وضحكت بمرح ملأني بالغيظ. في الحق حسدتها لكونها نوار سعد، ولأنني لا أريد أن أكونها أبدا.
وعندما عاد المختار لمجلسنا مرة أخرى وجدنا قد غيرنا مجرى الحديث، حيث هيأت نوار القول كله لأسرتها، قالت: سأحدثكم عن الجوع الكبير، ليس الجوع المقدس إلى المعرفة، لا، بل الجوع الهمجي الذي هو نتاج العوز والفقر والفاقة، أن تكون بطنك خاوية وتثور أمعاؤك وتحتج، وأنت عاجز عن فعل يشبعك. وكانت نوار سعد جميلة وأنيقة، مفرطة الحساسية في انتقاء ملبسها ومنعلها، تسريحة شعرها، وحتى جلستها، كانت تجلس على سجاد من نبات المحريب العطري قرب المختار في أدب جم، وكأنها قد فرغت للتو من الصلاة، وكان وجهها متوردا ومملوءا بالضوء، وعيناها الصغيرتان مرحتان كزهرتي غاردينيا عليها فراشتان ذات صباح باكر.
كانت جميلة لأنها جميلة وحسب.
كنت أتساءل في أحيان كثيرة: كيف لامرأة بهذا الجمال لم تتزوج حتى الآن؟ في الحق سألتها ذات مرة، فقالت: أنا لا أرفض الزواج ، ولكن لم يأت رجل ليخطبني، ليس هناك رجل عنده ما يكفي من الشجاعة ليقول لي: أريد أن أتزوجك يا نوار. بالرغم من أن المئات منهم يعشقونني، يعشقونني في صمت، كصمت البغال. قلت: أمين ... قالت مقاطعة: أنا قلت رجل وليس طفلا، رجل ... أتعرفين معنى رجل ...؟ وكنت أعرف أن أمين يصغرها بعشرين عاما، على أقل تقدير.
ثلاث بنات
قالت نوار ...
قالت نوار: كنا ثلاث بنات؛ نورا ونور، وكنت أنا أكبرهن، ونور هي أصغرنا، وكانت قصيرة وسمينة وشرهة أكول، وهي الوحيدة في المنزل التي لا تجوع أبدا، وهي ذاتها الوحيدة التي لا تشبع! وكان أبي يحبها جدا وكثيرا ما يصحبها مع كلابه إلى الإنداية، أو إلى مكان العمل بالسواقي؛ حيث يعمل في مزارع الآخرين باليومية، وإذا أخذ أجره حملها على كتفه، إذا كانت الشمس حارقة والأرض رمضاء؛ لأنها غالبا دون نعلين، أما إذا كان الجو معتدلا أو باردا في الشتاء جرت خلفه تتبعها الكلاب إلى الإنداية، يأكلان أولا الكوارع بالشطة والليمون، وهو بين الحين والآخر يمد إليها الكأس مشجعا: اشربي يا بت نور ... الله، اشربي يا دكتورة.
وكانت لا تشبع إلا أن تنتفخ بطنها ويغلبها النعاس، وترقد قرب رجليه على الأرض متوسدة مركوبه القديم، عليه بقايا عمامته المزيفة العجوز، حتى إذا انتبهت إليها صاحبة الإنداية التي كانت دائما ما تنتبه، سبت أبا سعد وجده ديك إبليس، ثم أخذتها لترقدها في بيتها إلى أن يكتفي سعد من المريسة أو يفرغ جيبه، يحمل بنته على كتفه وهي نائمة ويمضي بها مترنحا على الطريق يرمقه السابلة فكهين معلقين، وأحيانا يتبعه الأطفال من بعيد، يناونه مغنين: السكران ... وينو.
وبينهم وبينه عشرات الأمتار؛ لأن كلابه لا تدع أحدا يقترب منه، حتى إذا سقط على الأرض دائخا من الخمر، فإنها تحيط به ولا تترك إنسانا يرفعه أو يعينه على المشي، وإذا نام حيث سقط ظلت تدور حوله إلى أن يستيقظ أو يبلغ الخبر أمي في المنزل، فتأتي لتأخذ منه البنت، وتتركه على حاله على الأرض؛ إذن ما كان أبي يعود من عمله بقطعة خبز واحدة، يأتي مخمورا وعلى كتفه نور وخلفه كلابه، وإذا سألته أمي: أنت تسكر وأطفالك جوعى؟!
سبها بألفاظ بذيئة وحمل عصاه وحاول ضربها، فتحمل أمي عصاها، تحمل نور عصاها، أحمل عصاي، أما نور فإنها لا تتردد في أن تعض أول من يلمس أباها، ولكن غالبا ما يحتكم أبي للعقل، العقل المخمور فينام على أقرب عنقريب يجده واضعا عصاه تحته.
Unknown page