202

Tarikh Junun

تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا

Genres

49 «أعرف الكثيرين من العمال العاقلين والذين يعانون أيضا من سوء التغذية، والذين سيسعدون إذا ما تلقوا اهتماما كمرضى الاعتلال العقلي.» وفي «جريدة الطب بليون»، كتب كل من الطبيبين روكيه وروفيردي عام 1943: «لم يكن من الممكن ألا يؤثر العصر الغريب الذي نحياه جذريا على تطور المرض العقلي في فرنسا، ولكنه فعله بطريقة غير متوقعة على الإطلاق، في صورة تحسين كبير وتدريجي للصحة العامة.» بالنسبة إلى المؤلفين، هذا التحسن يرجع إلى انخفاض عدد المقيمين بمصحة الأمراض العقلية. هذا الانخفاض قد يرجع إلى قلة عدد الداخلين، أو سرعة خروج المرضى في أوقات السلم، وبشكل خاص إلى ارتفاع نسبة الوفيات بين مرضى الاعتلال العقلي. ويرى الطبيبان في هذا الارتفاع في نسبة الوفيات - الذي يربطانه مباشرة بالقيود المفروضة عليهما - «صورة من صور تحسين الصحة العامة عن طريق انتخاب طبيعي حقيقي [...] فالعصر الحالي، بقسوته البدائية وصرامته التي لا ترحم، يبدو وكأنه في حالة تطهير للصحة النفسية.»

50

أكان لمثل هؤلاء الأطباء دور في تشجيع نقص التغذية بين المرضى المسئولين منهم؟ على الأرجح لا. في لعبة الاستشهادات الجزئية، بل والمنحازة، يجب ألا نغفل هنري إي - كبير الأطباء بمصحة بونيفال (يور إليوار) في الفترة من 1933 وحتى 1970 - والذي كان ممثلا لمهنته، عندما كتب في فبراير 1941 بخصوص مرضاه: «إنهم مصابون بأحد أكبر آلام البشرية، ويتحولون إلى كائنات لا ترغب في العيش. ويجب علينا - وفقا للمبدأ الأعظم لشرف مهنتنا - أن نحافظ على حياتهم، حتى وإن بدا الأمر عبثيا.» فبالنسبة إلى إدوارد إي وزملائه الفرنسيين، كان قسم أبقراط لا يزال ذا معنى (أمتنع عن أي شر أو أي ظلم، ولن أدس السم لأحد حتى وإن طلب مني ...)

عندما انتهت الحرب، طويت تلك الصفحة. كان سبب قلق الأطباء النفسيين الفرنسيين إزاء قلة الأعداد داخل مصحاتهم هو معرفة ما إذا كانت السلطات العامة ستستغل هذا الأمر لتغير تخصص بعضهم. وبشكل طريف، تحول النظر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بعد الحرب، لاكتشاف حملة تنديد بالمصير المخصص لمرضى الاعتلال العقلي هناك. وفي العدد الصادر بتاريخ السادس من مايو 1946 من مجلة «الحياة»، ظهر مقال، له عنوان موح: «بدلام 1946»، ربما رجوعا إلى الفيلم «بدلام» الذي كان يعرض في الوقت نفسه في صالات العرض، ويظهر فيه بوريس كارلوف مجسدا شخصية مدير مصحة بدلام القاسي في القرن الثامن عشر. وكتب ألبرت كيه مايزل - صاحب المقال «بدلام 1946» - في مقدمته: «تعد معظم مصحات الأمراض العقلية بالولايات المتحدة رمزا للخزي والعار.» وجاءت التقارير والصور المؤلمة الملحقة بالمقال لتصدم أمريكا، التي لم تكد تفيق من هول صدمة اكتشاف معسكرات الاعتقال. وأجري تحقيق في اثنين من المشافي العامة: بابيري ببنسلفانيا، وكليفلاند بأوهايو. ورأينا هناك مرضى الاعتلال العقلي في أشد حالات الإهمال والعوز الكامل.

في الأعوام التالية، استأنف المراسل ألبرت دويتش التحقيق حول مصحات نفسية أخرى، ووصف الوضع ذاته في سلسلة من المقالات، ثم جمعها في كتاب ظهر في عام 1948 «عار الولايات المتحدة، المرض العقلي والسياسة الاجتماعية: التجربة الأمريكية». في مصحة ولاية فيلادلفيا، التي تضم ما يقرب من ستة آلاف وخمسمائة مريض، انخفض عدد الأطباء من خمسة وستين إلى ثمانية عشر، وعدد الحراس من واحد لكل خمسة وعشرين مريضا إلى واحد لكل خمسمائة. وبشكل كبير، فإن «رعاية» مرضى الاعتلال العقلي الموجودين بست وخمسين مصحة نفسية قد عهد بها جزئيا إلى المستنكفين ضميريا البالغ عددهم 3000 (معظمهم من طائفة الأصدقاء أو الميتدوديست أو المنونيت من الطوائف البروتستانتية). ويعكس هذا الأمر توجها نموذجيا يميل إلى تحسين النسل: «أشخاص عديمو الفائدة يحرسهم آخرون عديمو الفائدة»؛ لأن الممرضين والأطباء الحقيقيين جرت تعبئتهم بشكل «جيد». أما باقي الحراس، فيكونون عادة من معدومي المؤهلات، وأيضا عديمي الأخلاق (على عكس المستنكفين الذين أدلوا بشهاداتهم عقب الحرب).

51

كان مرضى الاعتلال العقلي يجبرون بانتظام على أعمال سخرة، ويبقون مقيدين بالأصفاد وسترات المجانين لمدة أيام كاملة، كما كانوا يتعرضون للضرب أو الاغتصاب؛ وكانت النتيجة وفاة بعضهم. والدليل على مدى النظرة المحتقرة التي كانت توجه إليهم، أنه عندما لا يكون في استطاعة إدارة المصحة غض الطرف عن بعض هذه الممارسات، كانت توقع عقوبات لا تتعدى الفصل، ويكون من حق المجرمين أن يلتحقوا ببساطة بالعمل في مصحة أخرى ليمارسوا هناك مواهبهم في التعذيب.

وهكذا، كان مصير مرضى الاعتلال العقلي في الولايات المتحدة يتسم بشكل ملموس بمظاهر تحسين النسل السلبي؛ الذي لم تشهده فرنسا نفسها إبان حكم فيشي على الرغم من ارتفاع نسبة الوفيات هناك بشكل مخيف. وإذا لم يكن مرضى الاعتلال العقلي في أمريكا يموتون من الجوع بأعداد كبيرة؛ فذلك لأن بلادهم كانت تشهد نظاما لتقنين الغذاء أقل وطأة بكثير من الذي كانت تشهده دول أوروبا.

ففي فرنسا، بعد الحرب العالمية الثانية، كان يتم التطرق أحيانا لمسألة ارتفاع نسبة الوفيات داخل المصحات النفسية تحت الاحتلال، فلم تعد سرا في عالم الطب. كانت تطرح تارة دون جدل، كما حدث عام 1966 مع الطبيب أيم،

52

Unknown page