية لإحدى قرى تيانجين، هي قرية شياو جين جوان، التي شددت على المشاركة الجماعية في الفنون لتحفيز معدل إنتاج أكبر. وقد سخر دنج شياو بينج من الرؤى المفتقرة للنضج الخاصة بشياو جين جوان والمتعلقة بتغيير العالم: «بإمكانك أن تقفز، ولكن أيمكنك أن تقفز عبر اليانجتسي؟»
كانت شياو جين جوان وحدة نموذجية، روج لها ترويجا هائلا بغرض تلقين البلاد درسا بعينه. فقد كانت الوحدات النموذجية تستكشف بعناية، وتلمع، وتدعم، وتحمى. ولعل أشهر نموذجين من نماذج هذه الوحدات قرية تقع بإقليم شانسي، وحقل نفطي بإقليم هيلونج جيانج: «في الزراعة تعلم من دازهاي، وفي الصناعة تعلم من داتشينج.»
أصبحت وحدة دازهاي الإنتاجية نموذجا للتوسع في الإنتاج الزراعي من خلال إبداعها الدقيق لمنازل على جوانب تلالها المنحدرة. وقد استخدم الحزب الحملات السياسية لتنظيم جداول الإنتاج. ومن خلال التخلي عن الحوافز النقدية لصالح الإقناع المعنوي، استعاض نموذج دازهاي بالقوة العاملة والإرادة السياسية عن رأس المال الذي كانت الصين تفتقر إليه. وتطور نموذج دازهاي إلى موقع سياحي ثوري، حيث كان الزوار يأتون من أجل التعلم. فلم يكن واضحا لهم دائما كيف يمكن لقرية مسطحة تعتمد على المياه الجوفية تقع على سهول يانجتسي السفلى أن تطور نشاطها الزراعي، فضلا عن الاقتضاء بروحها السياسية. وقد استغل تشن يونجوي، قائد دازهاي، شهرة قريته ليصبح نائبا لرئيس الوزراء. وعلى الرغم من أنه لم يكن يوما له أي ثقل سياسي، فقد كانت ترقية تشن رمزا لرغبات الماويين في الارتقاء بمكانة الفلاحين.
أصبح حقل داتشينج النفطي في لياونينج نظيرها الصناعي كنموذج رائد يحتذى به في الإنتاج. كان القادة الأقوياء، أمثال «الرجل الحديدي» وانج جين جينجشي، يوصفون بالأبطال نظرا للجهد الخارق الذي يبذلونه في بيئة قاسية. ففي داتشينج، كان العمال ينقبون عن النفط وسط أجواء الشتاء القارص في منشوريا، وقد عرف عنهم قيامهم بإصلاح معاطفهم كدليل على التقشف الماوي ومن أجل منع الإهدار في أي مكان آخر، ولكن على الرغم من أوجه الشبه التي يروج لها بينها وبين دازهاي، كانت صناعة البترول من أكثر الصناعات كثافة في رأس المال، ولا تصلح للمحاكاة. ولكن حقل داتشينج كان ينتج نصف بترول الصين، ولعب دورا رئيسيا في الاقتصاد، وإن كان إنتاجه قد انهار بعد الثورة الثقافية. إن هذه النماذج تعيد إلى الأذهان مشروع القفزة الكبرى إلى الأمام في فترة الخمسينيات (العمالة إلى جانب الإرادة السياسية يمكنهما التغلب على كل القيود)، ولكن في حدود أكثر تواضعا بكثير، وبدون ذلك الإحساس بأن عالما جديدا يلوح في الأفق.
شكل 4-1: فلاحو نموذج وحدة دازهاي الإنتاجية يأخذون راحة من أعمال الحقل من أجل حلقة جماعية لتدارس السياسة بقراءة كلمات ماو معا، فيما يرتدي القائد تشن يونجوي شارة ماو.
1
ثمة نموذج آخر على نفس القدر من الشهرة، ولكنه لم يكن مكانا، بل شخصا؛ هو الجندي لي فينج. كان فينج يتيم الأبوين، اللذين راحا ضحية اليابانيين والملاك، ووجد ملجأ له في الحزب، حيث أصبح نموذجا للأعمال الطيبة، مثل رفو جوارب رفاقه العسكريين وهم نائمون. توفي لي فينج (إن كان له وجود من الأساس) قبل بداية الثورة الثقافية، ولكن دراسته المجتهدة لأعمال الزعيم ماو، واقتصاده في الإنفاق، وإخلاصه الخالي من أية أنانية للثورة جعلته نموذجا شعبيا. لقد كان لي فينج بطلا مألوفا، وأصبح أقرب لقديس راع للأخلاق المثالية.
وإذا كانت النماذج أدوات للمثل العليا للثورة الثقافية، فقد كانت العناصر الأساسية للسيطرة الاجتماعية للمواطنين في الحضر هي وحدات عملهم، والمكاتب، والمصانع التي توظفهم. فلم تكن أماكن العمل توفر وظائف آمنة فحسب، ولكنها أيضا كانت تدعم الإسكان، والرعاية الصحية، والمعاشات، والمدارس، والإجازات، والترفيه، وتذاكر الحافلات، وغير ذلك من الخدمات. ولا عجب في أن هذه المجموعة الهائلة من الخدمات الحيوية شجعت على الاتكال، ووضعت الرؤساء في موقع يتيح لهم تخصيص إسكان مميز أو حتى المشاركة في ترتيبات الزواج. وتحول نظام تصاريح الإقامة، الذي أدخل في البداية لتتبع حركة السكان، إلى أداة تحكم لمنع الفلاحين من غزو المدن بعد مجاعة 1959. وأصبحت تصاريح الإقامة بالمدن شيئا قيما إلى حد كبير، خاصة حين أرسل ملايين الشباب من ساكني المدن إلى الريف. وغالبا ما كان العمال البارعون والمحظوظون ينجحون في تمرير الوظائف الحضرية لأبنائهم. غير أن الفلاحين كانوا أعضاء في فرق ووحدات للإنتاج الزراعي، والتي كانت ذات ملكية جماعية (على عكس الملكية الحكومية أو الخاصة)، ومن ثم لم يكن الفلاحون موظفين، وكانوا يحظون بمميزات أقل من العمال الحضريين الذين يحظون بدعم مادي كبير، إلى جانب أن الفلاحين غالبا ما كانوا أصعب في تهذيبهم. (3) فجوة ريفية-حضرية مزمنة
لم يستطع دفع الماوية في اتجاه المساواة القضاء على أوجه التفاوت المادي المزمنة في الصين، والتي كان بعضها إقليميا، مع تركز الصناعة في الشمال الشرقي والأقاليم الساحلية. وكانت استراتيجية الاعتماد على النفس تتطلب من كل مجتمع أن يحقق الاستفادة القصوى من موارده، وفي ظل مثل هذا النظام كانت المناطق التي تملك موارد تسير بشكل أفضل، ومن ثم فليس مستغربا أن تكون القرى الجبلية قد ظلت فقيرة، أو أن تكون المناطق النائية التي يقطنها أقليات عرقية قد واجهت مشقة في تحسين أوضاعها.
ثمة تفاوت مزمن آخر، هو «الجدار العظيم» الذي فصل الفلاحين عن العمال الحضريين؛ فقد كان لزاما تقديم وثيقة تسجيل أسري حضري للحصول على وظيفة بالمدينة. وقد كان أربعة أخماس السكان من الريف؛ بل إن المزارعين كانوا عالقين في الريف في الواقع. وجاءت الثورة الثقافية لتقود مزيدا من الناس من المدن إلى الريف. والواقع أن كثيرين من الأفراد السابقين للحرس الأحمر قد آل بهم الأمر للعودة إلى المدن في خلال عامين إلى عشرة أعوام. وكان موظفو الدواوين الحضريون يرسلون للعمل في «مدرسة 7 مايو للكوادر»، ولكنهم استمروا فعليا في الحصول على رواتبهم من وظائفهم الحضرية فيما كانوا يقيمون مشروعات زراعية جديدة بعيدا عن الفلاحين المحليين.
كانت الحياة الريفية فيما بين 1962 حتى 1981 تنظم بواسطة مجموعات مكونة من حوالي ثلاثين أسرة، تؤلف معا قرية أو حيا. وكانت وحدات الإنتاج تلك تستخدم نظم حساب نقاط العمل لتقسيم عائدات حصادها (بواقع موسم حصاد واحد في السنة في الصين الشمالية، وحتى ثلاثة مواسم في الصين الجنوبية). كانت وحدات الإنتاج تتبع كوميونات أكبر مؤلفة من قرابة ألفي أسرة، تقدم خدمات إدارية واجتماعية. لم يكن هذا النظام بالضرورة هو النظام الأكفأ في زراعة المحاصيل، ولكنه كان جيدا في حشد مستلزمات الإنتاج (الأيدي العاملة، الأسمدة، الماء)، وتنظيم الأنشطة غير الزراعية، مثل الائتمان، والتعليم، والرعاية الصحية، والصناعات الريفية. وعلى كل هذا التنوع، شهدت القرى إحياء للصراع الطبقي، والذي كانت فيه الطبقات في الأساس ماضيا وليس حاضرا. فقد كان أعضاء روابط الفلاحين المحليين من الطبقة الفقيرة والطبقة الدنيا المتوسطة تمثل الأساس لنفوذ الحزب الشيوعي المحلي، وكانت هذه الأغلبية تمحص في تاريخ أقلية صغيرة كانت تنتمي للفئات الخمس السوداء. قليل من القرى هو ما كان به يمينيون، وإن وجدوا، يكونون من المثقفين. ولكن جميع القرى كان بها عائلات تضم ملاك أراض سابقين وفلاحين أثرياء، لم يكن منهم من يمثل أي تهديد للثورة إلا قليلا، وظل معظمهم يضحى به حتى بعد نهاية الثورة الثقافية بالطرق الخطيرة والبسيطة على حد سواء، فلم يكن بإمكان ابنة أحد الملاك أن تنضم للحزب أو جيش الطوارئ المؤقت، ومن غير المحتمل أن تجد تزكيات للحصول على فرص للتعليم. وكان ابن الفلاح الثري يجد عرائس قليلات على استعداد لحمل وصمة طبقته. ولما لم يكن بإمكان الفلاحين الأكثر فقرا قبل عام 1949 الزواج، فقد كان كثير من الفلاحين على الأرجح يعتبرون النظام الجديد نوعا من العدالة الخشنة. وفي بعض الأحيان كانت اللغة الطبقية للثورة الثقافية مجرد تعتيم على أشكال أقدم متأصلة للسياسة القروية، مثل الخصومات الممتدة. بعبارة أشمل، لقد شوهت العلاقات الطبقية الريفية وتحولت إلى شيء أقرب إلى نظام طبقي منغلق، أصبحت فيه الحواجز القائمة أمام العلاقات الاجتماعية والتزاوج بين الأقارب أعمق من فروق الثروة.
نزح سبعة عشر مليون شاب إلى الريف، بعضهم كمتطوعين قبل عام 1966، ولكن معظمهم كانوا ضمن الحرس الأحمر الذي تم تفكيكه والذين لم يكن لديهم فرصة للاختيار، وبدا ظاهريا أنهم سيتعلمون من «فلاحي الطبقة الفقيرة والطبقة الدنيا المتوسطة»؛ أي هؤلاء الذين استفادوا من الإصلاح الزراعي الشيوعي. وقد ساعد برنامج النزوح إلى القرى على التخفيف من غطرسة الحرس الأحمر، مع معالجة مشكلة البطالة في الحضر في الوقت ذاته . كان هناك سخط حتمي ضد البرنامج، ولكنه أخرس علنا، ليقتصر في معظم الأحيان على بعض التذمر من جانب الشباب ومضيفيهم من الفلاحين. ولكن عندما برر نجل لين بياو مخطط الاغتيال الذي دبر ضد ماو، تناولت إحدى شكاواه مسألة إرسال الشباب إلى الريف، وهو إجراء كان حقا شكلا من أشكال البطالة المقنعة حسب تأكيده.
رحبت بعض القرى بالوافدين المتعلمين الجدد، وتعاملوا معهم باحترام، فيما اعتبرهم آخرون مصدر إزعاج، وعمالة زراعية غير ماهرة، وأفواه إضافية تحتاج لمن يطعمها ولا يساهمون بالكثير في العمل. وسرعان ما راح بعض الحضريين يفكرون في طرق للهرب، فيما أنشأ البعض روابط أبدية مع القرويين استمرت حتى الوقت الحاضر، بل إن بعضهم تزوج من المحليين، وقطعوا عهدا على أنفسهم بالبقاء مدى الحياة. وقد صدم معظمهم حين اكتشفوا مدى الفقر المدقع الذي عاش فيه المزارعون. وحين رأى أفراد الحرس الأحمر السابقون مدى النقص الذي يعانيه مضيفوهم في المأكل والملبس، أدركوا أن حياة المدينة كانت أكثر رخاء مما كانوا يدركون. والحق أن نسبة الدخول في الحضر إلى نسبة الدخول في الريف كانت نحو واحد إلى ثلاثة.
حتى الماويون لم يستطيعوا جعل مكانة الفلاحين مرغوبة؛ إذ كان الشباب الصينيون يتسابقون من أجل شغل وظائف العامل والجندي. فكانت كلتا الوظيفتين بمثابة درع واق من العمل في الزراعة، إلى جانب كونها تعريفا لبوابة جديدة للترقي. كانت الجامعات مغلقة في المرحلة الأولى الراديكالية للثورة الثقافية، وحين استأنفت قبول طلاب جدد بعد عام 1970، لم يتم اختيار المتقدمين عن طريق اختبارات الالتحاق القومية، وإنما بتزكية مكان العمل والخلفية العائلية. حين ينقل صحفيو اليوم أن المثقفين أو المسئولين كان عليهم العمل في أحد المصانع إبان الثورة الثقافية، عادة ما يغفلون الفكرة الأساسية، وهي أن العمل بالمصانع كان يعتبر بشكل عام حركة ترقي إلى أعلى وليس انحدارا لأسفل. لقد كانت الصين تتبع تقليدا قديم الأزل يضفي طابعا مثاليا على الحياة الريفية كحياة نقية ورائعة، ولكنه كان يحتقر الفلاحين. لقد كان عصر الثورة الثقافية مناصرا للفلاحين أكثر من معظم العصور الأخرى، ولكنه لم يستطع تجنب تلك النزعة الحضرية المتغطرسة، على الرغم من ضخامة الدين الذي كان الحزب الشيوعي يدين به للفلاحين الثوار.
واصلت الثورة الثقافية الاستغلال الحكومي للزراعة من أجل تمويل حركة التصنيع، فكانت الحكومة تحدد أسعار التوريد الإجباري لمخزون الدولة من الحبوب، ولكن المزارعين كانوا يضطرون لشراء السلع المصنعة بأسعار مرتفعة نسبيا. وهكذا لم تكن الزراعة مجزية، ولكن القيود المفروضة على سهولة وحرية التنقل الجغرافي ربطت المزارعين بالأرض. ومع نمو الصناعة بمعدلات أسرع من الزراعة، تزايدت الضغوط لزيادة الإنتاج الغذائي، وكانت الإنتاجية الزراعية دائما قيدا على ساسة الثورة الثقافية، الذين كانوا يسعون لزيادة الكفاءة الإنتاجية من خلال تمهيد حقول جديدة، وتسخير عمالة جديدة، وتوسيع نطاق التشجيع الأيديولوجي.
فيما بين 1966 و1976، زادت مساحة الحقول المروية بحوالي الثلث. لم تكن جميعها ذات كفاءة، إذ كان نموذج دازهاي أحيانا ما يطبق بلا تفكير على أنواع الأراضي الخاطئة، ولكنه ساعد على زيادة المحاصيل من خلال تسوية الأرض، التي سهلت الري، وكانت ستصبح مستحيلة لولا حشد الثورة الثقافية للفلاحين من أجل حفر قنوات خلال موسم الشتاء الذي كان فيما مضى موسما راكدا. وازداد استخدام الأسمدة، وإن كانت رديئة الجودة نسبيا ولا تقارن بالأنواع التي استخدمت خلال فترة الإصلاح الزراعي فيما بعد. وطرأت تجديدات مهمة في أنواع البذور موازية لتطويرات «الثورة الخضراء» في أي مكان آخر في آسيا. (4) تحسين العمالة
يكمن النجاح الاقتصادي الأعظم للصين في تحسينها لرأس المال البشري، فقد كان الماويون يستعيضون عن رأس المال النادر بالعمالة الوفيرة كلما أمكن؛ وتوسعوا في هذا النظام من خلال تحسين صحة العمال ومستواهم التعليمي، وأيضا ضم مزيد من النساء إلى القوة العاملة.
كانت الإنجازات في مجال الصحة العامة ملحوظة وبارزة؛ فقد ازداد متوسط العمر المتوقع عند الميلاد من خمسة وثلاثين عاما فقط في عام 1949 ليصبح خمسة وستين عاما بحلول عام 1980، بزيادة اثني عشر عاما عن الهند وإندونيسيا. وكان مصدر معظم هذه الزيادة هو التحسين الغذائي، وانخفاض وفيات الأطفال، والسيطرة على الأمراض المعدية. وتدرب ما يقرب من مليوني فلاح للعمل ك «أطباء حفاة» في إطار شبكة إسعاف ريفية طموحة. لم يكن هؤلاء الأطباء الحفاة مجهزين بشكل خاص أو متمرسين، ولكنهم كانوا متاحين، وكانت خدماتهم شبه مجانية؛ إذ كانوا يعملون جنبا بجنب مع رفاقهم القرويين. وقد كانوا الجزء الأشهر من زيادة ضخمة في الرعاية الطبية الريفية على مدار الفترة السابقة. وبنهاية الثورة الثقافية، كان الريف يضم ثلثي أسرة المستشفيات في الصين.
شكل 4-2: الأطفال يصطفون للحصول على لقاح الجدري من أحد الأطباء الحفاة، حيث كانت الصين قد توسعت في مجال الصحة العامة في الريف خلال الثورة الثقافية.
1
ضغط القادة من أجل دمج الطب الغربي مع الممارسات الطبية التقليدية والأقل تكلفة مثل طب الأعشاب والوخز بالإبر، ولم تسفر الجهود الأولى لدمج الطب الصيني والطب الغربي معا عن الكثير؛ نظرا لرفض المتخصصين الطبيين، الذين اعتبروا طب الأعشاب جهلا قرويا. ونجحت الثورة الثقافية في كسر قدرة الخبراء على مقاومة الشيوعيين في الطب وفي المجالات التقنية الأخرى؛ فقد عهد إلى العلماء باختبار وتطوير أفضل الممارسات الطبية الشعبية، ودخل الوخز بالإبر المستشفيات، فيما دخلت الأدوية المصنعة ذات التكلفة الزهيدة حقيبة أدوات الأطباء الحفاة. وكانت النتيجة مطابقة تقريبا لما أسفرت عنه برامج الثورة الثقافية للفنون، والتي عالجت الأفكار الصينية من خلال أساليب وجدت في الرسم بالزيت والموسيقى السيمفونية الغربيين. أما في الطب، فقد عكس المزيج كلا من الحداثة والقومية الصينية، إلى جانب بحث عن برامج فعالة ومنخفضة التكلفة في نفس الوقت.
ثمة إنجازات مماثلة في التعليم كان لها بالغ الأثر؛ فقد كانت نسبة محو أمية الكبار (في سن الخامسة عشرة فأكثر) في الصين 43 بالمائة في عام 1964، ولكنها ارتفعت إلى 65 بالمائة في عام 1982. ولعل تلك النسب لا تعبر عن الواقع كما ينبغي؛ فقد كان 90 بالمائة من الصينيين فيما بين سن الخمسين إلى التسعين متعلمين في عام 1982، في مقابل 65 بالمائة من نفس الفئة في الهند في عام 1981، فيما وصلت نسبة تعليم الكبار إجمالا 41 بالمائة. وكانت النهضة السريعة للصين في مجال محو الأمية انعكاسا لزيادة غير مسبوقة قدرها خمسة عشر ضعفا في المدارس الريفية الإعدادية فيما بين عامي 1965 و1976 (فالإلمام باللغة الصينية يتطلب عامين إضافيين من التعليم المبكر إلى جانب القواعد المعمول بها في تعلم اللغات الأبجدية).
وكما هو الحال مع إصلاحات المنظومة الصحية، لم يكن خبراء التعليم المطاح بهم ليوافقوا على برنامج التعليم الجديد؛ فقد قامت المدارس بمزج التعليم بالعمل، في محاولة لربط الفصول بحياة الطلاب. وكانت برامج الدراسة-العمل مضادة لتقاليد التعليم الكونفوشية مثل الحفظ والتعليق على النصوص الكلاسيكية، ولفكرة أن الهدف من التعليم هو إنتاج نخبة مثقفة. كذلك لم يكن النظام الجديد يشجع عمل الأطفال عن طريق استخدام نظام نقاط العمل لتقسيم المحصول الجماعي، مما قلل من الدافع لمنع الأطفال من المدرسة من أجل تعزيز دخل الأسرة.
تتعارض تلك الرؤية الإيجابية للتعليم في عصر الثورة الثقافية مع المنطق السائد، والذي عادة ما يستنكر غلق الماويين للمدارس، على الرغم من أن المدارس الابتدائية ظلت مفتوحة. والواقع أن المدارس الثانوية قد استأنفت نشاطها بحلول عام 1967؛ إذ كان الماويون في أشد الحاجة إلى طرق لإبعاد الحرس الأحمر عن الشوارع. كانت المدارس المغلقة هي الجامعات التي توقفت عن قبول طلاب جدد حتى عام 1970. وهكذا توسعت الثورة الثقافية بشكل ضخم في المستويات التعليمية الأدنى لمن هم في القاع، ولكنها قلصت الجامعات بشكل حاد. ويمكن النظر إلى نقص الجامعات كتعليق مؤقت لرأس المال الثقافي الذي ميز العائلات الراقية.
ومنذ عام 1972 إلى عام 1976، سجلت الجامعات طلابا جددا ليس على أساس اختبار قومي، ولكن من خلال تزكية المسئولين المحليين المبنية على الخلفية العائلية للمتقدم وأدائه في العمل. وغالبا ما كانت الاختبارات المحلية تساعد في فرز طلبات الالتحاق. وقد تعرضت طائفة الطلاب من «العمال - الفلاحين - الجنود» للاحتقار والاستهانة بعد عام 1978، ولكنها جسدت جهدا جادا لإعادة تشغيل جامعات الصين مرة أخرى.
كان الرفض السياسي لإعادة فتح الجامعات شرسا؛ ففي عام 1973، قام جانج تي شينج، وهو طالب ثانوي سابق كان يبحث عن مهرب من الريف بعد خمس سنوات من العمل رغما عنه في الزراعة، بالتقدم للالتحاق بالجامعة في إقليم لياونينج. وفي أثناء اختبار كان أداؤه فيه دون المستوى، ترك جانج الأسئلة الرسمية وانخرط في كتابة مقال يشجب فيه «ديدان الكتب» الذين كانوا لا يفعلون أي شيء نافع بينما كان هو يكدح في الحقول. ولعل هذا التصرف الغريب يشبه ما يفعله الطلاب اليائسون في جميع أنحاء العالم (إذا لم تستطع الإجابة على السؤال، اكتب شيئا آخر). ولكن في أواخر الثورة الثقافية، أصبح جانج بطلا يساريا لتجاسره على السباحة ضد المد النخبوي، وحظي بمسيرة قصيرة ولكنها ممتازة في مجال السياسة.
شكل 4-3: «لا تزال ساهرة في عمق الليل.» تشير الشهادات المعلقة على الحائط إلى قائد قروي، والطفل النائم يشير إلى أن السيدة التي تظهر في الصورة أم تذاكر حتى وقت متأخر من الليل لاكتساب معرفة تقنية.
1
كان لزيادة حق الانتفاع بالخدمات الصحية والتعليمية الأساسية أثره في تحسين نوعية العمالة، وازداد حجم التوسع في التوظيف مدفوع الأجر للنساء. فقد كانت الثورة الثقافية تصر على أن «النساء يحملن نصف السماء» عندما وقفت ضد حواجز التمييز الجنسي التقليدية أمام العمل. وانضمت جميع النساء الشابات في المدن إلى القوى العاملة، ما أدى إلى ارتفاع دخول الأسر في فترة كانت فيها الأجور الفردية ثابتة بلا أي زيادات، الأمر الذي حمل أفراد الأسر من الذكور على تقبل ازدياد تمكين المرأة.
كذلك اتجهت النساء العاملات بمعدل الإنجاب في الحضر نحو الانخفاض، بعد أن وصل إلى معدل قياسي في الستينيات. كان حماس ماو لتوريد أكبر للأيدي العاملة قد أدى في البداية إلى إحباط خطة تحديد النسل، ولكن هذا الحذر انتهى بحلول عام 1971، مع بدء سياسة سكانية جديدة، مما أدى إلى خفض معدلات الخصوبة إلى النصف بحلول عام 1978. وقد ساعد ترحيل الحرس الأحمر إلى الريف في الانخفاض السكاني بإزاحة فئة ذات قدرة إنجابية خصبة من موقعها الاجتماعي الطبيعي. كذلك طالبت الحكومة المواطنين بتأخير الزواج، وإنجاب عدد أقل من الأطفال، وترك فترات زمنية أطول بين كل طفل، وهي التدابير التي أجبرت الأزواج على تنظيم النسل، ولكنها كانت أخف كثيرا من سياسة الطفل الواحد لكل أسرة الأكثر شهرة، والتي لم تبدأ حتى عام 1980. ألغت إصلاحات دنج شياو بينج في حقبة ما بعد الثورة الثقافية نظم الزراعة، والتعليم، والصحة، والنظم الاجتماعية الجماعية في الريف، بما في ذلك نظام «الضمانات الخمسة» للطعام، والملبس، والوقود، والتعليم، وإقامة جنازة. ونظرا لما تعرضت له الأسر الريفية من إهمال، عادوا مرة أخرى لاعتبار أبنائهم كنوع من نظم تأمين الحياة في الكبر. وردا على ذلك، بدأت الدولة في اتخاذ تدابير أكثر صرامة لتقييد الزيادة السكانية.
تحملت النساء عبء سياسات ما بعد الثورة الثقافية تلك، وكن أيضا أول من فقدوا وظائفهم عن طريق إغلاق الصناعات الحكومية. وقد صاحب كلتا الحزمتين من «الإصلاحات» موجات هجوم على جيانج تشينج، كانت تحمل قدرا بالغا من الكراهية للنساء، مع تراجع التطورات التي أتت بها الثورة الثقافية للمرأة.
أدى توسع الثورة الثقافية في الرعاية الصحية، وزيادة التعليم الابتدائي، وضم النساء للقوى العاملة إلى تعزيز نوعية القوة العاملة في الصين. وأية استراتيجية اقتصادية كانت ستستفيد من زيادة الإنتاجية التي أسفر عنها ذلك، بما في ذلك برنامج دنج شياو بينج الإصلاحي القائم على التصدير. ولم يكن من النخبة المثقفة، التي غالبا ما كانت تفتقر للتعاطف مع العامة والتعساء في ظل التآكل الذي طال امتيازاتهم، سوى مقاومة سلبية لهذه التغييرات الهادفة إلى المساواة خلال الثورة الثقافية، والتي وجهوا لها انتقادات عنيفة بعد ذلك. (5) الاستثمار الصناعي
شجعت سياسة الاعتماد على النفس الاستقلالية الإقليمية، وهو ما يعود في جزء منه إلى خفض تكاليف النقل، غير أن التطويرات الكبيرة ساهمت في تعزيز البنية التحتية لمنظومة النقل. ففي عام 1968 افتتح جسر نهر يانجتسي في مدينة نانجينج، وباكتمال هذا المشروع، الذي كان ضمن مشروعات المساعدة السوفييتية التي لم تكتمل، صار من الممكن للسكك الحديدية لأول مرة عبور نهر الصين الأعظم في شرق الصين، ومن ثم القضاء على الحاجة إلى مرور القطارات على المعديات النهرية. وتم الانتهاء من أول خط مترو أنفاق في بكين في عام 1969، إلى جانب بناء آلاف الجسور والطرق الجديدة التي عملت على تحسين حركة الخامات والبضائع الريفية.
أصبحت الصناعة الريفية جزءا ديناميكيا من القطاع الصناعي، مع ظهور مشروعات جديدة قائمة على نظام الكوميونات لإنتاج سلع مثل الأسمدة الكيماوية، وماكينات الزراعة، ومعدات الري، والأسمنت، والمحركات الكهربائية، والطاقة الهيدروكهربائية. وقد تلقت هذه المشروعات استثمارات حكومية وإعفاءات ضريبية كبيرة. وقد نمت مشروعات القرى والمقاطعات التي مثلت أهمية قصوى لإصلاحات ما بعد الثورة الثقافية من رحم هذه الصناعات الريفية.
كان لسياسة الاعتماد على النفس جوانبها الإيجابية فيما يتعلق بالبيئة؛ فقد أدى الفقر إلى تقليل النفايات، فيما أدى استهلاك السلع المحلية إلى الحد من التلوث الذي تسببه وسائل المواصلات. ولكن الأجندة التنموية المتواصلة كانت شاقة على البيئة؛ إذ دفعت سياسة الاعتماد على النفس كل مجتمع لزراعة الحبوب، حتى في المناطق التي لا يصلح فيها ذلك بيئيا. فقد كان اتباع شعار «الحبوب هي الرباط الأساسي» مضرا بالأراضي العشبية، وكانت طبقات المياه الجوفية في سهول شمال الصين مضغوطة بشكل خطير، وانكمشت البحيرات مع امتداد رقعة الأراضي الزراعية. وفي مقابل هذا الاتجاه، ساهم التشجير في زيادة الكتلة البيولوجية في السبعينيات. وسرعان ما تفاقم مستوى الضرر البيئي، بقدر ما كان ضارا بالفعل، بعد الثورة الثقافية، مع انتقال التنموية الصينية إلى نموذج سوقي للنمو السريع.
وفي ظل المقاومة الماوية للسلع الاستهلاكية، ضغطت التنمية الصناعية بشدة على الصناعات الخفيفة، مثل صناعة الملابس. كان معدل النمو جديرا بالاعتبار، ولكن الاستثمارات غالبا ما كانت دون فاعلية. وقد كان ما يسمى ب «الجبهة الثالثة»، وهو برنامج سري للتصنيع تحت قيادة عسكرية لبناء مصانع جديدة في أعماق الصين من الداخل، مثالا ممتازا لذلك (كانت الجبهة الأولى والثانية عبارة عن خطوط ساحلية ومركزية للدفاع العسكري). فقد تم بناء مصانع عدة في الكهوف أو بين جبال الجنوب الغربي.
كانت هذه القاعدة الاقتصادية الخفية ضد الهجوم الأمريكي أو السوفييتي تتطلب رأس مال ضخما، ربما كان من الأفضل لو أنفق في مناطق أخرى، حيث تكاليف البناء أقل، والمهارات المحلية أكثر وفرة. ولكن الاستثمار الساحلي كان معرضا لقصف أمريكي محتمل أو هجمات من جانب الكومنتانج في تايوان. كذلك أراد الماويون مكافأة المناطق القديمة التي شكلت قاعدة للثورة، والتي كانت لا تزال فقيرة لخدماتها السابقة، إلى جانب نشر المهارات الصناعية بمزيد من المساواة عبر البلاد. صارت مصانع الجبهة الثالثة تبنى في مواقع أقرب للساحل، في المناطق الجبلية النامية في إقليمي جيجيانج وفوجان، وعلى قلة عددها، إلا أنها ظلت ذات أهمية، وكانت هذه المصانع أيضا تنتج الأسلحة الحربية، والصلب، والكيماويات.
طغى هذا الجانب الدفاعي، الذي أحيانا ما كان يصل لدرجة الجنون، على السياسة الاقتصادية للثورة الثقافية. فقد كانت سياسة الاعتماد على النفس مستوحاة من قلق واقعي من وقوع غزو أجنبي. وفي مرحلة ما، ضم الحزب مواطنين من أجل «حفر أنفاق عميقة، وتخزين الحبوب في كل مكان». كانت الفكرة وراء ذلك تكمن في الصمود أمام هجمات السوفييت على منظومة النقل في الصين، وكانت النتيجة المباشرة لذلك اكتشاف تحف أثرية لم تكن معروفة فيما سبق عن طريق المصادفة. وكان لوفاة لين بياو وتدهور النفوذ العسكري أثرهما في إضعاف التأييد للجبهة الثالثة الانعزالية، لتنتهي تماما في النهاية بتصالح الصين مع الولايات المتحدة.
في عام 1971 - وهو العام الذي توفي فيه لين بياو - وصل إجمالي التجارة الخارجية للصين إلى معدل منخفض يقدر ب 5 بالمائة من إجمالي الناتج المحلي، إلا أن التجارة الخارجية تضاعفت ثلاث مرات بحلول عام 1975. ومع انتهاء الجبهة الثالثة، أحدث شو إن لاي ودنج شياو بينج، بدعم من ماو تسي تونج، نقلة كبيرة في السياسة الاقتصادية، كان مما ميزها قرار باستيراد أحد عشر مصنعا واسعي النطاق للأسمدة من الغرب. وكان خطاب شو إن لاي الذي أعلن فيه عن «التحديثات الأربعة» من أواخر مشروعات الثورة الثقافية. وقد بدأت النقلة الاقتصادية من ماو إلى دنج فعليا إبان الثورة الثقافية، وليس بعدها، وكانت أكثر تدرجا أيضا من الرفض الماوي الكلي الذي نسمع عنه عادة.
ولولا التنمية الماوية، لما وجدت «معجزة» دنج. وكان من بين الأساسات التي وضعتها الثورة الثقافية لإصلاحات دنج شياو بينج الاقتصادية ارتفاع نسبة التعليم والصحة الجيدة، والأنواع عالية الإنتاجية من الأرز، ومشروعات الري والنقل التي أقيمت بأيدي العمالة الماوية بأسرها. ربما تكون البنية التحتية قد بنيت بلا كفاءة، ولكنها قدمت إرثا لنمو لاحق؛ فقد ورث دنج اقتصادا خاليا من الديون للدول الأجنبية، كذلك فإن اللامركزية الماوية، إلى جانب الضربات العنيفة التي وجهتها الثورة الثقافية ضد البيروقراطية، قللت من التحصن الاقتصادي الذي أعاق الإصلاحات في الاتحاد السوفييتي.
بالطبع تعامل إصلاحيو ما بعد الثورة الثقافية مع العديد من العقبات الصعبة بينما يقومون بخصخصة الشركات الحكومية، وتحسين توريد السلع الاستهلاكية، وتطوير نظام شرس للتجارة الخارجية، وتوسيع نطاق المنظومة الائتمانية، وتجاوز التخطيط المركزي. وكانت الأساليب الماوية قد وصلت إلى حد تناقص العائدات، بالإضافة إلى تكاليفها السياسية الباهظة.
إن التساؤل عما إذا كانت الإصلاحات قد بدأت بالفعل في عام 1971 بدلا من عام 1978 ليس تساؤلا سخيفا، فقد أصر دنج شياو بينج على تاريخ 1978؛ إذ كان بحاجة لأن يجعل عقد الثورة الثقافية بأكمله يبدو سيئا (بما في ذلك تلك السياسات التي طبقها)، لكي يبرر بعضا من القبح الذي صاحب الاتجاه إلى الإصلاحات السوقية. إضافة إلى ذلك، كانت الليبرالية الجديدة، خارج الصين، تحظى بجيل من الدعاية المستمرة التي تخبرنا بأن السوق هو الوسيلة الوحيدة لتنظيم شئون البشر. ولعل في ذلك ما يعوق إدراك حقيقة أن مسيرة إصلاحات «ما بعد ماو» قد بدأت في منتصف الثورة الثقافية.
هوامش
الفصل الخامس
السياق العالمي للثورة الثقافية: أصدقاء في
جميع أنحاء العالم
جذبت الثورة الثقافية الأنظار في جميع أنحاء العالم، من جانب كل من القادة المحافظين الذين كانوا يخشون احتمال أن تتسبب الصين في اضطراب في النظام العالمي، ومن الراديكاليين الذين أعجبوا بتجربة الصين الجريئة وتحديها للقوى العظمى. زعمت الصين أن لديها «أصدقاء في جميع أنحاء العالم»، على الرغم من أن عزلتها كانت انعكاسا لضراوة الحرب الباردة. وقد كسرت الصين تلك العزلة من خلال صلح حذر وحاسم في الوقت نفسه مع الولايات المتحدة. وكان من شأن تجدد المشاركة في النظام العالمي أن مهد الطريق للإصلاحات الاقتصادية. وكما هو الحال في كثير من المجالات، يخفي عنوان «الثورة الثقافية» توجهات شديدة الاختلاف؛ فقد كانت علاقاتها الدولية تشمل سياسات ترفض النظام العالمي وتتكيف معه على حد سواء. (1) الخطاب البلاغي لثورة عالمية
تزامن عقد الثورة الثقافية مع حركة عالمية للسياسات الراديكالية. بالنسبة للأمريكيين، كان نفوذ السود، والحركة النسوية، والهيبز، ومناهضة الحرب الفيتنامية، هو عنوان تلك الحقبة، أما بالنسبة للأوروبيين، كانت أحداث الشغب في باريس، وربيع براغ عام 1968 سمتين ميزتا نقلة ثقافية وسياسية واسعة. كافحت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي لاحتواء أي اضطراب يمس محيط نفوذهما، وراحتا تبحثان عن فرص لإحداث اضطراب في محيط خصومهما، مما أضاف بعدا عالميا مهما للغزو السوفييتي لتشيكوسلوفاكيا عام 1968، والانقلاب العسكري في شيلي عام 1974، وحروب المقاومة في أفريقيا، والحروب الأمريكية في الهند الصينية.
كانت الصين رمزا للمقاومة بالنسبة للإمبريالية، وبدت الثورة الثقافية تجربة جريئة في الهندسة الاجتماعية. كان المتحمسون لماو يعتبرون أن الصين بمثابة فتح لطريق بديل سواء للرأسمالية الغربية أو للسياسة السوفييتية في التخطيط من أعلى لأسفل. وأعجب المعارضون الغربيون بطاقة وحيوية الحرس الأحمر، واستعار مناصرو مساواة المرأة الشعار الماوي «النساء يحملن نصف السماء». ربما تبدو مثل هذه الرؤى الآن رومانسية، ولكن الجوع الغربي الشعبي لنماذج سياسية جديدة إلى جانب عزلة الصين منحاها جاذبية حقيقية. بدت قضايا الثورة الثقافية جساما خارج الصين: الصراع الطبقي، معنى الاشتراكية، مستقبل الحركات الثورية. ولكن في داخلها، كانت الأمور العملية على أرض الواقع تشبه حال السياسة في كل مكان: الضغائن المتراكمة، وفرص التنفيس عن الغضب، وعقد صفقات سياسية جديدة.
كان الدخول إلى الصين صعبا؛ فقد أطاحت حركات التطهير المكارثية في الخمسينيات بأرجح الخبراء الصينيين من وزارة الخارجية الأمريكية، وكممت أفواه منتقدي السياسات الأمريكية في الجامعات. كذلك حظرت الولايات المتحدة استخدام جوازات السفر الأمريكية للسفر إلى الصين «الشيوعية». وقد نجح الباحثان المستقبليان، نانسي وديفيد ميلتون، في التسلل إلى الصين عبر رحلة إلى سيرك في كمبوديا، فيما قفز الصحفي جوناثان ميرسكي من سفينة في مصب نهر يانجتسي في عام 1969، إلا أنه فشل في الدخول. ولم يستطع جيل من الباحثين الأمريكيين المتخصصين في شئون الصين من الاقتراب لأكثر من حدود تايوان أو هونج كونج. كان بإمكان الأوربيين السفر إلى الصين، ولكن تخوف الصينيين من الأجانب عمل على تحجيم التواصل.
أحيت الثورة الثقافية الاهتمام الغربي بالصين تحت إغراء الثمرة المحرمة، فظهرت المثل الماوية في مواقع غير متوقعة، مثلما حدث مع أستاذ جامعي كبير طالب متحدثا بالحرم الجامعي بأن يظهر يديه ليثبت أنه قد عمل بيديه، متسائلا بأسلوب ناقد: «أين جلدك المتصلب؟» وعلى الرغم من أن السؤال بدا تافها آنذاك، فإنه يبدو اليوم أكثر غرابة، مع اتجاه العالم السياسي «الطبيعي» إلى اليمين. لقد كان الكثير من أهل الغرب يتمنون ثورة عالمية تمثل فيها الصين جزءا حيويا. فيما كانت رؤية الآخرين للصين أكثر بساطة؛ إذ اعتبروها قوة معنوية في عالم مزقه الظلم.
كان الخطاب البلاغي العالمي للصين قويا. فقد درس معظم الصينيين مقال ماو «تذكروا نورمان بيثون»، الذي مجد فيه الجراح الكندي الذي توفي في عام 1939 بينما كان يقوم على مداواة جنود الحرس الأحمر، مشجعا أعضاء الحزب على احترام الإسهامات الأجنبية بالثورة العالمية. كذلك رحبت الصين بانتفاضة باريس في عام 1968، على الرغم من الحيرة التي انتابتها بشأن الجانب الثقافي المضاد منها. وبالتأكيد وجدت بكين ارتياحا أكبر في الاحتفاء بالذكرى المئوية لكوميون باريس في عام 1971، والذي كان انقلابا عماليا أكثر اتفاقا مع القواعد.
انحازت الصين للحركات النضالية الشعبية في آسيا، وأفريقيا، وأمريكا اللاتينية، وولدت سياسة تحرير السود حماسا عظيما. فبعد اغتيال مارتن لوثر كينج الابن، أصدر ماو تصريحا ناريا ضد العنصرية الأمريكية. كذلك قدمت الصين ملتجأ لروبرت إف ويليامز، وهو قائد انفصالي زنجي قامت الولايات المتحدة بنفيه لسعيه لتحويل خمس ولايات من الكونفيدرالية السابقة إلى «جمهورية أفريقيا الجديدة».
أصر الإعلام الصيني على أن الثوريين عبر كل أنحاء العالم قد درسوا كتاب «اقتباسات من الزعيم ماو». كانت حركة النمور السود قد اشترت نسخا من الكتاب الأحمر الصغير لماو مقابل عشرين سنتا، وأعادت بيعها مقابل دولار في حرم كلية بيركلي بجامعة كاليفورنيا، وأنفقت أرباحها في شراء بنادق رش. ولم يبدأ النمور فعليا في قراءة ما قاله ماو سوى بعد ذلك ببضعة أشهر.
هل كانت الصين مركزا لثورة عالمية؟ بلاغيا، لا يوجد أدنى شك في ذلك، وقد كان للخطاب الرسمي الحماسي عن الانهيار التام للإمبريالية والانتصار الوشيك للاشتراكية على مستوى العالم أثره في تعطيل عملية التبادل الدبلوماسي الطبيعي؛ فقد كان الدبلوماسيون الأجانب غالبا ما يلقون معاملة سيئة، ولعل أشهر الحوادث في هذا الشأن حين قامت جماعة من السوقة بحرق مكتب القائم بأعمال السفارة البريطانية في بكين. وثار رئيس الوزراء شو إن لاي في وجه هؤلاء الذين أخفقوا في السيطرة على المتظاهرين. وفي ظل عدم قدرتها على الحفاظ على وهم العلاقات الدبلوماسية الطبيعية، استدعت الصين جميع سفرائها عدا سفيرها في مصر.
فكر الماويون جدية في علاقات الصين بالعالم، وأشار ماو إلى أن لينين كان مخطئا حين قال إن «كلما ازدادت البلاد تخلفا، زادت صعوبة الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية.» فقد كان ماو يؤمن بأن الغرب يحظى بثراء فاحش، وأن الرأسمالية حكمت لزمن طويل حتى إن العمال كانوا يكدحون تحت تأثير برجوازي غاية في التعجيز. وفيما يشبه نظرية الحلقة الأضعف، اتضح أن الثورة الاشتراكية تقع في أراض لم يتوقع ماركس أن تشهدها. فقد صارت مسئولية تحقيق ثورة عالمية ملقاة على كاهل العالم الثالث، بتعداده السكاني الضخم.
في خطاب حظي بترويج عال عام 1965، تحدث لين بياو عن تكرار ثورة الصين على نطاق عالمي من خلال «محاصرة المدن من الريف». ومثلما انتقل الحرس الأحمر من قواعده الريفية لتطويق المراكز الحضرية الكبرى في الصين، كذلك أدى صعود الدول البروليتارية إلى إيقاف نفوذ الدول الرأسمالية، وظهر نوع من عولمة الثورة العالمية في بكين قبل عقود من العولمة المضادة للرأسمالية العالمية.
كان نقد الصين للمذهب التعديلي السوفييتي خطيرا لدرجة بالغة، وكان في تلقيب ليو شاوشي ب «خروشوف الصين» سخرية منه لانصرافه المزعوم عن الثورة. وأصبحت معاهدة حظر التجارب النووية رمزا لمهادنات السوفييت مع الإمبريالية، مما عزز الرمزية الثورية والقومية للقنبلة الصينية عام 1964.
كانت الصين تزعم أن الرفيق إي إف هيل، زعيم الحزب الشيوعي الأسترالي (الماركسي اللينيني) كان رجل دولة بارزا من الطراز العالمي، حتى إنها لم تكن ترسل أقل من كانج شينج، وهو أحد الأعضاء البارزين لمجموعة الثورة الثقافية الحاكمة، لاستقباله في مطار بكين. والواقع أن هيل لم يكن حتى قائدا للشيوعيين الأستراليين الحقيقيين، ولكنه كان قائدا لطائفة منشقة تلقى تشجيعا من بكين. وقد كانت الأحزاب الشيوعية في جميع أنحاء العالم منقسمة، وكانت الطوائف الماوية تسمي نفسها «الماركسيين اللينينيين» لتميز نفسها عن «التعديليين» الذين ظل ولاؤهم لموسكو. (2) حقائق الحرب الباردة
كان ماو يرفض الإمبريالية لكونها «نمرا من ورق»؛ أي نمرا يبدو خطيرا من الخارج فقط، ولكنه تعامل معها بحذر. كان سلوك الصين تحت تأثير الخطاب البلاغي الراديكالي عبارة عن رد فعل دفاعي تجاه الحرب الباردة. لقد ساعدت الصين فيتنام، وسلحت مجموعة المتمردين، وأشادت بمن استفزوا الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وعكروا صفوهما. وكانت الصين تدعم ضحايا الظلم والاضطهاد في القضايا العالمية بنتائج رمزية في أغلب الأحيان، غير أن السياسة الخارجية للثورة الثقافية كانت حذرة ولاتوسعية. وكانت الاستراتيجية الماوية «للحرب الشعبية» دفاعية بشكل مبالغ؛ إذ شددت على المقاومة الشعبية للغزو، وكان الجيش غير مجهز بالشكل الذي يؤهله لبسط النفوذ في الخارج.
ربما تكون الولايات المتحدة قد أغضبت الصين لأقصى حد بدعمها لنظام «جمهورية الصين» المخلوع (الكومنتانج) في تايوان. فقد كان شيانج كاي شيك، من منفاه في تايوان، يحتفظ بحكومة منشقة لبر الصين الرئيسي، بدوائرها كاملة تحت اسم «مكتب الشئون المنغولية». وكان للضغط الدبلوماسي الأمريكي دوره في إبقاء بقايا النظام السابق في الأمم المتحدة حتى عام 1971، ليظل جاثما في مجلس الأمن محتلا مكان الجمهورية الشعبية.
لم يكن الوجود العسكري الأمريكي مجرد مصدر إزعاج، ولكنه كان تهديدا مسلحا. فقد بنت الولايات المتحدة قاعدة لقواتها وصواريخها في تايوان، ووفرت المعدات والتدريب لحكومتها العسكرية. وكانت الحكومة التايوانية دائما ما تتباهى بأنها «الصين الحرة» من أجل التودد للأمريكان المعادين للشيوعية. وكان الموقف التايواني استنساخا لعلاقة الولايات المتحدة بالديكتاتوريات الآسيوية اليمينية الأخرى، ولكن وحدها تايوان هي التي شنت غارات عسكرية على بر الصين الرئيسي. وفي عام 1970، كانت دور السينما التايوانية تبيع أكياسا من الفول السوداني كتب عليها «لنعد فتح البر الرئيسي.»
كان للحرب الباردة أبلغ الأثر على الاقتصاد الصيني؛ فعلى سبيل المثال، كان إقليم فوجان، وهو منطقة ساحلية لها باع طويل في التجارة الخارجية، بقعة معدمة بالنسبة لبكين للاستثمار فيها، بينما كانت الضفادع البشرية التابعة لشيانج كاي شي تهاجم المدن الساحلية. وأعيقت مدينة شيامن (آموي) التي كانت يوما مدينة مينائية كبرى، عن التنمية بسبب قواعد الكومنتانج العسكرية على جزيرة جينمن (كيموي) المجاورة. وفشلت الأزمات العسكرية في تغيير موقف جينمن في الخمسينيات. وعلى مدار الثورة الثقافية، كان الجيش الشيوعي وجيش الكومنتانج يتبادلان القصف بالقنابل حسب جدول غريب بمعدل ساعة في أيام متناوبة، وكان هذا كافيا لإبقاء الحرب القديمة مشتعلة. وقد تسببت ضغوط الحرب الباردة في إظهار برنامج الجبهة الثالثة للتصنيع الذي كان مفتقرا للفاعلية كبرنامج عملي، على الأقل من منظور استراتيجي؛ فمع عزوفها عن الاستثمار في المدن التي قد تتعرض للقصف، تحولت الصين بأنظارها إلى الداخل.
فرضت الولايات المتحدة حظرا تجاريا على الواردات الصينية؛ حتى الكتب والمجلات الصينية كان من الصعب الحصول عليها، وكانت العديد من مكتبات الأبحاث لا يزال لديها مطبوعات صينية من تلك الفترة مدموغة بتحذيرات الحكومة الأمريكية من أن المحتويات تشمل دعاية شيوعية. كذلك قطعت الثورة الثقافية تلك الصلة المربحة عادة بمجتمعات الصينيين بالخارج، الذين كان أقرباؤهم داخل الصين غالبا ما يتهمون بالرأسمالية والجاسوسية. وأصبح النهوض بالصناعة الصينية أمرا صعبا في ظل صعوبة الوصول للتكنولوجيا الأجنبية، وهو ما قوى من الإصرار الماوي على اكتشاف تطبيقات جديدة للطرق المحلية. ومع محدودية حجم التجارة، حاول التقنيون الصينيون تنفيذ مشروعات صعبة في الهندسة العكسية، كان يتم من خلالها تفكيك السلعة المستوردة لكشف أسرار تصنيعها، وكان من الأمثلة المبالغة لذلك ما تم من تفكيك طائرة من طراز بوينج 707، وكانت طائرة باكستانية تحطمت في الصين الشرقية في عام 1971. ولكن ظلت الصين مفتقرة للمقدرة التقنية التي تؤهلها لمضاهاة المنتج الأمريكي.
تسببت كبرياء الصين وعنادها في انتكاسات، مما جعلها أكثر من مجرد ضحية للولايات المتحدة الأقوى نفوذا. وعندما شب العداء بين الصين والاتحاد السوفييتي، وجدت نفسها في موقف لا تحسد عليه، بإثارتها حنق كلتا القوتين العظميين على نحو متزامن، وهو ما لم يسفر عن نتيجة دبلوماسية مثالية تماما.
عانت الصين من الحروب القتالية الأمريكية بالقرب من حدودها في فيتنام وكوريا، وقامت الولايات المتحدة ببناء قواعد لقواتها لتدعيم حكومات الجناح اليميني العميلة لها في تايوان، واليابان، وتايلاند، والفلبين، بينما لم يكن للصين قواعد عسكرية أو عملاء في كندا، أو المكسيك، أو كوبا. لقد واجهت سياسات الصين الوحشية، واللاتوسعية في الوقت ذاته، حربا قاسية ضد الشيوعية.
ظهر الاحتكاك الحتمي بين البلاغة الثورية والممارسة الحذرة في ماكاو البرتغالية وهونج كونج البريطانية، تلك المستعمرتان المتجاورتان في مصب نهر اللؤلؤ بإقليم جوانجدونج. وعلى عكس بعض التوقعات، لم تستول الصين على هاتين الجزيرتين اللتين تعتبران من أطلال الإمبريالية في عام 1949، وشعرت الصين بالحرج حين زحفت القوات الهندية نحو مقاطعة جوا ذات الظروف المشابهة الخاضعة للحكم البرتغالي في عام 1961، إلا أن الصين كانت تتهاون مع المستعمرات كجزء من دبلوماسيتها العملية. ولم تكن ماكاو الخاملة، بما تحتويه من كازينوهات، على نفس القدر من الأهمية مثل هونج كونج الأكبر والأكثر ازدحاما. وقد تضافر القانون البريطاني، مع الموهبة التجارية للاجئي شنغهاي، والتدفق المنتظم للعمالة الكانتونية، لتخلق معا اقتصادا منتعشا موجها بشكل مكثف نحو التصدير. كانت هونج كونج مهمة للصين كنقطة اتصال مع الغرب، وحلقة وصل مع مجتمعات الصينيين بالخارج في جنوب شرق آسيا، ومجرى للتجارة الأجنبية، وقد كانت كلتا المستعمرتين ملاذا لأعداد كبيرة من اللاجئين الهاربين من الثورة الشيوعية، بمن فيهم مؤيدو الكومنتانج، ولكنهما أيضا ضمتا مجتمعات يسارية راسخة، متمركزة في محيط المدارس، والنقابات، والمحلات متعددة الأقسام.
زحفت التوترات القائمة داخل الصين إلى هاتين المستعمرتين، اللتين كان حكامهما يواجهون تحديات ممثلة في انتشار أعمال الشغب، والإضرابات، والتفجيرات. وكما في البر الرئيسي، عاد النظام بقمع الراديكالية التي انطلقت مع بداية الثورة الثقافية. وفي عام 1974 أطاحت البرتغال بديكتاتوريتها الفاشية، وسرعان ما تخلت عن ممتلكاتها الاستعمارية في أفريقيا وتيمور. لكن الصين رفضت فيما يبدو قبول استرداد ماكاو، خوفا من احتمال أن يرغم ذلك بكين على الاستيلاء على مقاليد هونج كونج فجأة دون أن يكون لدى الشيوعيين الجاهزية لاستيعاب اقتصاد رأسمالي ضخم. وظلت ماكاو تحت الإدارة البرتغالية حتى عام 1999، بعد عامين من إعادة هونج كونج للصين.
استكشفت الصين الخيارات الاستراتجية المتاحة أمامها للإفلات من العزلة، وكان أحدها هو إحداث انشقاق بين حلفاء أمريكا. كانت الصين سعيدة بفرنسا تحت حكم ديجول لوقوفها في وجه الولايات المتحدة، وانسحابها من منظمة معاهدة شمال الأطلنطي، وتطوير سياسة نووية مستقلة. وحلمت الصين بظهور ثغرات أو منافذ تتيح لليابان استقلالية مماثلة، ولكن هذه الآمال تحطمت بفعل معاهدة التعاون الأمني المشترك بين اليابان والولايات المتحدة الموقعة عام 1960.
كان الخيار الثاني للصين هو جمع التأييد من دول العالم الثالث الأخرى، وكانت الرابطة الأكثر متانة وثباتا تلك التي جمعتها بباكستان، التي كانت تنظر للصين كثقل موازن ضد نفوذ الهند. ولكن علاقات الصين السيئة مع الهند بعد الحرب الحدودية في عام 1962 أظهرت مدى صعوبة تضافر دول العالم الثالث معا. وعملت الصين جاهدة لكسب أصدقاء في أفريقيا، من خلال توفير المساعدات لبناء خط سكة حديد تانزام الواصل بين زامبيا وتنزانيا من أجل تجنب الاعتماد على جنوب أفريقيا العنصرية. وأثبتت الجزائر أنها حليف دبلوماسي دائم في شمال أفريقيا.
علقت الصين آمالا كبيرة على إندونيسيا، التي كانت آنذاك تحت إدارة حكومة سوكارنو ذات النزعة اليسارية، وتعاونت معها من أجل بناء وجود دولي للعالم الثالث، وهو ما شمل إقامة أولمبياد مضادة تحت اسم جانفو («دورة ألعاب القوى الصاعدة الجديدة»). وعلى أعتاب الثورة الثقافية، حدث انقلاب عسكري في إندونيسيا أعقبه مذبحة لليساريين الإندونيسيين، شملت أعدادا كبيرة من الصينيين المغتربين. وقد قتل ما يقرب من مليون شخص، بدعم أمريكي صامت، مما قضى على فكرة إقامة تحالف صيني إندونيسي.
وضع برنامج الصين للأسلحة النووية بهدف توفير قدر من الحماية حين أخفقت الجهود الدبلوماسية في تقليل الضغط من جانب القوتين العظميين، وبدت الصين أمام العالم مثلما تبدو بيونج يانج أو طهران اليوم: دولة معزولة، محاصرة، تصنع قنابل من أجل مواجهة النقد من القوى النووية الحالية. كان الإعلام الغربي يصور الصين كدولة موتورة ولا يمكن التنبؤ بأفعالها، ولكن أسلحة الصين النووية تتوافق إلى حد كبير مع سياسة «الواقعية السياسية». وتزايد القلق جراء مقترحات القيام بقصف اتقائي أمريكي سوفييتي مشترك للمنشآت النووية للصين، إذ عادت لذاكرة القادة الصينيين ما حدث لهيروشيما والتهديدات النووية الأمريكية المتكررة منذ الحرب الكورية.
فشلت جهود الصين للإفلات من الحصار بشكل حاسم بحلول عام 1969، وانتهاء المرحلة الراديكالية من الثورة الثقافية، وانطلقت حاملة طائرات عسكرية عبر سماء الصين (خاصة جزيرة هاينان) ومعها حصانة في طريقها لقصف فيتنام، على الرغم من إسقاط الصين للعديد من طائرات التجسس. وكانت وكالة الاستخبارات المركزية تدفع أجرا سنويا للدالاي لاما من أجل ضمان استمرار الضغط على الصين من قبل المنفيين التبتيين، على الرغم من أن إمدادات الأسلحة للمتمردين في التبت انتهت على ما يبدو في عام 1965. وظلت ذكريات الغزو الأخير لتشيكوسلوفاكيا حية حين تقاتلت القوات الصينية والسوفييتية على حدود نهر أشوري في مارس عام 1969. وقد ساهمت هذه المعركة في ارتفاع أكبر لهيبة واعتبار لين بياو والجيش، ولكنها دفعت ماو نحو إعادة النظر في موقف الصين الجريء المشوب بالعزلة. وبحلول عام 1970، لم تحص الصين سوى بضع حكومات صديقة إلى جانب فيتنام، وكوريا الشمالية، وباكستان، والجزائر، وألبانيا، فاعتمدت الصين على حب «شعوب» العالم، وليس حكوماتها، ولكن الشعوب ليس لها سيطرة على الجيوش أو التجارة. (3) ميل ماو نحو الولايات المتحدة
تراءت لماو خطوة جريئة، تمثلت في إحداث تقارب مع الولايات المتحدة من شأنه أن يحدث مزيدا من الانقسام بين القوتين العظميين. كانت الولايات المتحدة قد منيت بهزيمة في فيتنام؛ فعرضت الصين الصلح من أجل مواجهة الاتحاد السوفييتي بشكل أفضل، وأرسلت الصين إشارة بذلك من خلال دعوة الصحفي الأمريكي إدجار سنو للوقوف بجانب ماو في العرض العسكري بمناسبة العيد القومي في 1 أكتوبر عام 1970. كان سنو قد قام بتأليف الكتاب الأكثر مبيعا «نجمة حمراء فوق الصين» في عام 1937، وهو كتاب ساهم في تقديم الحركة الشيوعية الصينية للعالم، ولما اتهم بالشيوعية وتعرض للنفي إلى سويسرا في الخمسينيات، رحب سنو بالدعوة بداعي تبرئة ساحته والدفاع عن نفسه، ولم يكن يدرك أن ماو كان يعتقد أنه عميل لوكالة الاستخبارات المركزية. وفي إطار اتباع دبلوماسية «الشعب للشعب»، جاءت تلك الزيارة التي قامت بها إحدى فرق تنس الطاولة الأمريكية، والتي سبقت رحلة هنري كيسينجر السرية كمستشار للأمن القومي في يوليو عام 1971. وكان كيسينجر، الذي ادعى أنه مريض وفي باكستان، قد تفاوض من أجل رحلة ريتشارد نيكسون لبكين في فبراير من عام 1972.
فازت بكين بمقعد الصين في الأمم المتحدة، مما عزز ما قام به ماو من إعادة تنظيم استراتيجية لأوراقه، وقادت دول العالم الثالث حملات في الجمعية العامة لطرد ممثلي شيانج كاي شيك. تسببت هذه الإجراءات في إحراج الولايات المتحدة، لكنها فشلت في حصد عدد كاف من الأصوات حتى أكتوبر من عام 1971.
لم تكن العلاقة الجديدة بين الصين والولايات المتحدة لتتحقق دون بعض الصعوبات؛ فقد كان لزاما إقناع المعادين الدائمين للإمبريالية والشيوعية بتنحية القناعات الأيديولوجية جانبا من أجل الحصول على مكاسب استراتيجية. ولم يكن لأحد أن يستطيع تصميم هذا التقارب الذي حدث دون مخاطر سياسية سوى معاد حماسي للشيوعية مثل نيكسون، والملحوظة نفسها تنطبق على ماو، أبرز المعادين للإمبريالية.
لم يكن لين بياو داعما لما يحدث، ولكن أية مقاومة من قبل الجيش انتهت بالنهاية العنيفة التي لاقاها لين بياو. انبثقت معارضة أمريكية أيضا من تلك القوى التي كانت تستثمر في وضع الحرب الباردة الراهن. وأصر جيمس جيسوس أنجلتون، رئيس المخابرات المضادة بوكالة الاستخبارات المركزية لفترة طويلة، على أن الشقاق الصيني السوفييتي الذي استمر على مدار العقد من الزمان كان خدعة دبرتها موسكو لحمل الغرب على التخلي عن حذره.
كانت صفقة الصين مع الولايات المتحدة غامضة في تفاصيلها، ولكنها كانت مفيدة لكلا الطرفين؛ فقد انصرفت الولايات المتحدة والصين عن حلفائهما في حرب فيتنام، واتحدتا معا للتصدي للاتحاد السوفييتي، ووافقت الولايات المتحدة على سحب قواتها والاعتراف الدبلوماسي من تايوان. وعلى الأرجح أن الصين كانت تعتقد أن التوحد السياسي مع تايوان سيأتي عما قريب، ولكنها ظلت محبطة، غير أن سحب القواعد العسكرية الأمريكية من تايوان مكن الصين من إعادة توجيه الاستثمارات نحو المناطق الساحلية وإنهاء برنامج الجبهة الثالثة المكلف تدريجيا. وفي نتيجة غير متوقعة، أدى إنهاء الدعم العسكري الأمريكي لحكومة الأحكام العرفية الكومنتانج إلى فتح الطريق للتحول الديمقراطي لتايوان، مما باعد أكثر بين الجزيرة وبين التوحد.
استمرت الصين في مهاجمة الإمبريالية، إلا أنها ربطتها باستنكار لسياسة «الهيمنة» للاتحاد السوفييتي، وارتجل ماو تعريفا جديدا أخرق «للعوالم الثلاثة» للسياسة العالمية؛ فشكلت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي العالم الأول، وتألف العالم الثاني من «العناصر المتوسطة مثل اليابان، وأوروبا، وأستراليا، وكندا»، وهي الدول التي «لا تملك الكثير من القنابل الذرية وليست في ثراء دول العالم الأول، ولكنها أكثر ثراء من العالم الثالث.» أما العالم الثالث، فكان يضم أفريقيا، وآسيا (دون اليابان)، وأمريكا اللاتينية؛ أي الشعب. كان اقتصاد ماو سيئا، ولكن حس الاستراتيجية العالمية لديه كان قويا. لقد كانت الصين بحاجة إلى إزاحة الحلفاء بعيدا عن الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. (4) تعديلات خرقاء
لم تكن النقلة الدبلوماسية الصينية الأمريكية الرائعة ديمقراطية ولا تشاركية؛ فقد اتخذ هذا القرار النخبوي في سرية بعيدا عن الدول الأخرى، وبعيدا حتى عن الساسة في كل من الصين والولايات المتحدة. وفيما رحب الكثير من الصينيين والأمريكيين بالتغيير، انزعج آخرون؛ فقد كانت جميع الأطراف بحاجة لمناقشة ممتدة لتنفيذ هذا التعديل الأيديولوجي الكبير، الذي حول عدو الأمس اللدود إلى حليف اليوم ضد الاتحاد السوفييتي.
صدم القادة اليابانيون، الذين كانوا مؤيدين مخلصين للخط الصارم الذي اتبعته الولايات المتحدة في شرق آسيا، حين وجدوا السياسة تنقلب رأسا على عقب دون التشاور معهم. وعرفت الحكومة الأمريكية الصورية في جنوب فيتنام أن نهايتها باتت قريبة، فيما واجهت تايوان الأنباء بإنكار مصحوب بالذهول.
على صعيد السياسة المحلية في الولايات المتحدة، كان المحافظون الغاضبون دائما ما يدعمون الكومنتانج على الرغم من نجاح نيكسون في استقطاب معظم الجمهوريين، وحاول مثقفو أمريكا شرح الثورة الثقافية، وشمل ذلك تقديم تحليلات ساذجة نوعا ما للثورة الثقافية.
أما في الصين، فقد جددت المرحلة المبدئية من الثورة الثقافية خوفا قديما من الأجانب، تارة عن عمد، وتارة بسبب إسكات معظم الأصوات الكوزموبوليتانية، غير أن جيانج تشينج ذات النزعة اليسارية تعهدت بتحديث الثقافة الصينية بتطويع الأساليب الغربية، تطبيقا لنداء ماو «استغلوا الأجانب في خدمة الصين.» وقد أبرزت إحدى عروض الأوبرا النموذجية بعنوان، «على أرصفة الميناء»، معاناة عمال الميناء لتصدير بذور الأرز إلى أفريقيا، في سياق موجة عالمية من معاداة الإمبريالية. كانت هذه السياسة في التعاون الدولي مختلفة عن استيراد المنتجات الثقافية الغربية، ولكنها لم تكن معادية للأجانب.
شكل 5-1: جيانج تشينج تضيف الزوار الأجانب في العيد القومي للصين.
1
وعلى الرغم من ذلك، كانت الثقافة الأجنبية على الأرجح متورطة حتميا في سياسات حزبية مريرة؛ فقد كان القلق بشأن التدنس بثقافة الخارج منتشرا بين الكثير من اليساريين، خوفا من إضعاف الثورة بدفع الصين للاعتماد على الدول الأجنبية. وفي لفتة أكثر سخاء، ناقش القادة كيفية تنظيم الانفتاح الجديد على الغرب.
حين كون شو إن لاي مجموعة من الفنانين لزخرفة الفنادق من أجل موجة جديدة من الزوار الأجانب، استنكر الراديكاليون اللوحات بوصفها ب «السحر الأسود». وحين أعيد أداء الموسيقى الكلاسيكية الغربية مرة أخرى، ظهرت حملة لانتقاد «الموسيقى التي لا تحمل عناوين»؛ إذ كانت السيمفونيات والسوناتات المجردة (مثل سيمفونية موتسارت رقم 40 في مقام صول الصغير) تعتبر أكثر برجوازية من الموسيقى التصويرية التي تحمل عنوانا (مثل مقطوعة «دون كيشوت» لشتراوس، أو «السيمفونية الرعوية» لبيتهوفن). فقد كانت الرسائل المعنونة فيما يبدو أكثر شفافية، وكانت أكثر تلاؤما مع التقاليد الصينية للموسيقى والسرد. وبعد عودة وفد صناعي صيني من رحلة إلى نيويورك حاملا معه مجموعة من الحلزونات الزجاجية أهديت لهم من شركة كورنينج للأعمال الزجاجية، اتهمتهم جيانج تشينج بعبادة الأشياء الأجنبية وطالبت بإعادتها، وحين قدم المخرج الإيطالي مايكل أنجلو أنطونيوني فيلما وثائقيا لإعادة تعريف الغرب بالصين، شهرت به بكين لتركيزه الزائد على الأشياء القديمة، والمناظر الغريبة، والآلات التي تدار بالطاقة البشرية، بدلا من التركيز على الإنجازات الصناعية الجديدة التي تفخر بها الصين.
لم يكن إحياء العلاقات مع الغرب يسير كله على طريقة حرب الخنادق؛ فقد كانت الصين تشتري واردات ذات أهمية، أبرزها مجموعة من وحدات تصنيع الأسمدة لتعزيز الإنتاجية الزراعية، ورحبت الصين بقيام وكالة الاستخبارات المركزية بإقامة مراكز تنصت ضد العدو السوفييتي الذي أصبح عدوا مشتركا الآن. غير أن الجبهة الثقافية ظلت أكثر شعبية وأكثر حساسية.
كانت معظم الخلافات والنزاعات التي تنشب تتعلق باستقبال الصين للثقافة الأجنبية، فيما قلت الاضطرابات التي صاحبت الدبلوماسية الثقافية الجديدة للصين، والتي كانت أفضل تنظيما وأكثر تركيزا؛ فقد حافظت الصين على علاقاتها بأصدقائها القدامى، وصدرت الأوبرا الثورية إلى الجزائر وألبانيا، وأسست وزارة الثقافة فرقتها عالية المهارة «للغناء والرقص الشرقي» لأداء عروض لجماهير العالم الثالث. ورأى الغرب أن الصين قد فتحت صفحة جديدة، مما صرف الانتباه عن فوضى الثورة الثقافية ووجهه نحو أمجاد الصين في الماضي التي كانت أقل تسييسا. وجاء اكتشاف «جيش التيراكوتا» المكون من آلاف التماثيل لمحاربين يحرسون قبر إمبراطور الصين الأول الذي يرجع تاريخه إلى ألفي عام، ليجذب أنظار العالم، إلى جانب معرض متجول لآثار تم اكتشافها خلال الثورة الثقافية. والمفارقة أن كثيرا منها قد اكتشف أثناء حملة الدفاع المدني من أجل «حفر أنفاق عميقة، وتخزين الحبوب في كل مكان.»
استعانت الصين بالغربيين لتقديم نفسها للعالم؛ فقامت الروائية الصينية البلجيكية هان سويين بتقديم الجمهورية الشعبية لجماهير جديدة، وأنتج المروج النيوزيلندي ريوي آلي كتبا وقصائد حماسية ولكنها بلا معنى. كذلك اكتشفت جيانج تشينج كاتب سيرتها الذاتية الأمريكي روكسان ويتكي، وهو أكاديمي شاب كان يجري معها حوارات ولقاءات مكثفة في عام 1972. وقد واجهت جيانج تشينج وويتكي فيما بعد انتقادات بسبب مشروعهما التعاوني، وإن كانت جيانج وحدها هي من اتهمت بخيانة بلادها.
شكلت اليابان حالة خاصة؛ إذ توددت الصين لعدوها السابق بحماس أكبر مما كان عليه الحال في السنوات الأخيرة، وافتتن الصينيون بفرقة رقص يابانية قامت بتقديم باليه «الفتاة ذات الشعر الأبيض». ولكن الذكريات العالقة ظلت قائمة. وكان هناك جندي ياباني، انفصل عن وحدته خلال الاستسلام المحير في عام 1949، واستقر في قرية بشمال الصين، وبدافع الخوف من انتقام الفلاحين الصينيين، اندمج داخل مجتمعه بالتظاهر بأنه أصم وعاجز عن الكلام. وجاءت إعادة العلاقات بين اليابان والصين لتحيي قدرته على الكلام والسمع، وعاد إلى وطنه بعد ثلاثة عقود من الفراق. (5) وضع أسس الليبرالية الجديدة
ما العلاقة بين الثورة الثقافية والصين التي حققت طفرة جديدة في اقتصادنا العالمي المعاصر؟ تشير الروايات التقليدية إلى أن الثورة الثقافية كانت الطرف المقابل للعولمة، وأن فوضى الخوف من الأجانب والدمار الاقتصادي اللذين استمرا على مدى عقد كامل لم يصححا إلا حين أدرك دنج شياو بينج الواقع بحكمة وحصافة، وأعاد دمج الصين في الاقتصاد العالمي.
أما علاقتها بالإصلاحات، فهو أمر أكثر تعقيدا. فقد كانت الثورة الثقافية، خاصة في مرحلتها الراديكالية المبكرة، قد سجلت ارتفاعا في حدة التعصب والحماس في مقاومة الرأسمالية العالمية. وبالطبع سوف يحتفل المنتصرون الغربيون بدحر هذه المقاومة، غير أن تفسير التغيرات في الصين بأنها مجرد استجابات للغرب يظل تفسيرا غير دقيق ونرجسيا.
وعلى كل أخطائهم الفادحة، فقد أقام الماويون منشآت تحتية وموارد بشرية كانت أساسية ولا غنى عنها للنمو السريع الذي حدث لاحقا. والتقليل من شأن إسهامات الثوريين الذين جروا أمتهم للاندماج في العالم الحديث، وقضوا على الأمية، وكافحوا الأمراض المزمنة، ووضعوا البنية التحتية للتصنيع، هو ضرب من الحمق والضلال؛ فعلى الرغم من العيوب الكثيرة التي شابت الصين الماوية، فإن الانتعاش الاقتصادي اللاحق يبني أيضا على إنجازاتها، بما في ذلك التحرر القومي والاجتماعي.
وعلى الرغم من أن الثورة الثقافية كان من الممكن أن تبلي بلاء أفضل في الاقتصاد، فمن التضليل أن نعتبرها مجرد عقد ضائع بالنسبة لتطور الصين. وقد وجدت الصين فرصا دولية أعظم بعد الثورة الثقافية عن ذي قبل، وعاد التكامل والاندماج بين الصين والرأسمالية العالمية حين طلبت الأخيرة الاستعانة باحتياطيات الصين الهائلة من العمالة، وهو ما لم تفعله في النطاق الأصغر للاقتصاد العالمي في منتصف الستينيات.
تبلورت الليبرالية الجديدة في جزء منها كرد فعل للمقاومة ضد الرأسمالية العالمية في فترة الستينيات والسبعينيات، وكان الاتجاه إلى العمالة الصينية المنظمة، والمتعلمة، وغير المكلفة مثيرا للسخرية؛ فقد استخدمت الشركات في الولايات المتحدة، وأوروبا، واليابان الإنتاج الخارجي في الصين لتأديب العمال في بلادهم عن طريق التهديد بفقدان وظائفهم، في ظل ركود الأجور وضعف النقابات العمالية.
وبغض النظر عن مدى التحرر الذي طال الاقتصاد جراء برنامج الإصلاح، فقد ظل مغامرة موجهة من قبل الدولة وليس فتحا ساذجا لأبواب الصين أمام الرأسمالية. لقد كونت ثورة الصين، بما فيها الثورة الثقافية، حركة طويلة المدى لتقوية الصين من أجل المنافسة في العالم الأوسع، وكان تأجير ذخيرتها من العمالة الرخيصة للرأسمالية العالمية استراتيجية محسوبة، مثلما كان الحال مع الجهود الماوية الأولى لتسخير نفس هؤلاء العمال من خلال الحملات السياسية.
استفادت الصين بقوة من هزيمة الفيتناميين للولايات المتحدة؛ إذ أجبر الأمريكيون على إعادة تقييم استراتجيتهم الآسيوية، مما خلق ثغرة لماو لتخفيف عزلة الصين. كانت إصلاحات دنج شياو بينج في حقبة ما بعد ماو ضخمة، لكنها خرجت من رحم سياسات ماو، وشو إن لاي، ودنج شياو بينج ذاته خلال الثورة الثقافية. ومع مشارفة الثورة الثقافية على الانتهاء، أتاح انفراج التوتر مع الولايات المتحدة القيام بتجارب اقتصادية أكبر، وارتفاعا منتظما في التجارة الخارجية.
إن هذا لا يعني أن ماو كان يقود دفة الصين بدراية على المسار الذي اتبعته منذ وفاته. لقد كان ماو في شدة الوجل والقلق من ممثلي الرأسمالية الذين «تسللوا» إلى مواقع السلطة، كما أوضح في إعلان 16 مايو الذي أعلن عن بداية الثورة الثقافية: «بمجرد أن تكون الظروف مهيأة، سوف يستولون على السلطة السياسة ويحولون ديكتاتورية البروليتاريا إلى ديكتاتورية البرجوازية. لقد كشفنا بعضهم بالفعل، ولكن لم نكتشف البعض الآخر. لا يزال البعض منهم يحظى بثقتنا ويدربون ليكونوا خلفاءنا؛ فلا يزال أشخاص، مثل خروشوف على سبيل المثال، قابعين بجوارنا.»
خلال زيارة للصين إبان الثورة الثقافية، استقل أكاديمي أمريكي ومستشار تجاري القطار من هونج كونج بصحبة صحفيين من إحدى المجلات الأمريكية الراديكالية، ولدى وصوله إلى الصين، ابتهج كثيرا حين رأى صحفيي الجناح اليساري يقتادون لاستقلال حافلة صغيرة، بينما اصطحب هو في سيارة ليموزين، فيما اعتبر مؤشرا لتغيير وشيك.
كان الاستثمار الأجنبي، بالنسبة للصين، يتطلب وضع قيود على المؤسسات الاشتراكية، وكان شعار «الاعتماد على النفس» أقرب لرونالد ريجان أو مارجريت تاتشر منه لماو. وقد أسقط الشعار، ولكن المفهوم طبق على العمال الصينيين بشكل فردي، وتم تفكيك النظام الجماعي في الزراعة بحلول عام 1983، وبعدها بفترة قصيرة، استعانت بعض المصانع بأجانب لأداء العمل «التطوعي» الذي طلبته الدولة، مما أظهر الخواء المتزايد الذي أصاب الاشتراكية. وأصبحت سياسة «صحن الأرز الحديدي» التي تضمن الوظيفة مدى الحياة، والتي اعتبرت يوما ما أحد إنجازات دولة العمال، عقبة أمام المنافسة في الاقتصاد العالمي. وأسفر الانفتاح على التجارة الخارجية، والخصخصة، والاستثمار الأجنبي عن نمو سريع في الدخول، وأصبحت الصين أقل فقرا إلى حد كبير، ولكنها أيضا صارت أقل مساواة وسلبية سياسيا.
خلال الأزمة المالية عام 2008، انتشرت شائعات عن أن الصين بصدد إنقاذ بنك ليمان براذرز من الإفلاس، وهكذا تحولت الصين، التي كانت يوما ما مصدرا للخوف لدعمها للثورة، إلى الصين التي جعلت العالم مكانا آمنا للرأسمالية العالمية.
إن التفكر في الثورة الثقافية يشبه النقاش حول تغير المناخ، حيث الأسئلة البسيطة تؤدي سريعا إلى قضايا كبيرة ومعقدة. كيف يجب أن تقلل من انبعاثات الكربون؟ تنطوي إجابة هذا السؤال على قضايا تاريخية معقدة: الحمولة الكربونية المناسبة للمصنعين الأوائل، والطموحات الواقعية للدول الأكثر فقرا، وعلاقة الصناعة الصينية بأماكن مثل أفريقيا. بالمثل، يمكن بالتأكيد مناقشة الثورة الثقافية كقضية محلية من قضايا السياسة المحلية، ولكننا نريد أيضا أن نفهم كيف تتلاءم مع بقية العالم؛ فلا يمكننا فهم الصين دون دراسة سياقها العالمي، ولن يكون للعالم معنى إذا لم ندرج فيه الصين.
هوامش
الفصل السادس
التصالح مع الثورة الثقافية
بدأت الثورة الثقافية في الأفول بوفاة ماو في عام 1976، واعتقلت أرملة ماو وثلاثة قادة راديكاليون آخرون، فيما عرف ب «عصابة الأربعة»، بتهمة إثارة الفوضى، وقدموا لمحاكمة علنية مع كبار جنرالات لين بياو في عام 1981. وقد أبرزت هذه الاعتقالات تصاعد نفوذ دنج شياو بينج، والرفض التدريجي والممنهج في الوقت ذاته لمعظم السياسات الاجتماعية والاقتصادية الماوية. ولا عجب في أن الصين قد واجهت صعوبة في التعايش مع ذكرى مثل هذه الفترة العصيبة، على الرغم من أن البلاد تبذل جهدا جادا أكثر مما سيقدره الكثيرون في الغرب. (1) إنهاء الثورة الثقافية
في عام 1976، روى ماو تسي تونج المريض ذكرياته عن إنجازاته، بما فيها ذكريات هزيمة اليابان والانتصار في الحرب الأهلية:
الأمر الآخر، كما تعرفون، كان إطلاق الثورة الثقافية، وهنا ليس لدي الكثير من المؤيدين ولدي بعض الخصوم. إن الثورة الثقافية شيء لم ينته بعد. ومن ثم فإنني أمرر المهمة إلى الجيل القادم. قد لا يكون بمقدوري تمريرها بسلام، وفي هذه الحالة قد أضطر لتمريرها في أجواء من الاضطراب. ماذا سيحدث للجيل القادم إذا فشل الأمر كله؟ قد يكون هناك عاصفة وأمطار من الدماء. كيف ستواجهون ذلك؟ السماء وحدها أعلم!
كانت هناك مغالاة في مخاوف ماو بشأن الأمطار الدموية، وكان من شأن انقلاب بسيط ضد الطائفة التي كانت أكثر من استثمر في استمرار الثورة الثقافية أن يضمن نهايتها؛ فقد اتفق معظم قادة الحزب على أن الثورة الثقافية كانت مدمرة سياسيا، وأن سياساتها الاقتصادية قد استنفدت كل ما لديها، وأن رؤيتها الثقافية قد أصبحت خانقة.
وخلال عام من وفاة ماو، أعلن خليفته هوا جوفينج أن الثورة الثقافية قد انتهت، ولكن هوا، الذي كان رئيس الحزب بهونان ووزيرا للأمن العام، كان بحاجة إلى استحضار إرث ماو لتقوية قاعدته السياسية الضعيفة، غير أن تزامن استحضار ماو مع إبعاد نفسه عن إرث ماو النهائي أثبت صعوبته. فقد تم إفشال هوا بفعل المد المتزايد للمسئولين الذين خضعوا لإعادة التأهيل، والذين فضلوا الإيقاع الأسرع في التغيير الذي وعد به دنج شياو بينج.
وبحلول ديسمبر من عام 1978، كان دنج قد نجح في تجريد هوا من السلطة الحقيقية، وتبنى الحزب سياسة الإصلاح، وشرع في إعادة تقييم الثورة الثقافية بمزيد من الجدية؛ ففي الفن، عرض أدب «المجروحين» ما احتوته من ظلم وفساد، وفقدت النماذج الماوية التي كانت مقدسة يوما شعبيتها، وكشف النقاد عن معونات حكومية كانت تمنح لوحدة دازهاي الإنتاجية «ذات الاكتفاء الذاتي» في ظل حل الجمعيات التعاونية الزراعية. ونضب النفط من حقل داتشينج، وسقطت «مجموعته البترولية» من السياسيين في بكين حين غرقت منصة بترول ساحلية في عام 1979، مما أسفر عن مصرع اثنين وسبعين عاملا.
أظهرت التغييرات التي طرأت على السياسة الاجتماعية والثقافية مدى الرفض للثورة الثقافية؛ ففي غياب الضغط الماوي، لم يرغب أحد حقا في بقاء شباب المدن في الريف. وبحلول عام 1980، كان معظمهم قد عاد إلى مدنهم الأصلية، واستؤنفت اختبارات الالتحاق بالجامعة على مستوى البلاد، وتم رفع حد السن إلى سبعة وثلاثين عاما لتعويض عقد كامل من الفرص الضائعة، وخاض ما يقرب من 6 ملايين شخص ما قد يعد أكثر الاختبارات تنافسية في التاريخ؛ وفاز 5 بالمائة منهم بأماكن في الجامعة. ولا تزال «دفعة 77» تلك تعتبر مجموعة استثنائية غير عادية.
شددت سياسات التعليم والفن على استعادة المؤسسات القديمة وإعادة تأهيل المسئولين المخلوعين، كل بهدف استعادة عصر ذهبي خيالي للشيوعية، ولكن دون ماو أو لين بياو. وقد صاحب الحفل التأبيني الذي أقيم في عام 1980 لليو شاوشي موجة من عمليات إعادة التأهيل، رافقتها تكريمات لمن ماتوا وتعويضات لمن قضوا سنوات بعيدا عن الحظوة السياسية.
ولمزيد من الهدم للماوية، على المدى الطويل، جاءت المبادرات الاقتصادية الجديدة لتشجيع الأسواق والصادرات؛ فعلى الرغم من أن الصين كان لها تراث راسخ في التسويق، فقد دمرت الثورة طبقتها الرأسمالية. ومن بين العديد من المفارقات أن أعضاء الحرس الأحمر السابقين استغلوا علاقاتهم الشخصية التي تكونت في الإطار السياسي للثورة الثقافية لبناء شبكات تجارية جديدة.
ازدادت الإثارة الثقافية بإعادة اكتشاف أساليب وأعمال من تاريخ الصين الماضي ومن العالم الخارجي، وتهافتت الجماهير من أجل استيعاب الوفرة المفاجئة في الاختيارات الجمالية. وكانت المقاومة من جانب المسئولين الأكثر محافظة (وليس الماويين بالضرورة) تندلع من آن لآخر، ودائما ما كانت تتمحور حول الموسيقى الشعبية الواردة من الخارج، بما في ذلك تيريزا تينج، وهي مطربة رومانسية تايوانية. وقد عبر دنج شياو بينج عن ذلك بأسلوب أهدأ من المسئولين الأدنى مرتبة حين قال: «حين تفتح النافذة، سوف يدخل بعض الذباب.»
كانت معظم الرقابة تطبق من جانب المتعصبين أو الخائفين، وما لبثت أن بدأت تخف. وظهرت رؤى تاريخية جديدة أتاحت نقاشا أكثر تفصيلا لتاريخ الصين، ومن ثم لم يعد عام 1949 يمثل الخط الفاصل بين الجيد والسيئ. وفي النهاية تحررت عملية إعادة اكتشاف الصين الجمهورية من التهديدات العسكرية من قبل شيانج كاي شيك. (2) تحديد المسئولية
ليس صحيحا أن السلطات الصينية لم تتعامل مع الثورة الثقافية قط، فقد ظل الغرب غير واع بشكل عام بمدى ما أبداه الحزب الشيوعي من اعتذار، وتنديد، وتعويضات عن هذه الحركة الماوية، وهو ما شمل المحاكمات العلنية، وعمليات إعادة تأهيل الضحايا، وإعادة الوظائف، والملكيات المفقودة، والدخل.
وفي عام 1981، قامت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني بإصدار بيان عن تاريخ الحزب، تضمن رفضا واضحا للثورة الثقافية، وجاء فيه: «كانت «الثورة الثقافية» التي امتدت من مايو 1966 إلى أكتوبر 1976، مسئولة عن أكثر الانتكاسات حدة وأفدح الخسائر التي عانى منها الحزب، والدولة، والشعب منذ تأسيس الجمهورية الشعبية. وقد كان الرفيق ماو تسي تونج هو مطلقها وقائدها.»
وواصل البيان: «لقد أظهرت التجربة أن «الثورة الثقافية» لم تشكل ثورة أو تقدما اجتماعيا بأي حال، ولم يكن بالإمكان أن تفعل ذلك. لقد كنا نحن، وليس العدو، من ألقتهم «الثورة الثقافية» في مصيدة الفوضى والاضطراب.»
قدمت المحاكمة العلنية المتلفزة لأعضاء عصابة الأربعة وعصابة لين بياو في عام 1980 خاتمة رمزية لملايين من المشاهدين المنبهرين؛ فقد أدين المتهمون العشرة باضطهاد 727420 شخصا وقتل 34274. تحدثت جيانج تشينج بلهجة تحد، فيما رفض حاكم شنغهاي تشانج تشن شياو (الذي ربما كان أخطر القادة السياسيين المتهمين) الحديث نهائيا . وقد حكم على الاثنين بالإعدام مع إيقاف التنفيذ لمدة عامين، لتعدل العقوبة بعد ذلك إلى سجن مدى الحياة. وحصل نائب رئيس الحزب السابق وانج هونج ون على حكم بالسجن مدى الحياة، بينما حكم على مسئول الدعاية المخلوع ياو ون يوان بالسجن لمدة عشرين عاما. أما تشن بودا، سكرتير ماو وقائد مجموعة الثورة الثقافية، وكبار القادة العسكريين الذين أدينوا باعتبارهم «أعضاء عصابة لين بياو»، فقد حصلوا على أحكام بالسجن لمدد تراوحت ما بين ستة عشر عاما وثمانية عشر عاما.
ظلت جيانج تشينج سجينة سياسية حتى انتحارها في عام 1991، وقد كانت تصنع دمى لبيعها بالخارج، ربما في إطار الاقتصاد الجديد الموجه نحو التصدير. وقد ألغيت هذه المهمة حين اكتشف حراس السجن أنها طرزت اسمها على كل دمية. وقام الحزب بفصل قائدي الجهاز الأمني الراحلين، كانج شينج وشيه فوشي، وذلك بعد وفاتهما؛ حتى خطب التأبين التي كانت ستلقى خلال جنازتهما ألغيت رسميا. وصاحب حركات التطهير الواسعة على المستوى المحلي حوادث انتحار لبعض الناشطين اليساريين. وكانت محاكمة عصابة الأربعة إيذانا بموجة ثانية من حركات التطهير المحلية، والتي شملت أشخاصا كانوا من نشطاء الحرس الأحمر قبل حوالي عقدين، وكذلك «أبطال» الثورة الثقافية الراحلين، مثل منتقد اختبارات الجامعة شانج تيشينج، الذي حكم عليه بالسجن لمدة خمسة عشر عاما بتهمة التخريب.
وأعيد الكثير من المسئولين الذين كانوا مدحورين يوما ما إلى مناصب عليا، تارة في أدوار شرفية فقط، وتارة بغرض الانتقام. وكوفئ كثيرون بالسفر للخارج. وعلى مستوى أقل رسمية، كان لأبنائهم في الغالب الأفضلية في الترقيات. وفي استخدام لمبدأ الرمزية العامة الأكثر تعميما، وضع تصميم جديد لعملة الصين الورقية أضيف من خلاله مفكر ذو نظارات إلى ثلاثية العامل، والفلاح، والجندي الماوية، مما أضفى طابعا رسميا على فكرة تجدد الاحترام للمفكرين والمثقفين.
أعادت الدولة الكثير من الممتلكات المصادرة إبان الثورة الثقافية. وبحلول عام 1985، قامت إدارة الآثار الثقافية ببكين «مكتب البضائع المنهوبة أثناء الثورة الثقافية»، بعرض 30 ألف عمل فني لم تتم المطالبة بها، و170 ألف كتاب، حتى يتسنى للمواطنين تقديم مطالبات لاستردادها. وليس مستغربا أن تكون أكثر المقتنيات جاذبية قد جذبت دعاوى مطالبة عديدة.
غير أن المنتقدين أرادوا المزيد؛ فلم انتقاد الثورة الثقافية دون مشروع القفزة الكبرى للأمام؟ فأراد آخرون من الحزب التبرؤ من حملة 1957 المضادة لليمينيين، فيما أراد آخرون تبرؤا من الثورة ذاتها. ولم يستطع قادة الدولة والحزب إرضاء جميع المواطنين الصينيين، الذين تراوحوا ما بين العمال الذين تحسنت حياتهم والمثقفين الذين عانوا معاناة مريرة. وفي النهاية تعاملت الصين مع ماضيها المثير للجدل، مثلما فعلت المجتمعات الأخرى؛ بفرض قيود مخيبة للآمال.
في ظل هذه القيود، كانت الإشارات واضحة؛ فقد اتخذ الحزب موقفا دفاعيا، ملقيا أكبر قدر ممكن من اللوم على كاهل ماو وعصابة الأربعة، ثم حث الجميع على «الالتفات للمستقبل». ولكن إذا أدرجنا ضمن ضحايا الثورة الثقافية أي شخص لقي أحد أفراد عائلته معاملة مجحفة، فربما يكون 100 مليون صيني قد أصابهم الضرر. ومع تزايد أعداد المسئولين المخلوعين ممن حظوا بإعادة التأهيل واستعادوا مناصبهم السابقة، وجد كثيرون أنفسهم يتقاسمون مناصبهم مع من كالوا لهم الاتهامات في السابق بشكل مثير للتوتر. وأصبح النظر للمستقبل أكثر ضرورة وإلحاحا، ولكنه أقرب للمستحيل.
بدأ الحزب في إزالة صفة التقديس عن الماوية. كان ماو قد دفن في ضريح ضخم في وسط ميدان تيانامين، وهو الأمر الذي أثار بعض الجدل، وبدلا من نقل المقبرة، اختار الحزب توسيع النصب التذكاري ليضم خمسة آخرين من قادة الحزب هم: ليو شاوشي، وشو دي، وشو إن لاي، وتشن يون، و دنج شياو بينج (فيما بعد). واستمر نشر كتاب «الأعمال المجمعة» لماو في أربعة مجلدات، ضمت كتاباته خلال ثورة عام 1949. ونشر مجلد خامس أحدث، تألف من المقالات التي كتبها ما بين عامي 1949 و1976، ولكنه بدا متطرفا أكثر من اللازم وتم سحبه.
تم تفكيك المئات من التماثيل التي لم تعد مسايرة للعصر آنذاك، وكان الكثير منها منصوبا في حرم الجامعات، حيث لم تحظ بشعبية كبيرة بوجه خاص. وفي جامعة بكين في نهاية عام 1987، عرض أحد الأساتذة الجامعيين قطعا من تمثال محطم في مكتبه. ومثلما يقدم الصينيون الآخرون الشاي، أو الفاكهة ، أو السجائر لضيوفهم، كان هذا الأستاذ الجامعي يرحب بضيوفه بإهدائهم قطعا من تمثال ماو. وقد كان تمثال ماو المفكك رمزا لحس الشجاعة الجديد الذي تولد لدى المثقفين، وانتصارهم على وجود كان متسلطا يوما ما وأحيانا ما كان مصدر تهديد.
شمل رد فعل الحزب المضاد لماو حذف «الحقوق الأربعة الكبرى» من الدستور القومي في عام 1980، فاختفت حرية إبداء الرأي، وإذاعة الآراء كاملة، وعقد مناقشات موسعة، وكتابة الملصقات ذات الأحرف الكبيرة كحقوق (إلى جانب حق الإضراب). وقد رأى ذوو الحنكة في الحزب في هذه التدابير الاحتياطية تشجيعا لمنتقديهم. علاوة على ذلك، كانت الحقوق الأربعة الكبرى قد وضعت لتوها موضع التنفيذ في مظاهرات 1979 الشعبية عند حائط الديمقراطية ببكين.
ولكن لم يستطع دنج وأعوانه التأكد من إحكام زمام السيطرة؛ فقد كان من ضمن المتظاهرين الحرس الأحمر السابق العائد حديثا من الريف والمتعطش لإيجاد وظائف وللإصلاحات السياسية، وكانت ملصقاتهم ذات الأحرف الكبيرة بشكل خاص مصدر رعب للقادة لما يحملونه من ذكريات عصيبة للتنديدات والاتهامات الماضية. واستغلوا الأزمة بنجاح للقضاء على الحركات السياسية الجماهيرية، والتي قد تعد أهم إرث سياسي تركته الماوية. غير أن الحقوق الأربعة الكبرى، حسب أسلوبهم، كانت تحمي أيضا حرية التعبير في مواجهة السلطة. أما الحكومات الغربية، فقد نظرت في الاتجاه الآخر، إما لدعم نظام دنج الجديد، أو لأنها لم تستطع تخيل تراث ماو دون تداعيات سلبية على حقوق الإنسان.
شملت الكتب والمقالات عن الثورة الثقافية مذكرات وكتبا هزلية، وكلا النوعين كانا غالبا ما يستهدفان إعادة تأسيس الموقع الاجتماعي المنهار للمثقفين. وشملت الدعابات عن الثورة الثقافية العامل الذي تولى مسئولية مركز للفنون، والذي حين دمرت الأمطار غرفة التحميض، قام بتحميض الفيلم بالخارج، أو عامل عين أمينا لمكتبة وقام بتصنيف الرواية الروسية الشهيرة «كيف سقينا الفولاذ» تحت فئة كتب علم المعادن.
ولكن القيود أبطأت من سرعة الحركة لانتقاد ماو والثورة الثقافية؛ أولا: لأن الحزب كان لا يزال يعتمد على إرث ماو لاكتساب الشرعية أثناء سعيه لإعادة تعزيز سلطته. وكان مما يقال عن ماو إنه كان جيدا بنسبة 70 بالمائة وسيئا بنسبة 30 بالمائة، وهو ما يعد تركيبة غامضة تركت أمورا كثيرة غير محددة. ثانيا: كانت الثورة الثقافية قد امتدت لتضم مئات الملايين من المواطنين بين ذراعيها، وكان هؤلاء المواطنون الكادحون يسعون ليكونوا على قدر مستوى المثل العليا للحركة في حياتهم اليومية، على الرغم من مكائد ودسائس النخبة السياسية. ولم يستطع الحزب أن يندد بالشعب الصيني، الذي كان مطلوبا الدفاع عن حكمته وطيبته. (3) انتفاضة 1989 والحنين للثورة الثقافية
تأكدت مخاوف الحزب خلال أزمة الصين السياسية الكبرى في عام 1989، حين اندلعت مظاهرات شعبية ضخمة قامت في الأساس احتجاجا على الفساد والتضخم، ثم امتدت لمطالبات بمزيد من الديمقراطية. وكان معظم المتظاهرين من أعضاء الحزب. وقد أشعلت هذه الحركة الاجتماعية الكبرى مظاهرات في كل أنحاء الصين حتى تم قمعها بعنف في الرابع من يونيو. تسببت هذه المظاهرات في انقسام الحزب الشيوعي، الذي فصل أمينه العام، شاو زي يانج، ووضع قيد الإقامة الجبرية في منزله حتى وفاته في عام 2005.
قامت الفرقة المنتصرة من الحزب بنشر ذكريات الثورة الثقافية لتشويه منتقديها الجدد والتشكيك فيهم. على سبيل المثال، نشر مقال جانج هوا المليء بالندم والحسرة «تقرير عن تدمير الكتب» (انظر الفصل
الثالث ) في 18 أبريل من عام 1989، قبل يومين من فرض الأحكام العرفية على بكين. ومن خلال هذه الذكريات استفاد الحزب من قلق في غاية الشدة بشأن الفوضى الاجتماعية. وخيم شبح الثورة الثقافية على مؤسسة الحزب، الذي استعاد سمعته ونفوذه قبل عقد واحد فقط، وخيم أيضا على المتظاهرين الشباب، الذين اضطروا للاستعداد ليدفعوا عن أنفسهم الاتهام بأنهم لم يسعوا سوى لإحياء همجية الحرس الأحمر.
ميز المتظاهرون أنفسهم عن الحرس الأحمر تمييزا حادا بانضباطهم، وتوحدهم، وتواضعهم. وكما كان الحال في الثورة الثقافية، كان الطلاب في طليعة الحركة، ولكنهم في عام 1989 قدموا أنفسهم ليس كثوار، ولكن كطلاب، نخبة الأمة المستقبلية، يدفعهم حسهم الوطني للقلق بشأن مسار الصين. غير أنه لم يكن هناك بد من اعتماد متظاهري 1989 الجدد على ذخيرة السياسات المتاحة من أجل تحرك جماعي، وهو العامل الذي اشتركوا فيه مع جيل الحرس الأحمر. قمع دنج منتقديه بالعنف، ثم شيطنهم من خلال الدعاية القومية، وكان رد فعله هذا مشابها نوعا ما لرد فعل نخبة 1968 السياسية المذعورة، حين تمت تصفية الحرس الأحمر.
بعد مذبحة 4 يونيو في بكين، أعاد الحزب توطيد قبضته السياسية، ثم قاموا بتخفيف طريقة تعاملهم العلني مع الثورة الثقافية في موجة غير مسبوقة من الحنين الممزوج بالبهجة. فظهرت مطاعم الثورة الثقافية، وراحت تقدم أطعمة أعادت للأذهان ذكرى تلك الفترة التي قضيت في الريف، وإن كانت قد قدمت مع كثير من اللحوم للحرس الأحمر السابقين الذين نعموا بالرخاء مؤخرا. وأصبح لتذكارات الثورة الثقافية شعبية، مثل شارات ماو، والملصقات، والتماثيل، وصارت المسرحيات التي كانت جيانج تشينج قائمة على رعايتها يوما ما تعرض أمام جماهير حماسية، ووضعت الأغنيات الماوية على نغمات الديسكو الراقصة.
صاحب حمى ماو تلك التي اندلعت في بداية التسعينيات تعميق شديد للإصلاح الاقتصادي؛ إذ شجع دنج المواطنين على «القفز في بحر» السوق لتحريك اقتصاد أصابه الركود بسبب أعمال العنف في عام 1989. كانت «حمى ماو» مجرد حنين خلا من أية رسائل سياسية ماوية. لقد تم تسويق الثورة الثقافية للحقبة الإصلاحية الجديدة، مثلما كان كل شيء آخر في الثقافة الصينية يتحول إلى سلعة. إن حمى ماو تشبه حنين الثقافة الشعبية الغربية لحقبة الستينيات، بألوانها الصارخة، والشعر الكثيف، والاستكشافات الروحانية، والمعتقدات الحمقاء، ولكنها شهدت غياب النضال ضد العنصرية، أو الفقر، أو الحرب الإمبريالية، والذي لم يعد ملائما آنذاك.
استكشف فيلم شهير بعنوان «في حر الشمس» (1994) الثورة الثقافية من خلال قصة صبي في الخامسة عشرة ترك منزله بمفرده وأسرته التي تتكون من ضباط عسكريين لاستكشاف بكين في عام 1975. كانت مغامراته المراهقة استكشافا لشعور الإثارة الذي ينتاب شابا مراهقا حين يفلت من رقابة الكبار، بما في ذلك المشاركة في مشاجرات مجموعات المراهقين، واستكشاف الجنس، والتلذذ بالطعام، واكتشاف نفاق الكبار، وقد كان هذا الحنين المتلهف يتعارض بشكل حاد مع موجة القمع الشرس في الرابع من يونيو.
شكل 6-1: غالبا ما تظهر الآن الصور المستوحاة من الثورة الثقافية كسخرية. يقدم مطعم الجمهورية الشعبية للساندويتشات ببورتلاند ساندويتش «المطرقة والمخللات» الرائع.
1
كان اتساع السوق الثقافية يعني أن مسئولي الدعاية قد ناضلوا من أجل تنظيم مناقشة الثورة الثقافية، فلم يكن الموضوع محظورا على النقاش بشكل صريح، ولكنه في الواقع حفز ظهور الكثير من الكتب والكثير من الأعمال الفنية. ولكن في عام 1990 قامت إدارة الدعاية بالحزب بمنع قاموس للثورة الثقافية تم التقدم به؛ فقد اعتبر هذا المشروع شديد الخطورة، وقد يعيد فتح خلافات ومنازعات قديمة من خلال تعريف كلمات وعبارات قديمة. غير أن مشروعات مماثلة تم استكمالها للنهاية، مما عكس جهدا لفهم ماضي الصين القريب بما يشوبه من اضطرابات.
ويظل التعامل مع الثورة الثقافية حقل ألغام سياسيا بشكل واضح ومفهوم. وقد اشتدت المخاطر الآن بفضل توجهات الحزب المتناقضة؛ فعلى سبيل المثال، تم سحب سيرة ذاتية لوزير الثقافة الأسبق يو هوي يونج - وهو ملحن عمل في عروض الأوبرا الثورية - من التداول في عام 1994؛ لأنها كانت «موضوعية» بشكل مبالغ. لم تكن القيادة مستعدة لنقاش نزيه ليس من شأنه أن يحقر من أعدائه القدامى. غير أن هذا الموقف كان مضادا للحنين الذي كانوا يروجون له، وهو ما أدى إلى استمرار أداء عروض الأوبرا النموذجية. فالاقتصاد التجاري يضمن أن سوق الحنين لموسيقى الستينيات سوف تستغل، إلا أن الحكم السياسي الصارم والمتعنت على الحركة يعني أن أي استجواب جاد إنما هو مجازفة بإحداث جدل ونزاع مؤلم. (4) إرث مربك
يمكننا بالكاد أن نعتبر أسلوب الصين في التعامل مع ماض مثير للجدل أسلوبا غير مألوف؛ فذكريات الحركات السياسية الراديكالية شائكة ومعقدة بشكل خاص حين تقترن أهداف نبيلة بسياسات عنيفة. فلم تكن الولايات المتحدة تشعر بالارتياح تجاه المناضل في سبيل حرية العبيد جون براون، والذي أعدم لقيادته تمردا مسلحا ضد الرق، فيما افتقر الروس لإجماع آراء سهل بشأن البلاشفة. وعلى عكس ثورة الصين الثقافية، لا يشمل أي من المثالين مشاعر المشاركين الذين لا يزالون على قيد الحياة .
يبدو جيل الثورة الثقافية في عيون العديد من الصينيين جيلا ذا صلادة متميزة، تدرب على يد الخبرات والتجارب الصعبة من أجل اكتساب حنكة سياسية وعزيمة شخصية. ولما كانت تلك الحقبة ساخرة، ومحسوبة، ووحشية، فإن كلا من الحرس الأحمر السابق وضحاياهم يفخر بقوته الشخصية. الفنان المنشق آي ويوي هو ابن الشاعر آي تشينج، وهو ثوري قديم وقع في صراع مع قيادات الحزب، مثلما كان الحال مع آي ويوي في عام 2011. وعلى الرغم من علاقة آي تشينج الشخصية بماو تسي تونج، يذكر آي ويوي أن والده قد خفضت مرتبته ليصل إلى تنظيف دورات المياه. «كانت دورات مياه عامة محطمة ومتسخة وقذرة. وفي بعض الأحيان كان يعود إلى المنزل تغطيه القاذورات. فلم يكن لديه ملابس احتياطية، ولكنه كان هادئا وقال: «على مدى ستين عاما لم أكن أعرف من كان ينظف لي حمامي.» وكان هذا مقنعا لنا للغاية.»
ولكن ذكريات الاكتشافات والهزائم الشخصية نادرا ما تجد لها مكانا في الأحاديث العامة، وغالبا ما تظل بالفعل بلا ذكر بين العائلات. وقد أدهش زوجان من المثقفين ابنهما ذا الاثني عشر عاما أثناء تناولهما العشاء مع أحد الأجانب في عام 1989 حين ذكرا أن والديه قد التقيا باعتبارهما من الحرس الأحمر. غير أن الزوجين يعتقدان أن جيل ما بعد الثورة الثقافية مدلل؛ إذ يفتقد الخبرة العملية بمشكلات الصين. لقد وصل جيل الحرس الأحمر إلى السلطة داخل المؤسسات الصينية، ولكن البلاد غير منفتحة بعد على مناقشة النطاق الأوسع لخبراتها وتجاربها. وعلى الرغم من أنه من الخطأ القول بأن الموضوع مغلق، فإن الحوار قد تحول إلى خليط غير مرض من الحنين، والجهل، والشعور بالذنب.
بعد مرور ما يقرب من نصف قرن على بداية الثورة الثقافية، كان الظالمون والضحايا على حد سواء قد فارقوا الحياة أو تقاعدوا. والقيادة السياسية الحالية تتجنب البحث في السياسات الشابة لنخبة اليوم والتي تزداد قدما مع الوقت. ولكن لماذا يكون هذا سببا في إثارة المتاعب أكثر من إثارة تساؤلات بشأن هوية القادة الأمريكيين الذين حاربوا في فيتنام، ومن تهرب من أداء الواجب العسكري؟
إن القيادة الصينية تتوق للاحتفاظ بتكتيكات التعبئة الجماهيرية خارج نطاق السياسة، ولا شك أن هذه الاستراتيجية تساعد على وضع حد للمناقشات الخاصة بالثورة الثقافية. والمدهش أن هناك احتجاجات اجتماعية عاصفة تندلع عبر أنحاء الصين، ارتكزت بقوة على توترات حقبة الإصلاح الاقتصادي. وتحظى صورة ماو بجاذبية مستمرة بين المحتجين الجدد، والذين من بينهم العمال الحكوميون، والمشردون، والمتقاعدون، والمهاجرون، والعاطلون. ويريد الحزب أن يثنيهم عن انتهاج أسلوب تفكير واستجابات الثورة الثقافية. ولا يوجد قيود تمنع الشباب الذين تم ترحيلهم إلى الريف فيما سبق من تنظيم أنشطة ولقاءات للم الشمل بشكل غير رسمي، ولكن يوجد عوائق أمام السلوك الرسمي الأكثر تنظيما.
ثمة عائق مثبط آخر لمناقشة الثورة الثقافية، وهو أن كبار القادة قد يختلفون في وجهات النظر، ومن ثم فإن تجاربهم الشخصية والعائلية، وكذا مشاعر أنصارهم، من شأنها أن تحول دون توافق الآراء، فالأفضل ألا نناقشها عن أن نختلف.
ومن شأن هذا التحفظ أن يضاعف من قلق الحزب إزاء المناقشة العامة لأية كوارث كبرى، بما في ذلك حركة 1957 ضد اليمينيين، ومشروع القفزة الكبرى للأمام عام 1958، ومذبحة بكين عام 1989. هناك قضايا معينة من قضايا الثورة الثقافية يتضح أنها مقبولة، ولكن لا أحد يعلم أيها سيكون منطقة محظورة، ومن ثم يتجه الحذرون إلى موضوعات أخرى. فهناك شيء متغير بشأن السماح بانتقاد ماو تسي تونج، وفي نفس الوقت تجاهل المطالبات بإنشاء نصب تذكارية ومتاحف عامة تخليدا لذكرى الثورة الثقافية. فقد دعم الروائي با جين، على سبيل المثال، مشروع إنشاء متحف، ولكنه وصل للاشيء.
لم تظل التفسيرات الخاصة بالثورة الثقافية راكدة في مكانها، بل تطورت استجابة لضرورات سياسية حتمية أوسع؛ فعلى سبيل المثال، ظهر اهتمام جديد بطبيعة الحياة الجنسية خلال عقد الثورة الثقافية؛ إذ يتذكر الحرس الأحمر الطاعنون في السن شبابهم الذهبي، مثلما يفعل جيل البيبي بومر في الولايات المتحدة. كذلك تثير الحياة الجنسية قضايا سياسية أقل من تلك التي يثيرها، مثلا، إعادة النظر في دور الجيش، أو دنج شياو بينج، أو تجارب القادة الحاليين. إن الحركة التحررية للصين تسير قدما على مستوى المجتمع، ولكنها لا تحدث إلا تغييرا بطيئا في المؤسسات المركزية والخرافات.
ولا يزال تبادل الاتهامات الشخصية مستمرا؛ فلا يزال كهول المثقفين يهاجم أحدهم الآخر بسبب الإبلاغ عن أصدقائهم. وبقدر ما تبدو هذه الذكريات والتعريضات محبطة، فإنها تغذي انجذابا عاما نحو نشر فضائح من كانوا يوما رموزا بارزة.
مع توسع الاقتصاد التجاري، يجد الأشخاص الذين يملكون «محتوى» ثقافيا فرصا جديدة، فاندلعت نزاعات بشأن من له الآن حقوق امتلاك الأعمال الفنية للثورة الثقافية، والتي كانت تنتج في الغالب تحت رعاية جماعية. فقد كانت منحوتة «ساحة جمع الإيجارات» - وهي منحوتة تتألف من مائة شكل لإقطاعي بإقليم سيشوان يسيء معاملة فلاحيه - قبلة للسياح خلال الستينيات، وعرض أحد رسومات المفرقعات لساي جوو تشيانج في بينالي فينيسيا عام 2000، وقام نحاتو الستينيات الذين لا يزالون على قيد الحياة بمقاضاة خلفائهم غير الثوريين لرفضهم احترام حقوقهم في أعمالهم. كذلك سعى ورثة الملحن لي جيفو، الذي وضع كلمات ماو في أغنية، للحصول على تعويض حين أعيد استخدام موسيقاه خلال فترة حمى ماو في التسعينيات. واندلعت معركة قضائية طويلة على حقوق اللوحة الزيتية «الزعيم ماو في طريقه إلى أنيوان» لليو تشون هوا (1968). كان ليو قد قام في عام 1995 ببيع اللوحة إلى أحد البنوك، الذي لا يزال يمتلكها على الرغم من تقديم مطالبات باستردادها من قبل المتحف الوطني في بكين واعتراف الدولة به كأثر ثقافي.
ولا يزال لي فينج، الجندي الماوي المثالي، حيا ويحظى بالاحترام في الخيال العام، ولكنه لم يحظ باحترام كالذي حظي به خلال فترة الثورة الثقافية. وكان طرح ماركة الواقيات الذكرية لي فينج سببا في فضح الكثير، ومن ثم منعت من التداول في عام 2007. بعد ذلك بعامين اختار أحد الممثلين تجسيد لي فينج في مسلسل تليفزيوني، واضطر لتفادي الاتهامات بأن أفعاله الطائشة الخاصة قد جردته من أهليته للعب مثل ذلك الدور الجليل.
ضاعفت القيود المفروضة بشكل غريب على قنوات النقاش والحوار من جاذبية استخدام الثورة الثقافية كوسيلة للهجاء والتهكم، وتصف رواية يان ليانك «اخدموا الشعب»، علاقة ملتهبة بين زوجة أحد القادة العسكريين الماويين وخادمه؛ تستبد بهما مشاعرهما بينما يدمران رموزا ثورية، منها كتابات وتماثيل ماو، لتختلط بذلك الخطايا الجنسية بالخطايا السياسية. وقد نشرت الرواية في مجلة أدبية بارزة، على الرغم من أن نسخة الكتاب قد منعت. ويان، الذي كان في الثامنة من عمره عام 1966، هو روائي حاصل على جوائز، ولا يبدو أنه قد عانى في مشواره المهني، ويستمتع بلا شك بالعمولات التي يحصل عليها من مبيعات أعماله بالخارج. (5) مستقبل الثورة الثقافية
لقد أصبحت الثورة الثقافية في عداد الموتى ودفنت، لدرجة أن المحاولات والجهود لاستيعابها إنما تخاطر بأن يساء فهمها إما كتمويه أو فشل في إظهار سخط كاف تجاه الجثة. غير أن الأفكار بشأن الثورة الثقافية سوف تكون جزءا من مشهدنا السياسي والثقافي لفترة قادمة.
لا يظهر الشباب داخل الصين اهتماما كبيرا بالأمر، ولم يعد القادة الحاليون مدفوعين بالعداء الذي يجمع جيل دنج شياو بينج. ومن المحتمل أن تقل قيمة ذكريات الثورة الثقافية بمرور الزمن، ليجعلها تبدو أشبه بانفجار لا نظير له، ويواريها ثرى قرن من التغيير المضطرب العنيف بمزيد من القوة.
وقد ظهرت بعض الإشارات لهذا التحجيم من قدر الثورة الثقافية، إذ إن سرعة التغير الاجتماعي منذ وفاة ماو يسيطر على الوعي الشعبي؛ فالصينيون الذين نضجوا في الحقبة الإصلاحية يمكنهم أن يعرفوا المزيد عن العالم عن نظرائهم في الستينيات، والتعبير عن آراء أوسع، ويعانون بشكل أقل من مزيج من استئساد الحزب والحركة النضالية للغوغاء ممن يعدمون الناس دون محاكمة. ومع خروج الضحايا الفرديين من المشهد، ينحسر الاهتمام بتصحيح أو تخليد قضيتهم. وقد تم التجاوز الآن عن فضائح أخرى، تسببت يوما في إشعال ذعر كبير، مثل التدمير السياسي للثقافة التقليدية، نظرا لظهور دمار آخر مدفوع بالسوق؛ فهناك أحياء كاملة تتمزق بفعل الوسطاء العقاريين. وصار ممارسو الفن القديم الذين لا يزالون على قيد الحياة بلا جماهير تقريبا. بالمثل، بقدر ما كان تدمير البيئة الماوية من خلال الحملات الجماهيرية غير المدروسة صادما، فقد تفوق عليه الانتشار غير المنظم للسيارات الخاصة والصناعات الملوثة للبيئة.
ويظل ميراث الثورة الثقافية من جنون الاضطهاد، والانتهازية، وتدمير القيم، ولكن النقد الأخلاقي لها تقلص بفعل التطورات اللاحقة؛ فقد كان البعض يقول إن ماو كان مسئولا عن ازدياد السلوكيات السيئة، ولكن حقبة ما بعد الثورة الثقافية تكشف الكثير من الشذوذ، والجريمة، والعنف. كذلك أثار الرخاء المتزايد في العقود الثلاثة الماضية مشكلات التفكك الاجتماعي، والكوارث البيئية واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، والتنمية الاقتصادية غير العادلة، والصراع العرقي، واعتقاد واسع الانتشار بأن النسيج الاجتماعي للصين يتعرض لضغط كبير.
أحيانا ما تثير القسوة الساذجة لحقبة الإصلاح حنينا للماوية يضيف طابعا رومانسيا على الثورة الثقافية، مما يضع الاهتمام الماوي بالصالح العام، والقانون، والنظام في مقارنة مع الطمع والفساد الحاليين. ويتلهف الحزب، الذي يقوده الآن أصناف من السياسيين سبق أن حذر ماو منهم، لإخراج تحليلات ومناهج الثورة الثقافية من نطاق النزاعات العمالية. وقد تم التعامل مع النداءات الماوية للعمال بخشونة وفظاظة في عام 2010 في إقليم هينان، أحد المعاقل التقليدية للفكر اليساري. فذكرى الثورة الثقافية تعمل بمثابة شبح وهمي لتكميم أفواه المحتجين على مجتمع لا يزال يواجه تناقضات حادة. وبهذه الطريقة تساعد الثورة الثقافية مستثمري النخبة على الحفاظ على النظام. وتتصاعد مخاوف الحزب إلى أقصى مدى لها حين يصبح النمو الاقتصادي مهددا، فيما يعد تذكيرا لنا بأن صورة الثورة الثقافية لا تستخدم فقط ضد المشاركة الجماهيرية في الحياة العامة، ولكن أيضا ضد الديمقراطية.
غير أن جيل الثورة الثقافية يقوم حاليا على إدارة الصين، ليس فقط على الصعيد السياسي، بل أيضا في التجارة، والثقافة، والجيش. وعلى الرغم من تجارب وخيبات أمل هؤلاء القادة التي غالبا ما تتسم بالمرارة، فلا يزال الكثير منهم يتأثرون بالمثالية التي كانت تلهمهم باعتبارهم منتمين للحرس الأحمر. وهذه الرغبة في تحقيق العدالة الاجتماعية، إلى جانب حقائق ووقائع السياسة، تغذي إحباطا مستمرا من كون النمو الحالي قد أغفل الكثير من أهل القرى.
وعلى نحو أقل مثالية، تعاود الماوية الظهور في أماكن مثيرة للاهتمام؛ فتقوم دورات في استراتيجية الأعمال بتدريس كتابات الزعيم عن الثورة لصغار رواد الأعمال، ناصحة إياهم بمحاصرة الأسواق الكبرى من المدن الصغيرة، مما يضفي لمسة رأسمالية على نظرية ماو عن الثورة ضد المدن من الريف. وتلعب الثورة الثقافية دورا محدودا في هذا المنهج الدراسي، إلا أن نداء ماو حتى لنخبة عالم الأعمال يذكرنا بأن القومية الصينية لن تتخلص من ماو الوطني ومؤسس الدولة. فالصين مرتبطة بماو، أيا كانت الظروف، مع نشوب مزيد من الأزمات بشأن كيفية التعامل مع الثورة الثقافية.
أما خارج حدود الصين، فلم يتوصل الغرب بعد إلى تصالح مع الثورة الثقافية. فمع تصارع الغرب مع صعود نجم الصين في المجتمع الدولي، تظل الثورة الثقافية نقطة دعاية مفيدة وربما لا تقاوم؛ فالتفوق الأخلاقي للغرب يبرر من خلال رواية نمطية ومغلوطة عن الثورة الثقافية عن خراب الاقتصاد ودمار التعليم، ولكن دنج شياو بينج أنقذ الصين عن طريق استنساخ سوقنا الحرة. إن النهش في جسد ماو يدعم موقف العولمة، ويثبت أن الاشتراكية لا تجدي، ويظهر الصين ككيان مزعزع وخطير. وإن بقي ماو رمزا قوميا للصين، لكانت عواقب ذلك أسوأ على الصين.
أحيانا ما يتسرع المراسلون الغربيون ويقومون بتعريف أي شخص تقريبا من فئة سنية معينة بأنه من «الناجين من الثورة الثقافية». وكلمة «ناج» تشمل الجميع، من الأشخاص الذين تحملوا محنا وفجائع يندى لها الجبين إلى كثيرين ممن اكتفوا بالتكيف مع الحياة اليومية. وبذلك يصبح الجميع ضحية، وهو ما يعتبر صحيحا بالمعنى الأعم. ولكن رواية الضحايا تلك تتجاهل أن البعض قد جني عليه أكثر من الآخرين، وتتغاضى عن الأشكال العديدة للمعاناة، ومن شأنها أن تغذي أكذوبة وقوع هولوكوست، وتثبت فكرة لدى الغرب عن أنفسهم باعتبارهم منقذي الصين.
لقد عاود هذا التعبير المجازي العتيق الذي يعود للعهود التبشيرية الظهور مرة أخرى، يدعمه سلسلة مؤثرة من المذكرات من مبعدين جدد؛ فتجد شابا من عائلة موسرة يتم القبض عليه خلال إحدى العواصف الماوية، ولكن يتم إنقاذه بواسطة منحة دراسية إلى إحدى الجامعات الغربية. وينطلق المسار من حياة في صين كئيبة بائسة ، كان الشباب الصينيون من السذاجة بما لم يمكنهم من إدراكها كدولة استبدادية، فتتفجر عواطف الثورة الثقافية، يصاحبها في بعض الأحيان اكتشاف للذات، يعقبه رحلة (غير محددة الوجهة) إلى الغرب. وغالبا ما تكون هذه المذكرات تثقيفية للغاية، ومصاغة بشكل جيد، ومحبوبة من قبل العديد من القراء؛ إذ يحقق كتابها شديدو الموهبة، والاجتهاد، والطموح، ببراعة ارتباطا يصعب تحقيقه مع الجماهير في الغرب. ولكن هذه المذكرات تداعب بشكل ملحوظ حس التفوق والأفضلية لدى القراء الغربيين، من خلال إفراطها في تبسيط الصين.
إن التأكيدات المتكررة بأن الصين قد فشلت في التوصل إلى مصالحة مع الثورة الثقافية ليس لها أي نفع، فهذا الحكم غير الإنساني يسفه من الصعوبات التي يواجهها أي مجتمع معقد عند التعامل مع أجزاء بغيضة من ماضيه. قد يذهب أحدهم إلى أن أداء الصين في مواجهة الثورة الثقافية كان مضاهيا لما فعلته الولايات المتحدة مع غزوها لفيتنام. لا شك أن تزيين العملة الرسمية بوجه ماو تسي تونج يغضب الكثيرين، ولكن تسمية المقر الرئيسي لمكتب التحقيقات الفيدرالية بمبنى جيه إدجار هوفر يغضب الكثيرين أيضا.
وتستمر الصين في أسر انتباه الغرب. لقد كان الافتتان الغربي بالصين إبان الثورة الثقافية ساذجا في الغالب، ولكنها مثلت نقطة تحول بدأ فيها الغرب في دراسة الأفكار القادمة من آسيا بجدية. كذلك كانت الثورة الثقافية محطة لأعظم انفصال أيديولوجي للصين عن الغرب، والتي ضخمت (وعتمت على) إغراء وجود بديل محتمل للحداثة، يخلو من الاستعمارية والرأسمالية. والنقاش المعاصر بشأن الصين يرى فيها أيضا بديلا للغرب، ولكنه هذه المرة ليس ماويا، بل كونفوشيا بشكل غامض، ويرى فيها منافسا اقتصاديا غير متوقع. إن الغرب الآن ينظر إلى الصين بجدية مطلقة، وخداع وتضليل الستينيات تحول إلى خليط مضطرب من الخوف، والسخط، والانتهازية المالية.
هوامش
التسلسل الزمني للأحداث
1905:
إلغاء نظام الاختبارات الإمبريالي الكونفوشي.
1911:
سقوط أسرة تشينج، بالإطاحة بالإمبراطور وتأسيس الجمهورية.
1919:
حركة الرابع من مايو لتحديث الثقافة والسياسة تبدأ بمظاهرات ضد معاهدة فرساي، التي تم بموجبها تسليم حقوق ألمانيا في إقليم شاندونج لليابان.
1921:
تأسيس الحزب الشيوعي الصيني.
1927:
شيانج كاي شيك يقوم بحركة تطهير لحلفاء الشيوعيين.
1931:
اليابان تغزو إقليم منشوريا الصيني.
1934-1935:
المسيرة الطويلة للشيوعيين للانسحاب من هجوم الكومنتانج.
1937-1945:
حرب المقاومة ضد اليابان.
1942:
حركة تصحيح المسار من يونان: ماو يعزز موقعه في الحزب الشيوعي من خلال إعادة تشكيل فكري للمثقفين لخدمة العمال، والفلاحين، والجنود.
1949:
تأسيس جمهورية الصين الشعبية وهروب حكومة الكومنتانج إلى تايوان.
1950:
قانون الزواج يحظر التعددية وينظم الزواج؛ الإصلاح الزراعي.
1950-1953:
نشوب المعركة بين الصين والولايات المتحدة دون تغلب طرف على الآخر في الحرب الكورية.
1953-1957:
الخطة الخمسية الأولى تحول النموذج السوفييتي للاقتصاد الجماعي المخطط إلى نموذج مؤسسي.
1956-1957:
حملة «المائة زهرة» تستعين بالدعم النقدي للمثقفين من خارج الحزب.
1957-1958:
حملة مضادة لليمينيين تكمم أفواه المثقفين المنتقدين.
1958:
انطلاق مشروع القفزة الكبرى للأمام.
1959-1961:
انهيار مشروع القفزة الكبرى للأمام وحدوث مجاعة.
1960:
الاتحاد السوفييتي يستدعي مستشاريه التقنيين من الصين.
1962:
تجارب السوق؛ ماو: «لا تنسوا الصراع الطبقي أبدا.»
1963:
انطلاق حملة تعلموا من لي فينج.
1964:
الصين تجري أولى تجاربها النووية، وبدء مشروع إنشاء الجبهة الثالثة.
1966:
بدء الثورة الثقافية، وانطلاق مسيرات حاشدة للحرس الأحمر.
1967:
محاولات لإعادة بناء النفوذ المحلي بفرض التحالفات السياسية.
1968:
إرسال الحرس الأحمر إلى الريف، ونهاية المرحلة الراديكالية من الثورة الثقافية.
1969:
اتساع المصادمات مع الاتحاد السوفييتي؛ وعقد مؤتمر الحزب التاسع؛ وتسمية لين بياو خليفة لماو.
1970:
الصين تطلق أول قمر صناعي.
1971:
وفاة لين بياو في حادث تحطم طائرة في منغوليا الخارجية، واستعادة الصين مقعدها في الأمم المتحدة.
1972:
الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون يزور الصين، وبداية التطبيع بين الولايات المتحدة والصين.
1973:
إعادة دنج شياو بينج للسلطة.
1974:
انطلاق حملة «انتقدوا لين بياو وكونفوشيوس» لحماية الثورة الثقافية.
1975:
الإطاحة بدنج شياو بينج للمرة الثانية.
1976:
وفاة رئيس الوزراء شو إن لاي، واندلاع مظاهرات ميدان تيانامين، ووقوع زلزال تانجشان. وفاة ماو تسي تونج، واعتقال جيانج تشينج وشركائها، الملقبين ب «عصابة الأربعة»، من قبل القوات المسلحة.
1977:
إعادة اختبارات الالتحاق بالجامعات القومية.
1978:
دنج شياو بينج يطلق إصلاحات اقتصادية موجهة نحو السوق.
1979:
حائط الديمقراطية، إقامة علاقات دبلوماسية بين الولايات المتحدة والصين.
1980-1981:
محاكمة عصابة الأربعة وأتباع لين بياو المعادين للثورة.
1989:
مظاهرات على مستوى البلاد للمطالبة بالإصلاح السياسي تنتهي بمذبحة بكين.
1991:
انتحار جيانج تشينج في السجن.
1992:
دنج شياو بينج يتوسع في الإصلاحات السوقية.
الشخصيات الأساسية في الثورة الثقافية
بو ييبو (1908-2007):
رئيس لجنة التخطيط الحكومية وأحد أوائل المستهدفين من قبل الثورة الثقافية.
تشن بودا (1904-1989):
أحد مسئولي الدعاية البارزين بالحزب بصفته رئيس تحرير مجلة «ريد فلاج»، وأصبح رئيسا لمجموعة الثورة الثقافية في عام 1966. وحين انتهت المرحلة الراديكالية من الثورة الثقافية، فقد تشن نفوذه. مثل للمحاكمة مع عصابة الأربعة وعصابة لين بياو.
دنج شياو بينج (1904-1997):
الأمين العام للحزب في عام 1966 الذي وصف بأنه «ثاني شخص في السلطة يتخذ الطريق الرأسمالي.» غير أنه كان يحظى باحترام وتقدير ماو لمقدرته السياسية، وأعيد للعمل كنائب لرئيس الوزراء في عام 1973، ولكنه أطيح به مرة أخرى في عام 1976. كان بينج هو «القائد الأعلى» للصين (بمعنى أنه لا يشغل منصبا رسميا عاليا) من عام 1978 حتى عام 1996، والمهندس الرئيسي لإصلاحات ما بعد ماو والقمع العنيف للاضطرابات السياسية التي اندلعت عام 1989.
هوا جوفينج (1921-2008):
سياسي محلي في إقليم هونان، تمت ترقيته خلال الثورة الثقافية في أعقاب قضية لين بياو. بعد وفاة شو إن لاي، أصبح هوا ثاني رئيس وزراء للجمهورية الشعبية، وخلف ماو كرئيس للحزب. ساهم هوا في القبض على عصابة الأربعة، ولكنه تعرض لمناورات سياسية من قبل دنج شياو بينج، مما دفعه للتخلي عن مناصبه بين عامي 1980-1981، وإن كان قد احتفظ بعضويته في اللجنة المركزية للحزب حتى عام 2002.
جيانج تشينج (1914-1991):
كانت جيانج تشينج في الأساس ممثلة، وأصبحت بعد ذلك زوجة ثالثة لماو في عام 1938. منعها رفاق ماو من ممارسة السياسة باتفاق قبل الزواج. وقد أصبحت حليفة مهمة لزوجها أثناء الثورة الثقافية.
كانج شينج (1898-1975):
أحد القادة المحنكين للحزب، والذي أشرف على الأمن الداخلي للحزب، ومن ثم كان حليفا لماو خلال الثورة الثقافية.
لين بياو (1907-1971):
قائد الجيش الشيوعي المعروف الذي أضفى طابعا راديكاليا على الجيش خلال السنوات التي مهدت للثورة الثقافية . بعد أن كان لين «أقرب رفاق السلاح» لماو وسمي خليفة لماو، تم الزج به في مؤامرة لا يزال الغموض يكتنفها، انتهت بمقتله في حادث تحطم طائرته في منغوليا الخارجية.
ليو شاوشي (1898-1969):
منظم حركة المقاومة الشيوعية السرية أثناء الثورة، ورئيس الصين في الفترة ما بين 1959-1968. كان خليفة ماو المفترض، ولكنه كان المستهدف الرئيسي للثورة الثقافية باعتباره «خروشوف الصين».
ماو تسي تونج (1893-1976):
زعيم الحزب الشيوعي في الفترة من عام 1935-1976، ورئيس الصين في الفترة من عام 1954 إلى 1959، ومنظم الثورة الثقافية.
بينج تشون (1902-1997):
قائد الحزب بمدينة بكين وأحد المستهدفين الأوائل من قبل ثورة الغضب الماوية لإحباط السياسات اليسارية. أعيد تأهيله ليصبح قائدا للمؤتمر الشعبي الوطني في الثمانينيات.
وانج هونج ون (1935-1992):
أصغر أعضاء عصابة الأربعة، وأحد المحاربين القدماء في الحرب الكورية والذي ترقى من أعمال الأمن في أحد مصانع شنغهاي لينضم لمجال السياسة الوطنية خلال الثورة الثقافية.
ياو ون يوان (1931-2005):
صحفي من شنغهاي وناقد أدبي. كان نقده لمسرحية كتبها نائب عمدة بكين عاملا مساعدا لماو في إطلاق هجومه على قيادة بكين. رقي ياو للسلطة المركزية، ولكن ربما لم يكن يمثل أهمية في عصابة الأربعة.
تشانج تشون شياو (1917-2005):
مفكر الحزب الذي صعد إلى السلطة خلال فترة استيلاء الثورة الثقافية على حكومة شنغهاي. تمت ترقيته إلى المؤسسة المركزية للحزب، واعتقل بعد وفاة ماو. وقد كان تشانج أكثر من يميلون للفكر النظري ضمن عصابة الأربعة.
المراجع
الفصل الأول
Mao’s remarks to Malraux appear in André Malraux,
Anti-Memoirs (New York: Holt, Rinehart, and Winston, 1968), 373-74, 373. They may be as much Malraux as Mao, but the spirit is correct.
الفصل الثاني
Michael Schoenhals and Roderick MacFarquhar trace the movement’s political currents in
Mao’s Last Revolution (Cambridge, MA: Harvard University Press, 2006). On Red Guards, see Andrew G. Walder,
Fractured Rebellion: The Beijing Red Guard Movement (Cambridge, MA: Harvard University Press, 2009). Frederick Teiwes and Warren Sun deconstruct
The End of the Maoist Era: Chinese Politics during the Twilight of the Cultural Revolution, 1972-1976 (Armonk, NY: M. E. Sharpe, 2007). For the role of urban workers, see Elizabeth Perry and Li Xun,
(Boulder, CO: Westview Press, 2000). Jiang Yang describes the rural exile of urban intellectuals in
A Cadre School Life: Six Chapters (Hong Kong: Joint Publication Company, 1982).
الفصل الثالث
The Chinese Cultural Revolution: A History (Cambridge: Cambridge University Press, 2008).
الفصل الرابع
See Barry Naughton,
The Chinese Economy. Transitions and Growth (Cambridge, MA: MIT Press, 2007); and Chris Bramall,
Chinese Economic Development (London: Routledge, 2009). For contrarian views of rural life, see Gao Mobo,
Gao Village (Honolulu: University of Hawaii Press, 1999).
الفصل الخامس
On the international implications of the Cultural Revolution, see Ma Jisen,
The Cultural Revolution in the Foreign Ministry of China (Hong Kong: Chinese University Press, 2004); and Anne-Marie Brady,
Making the Foreign Serve China: Managing Foreigners in the People’s Republic (Lanham, MD: Rowman and Littlefield, 2003).
Mao’s anxiety about capitalist-roaders is quoted in Schoenhals and MacFarquhar, 47.
الفصل السادس
Mao’s comments on the end of the Cultural Revolution are found in Michael Schoenhals,
China’s Cultural Revolution: Not a Dinner Party (Armonk, NY: M. E. Sharpe, 1996), 293.
For Ai Qing and the toilets, see David Pilling, “Lunch with the FT: Ai Weiwei,”
Financial Times,
April 23, 2010.
Geremie R. Barmé explores Mao in the post-Cultural Revolutionary popular imagination in
Shades of Mao: The Posthumous Cult of the Great Leader (Armonk, NY: M. E. Sharpe, 1996).
قراءات إضافية
Barmé, Geremie R.
Shades of Mao: The
Armonk, NY: M. E. Sharpe, 1996.
Baum, Richard.
Burying Mao: Chinese
Bramall, Chris.
Chinese Economic Development.
London: Routledge, 2009.
Brady, Anne-Marie.
Making the Foreign Serve China: Managing Foreigners in the People’s Republic.
Lanham, MD: Rowman and Littlefield, 2003.
Chan, Anita, Richard Madsen, and JonathanUnger.
Chen Village: The Recent History of a Peasant Community in Mao’s China.
Berkeley: University of California Press, 1984.
Chang, Jung.
Wild Swans: Three Daughters of China.
New York: Simon and Schuster, 1991.
Cheng, Nien.
Life and Death in Shanghai.
New York: Grove, 1987.
Clark, Paul.
The Chinese Cultural Revolution: A History.
Cambridge: Cambridge University
Esherick, Joseph W., Paul G. Pickowicz, and Andrew G. Walder, eds.
The Chinese Cultural Revolution as History.
Stanford, CA: Stanford University Press, 2006.
Gao Mobo.
Gao Village.
Honolulu: University of Hawaii Press, 1999.
Gao Yuan.
Born Red: A Chronicle of the Cultural Revolution.
Stanford, CA: Stanford University Press, 1987.
Goldstein, Melvyn, Ben Jiao, and Tanzen Lhundrup.
On the Cultural Revolution in Tibet: The Nyemo Incident of 1969.
Berkeley: University of California
Han, Dongping.
The Unknown Cultural Revolution.
New York: Monthly Review Press, 2008.
Jiang Yang.
A Cadre School Life: Six Chapters.
Hong Kong: Joint Publication Company, 1982.
Joseph, William A., Christine P. W. Wong, and David Zweig, eds.
New Perspectives on the Cultural Revolution.
Cambridge, MA: Harvard University Press, 1991.
Kraus, Richard Curt.
Western Music.
New York: Oxford University Press, 1989.
Law, Kam-yee.
The Chinese Cultural Revolution Reconsidered: Beyond Purge and Holocaust.
Houndmills, UK: Palgrave Macmillan, 2003.
Lee, Ching Kwan, and Guobin Yang, eds.
Re-envisioning the Chinese Revolution: The Politics and Poetics of Collective Memories in Contemporary China.
Washington, DC: Woodrow Wilson Center Press and Stanford University
Li Zhensheng.
Red-Color News Soldier:
New York: Phaidon
Li Zhisui.
The Private Life of Chairman Mao.
New York: Random House, 1994.
Liang Heng, and Judith Shapiro,
Son of the Revolution.
New York: Knopf, 1983.
Ma Jisen.
The Cultural Revolution in the Foreign Ministry of China.
Hong Kong: Chinese University Press, 2004.
Meisner, Maurice.
Mao’s China and After: A History of the People’s Republic.
New York: Free
Milton, David, and Nancy Dall Milton.
The Wind Will Not Subside: Years in Revolutionary China.
New York: Pantheon, 1976.
Min, Anchee.
Red Azalea.
New York: Pantheon, 1994.
Mitter, Rana.
A Bitter Revolution: China’s Struggle with the Modern World.
Oxford: Oxford University Press, 2004.
Naughton, Barry.
The Chinese Economy: Transitions and Growth.
Cambridge, MA: MIT Press, 2007.
Boulder, CO: Westview Press, 2000.
Rae Yang.
Spider Eaters: A Memoir.
Berkeley: University of California Press, 1997.
Riskin, Carl
China’s Political Economy: The Quest for Development since 1949.
Oxford: Oxford University Press, 1987.
Schoenhals, Michael.
China’s Cultural Revolution, 1966-1969: Not a Dinner Party.
Armonk, NY: M. E. Sharpe, 1996.
Schoenhals, Michael, and Roderick MacFarquhar.
Mao’s Last Revolution.
Cambridge, MA: Harvard University Press, 2006.
Spence, Jonathan.
The Search for Modern China.
New York: Norton, 1990.
Teiwes, Frederick C., and Warren Sun.
The End of the Maoist Era: Chinese Politics during the Twilight of the Cultural Revolution, 1972-1976.
Armonk, NY: M. E. Sharpe, 2007.
Walder, Andrew G.
Fractured Rebellion: The Beijing Red Guard Movement.
Cambridge, MA: Harvard University Press, 2009.
Wang Ban, ed.
Words and Their Stories: Essays on the Language of the Chinese Revolution.
Leiden: Brill, 2010.
White, Lynn T. III.
Chaos: The Organizational Causes of Violence in China’s Cultural Revolution.
1989.
Woei Lien Chong, ed.
China’s Great
Lanham, MD: Rowman and Littlefield, 2002.
Yan Jiaqi, and Gao Gao.
Turbulent Decade: A History of the Cultural Revolution.
Honolulu: University of Hawai’i Press, 1996.
Yue Daiyun, and Carolyn Wakeman.
To the Storm: The Odyssey of a Revolutionary Chinese Woman.
Berkeley: University of California Press, 1985.
مواقع ويب
شمس الصباح
Morning Sun :
فيلم وموقع ويب عن الثورة الثقافية الصينية (
www.morningsun.org ) .
مقاطع فيديو وصور ومقابلات ذات صلة بالفيلم الوثائقي الذي يحمل العنوان نفسه، من إنتاج شركة «لونج باو جروب»
Long Bow Group .
ملصقات صينية
Chinese Posters :
دعاية وسياسة وتاريخ وفن (
Chineseposters.net ) .
ملصقات من مجموعات تابعة للمعهد الدولي للتاريخ الاجتماعي بأمستردام، ومجموعات لستيفان آر لاندسبيرجر.
Unknown page