Tarjama Fi Calam Carabi
الترجمة في العالم العربي: الواقع والتحدي: في ضوء مقارنة إحصائية واضحة الدلالة
Genres
وحري أن نتخلى عن الالتزام بإنجاز ما أسميه المعادلة المستحيلة؛ ألا وهي نزعة المواءمة أو الجمع بين حضارة العلم والتكنولوجيا والعقل العلمي النقدي، وبين الموروث الثقافي المتحجر الذي انتهى عصره. وإن أول معالم الطريق إلى النهضة الحضارية إنما يتجلى بداية في سقوط هيبة السلف والفكر السلفي وعبادة السلف في أذهان العامة، ومن ثم إحلال ثقافة التغيير والتطوير باعتماد العقل العلمي النقدي؛ لذلك نؤكد دائما أن لا نهضة لمصر إلا بنهضة الفلاح المصري في قرى ونجوع الشمال والجنوب، هذا الفلاح هو مصر، الذي ظل يحمل على فوديه رسما نزعم سخرية أنه عصفور .. وهو حورس الحامي. (2)
اتساقا مع هذا نحن بحاجة إلى دراسة العلاقة العكسية بين الاستبداد والإبداع .. الاستبداد يصنع روبوتا فضيلته الطاعة دون حق السؤال، والحرية هي صانعة الإنسان .. الحرية كما يقول فيلسوف العلم دانييل دنيت هي القوة الحافزة للتطور الخلاق للحياة منذ نشأتها حتى بلغت مرحليا أعلى صورها في صورة الجهاز العصبي للإنسان. (3)
المثقفون المصريون مسئولون أولا وأساسا عن واقع حال مصر الراهن؛ إذ بدأ المثقف الحديث موظفا تابعا للسلطة الحاكمة وقد نشأ وتربى على ثقافة الطاعة، بينما المثقف المستنير هو من يحافظ على مسافة نقدية فاصلة بينه وبين ذوي السلطان؛ أي سلطة دينية، أو سياسية، أو عقائدية؛ لكي تتهيأ له فرصة الرؤى في عقل نقدي ينير بها الطريق إلى المستقبل. (4)
سبق أن ذكرت في كتابي «أركيولوجيا العقل العربي» أن التراث الثقافي الذي عاش ممتدا في الزمان التاريخي الاجتماعي، وإن أخذ مسميات دينية لاحقة؛ هو التراث الهرمي في مصر .. تراث هرمي مثلث المعظمات، لا يزال يقسم باسمه المصريون (معظما ثلاثا)، ويحمل هذا التراث صفات وخصائص البيئة والذهنية المصرية، وأراه تراث تحوت أو توت رب الحكمة والقلم في الديانة المصرية، وإن حمل حينا اسما إغريقيا .. وأرى أن هذا التراث هو الحاكم للثقافة الشعبية السائدة التي امتدت مع حالة الركود الاجتماعي قرونا. وهذه الثقافة التي تصوغ ذهنية المصري هي التي تجهض إرادة وفعالية الإنسان لحساب قوة مفارقة، لها القدسية والفعالية.
ويستلزم هذا تحولا حقيقيا وموضوعيا من ثقافة الكلمة والثبات إلى ثقافة الفعل والتغيير .. من ثقافة اللسان إلى ثقافة اليد والأداة. وهذا هو ما سينقلنا طبيعيا إلى ثقافة التناقض والحركة كشرط وجودي .. الحركة مع التناقض .. الفعالية بين «النحن والآخر» .. الانتقال من ثقافة الإقصاء المفضية إلى الانشقاق والانقسام - دائنا التاريخي - إلى ثقافة التناقض أو تلازم النقيضين .. إذ إن ثقافة الحركة الفكرية والمادية في جدل مشترك مطرد، لا تنشأ ولا تكون إلا بين نقيضين «نحن والآخر»، ووجود كل طرف رهن وجود الآخر .. ولهذا نشأ الحوار الذي هو صراع في إطار الوحدة، أو حركة في إطار التناقض .. إن الصورة لا تكتمل ولا نفهمها إلا في دلالاتها الحركية؛ أي وجود النقيضين، وإلا بدت مواتا .. وهل الحياة إلا حركة بين نقائض؟!
ويكتمل ما سبق بالحديث عما اصطلحنا على تسميته أزمة الترجمة في العالم العربي. وسبق أن تناولت هذا تفصيلا في ضوء إحصاءات ذات دلالة، سواء في كتابي «الترجمة في العالم العربي» أو في تقرير التنمية الإنسانية للأمم المتحدة 2003م. وتؤكد الدراسة أن الترجمة متدنية أشد التدني، وطالبنا - كما سبق أن طالب عميد الأدب العربي طه حسين - بإنشاء مؤسسة عربية للترجمة. ولكن على الرغم من محاولات الإنقاذ وستر العورة وإنشاء مراكز ترجمة في عدد من البلاد العربية، مع رصد أموال ضخمة في بلدان الخليج، فإنها تؤكد جميعا تشتت الجهود دون هدف استراتيجي جامع واضح مشترك.
وهذا ما أكده أيضا التقرير العربي الأول للتنمية الثقافية؛ إذ أوضح تقرير عام 2007م أن المناخ السياسي المتسم بالاستبداد والقهر وغياب الحريات أدى إلى انتعاش الظلامية والفكر الأصولي السلفي المتطرف. وأشار إلى أن هذا المناخ هو المسئول عن انصراف الإنسان العربي عن ثقافة تحصيل العلم، وعن الاهتمام بالقراءة وبالبحث.
والرأي عندي أن واقع حال الترجمة، بعيدا عن الشكليات والأرقام الصماء، ليس أزمة، بل هو موقف ثقافي اجتماعي من المعرفة والإبداع والتجديد قرين الفعالية المجتمعية لإنتاج الوجود الذاتي. ولا يستقيم الحديث عن الترجمة دون الحديث عن الفعل الإبداعي المجتمعي والفضول المعرفي .. الفعل والفكر الاجتماعيان في اقتران جدلي تطوري .. وهذا غير وارد في ثقافتنا؛ ثقافة الإقصاء والاكتفاء الذاتي بالموروث .. ولا يستقيم كذلك دون الحديث عن الإنسان، وتغيير الواقع بإرادة ذاتية، وبالانخراط كقوة فاعلة إيجابيا في الفعل والفكر العالميين؛ أي الانخراط في الحداثة انخراطا إبداعيا ذاتيا تكامليا في تطور مرحلي .. أعني الوحدة مع الصراع في العالم الحديث؛ فهذا شرط التغيير الجذري الحضاري نحو واقع مصري يبدعه الإنسان المصري.
والآن وقد تجاوزت التسعين من العمر أنظر إلى الحياة نظرة مودع، أراني أفتقد مصر التي كانت في خاطري، وأرى أن مصر على مستوى الإنسان العام تغوص على نحو غير مسبوق في وحل اللامعقول الموروث، مصر لم تعد مجتمعا، بل أصبحت تجمعا سكنيا، وقد أضيف ما أضافه لي الصديق الأجل أنور عبد الملك، وهو أنها باتت تجمعا سكنيا لغرائز منفلتة .. أفتقد مصر الحلم الحافز، مصر الوعي الموحد تاريخيا، مصر الوطن والمواطنة، مصر الواقع المشحون بإرادة الفعل والفكر والحركة الجماعية .. مصر المستقبل .. أفتقد كل هذا ولا أرى غير فرط العمر والركض وراء السراب.
ولكن تحت الرماد جذوة نار قد تتأجج ويشتد لهيبها .. ومن بين ركام الفوضى ينبثق الأمل .. هكذا علمنا التاريخ .. ومياه النيل لا ترتد أبدا إلى وراء.
Unknown page