بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
الحمدلله الَّذِي كل حمد حمد بِهِ من دونه فراجع بِالْحَقِيقَةِ إِلَيْهِ حمدا يوافي نعمه ويكافئ من يَده ويبلغ رِضَاهُ ونسأله أَن يصلى على من ختم بِهِ الرسَالَة وعَلى إخوانه من الْمُرْسلين وعَلى أوليائه أَجْمَعِينَ ونستعصم بِهِ من الزلل ونرغب إِلَيْهِ فِيمَا يكرمنا من القَوْل وَالْعَمَل
إبِْطَال التَّقْلِيد وَوُجُوب معرفَة الدّين بِالدَّلِيلِ
قَالَ الشَّيْخ أَبُو مَنْصُور ﵀ أما بعد فَإنَّا وجدنَا النَّاس مختلفي الْمذَاهب فِي النَّحْل فِي الدّين متفقين على إختلافهم فِي الدّين على كلمة وَاحِدَة أَن الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ حق وَالَّذِي عَلَيْهِ غَيره بَاطِل على اتِّفَاق جُمْلَتهمْ من أَن كلا مِنْهُم لَهُ سلف يُقَلّد فَثَبت أَن التَّقْلِيد لَيْسَ مِمَّا يعْذر صَاحبه لإصابة مثله ضِدّه على أَنه لَيْسَ فِيهِ سوى كَثْرَة الْعدَد اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يكون لأحد مِمَّن ينتهى القَوْل إِلَيْهِ حجَّة عقل يعلم بهَا صَدَقَة فِيمَا يدعى وبرهان يقهر المنصفين على إِصَابَته الْحق فَمن إِلَيْهِ مرجعه فِي الدّين بِمَا يُوجب تَحْقِيقه عَنهُ فَهُوَ المحق وعَلى كل وَاحِد مِنْهُم معرفَة الْحق فِيمَا يدين هُوَ بِهِ كَأَن الَّذِي دَان بِهِ هُوَ مَعَ
1 / 3
أَدِلَّة صدقه وَشَهَادَة الْحق لَهُ قد حصرهم إِذْ مُنْتَهى حجج كل مِنْهُم مَا يضْطَر التَّسْلِيم لَهُ لَو ظفر بهَا وَقد ظَهرت لمن ذكرت وَلَا يجوز ظُهُور مثلهَا لضده فِي الدّين لما يتناقض حجج مَا غلبت حججه وَأظْهر تمويه أَسبَاب الشّبَه فِي غَيره وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعَظِيم
السّمع وَالْعقل هما أصل مَا يعرف بِهِ الدّين
ثمَّ أصل مَا يعرف بِهِ الدّين إِذْ لابد أَن يكون لهَذَا الْخلق دين يلْزمهُم الإجتماع عَلَيْهِ وأصل يلْزمهُم الْفَزع إِلَيْهِ وَجْهَان أَحدهمَا السّمع وَالْآخر الْعقل
وَأما السّمع فَمَا لَا يَخْلُو بشر من انتحاله مذهبا يعْتَمد عَلَيْهِ وَيَدْعُو غَيره إِلَيْهِ حَتَّى شاركهم فِي ذَلِك أَصْحَاب الشكوك والتجاهل فضلا عَن الَّذِي يقر بِوُجُود الْأَشْيَاء وتحقيقها على ذَلِك جرت سياسة مُلُوك الأَرْض من سيرة كل مِنْهُم مَا راموا تَسْوِيَة أُمُورهم عَلَيْهِ وتأليف مَا بَين قُلُوب رعيتهم بِهِ وَكَذَلِكَ أَمر الَّذين ادعوا الرسَالَة وَالْحكمَة وَمن قَامَ بتدبير أَنْوَاع الصِّنَاعَة وَبِاللَّهِ المعونة والنجاة
وَأما الْعقل فَهُوَ أَن كَون هَذَا الْعَالم للفناء خَاصَّة لَيْسَ بحكمة وَخُرُوج كل ذِي عقل فعله عَن طَرِيق الْحِكْمَة قَبِيح عَنهُ فَلَا يحْتَمل أَن يكون الْعَالم الَّذِي الْعقل مِنْهُ جُزْء مؤسسا على غير الْحِكْمَة أَو مجعولا عَبَثا
1 / 4
وَإِذا ثَبت ذَلِك دلّ أَن إنْشَاء الْعَالم للبقاء لَا للفناء
ثمَّ كَانَ الْعَالم بِأَصْلِهِ مَبْنِيا على طبائع مُخْتَلفَة ووجوه متضادة وبخاصة الَّذِي هُوَ مَقْصُود من حَيْثُ الْعقل الَّذِي يجمع بَين الْمُجْتَمع وَيفرق بَين الَّذِي حَقه التَّفْرِيق وَهُوَ الَّذِي سمته الْحُكَمَاء الْعَالم الصَّغِير فَهُوَ على أهواء مُخْتَلفَة وطبائع مُتَشَتِّتَة وشهوات ركبت فيهم غالبة لَو تركُوا وَمَا عَلَيْهِ جبلوا لتنازعوا فِي تجاذب الْمَنَافِع وأنواع الْعِزّ والشرف وَالْملك وَالسُّلْطَان فيعقب ذَلِك التباغض ثمَّ التقاتل وَفِي ذَلِك التفاني وَالْفساد الَّذِي لَو أَمر كَون الْعَالم لَهُ لبطلت الْحِكْمَة فِي كَونه مَعَ مَا جعل الْبشر وَجَمِيع الْحَيَوَان غير مُحْتَمل للبقاء إِلَّا بالأغذية وَمَا بِهِ قوام أبدانهم إِلَى المدد الَّتِي جعلت لَهُم فَلَو لم يرد بتكوينهم سوى فنائهم لم يحْتَمل إنْشَاء مَا بِهِ بقاؤهم وَإِذ ثَبت ذَا لَا بُد من أصل يؤلف بَينهم ويكفهم عَن التَّنَازُع والتباين الَّذِي لَدَيْهِ الْهَلَاك والفناء
فَلَزِمَ طلب أصل يجمعهُمْ عَلَيْهِ لغاية مَا احْتمل وسعهم الْوُقُوف عَلَيْهِ على أَن الأحق فِي ذَلِك إِذْ علم بحاجة كل مِمَّن يُشَاهد وضرورة كل من المعاين أَن لَهُم مُدبرا عَالما بأحوالهم وَبِمَا عَلَيْهِ بقاؤهم وَأَنه جبلهم على الْحَاجَات لَا يدعهم وَمَا هم عَلَيْهِ من الْجَهْل وَغَلَبَة الْأَهْوَاء مَعَ مَا لَهُم من الْحَاجة فِي معرفَة مَا بِهِ معاشهم وبقاؤهم دون أَن يُقيم لَهُم من يدلهم على ذَلِك ويعرفهم ذَلِك وَلَا بُد من أَن يَجْعَل لَهُ دَلِيلا وبرهانا يعلمُونَ خصوصه بِالَّذِي خصّه بِهِ من الْإِمَامَة
1 / 5
لَهُم وأحوجهم إِلَيْهِ فِيمَا عَلَيْهِ أَمرهم فَيكون فِي ذَلِك مَا بَينا من صدق من يَنْتَهِي قَوْله إِلَى قَول من دلّ عَلَيْهِ الْعَالم بِأَمْر الْعَالم أَنه هُوَ الَّذِي جعله المفزع لَهُم وَالْمُعْتَمد وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه
قَالَ أَبُو مَنْصُور ﵀ ثمَّ اخْتلف فِي الْأَسْبَاب الَّتِي بهَا يعلم الْمصَالح وَالْحق والمحاسن من أضدادها فَمنهمْ من يَقُول هُوَ مَا يَقع فِي قلب كل مِنْهُم حسنه لزمَه التَّمَسُّك بِهِ وَمِنْهُم من يَقُول يعجز الْبشر عَن الْإِحَاطَة بِالسَّبَبِ وَلَكِن يتَمَسَّك بِمَا ألهم لما يكون ذَلِك مِمَّن لَهُ تَدْبِير الْعَالم
قَالَ الشَّيْخ ﵀ وهما بعيدان من أَن يَكُونَا من أَسبَاب الْمعرفَة لِأَن وُجُوه التضاد والتناقض فِي الْأَدْيَان بَين ثمَّ عِنْد كل وَاحِد مِنْهُم أَنه المحق ومحال أَن يكون سَبَب الْحق يعْمل هَذَا الْعَمَل لما تصور الْبَاطِل بِنَفس صُورَة الْحق فمحال الثِّقَة بِمن ظهر كذبه كل هَذَا الظُّهُور مَعَ مَا كَانَ مُعْتَقدًا لمَذْهَب بإعتقاد الْحق بِمَا ذكرت عِنْد ضِدّه وَفِي إلهامه أَنه مُبْطل وَلم يكن لوَاحِد مِنْهُمَا دَلِيل غير الَّذِي لآخر فِي خطابه وَذَلِكَ نوع مَا لَا يدْفع الإختلاف والتضاد اللَّذين بهما التفاني وعَلى ذَلِك يبطل إِعْلَام الْقرعَة فِيمَا يعجز عَنهُ ذُو الْعقل وَلم يَجْعَل فِي الحكم الْجَبْر على الرِّضَا إِذْ هِيَ تخرج مُخْتَلفا وَكَذَلِكَ أَمر الْقَائِف فَلم يجز أَن يَكُونَا سببى الْحق وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه
1 / 6
السبل الموصلة إِلَى الْعلم هِيَ العيان وَالْأَخْبَار وَالنَّظَر
قَالَ الشَّيْخ أَبُو مَنْصُور ﵀ ثمَّ السَّبِيل الَّتِي يُوصل بهَا الى الْعلم بحقائق الْأَشْيَاء العيان وَالْأَخْبَار وَالنَّظَر فالعيان مَا يَقع عَلَيْهِ الْحَواس وَهُوَ الأَصْل الَّذِي لَدَيْهِ الْعلم الَّذِي لَا ضد لَهُ من الْجَهْل فَمن قَالَ بضده من الْجَهْل فَهُوَ الَّذِي يُسمى منكره كل سامع مكابرا تأبى طبيعة الْبَهَائِم أَن يكون ذَلِك رتبتها إِذْ أكل مِنْهَا يعلم مَا بِهِ بَقَاؤُهَا وفناؤها وَمَا يتلذذ بِهِ ويتألم وَصَاحب هَذَا يُنكر ذَلِك وَأجْمع أَن لَا يناظر مَعَ من كَانَ ذَلِك قَوْله إِذْ لَا يثبت إِنْكَاره وَلَا حُضُوره بِنَفسِهِ والمناظرة فِي مائية الشَّيْء أَو هستيته وَهُوَ لَهما وللدفع جَمِيعًا دَافع وَلكنه يمازج فَيُقَال لَهُ تعلم بأنك تنفى فَإِن قَالَ لَا بَطل نَفْيه وَإِن قَالَ نعم أثبت نَفْيه فَيصير بِمَا يدْفع دافعا لدفعه ويؤلم بالألم الشَّديد من قطع الْجَوَارِح ليَدع تعنته إِذْ نَحن نعلم أَنه يعلم العيان إِذْ هُوَ علم الضَّرُورَة وَلكنه بقوله مُتَعَنتًا وَحقّ مثله مَا ذكرت ليجزع ويضجر فيقابل بتعنت مثله فينهتك لَدَيْهِ ستره وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه
قَالَ الشَّيْخ ﵀ وَالْأَخْبَار نَوْعَانِ من أنكر جملَته لحق بالفريق الأول لِأَنَّهُ أنكر إِنْكَاره إِذْ إِنْكَاره خبر فَيصير مُنْكرا عِنْد إِنْكَاره إِنْكَاره مَعَ مَا فِيهِ جهل نسبه وإسمه ومائيته وَاسم جوهره وَاسم كل شَيْء فَيجب بِهِ جهل محسوس وعجزه عَن أَن يخبر عَن شَيْء عاينه إِذا خبر بِهِ فَكيف يبلغ هُوَ إِلَى الْعلم بِمَا يبلغهُ مِمَّا غَابَ عَنهُ أَو مَتى يعلم مَا بِهِ معاشه وغذاؤه وكل ذَلِك يصل
1 / 7
إِلَيْهِ بالْخبر مَعَ مَا فِيهِ الكفران بعظيم نعم الله عَلَيْهِ وبأصل مَا حمد هُوَ بِهِ وَبِمَا فضل بِهِ على الْبَهَائِم من النُّطْق بِالسَّمْعِ وَذَلِكَ نِهَايَة المكابرة
قَالَ أَبُو مَنْصُور ﵀ ثمَّ لَا يُوصل بهما إِلَى إِدْرَاك المحاسن والمساوئ الَّتِي لَا يعْمل الْعُقُول على الْإِحَاطَة بهَا إِلَّا بإستعمال الألسن بالتكلم بهَا وإدناء السّمع إِلَيْهَا وَحقّ مناظرة هَذَا وَإِن كَانَت مناظرته سفها فيمازج أَيْضا فَنَقُول لَهُ عِنْد إِنْكَاره الْخَبَر مَا تَقول فَإِن عَاد إِلَيْهِ فَاعْلَم أَنه قبل خبرك حَيْثُ عَاد إِلَى قَوْله وَهُوَ استعادتك الْخَبَر وَإِن لم يعد إِلَيْهِ كفيت شَره وحمدت الله وضحكت مِنْهُ
وَمثله لمن يُنكر العيان تَقول لَهُ مَا تَقول فَإِن عَاد إِلَيْهِ ظهر لَك أَنه يُعلمهُ وَلكنه يتعنت وَإِن لم يعد إِلَيْهِ كفيت شَره وشكرت الله تَعَالَى على مَا ألهمك أَو تضربه وتؤلم فَإِنَّهُ لَا يقدر أَن يضجر أَو يقابلك بالعتاب لما لَا يحْتَمل ذَلِك إِلَّا بِتَسْمِيَة فعلك وَذَلِكَ يعرف بالْخبر وَقد أنكرهُ وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه
ثمَّ إِذْ قد لزم قبُول الْأَخْبَار بضرورة الْعقل لزم قبُول أَخْبَار الرُّسُل إِذْ لَا خبر أظهر صدقا من خبرهم بِمَا مَعَهم من الْآيَات الْمُوَضّحَة صدقهم إِذْ لَا يُوجد خبر يطمئن إِلَيْهِ الْقلب مِمَّا بَينا من المعارف الَّتِي يصير مُنكر ذَلِك مُتَعَنتًا بضرورة الْعقل أوضح صدقا من أَخْبَار الرُّسُل صلوَات الله عَلَيْهِم فَمن أنكر ذَلِك فَهُوَ أَحَق من يقْضى عَلَيْهِ بالتعنت والمكابرة ثمَّ الْأَخْبَار الَّتِي تَنْتَهِي إِلَيْنَا من الرُّسُل تَنْتَهِي على ألسن من يحْتَمل مِنْهُم الْغَلَط وَالْكذب إِذْ لَيْسَ مَعَهم دَلِيل الصدْق وَلَا برهَان الْعِصْمَة فَحق مثله النّظر فِيهِ فَإِن كَانَ مثله مِمَّا لَا يُوجد
1 / 8
كذبا قطّ فَهُوَ الَّذِي من انْتهى إِلَيْهِ مثله لزمَه حق شُهُود القَوْل مِمَّن اتَّضَح الْبُرْهَان على عصمته وَذَلِكَ وصف خبر الْمُتَوَاتر إِن كلا مِنْهُم وَإِن لم يقم دَلِيل على عصمته فَإِن الْخَبَر مِنْهُم إِذا بلغ ذَلِك الْحَد ظهر صدقه وَثبتت عصمَة مثله على الْكَذِب وَإِن أمكن خلاف ذَلِك فِي كل على الْإِشَارَة وَهَكَذَا القَوْل فِيمَا طَرِيقه الإجتهاد وَإِن احْتمل خطأ كل على الإنفراد والغلط فَإِنَّهُم لم يتفقوا بِمن يوفقهم لذَلِك ليظْهر حَقه إِذْ الآراء لَا تُؤدِّي إِلَيْهِ بعد اخْتِلَاف الْأَهْوَاء وتفرق الهمم لذات ذِي الرَّأْي دون لطف الْعَزِيز الحميد الَّذِي يملك إِظْهَار حَقه وعصمة خلقه فِيمَا شَاءَ وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه
وَخبر آخر لَا يبلغ هَذَا الْقدر فِي إِيجَاب الْعلم وَالشَّهَادَة بِأَنَّهُ الْحق عَن نَبِي الرَّحْمَة فَيجب الْعَمَل بِهِ وَالتّرْك بالإجتهاد وَالنَّظَر فِي أَحْوَال الروَاة وَالظَّاهِر مِمَّا ظهر حَقه وجوازه فِي السّمع الَّذِي قد أحيط ثمَّ يعْمل بِمَا يغلب عَلَيْهِ الْوَجْه وَإِن احْتمل الْغَلَط إِذْ رُبمَا يعْمل بِهِ فِي علم الْحس الَّذِي هُوَ أرفع طرق الْعلم بِضعْف الْحَواس وببعد المحسوس ولطفه على أَن ترك الْعَمَل بِهِ وَالْعَمَل جَمِيعًا لَا يرجع فِيهِ إِلَى الْإِحَاطَة وَإِلَى أَيهمَا مَال كَانَ فِي ذَلِك إِعْرَاض عَن حق الْخَبَر فَلذَلِك لزم القَوْل فِيهِ بالإجتهاد بِالْوَجْهَيْنِ وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه
ثمَّ الأَصْل فِي لُزُوم القَوْل بِعلم النّظر وُجُوه أَحدهمَا الإضطرار إِلَيْهِ فِي علم الْحس وَالْخَبَر وَذَلِكَ فِيمَا يبعد من الْحَواس أَو يلطف وَفِيمَا يرد من الْخَبَر أَنه فِي نوع مَا يحْتَمل الْغَلَط أَولا ثمَّ آيَات الرُّسُل وتمويهات السَّحَرَة وَغَيرهم فِي التَّمْيِيز بَينهَا وَفِي تعرف الْآيَات بِمَا يتَأَمَّل فِيهَا من قوى الْبشر وأحوال الْآتِي بهَا
1 / 9
ليظْهر الْحق بنوره وَالْبَاطِل بظلمته وعَلى ذَلِك دلّ الله بِالَّذِي ثَبت بالأدلة المعجزة أَنه مِنْهُ من نَحْو الْقُرْآن الَّذِي عجز الْإِنْس وَالْجِنّ أَن يَأْتُوا بِمثلِهِ مَعَ الْأَمر بِهِ بقوله ﴿سنريهم آيَاتنَا فِي الْآفَاق﴾ إِلَى آخر السُّورَة وَقَوله ﴿أَفلا ينظرُونَ إِلَى الْإِبِل﴾ وَقَوله ﴿إِن فِي خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض﴾ وَقَوله ﴿وَفِي أَنفسكُم أَفلا تبصرون﴾ وَغير ذَلِك مِمَّا رغب فِي النّظر وألزم الإعتبار وَأمر بالتفكر والتدبر وَأخْبر أَن ذَلِك يوقفهم على الْحق وَيبين لَهُم الطَّرِيق وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه
مَعَ مَا لَيْسَ لمن يُنكر النّظر على دَفعه دَلِيل سوى النّظر فَدلَّ ذَلِك على لُزُوم النّظر بِمَا بِهِ دَفعه مَعَ مَا لَا بُد من معرفَة مَا فِي الْخلق من الْحِكْمَة إِذْ لَا يجوز فعل مثله عَبَثا وَمَا فِيهِ من الدّلَالَة على من أنشأه أَو على كَونه بِنَفسِهِ أَو حدث أَو قدم وكل ذَلِك مِمَّا لَا سَبِيل إِلَى الْعلم بِهِ إِلَّا بِالنّظرِ على أَن الْبشر خص بِملك تَدْبِير الْخَلَائق والمحنة فِيهَا وَطلب الْأَصْلَح لَهُم فِي الْعُقُول وَاخْتِيَار المحاسن فِي ذَلِك وإتقاء مضادة ذَلِك وَلَا سَبِيل إِلَى معرفَة ذَلِك إِلَّا بإستعمال الْعُقُول بِالنّظرِ فِي الْأَشْيَاء على أَن مفزع الْكل عِنْد النوائب وَاعْتِرَاض الشّبَه إِلَى النّظر فِي ذَلِك والتأمل فَدلَّ أَنه يدل على الْحَقَائِق ويوصل بِهِ إِلَيْهَا على نَحْو الْفَزع عِنْد اشْتِبَاه اللَّوْن إِلَى الْبَصَر وَالصَّوْت إِلَى السّمع وَكَذَا كل شَيْء إِلَى الحاسة الَّتِي بهَا دركها فَمثله النّظر وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه
على أَن محَاسِن الْأَشْيَاء ومساويها وَمَا قبح من الْأَفْعَال وَمَا حسن مِنْهَا فَإِنَّمَا نِهَايَة الْعلم بعد وُقُوع الْحَواس عَلَيْهَا وورود الْأَخْبَار فِيهَا إِذا أُرِيد تَقْرِير كل جِهَة من ذَلِك فِي الْعُقُول والكشف عَن وُجُوه مَا لَا سَبِيل إِلَى ذَلِك إِلَّا بِالتَّأَمُّلِ وَالنَّظَر فِيهَا وعَلى ذَلِك أَمر المكاسب الضارة والنافعة على أَن الْبشر جبل
1 / 10
على طبيعة وعقل وَمَا يُحسنهُ الْعقل غير الَّذِي ترغب فِيهِ الطبيعة وَمَا يقبحه غير الَّذِي ينفر عَنهُ الطَّبْع أَو يكون بَينهمَا مُخَالفَة مرّة وموافقة ثَانِيًا لَا بُد من النّظر فِي كل أَمر والتأمل ليعلم حَقِيقَة أَنه فِي أَي فن وَنَوع مِمَّا ذكرنَا وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه
الدَّلِيل على حدث الْأَعْيَان
قَالَ الشَّيْخ أَبُو مَنْصُور ﵀ الدَّلِيل على حدث الْأَعْيَان هُوَ شَهَادَة الْوُجُوه الثَّلَاثَة الَّتِي ذكرنَا من سبل الْعلم بالأشياء فَأَما الْخَبَر فَمَا ثَبت عَن الله تَعَالَى من وَجه يعجز الْبشر عَن دَلِيل مثله لأحد إِنَّه أخبر أَنه خَالق كل شَيْء وبديع السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَأَن لَهُ ملك مَا فِيهِنَّ وَقد بَينا لُزُوم القَوْل بالْخبر وَلَيْسَ أحد من الْأَحْيَاء ادّعى لنَفسِهِ الْقدَم أَو أَشَارَ إِلَى معنى يدل على فدمه بل لَو قَالَ لعرف كذبه هُوَ بِالضَّرُورَةِ وَكَذَا كل من حَضَره بِمَا رَأَوْهُ صَغِيرا وَيذكر ابتداؤه أَيْضا لذَلِك لزم القَوْل بِحَدَث الْأَحْيَاء ثمَّ الْأَمْوَات تَحت تَدْبِير الْأَحْيَاء فهم أَحَق بِالْحَدَثِ وَالله الْمُوفق
وَعلم الْحس وَهُوَ أَن كل عين من الْأَعْيَان يحس محاطا بِالضَّرُورَةِ مَبْنِيا بِالْحَاجةِ والقدم هُوَ شَرط الْغِنَا لِأَنَّهُ يسْتَغْنى بقدمه عَن غَيره والضرورة وَالْحَاجة يحوجانه إِلَى غَيره فَلَزِمَ بِهِ حَدثهُ وَأَيْضًا أَن كل شَيْء جَاهِل يَبْدُو حَاله عَاجز عَن إصْلَاح مَا يفْسد مِنْهُ فِي الْحَال الَّتِي هُوَ فِيهَا مَوْصُوف بالكمال فِي الْقُوَّة وَالْعلم إِذا كَانَ ذَلِك حَيا وَلَو كَانَ مَيتا فسلطان الْحَيّ عَلَيْهِ جَار ثَبت
1 / 11
أَنه لم يكن وَاحِد مِنْهُمَا إِلَّا بِغَيْرِهِ وَإِذا ثَبت الْغَيْر لزم الْحَدث إِذْ الْقدَم يمْنَع الْكَوْن لغيره
وَأَيْضًا أَن كل محسوس لَا يَخْلُو عَن إجتماع طبائع مُخْتَلفَة ومتضادة مِمَّا حَقّهَا التنافر والتباعد لأنفسها ثَبت إجتماعها بغَيْرهَا وَفِي ذَلِك حَدثهُ وَالله الْمُوفق
وَأَيْضًا أَن الْعَالم ذُو أَجزَاء وأبعاض وَيعلم أَكثر أَبْعَاضه أَنه حَادث بعد أَن لم يكن وَيعلم نماؤه وإتساعه وَكبره لزم ذَلِك فِي كُله إِذْ لَا يصير إجتماع أَجزَاء متناهية غير متناهية
وَأَيْضًا أَن مِنْهُ طيب وخبيث وصغير وكبير وَحسن وقبيح وَنور وظلمة وَهَذِه آيَات التَّغَيُّر والزوال وَفِي التَّغَيُّر والزوال فنَاء وهلاك إِذْ مَعْلُوم أَن الإجتماع يُؤَكد ويقوى ويعظم دَلِيله النشر وَأَنه إِذا تفرق بَطل ذَلِك فَثَبت أَن ذَلِك آيَة الفناء وَمَا احْتمل الفناء لم يجز كَونه بِنَفسِهِ
وَيلْزم أَيْضا إحتمال الإبتداء وَلَيْسَ لقَوْل من يَقُول يغيب عَن الْأَبْصَار وَلَا يفنى معنى لما علم الْعَالم بالبصر لَا بالدلائل وَبِه يدعى الْقدَم فقد زَالَ ذَلِك مَعَ مَا أَنا بَينا من وهنه وَلَا فرق بَين حَيَاة تفنى وَبَين ذَاته وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه
وعَلى ذَلِك طَرِيق علم الإستدلال مَعَ مَا أَنه لَا يَخْلُو الْجِسْم من حَرَكَة أَو سُكُون وَلَيْسَ لَهَا الإجتماع فيزول من جملَة أوقاته نصف الْحَرَكَة وَنصف السّكُون وكل ذِي نصف متناه على أَنَّهُمَا إِذْ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي الْقدَم لزم حدث أحد الْوَجْهَيْنِ ويبطلانه أَن يكون مُحدثا فِي الْأَزَل لزم فِي الآخر وَفِي ذَلِك حدث مَا لَا يَخْلُو عَنهُ
وَأَيْضًا أَن كل جسم لَا يَخْلُو عَن سُكُون دَائِم أَو حَرَكَة دائمة أَو هما وَمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْهُمَا مَدْفُوع إِلَيْهِ مسخر بِهِ ومجعول لمنافع غير وَإِذا كَانَ ذَلِك وصف جَوَاهِر الْعَالم الَّتِي لَا تُوصَف بِالْحَيَاةِ ثَبت أَنَّهَا محدثة إِذْ هِيَ لَا على مَا هِيَ بِنَفسِهَا وَلَكِن على تسخيرها وتذليلها وإستعمالها فِي حوائج غَيرهَا وَإِذا ثَبت ذَلِك فِي أصل
1 / 12
الْجَوَاهِر والأحياء الَّذين هم فِيهَا وَبهَا نقر وننتفع وهم مجبولون عَن الْحَاجَات وَالْمَنَافِع أَحَق بذلك وَالله الْمُوفق
وَدَلِيل آخر أَن الْعَالم لَا يَخْلُو من أَن يكون قَدِيما على مَا عَلَيْهِ أَحْوَاله من إجتماع وتفرق وحركة وَسُكُون وخبيث وَطيب وَحسن وقبيح وَزِيَادَة ونقصان وَهن حوادث بالحس وَالْعقل إِذْ لَا يجوز إجتماع الضدين فَثَبت التَّعَاقُب وَفِيه الْحَدث وَجَمِيع الْحَوَادِث تَحت الْكَوْن بعد أَن لم تكن فَكَذَلِك مَا لَا يَخْلُو عَنَّا وَلَا يسبقها أَو كَانَ إنْشَاء عَن أصل لَا بِهَذِهِ الصّفة أَو انْتقل إِلَيْهَا بإعتراضها فِيهِ فَإِن كَانَ ذَلِك ثَبت أَن هَذَا الْعَالم حَادث وَبَطل قَول من يُنكر الْحُدُوث وَإِن كَانَ غير هَذَا فَإِن كَانَ الأول هُوَ المنشئ لَهُ فَهُوَ قَوْلنَا هُوَ الْبَارِي وسموه هيولى وَإِن كَانَ على الإنتقال إِلَيْهِ فَذهب الأول وَصَارَ هَذَا غَيره فَهَذَا مُحدث بِمَا لم يكن هُوَ الأول وَالْأول مُحدث بِمَا هلك لما انْتقل إِلَى الثَّانِي مَعَ مَا لَا يكون شَيْء من شَيْء من أَن يكون مستجنا فِيهِ فَيظْهر أَو مُحدثا فِيهِ فيتولد وَيخرج أَو يتْلف الأول فَيكون الثَّانِي فَالْأول كَالْوَلَدِ وَالشَّيْء الْمَوْضُوع فِي الْوِعَاء ومحال كَون أَضْعَاف مَا فِيهِ فِيمَا هُوَ فِيهِ لذَلِك يبطل القَوْل بِكَوْن الْإِنْسَان من النُّطْفَة وَالشَّجر فِي الْحبّ وعَلى ذَلِك من يَقُول بالبروز بِالْقُوَّةِ مَعَ مَا كَانَ فِي ذَلِك إِيجَاب حدث ذَاته لِأَن الْقُوَّة عَلَيْهِ غَيره إِذْ هُوَ وجد بِالْفِعْلِ لَا بِالْقُوَّةِ أَو تلف الأول نَحْو النُّطْفَة ثمَّ النَّسمَة وَنَحْو ذَلِك فَيصير الأول هَالكا حَتَّى لَا يبْقى لَهُ الْأَثر وَالثَّانِي حَادِثا حَتَّى لم يبْق من الأول فِيهِ أثر وَفِي ذَلِك حدث الأول وَالثَّانِي
فَإِن قَالَ قَائِل إِذا جَازَ عنْدكُمْ بَقَاء الْأَعْيَان فِي الْآخِرَة بِمَا لَا يبْقى لم لَا جَازَ قدمهَا بِمَا لَا يتَقَدَّم
قيل لوجوه أَحدهَا للتناقض وَهُوَ أَن معنى الْحَدث هُوَ الْكَوْن بعد ان لم يكن فَمن لَا يسْبقهُ فَفِيهِ حَقِيقَة فَالْقَوْل فِيهِ بالقدم ينْقضه وَمعنى الْبَقَاء
1 / 13
هُوَ الْكَوْن فِي مُسْتَأْنف الْوَقْت مَعَه غير أَو لَا لذَلِك اخْتلفَا وَالثَّانِي أَن القَوْل بِالَّذِي ذكرت من الْبَقَاء إِنَّمَا هُوَ سَمْعِي فإمَّا أَن تسلم لي ذَلِك فَيجب حدث الْأَعْيَان لما بِهِ عَرفْنَاهُ أَو لَا تسلم فَيبْطل حجاجه بالسمعي على الْإِنْكَار بِهِ وَالله الْمُسْتَعَان
وَأَيْضًا إِن الشَّيْء إِذا لم يكن إِلَّا بِغَيْر يتقدمه وَذَلِكَ شَرط كل الأغيار فَيبْطل كَون الْجَمِيع وَلَا كَذَلِك أَمر الْبَقَاء أَلا يرى أَن من قَالَ لآخر لَا تَأْكُل شَيْئا حَتَّى تَأْكُل غَيره وَكَذَا كل غير فِيهِ ذَلِك الشَّرْط فبقى أبدا غير آكل وَلَو قَالَ كلما أكلت لقْمَة فَكل أُخْرَى فَهُوَ يبْقى أبدا فِي الْأكل فَمثله الأول وعَلى ذَلِك أَمر تضَاعف الْحساب إِنَّه إِذا لم يَجْعَل لَهُ ابْتِدَاء مِنْهُ يبْدَأ لَا يجوز وجود شَيْء مِنْهُ بتة وَإِذا حصل الْبِدَايَة يجوز أَن يبْقى فِيهِ فِيمَا يزِيد ثمَّ يزِيد دَائِما وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه
مَعَ مَا يذكر أَوَائِل الْحساب فِي كل عدد إِذْ بِهِ بلغ ذَلِك وَلَا يذكر نهايتها لذَلِك اخْتلفَا
وَأَيْضًا أَنا لَو توهمنا أَن لَا جسم وَأَنه يجوز وجود عرض قبل عرض لم يجز وجود شَيْء مِنْهُ إِذْ لم يَجْعَل لَهُ أولية وإبتداء وَيجوز الْوُجُود أبدا بِلَا نِهَايَة لَهُ فَمثله مَا لَا يَخْلُو عَنهُ من الْأَعْرَاض وَالله الْمُوفق
وَأَيْضًا أَن كل حَرَكَة أَو إجتماع نشِير إِلَيْهِ هُوَ نِهَايَة مَا مضى من ذَلِك النَّوْع فمحال وجود نِهَايَة الْمَاضِي بِلَا إبتداء لَهُ وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه
وَأَيْضًا أَن قد يُوصف جسم بِالْبَقَاءِ مَعَ بَقَاء وَاحِد وَإِن كَانَ ذَلِك الْبَقَاء لَا يبْقى وَلَا يُوصف جسم مَعَ حدث وَاحِد لَا يَخْلُو بِالْعدمِ عَنهُ فَكَذَلِك مَا كثر مِنْهُ على أَن حُدُوث الْبَقَاء فِي الْجِسْم هُوَ سَبَب إبقائه ويدوم بَقَاؤُهُ على دوَام
1 / 14
تتَابع الْبَقَاء فِيهِ وَلَا يجوز أَن يكون سَبَب قدم الْجِسْم حُدُوث عرض فِيهِ فَصَارَ هُوَ عديله وقرينه فَلذَلِك لَا يتقدمه وَالله الْمُوفق
وعارض بعض من يَقُول بِهَذَا لما لَا يُوجد الشَّيْء بِلَا لون ثمَّ لَا يجب أَن يكون لونا وَذَلِكَ لَا معنى لَهُ لما أَن الْحَدث هُوَ وصف الْكَوْن بعد أَن لم يكن فَإِذا وجد غَيره غير مُفَارقَة وَفِيه هَذَا الْوَصْف لزمَه هَذَا الحكم وَلَيْسَ اللَّوْن بلون لِمَعْنى يُوجد فِي المتلون بِهِ لذَلِك اخْتلفَا لَكِن جملَة الْجِسْم إِذْ لَا يَخْلُو من الألوان فَلَا يسبقها وَلَكِن يسْبق وَاحِدًا فواحدا وَكَذَلِكَ أَمر الإحداث
وَمن قَالَ لَا يعلم صنع شَيْء لَا من شَيْء فَهُوَ الْمُقدر بالموجود حسا والمعارف نَفسهَا خَارِجَة عَن الْحس وَكَذَلِكَ القَوْل بيجوز وَلَا يجوز وَكَذَلِكَ مَا يدعى من التَّفَرُّق لَا الْهَلَاك لَا نعرفه بالحس ثمَّ قَالَ بِهِ فَمثله مَا نَحن فِيهِ مَعَ مَا كَانَ فِيهِ عقل وَسمع وبصر وروح وَغير ذَلِك مِمَّا لَا يدرى مِم صنع فَذَلِك يمنعهُ القَوْل بِمَا قَالَ وَأَيْضًا إِنَّه إِذا يكن أحد يخبرنا عَن قدمه أَو كَانَ أزليا من جَوْهَر الْعَالم فَلَا وَجه للْعلم بِهِ إِلَّا بالإستدلال
ثمَّ لَا نعلم كِتَابَة بِلَا كَاتب وَلَا تفَرقا إِلَّا بمفرق وَكَذَلِكَ الإجتماع وَكَذَلِكَ السّكُون وَالْحَرَكَة فَيلْزم فِي جملَة الْعَالم ذَلِك إِذْ هُوَ مؤلف مفرق بل الأعجوبة فِي تأليف الْعَالم أرفع فَهُوَ أَحَق أَن لَا يتفرق وَلَا يجْتَمع إِلَّا بِغَيْرِهِ ثمَّ كل مَا فِي الشَّاهِد من التَّأْلِيف وَالْكِتَابَة يكون أحدث مِمَّن بِهِ كَانَ فَمثله جَمِيع الْعَالم إِذْ هُوَ فِي معنى مَا ذكرت وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
وَلَو تكلّف الإستقصاء فِي مثل هَذَا ليخرج عَن طوق الْبشر إِذْ مَا من شَيْء مِمَّا يحس أَو يسمع بِهِ من أَجزَاء الْعَالم إِلَّا وَدلَالَة حَدثهُ ظَاهِرَة من جَهله بإبتداء حَاله وبإصلاح مَا يفْسد أَو ينشيء مثله وعجزه عَمَّا بِهِ حفظ نَفسه أَو تقليبه عَن جوهره مَعَ مَا فِيهِ الْخَبيث والقبيح والذليل والمهان الَّذِي لَوْلَا تَدْبِير غَيره فِيهِ مَا احْتمل أَن يكون كَذَلِك وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
1 / 15
ثمَّ مَعْلُوم أَن تكون الْحَرَكَة والسكون والإجتماع والتفرق غير الْجِسْم إِذْ قد يكون جسما مُتَفَرقًا يجْتَمع ومتحركا يسكن فَلَو كَانَ لنَفسِهِ يكون كَذَلِك لم يكن ليحتمل مضادات الْأَحْوَال على بَقَاء الْجِسْم بِحَالهِ وعَلى هَذَا يخرج الفناء والبقاء إِذْ قد يُوجد غير بَاقٍ وَلَا فان فِي أَوْقَات فَيلْزم أَن يكون غَيره وَكَذَلِكَ من أَرَادَ بَقَاء الشَّيْء أَو فناءه يقْصد إِلَى غير الْوَجْه الَّذِي يقْصد بِالْآخرِ ثَبت أَنَّهُمَا غيران يحلان
وَكثير من الْمُعْتَزلَة يَقُولُونَ بِهَذَا فِي الأول ويأبون فِي الْبَقَاء والفناء مَعَ مَا يبطل قَوْلهم إِذْ كَانَ مُخْتَلفا بِنَفسِهِ فِي إحتمال ذَلِك وَلَو جَازَ ذَلِك وَجَاز بَقَاء الْأَجْسَام بأنفسها لجَاز كَونهَا لَا بِغَيْر على أَن هَذَا بالمعتزلة أولى لأَنهم لَا يجْعَلُونَ من الله إِلَى جملَة الْعَالم غير الْعَالم بِهِ كَانَ الْعَالم إِذْ الْإِرَادَة يجعلونها من الْعَالم وَالْفِعْل كَذَلِك وذاته كَانَ مَوْجُودا عِنْدهم وَلم يكن الْعَالم وَلم يحدث شَيْء سوى كَون الْعَالم فَإِذا كَانَ بِنَفسِهِ وَبِه يبْقى وَفِي ذَلِك فَسَاد التَّوْحِيد وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه
ثمَّ قد ثَبت التغاير وَاخْتلف أهل الْكَلَام فِي مائية اسْم ذَلِك فَمنهمْ من يُسَمِّيه عرضا وَمِنْهُم من يُسَمِّيه صفة وَحقّ هَذِه الْمَسْأَلَة التَّسْلِيم لما يجْرِي الإصطلاح بِهِ لما يُرَاد بِالتَّسْمِيَةِ والتعريف وإفهام المُرَاد فَأَي شَيْء يعْمل ذَلِك كفى وَلَا يعرف الإسم بِالْعقلِ وَالْقِيَاس كَذَلِك قَوْلنَا فِي تخطئة قَول الكعبي إِنَّه لما ثَبت أَنه لَيْسَ بجسم بَان أَنه عرض
1 / 16
قَالَ أَبُو مَنْصُور ﵀ وَإِنَّمَا يجب ذَلِك إِذا سلم أَن مَا سوى الْجِسْم من الْخلق عرض وَفِي كتاب الله تَسْمِيَة الْعرض على إِرَادَة أعين الْأَشْيَاء كَقَوْلِه تَعَالَى ﴿تُرِيدُونَ عرض الدُّنْيَا﴾ وَقَوله ﴿لَو كَانَ عرضا قَرِيبا﴾ فعلى هَذَا تَسْمِيَة ذَلِك صفة أقرب إِلَى الْأَسْمَاء الإسلامية وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه
الدَّلِيل على أَن للْعَالم مُحدثا
قَالَ أَبُو مَنْصُور ﵀ ثمَّ الدَّلِيل على أَن للْعَالم مُحدثا أَنه ثَبت حَدثهُ بِمَا بَينا وَبِمَا لَا يُوجد شَيْء مِنْهُ فِي الشَّاهِد يجْتَمع بِنَفسِهِ وَيفرق ثَبت أَن ذَلِك كَانَ بِغَيْرِهِ وَالله الْمُوفق
وَالثَّانِي أَن الْعَالم لَو كَانَ بِنَفسِهِ لم يكن وقتا أَحَق بِهِ من وَقت وَلَا حَال أولى بِهِ من حَال وَلَا صفة أليق بِهِ من صفة وَإِذا كَانَ على أَوْقَات وأحوال وصفات مُخْتَلفَة ثَبت أَنه لم يكن بِهِ وَلَو كَانَ لجَاز أَن يكون كل شَيْء لنَفسِهِ أحوالا هِيَ أحسن الْأَحْوَال وَالصِّفَات وَخَيرهَا فَيبْطل بِهِ الشرور والقبائح فَدلَّ وجود ذَلِك على كَونه بِغَيْرِهِ وَالله الْمُوفق
وَأَيْضًا أَن الْعَالم نَوْعَانِ حَيّ وميت وكل حَيّ جَاهِل بإبتدائه عَاجز عَن إنْشَاء مثله وَإِصْلَاح مَا فسد مِنْهُ وَقت قوته وكماله فَثَبت أَنه كَانَ بِغَيْرِهِ وَالْمَيِّت أَحَق بذلك
وَأَيْضًا أَن الْعَالم لَا يَخْلُو كل عين مِنْهُ إِلَى مَا يحْتَملهُ من الْأَعْرَاض قهرا وَمَا اعْتَرَضَهُ من الْأَعْرَاض لَا قيام لَهَا وَلَا وجود دونه فَثَبت بذلك دُخُول كل وَاحِد مِنْهُمَا تَحت حَاجَة الآخر فَيبْطل أَن يكون بِنَفسِهِ مُحْتَاجا إِلَى غير بِهِ يُوجد وَيقوم وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه
1 / 17
وَأَيْضًا أَن كل عين مَا اجْتمع فِيهِ الطبائع المتضادة الَّتِي من طبعها التنافر لم يجز أَن يكون بِنَفسِهِ يجْتَمع ثَبت أَن لَهُ جَامعا وَالله الْمُوفق
وَأَيْضًا أَن كل عين مُحْتَاج إِلَى آخر بِهِ يقوم وَيبقى من الأغذية وَغَيرهَا مِمَّا لَا يحْتَمل أَن يبلغ علمه مَا بِهِ بَقَاؤُهُ أَو كَيفَ يسْتَخْرج ذَلِك ويكتسب فَثَبت أَنه بعليم حَكِيم لَا بِنَفسِهِ وَبِاللَّهِ النجَاة والعصمة
وَأَيْضًا أَنه لَو كَانَ بِنَفسِهِ لَكَانَ يبْقى بِهِ وَيكون على حد وَاحِد فَلَمَّا لم يملك دلّ على أَنه كَانَ بِغَيْرِهِ
وَأَيْضًا لَا يَخْلُو كَونه بِنَفسِهِ من أَن كَانَ بعد الْوُجُود فَيبْطل كَونه بِهِ لما كَانَ مَوْجُودا بِغَيْرِهِ أَو قبله وَمَا هُوَ قبله كَيفَ يُوجد نَفسه مَعَ مَا لَو كَانَ بِهِ قبل الْوُجُود لتوهم أَن لايوجد فَيكون عديما فَاعِلا وَذَلِكَ محَال وَيشْهد لما ذكرنَا أَمر الْبناء وَالْكِتَابَة والسفن أَنه لَا يجوز كَونهَا إِلَّا بفاعل مَوْجُود فَمثله مَا نَحن فِيهِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
قَالَ أَبُو مَنْصُور ﵀ وأصل ذَلِك أَنه لَا يعاني مِنْهُ شَيْء إِلَّا فِيهِ حِكْمَة عَجِيبَة وَدلَالَة بديعة مِمَّا يعجز الْحُكَمَاء عَن إِدْرَاك مَا ئيته وَكَيْفِيَّة خُرُوجه على مَا خرج وَعلم كل أحد مِنْهُم بقصور على مَا عِنْده من الْحِكْمَة وَالْعلم عَن إِدْرَاك كنه ذَلِك فَهَذِهِ الضَّرُورَة وَغَيرهَا دلَالَة حِكْمَة مبدعها وخالقها وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه
وَأَيْضًا أَنه لَو جَازَ أَن يكون الْعَالم يبْدَأ من قبل نَفسه بمره لجائز أَن يذهب كُله بِمرَّة فَإِذا لم يكن بل كَانَ على الإختلاف حَتَّى لم يكن تخْتَلف عَلَيْهِ الْأَحْوَال إِلَّا بالأغيار نَحْو حَيّ يَمُوت ومتفرق يجْتَمع وصغير يكبر وخبيث يطيب أبدا يتَغَيَّر بأغيار تحدث فعلى ذَلِك جملَته لَا يحْتَمل أَن يكون لَا بِغَيْرِهِ وَلَو جَازَ ذَا لجَاز أَن تَتَغَيَّر ألوان الثَّوْب بِنَفسِهِ لَا بأصباغ أَو السَّفِينَة تصير
1 / 18
على مَا هِيَ عَلَيْهَا بذاتها فَإِذا لم تكن وَلَا بُد من عليم ينشئها قدير بِهِ يكون فَكَذَلِك مَا نَحن فِيهِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
وَيبعد أَيْضا كَون الْعَالم بِنَفسِهِ بِمَا فِيهِ من دلَالَة الْعلم بِمَا هُوَ عَلَيْهِ وَالْقُدْرَة عَلَيْهِ ومحال وجود مثله بعاجز جَاهِل فَكيف بالمعدوم الفاني وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
وَدلَالَة كَون الْعَالم لَا من شَيْء هِيَ حدوثها وَقد بَينا ذَلِك
مَسْأَلَة مُحدث الْعَالم وَاحِد
قَالَ أَبُو مَنْصُور ﵀ وَالدّلَالَة أَن مُحدث الْعَالم وَاحِد لَا أَكثر السّمع وَالْعقل وَشَهَادَة الْعَالم بالخلقة فَأَما السّمع فَهُوَ اتِّفَاق القَوْل على إختلافهم على الْوَاحِد إِذْ من يَقُول بِالْأَكْثَرِ يَقُول بِهِ على أَن الْوَاحِد اسْم لإبتداء الْعدَد وَاسم للعظمة وَالسُّلْطَان والرفعة وَالْفضل كَمَا يُقَال فلَان وَاحِد الزَّمَان ومنقطع القرين فِي الرّفْعَة وَالْفضل والجلال وَمَا جَاوز ذَلِك لَا يحْتَمل غير الْعدَد والأعداد لَا نِهَايَة لَهَا من حَيْثُ الْعدَد وَفِي تَحْقِيق مَا يعد يخرج عَن النِّهَايَة الْعدَد فَيجب أَن يكون الْعَالم غير متناه إِذْ لَو كَانَ من كل مِنْهُم شَيْء وَاحِد فَيخرج الْجُمْلَة عَن التناهي بِخُرُوج الْمُحدثين وَذَلِكَ بعيد ثمَّ مَا من عدد يشار إِلَيْهِ إِلَّا وَأمكن من الدَّعْوَى أَن يُزَاد عَلَيْهِ وَينْقص مِنْهُ فَلم يجب القَوْل بِشَيْء لما لَا حَقِيقَة لذَلِك بِحَق الْعدَد لَا يُشَارك فِيهِ غَيره لذَلِك بَطل القَوْل بِهِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
1 / 19
وَبعد فَإِنَّهُ لم يذكر عَن غير الْإِلَه الَّذِي يعرفهُ أهل التَّوْحِيد دَعْوَى الإلهية وَالْإِشَارَة إِلَى أثر فعل مِنْهُ يدل على ربوبيته وَلَا وجد فِي شَيْء معنى أمكن إِخْرَاجه عَن حمله وَلَا بعث رسلًا بِالْآيَاتِ الَّتِي تقهر الْعُقُول ويبهر لَهَا فَتثبت أَن القَوْل بذلك خيال ووسواس
وَأَيْضًا مَجِيء الرُّسُل بِالْآيَاتِ الَّتِي يضْطَر من شَهِدَهَا أَنَّهَا فعل من لَو كَانَ مَعَه شريك ليمنعهم عَن إظهارها إِذْ بذلك إبِْطَال ربوبيتهم وألوهيتهم فَإِذا لم يُوجد وَلَا منعُوا عَن ذَلِك مَعَ كَثْرَة المكابرين لَهُم والعاندين مِمَّن لَو أَحبُّوا وجود الإبصار لَهُم فِي إِظْهَار آياتهم لوجدوا فَثَبت أَن ذَلِك إِنَّمَا سلم للرسل لما لم يكن الْإِلَه الْحق والخالق لِلْخلقِ غير الْوَاحِد القهار الَّذِي قهر كل متعنت مكابر عَن التمويه فضلا من التَّحْقِيق وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه
ثمَّ دلَالَة الْعقل أَنه لَو كَانَ أَكثر من وَاحِد مَا احْتمل وجود الْعَالم إِلَّا بالإصطلاح وَفِي ذَلِك فَسَاد الربوبية وَمعنى آخر أَن كل شَيْء يُرِيد اُحْدُ مِمَّن ينْسب إِلَيْهِ إثْبَاته يُرِيد الآخر نَفْيه وَمَا يُرِيد أَحدهمَا إيجاده يُرِيد الآخر إعدامه وَكَذَلِكَ فِي الْإِبْقَاء والإفناء وَفِي ذَلِك تنَاقض وتناف فَدلَّ الْوُجُود على مُحدث الْعَالم وَاحِد تَدْبيره
مَعَ مَا كَانَ الْأَمر الْمُعْتَاد بَين الْمُلُوك بذل الوسع مِنْهُم فِي قهر أشكالهم ليَكُون الْملك للقاهر وَمنع كل مِنْهُم غَيره عَن إِنْفَاذ حكمه وَإِظْهَار سُلْطَانه مَا اسْتَطَاعَ فَإذْ لم يكن بل نفذ سُلْطَان الْعَزِيز الْحَكِيم ثَبت أَنه الْوَاحِد وَهَذَا تَأْوِيل قَوْله ﴿قل لَو كَانَ مَعَه آلِهَة كَمَا يَقُولُونَ إِذا لابتغوا إِلَى ذِي الْعَرْش سَبِيلا﴾ وَالْأول على مَا أودع قَوْله ﴿لَو كَانَ فيهمَا آلِهَة إِلَّا الله لفسدتا﴾
وَأَيْضًا أَنه لَو كَانَ مَعَ الله إِلَه لأظهر الآخر حكمته وَفصل فعله من فعل
1 / 20
الله الْحق ليعلم بِهِ قدرته وسلطانه فَإذْ لم يفعل بَان أَن الله المتوحد بالإلهية والمتفرد بالربوبية وَذَلِكَ معنى قَوْله ﴿وَمَا كَانَ مَعَه من إِلَه إِذا لذهب كل إِلَه بِمَا خلق﴾ وَكَذَلِكَ قَوْله ﴿أم جعلُوا لله شُرَكَاء خلقُوا كخلقه﴾
ثمَّ وَجه الإصطلاح يدل على الْعَجز وَالْجهل مَعَ مَا لَو كَانَ كَذَلِك لم يكن الْأَمر لوَاحِد فِي نسبه الْخلق وتحقيقه لَهُ إِلَّا من حَيْثُ يقهرهم ويدخلهم تَحت قدرته وصنعه وَالله الْمُوفق
وَأَيْضًا أَنه لَو كَانَ مَعَ الله إِلَه لَا يَخْلُو من أَن يقدر على فعل يسره من الآخر أَو لَا وَكَذَلِكَ الله سُبْحَانَهُ مِنْهُ فَإِن قدرا جَمِيعًا ملك كل وَاحِد مِنْهُمَا تجهيل الآخر وَفِي ذَلِك زَوَال الربوبية وَإِن لم يقدرا عجز كل وَاحِد مِنْهُمَا وَالْعجز يسْقط الألوهية أَو قدر أَحدهمَا دون الآخر فَهُوَ الرب وَالْآخر مربوب مَعَ مَا كَانَ علم الْغَيْب علم الربوبية فَمن لَيْسَ لَهُ فَهُوَ مربوب ثمَّ لَا يَخْلُو أَيْضا من قدرَة كل وَاحِد مِنْهُمَا على غَيره فِي منع مَا يروم الْفِعْل بِغَيْرِهِ ويريده أَولا فَيكون فيهمَا إِمْكَان خُرُوج كل عَن الْقُدْرَة وَتَحْقِيق عجز وَذَلِكَ يسْقط الربوبية أَو يقدر الْوَاحِد خَاصَّة فَيكون هُوَ الرب سُبْحَانَهُ
وَأما دلَالَة الإستدلال بالخلق فَهُوَ أَنه لَو كَانَ أَكثر من وَاحِد لتقلب فيهم التَّدْبِير نَحْو أَن تحول الْأَزْمِنَة من الشتَاء والصيف أَو تحول خُرُوج الْإِنْزَال وينعها أَو تَقْدِير السَّمَاء وَالْأَرْض أَو تسيير الشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم أَو أغذية الْخلق أَو تَدْبِير معاش جَوَاهِر الْحَيَوَان فَإذْ دَار كُله على مَسْلَك وَاحِد وَنَوع من التَّدْبِير وإنساق ذَلِك على سنَن وَاحِد لَا يتم بمدبرين لذَلِك لزم القَوْل بِالْوَاحِدِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
وَالثَّانِي أَن الْأَجْنَاس على اختلافها وتباعد مَا بَينهَا من نَحْو السَّمَاء وَالْأَرْض وأطراف الأَرْض وَجعل أرزاق أَهلهَا مُتَّصِلَة بالمنافع حَتَّى كَانَ كل أَنْوَاع
1 / 21
الْخَارِج من الأَرْض يكون بِأَسْبَاب السَّمَاء وحاجات كل أهل الْبلدَانِ منتشرة فِي جَمِيع الْأَطْرَاف ومعاش الْبشر مجعول فِي أَنْوَاع المكاسب على هَذَا أَمر الْجَمِيع فَلَو كَانَ ذَلِك لعدد لم يحْتَمل أَن ترجع مَنَافِعهَا إِلَى من لَهُ الْعَالم من الْخلق على اخْتِلَاف الْعَالم ثَبت أَن مُدبر ذَلِك كُله وَاحِد وعَلى مَا ذكرت الْأَوْقَات من اللَّيْل وَالنَّهَار والساعات وَدخُول بعض فِي بعض على قدر الْحَاجَات وَهَذَا وَالله أعلم معنى قَوْله ﴿مَا ترى فِي خلق الرَّحْمَن من تفَاوت﴾ فَهَذَا مَعَ مَا جعلت الْأَجْسَام وَهِي الْأَعْيَان على جِهَات سِتّ ثَبت أَن مُدبر كل على اخْتِلَاف الْأَجْنَاس وَاحِد حَتَّى جمع الْكل تَحت معنى وَاحِد وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه
وَالثَّالِث أَنه لَا يُوجد جَوْهَر وَاحِد يرجع بجوهره إِلَى معنى وَاحِد من الضَّرَر أَو النَّفْع أَو الْخَبيث أَو الطّيب أَو النِّعْمَة أَو الْبلَاء بل كل شَيْء يُوصف بالخبث فَهُوَ يصير طيبا من وَجه غير من لَهُ خبث وَكَذَلِكَ سَائِر الصِّفَات وعَلى ذَلِك أَحْوَال الْأَشْيَاء إِنَّهَا لَيست على نفع بِكُل حَال أَو ضَرَر بِكُل حَال ثَبت أَن مُدبر ذَلِك كُله وَاحِد حَتَّى جمع فِي كل وُجُوه المضار وَالْمَنَافِع وَلم يَجْعَل شَيْئا ذَا نوع ليعلم أَنه عَن أصل يرجع إِلَى جوهره أَو عَن تَدْبِير عدد يفعل كل جِهَة فيتناقض بِمَا تفرد كل بالجهة الَّتِي هِيَ مِنْهُ وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه
وَأَيْضًا أَن الْأَعْيَان ترَاهَا تَحت حد الْأَجْسَام كلهَا وَهِي مجتمعة على طبائع متضادة حَقّهَا التنافر والتباعد بِمَا بَينهَا من التعادي الَّذِي لَو توهم تَركهَا وطباعها لَكَانَ فِي ذَلِك فَسَاد الْكل فَثَبت أَن مُدبر الْجَمِيع بَينهَا وَاحِد يجمعهُمْ باللطف وَيحبس ضَرَر كل عَن غَيره بالحكمة العجيبة الَّتِي لَا تبلغها الأوهام وَلَو كَانَ لعدد لجرى فِيهَا حق الإختلاف والتضاد على مَا عَلَيْهِ إِرَادَة الفاعلين من السِّرّ بغيرهم وبصنع غَيرهم ليتبين صنعه وَبِاللَّهِ النجَاة
وَأمكن الْجمع بَين الحرفين فِي جَمِيع مَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ الإعتبار من الْإِشَارَة إِلَى الدّلَالَة إِنَّهَا تخرج على النّظر إِلَى الْأَحْوَال وَالْأَفْعَال فالأحوال هِيَ أَن يَكُونُوا
1 / 22