Tarikh Junun
تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا
Genres
14
في الواقع، بدأ مصطلح العصاب «الذي يجمع الكل» في اكتساب مزيد من التحديد بفضل أعمال بول بريكيه (1796-1881) حول الهستيريا، مؤكدا تماما على الطبيعة المخية للهيستريا التي تعد «نوعا من العصاب يصيب الجزء المسئول عن استقبال الانطباعات العاطفية والأحاسيس في المخ.» «مع بريكيه، بدأت الهستيريا تظهر كمرض يصيب القدرة الانفعالية.»
15
في عام 1859، نشر مؤلفه «بحث إكلينيكي وعلاجي عن الهستيريا»، وفيه وضع أساسا واسعا يقوم على علم الأعراض المرضية، ويضم ما لا يقل عن ثمانية أقسام: حالات الحساسية المفرطة وحالات الخدر وانحرافات الحساسية والتشنج العصبي اللاإرادي وحالات الشلل وخلل القدرة على التقلص وتغيرات حالات الاستثارة والإفرازات. وينتقد بريكيه دور الإحباطات الجنسية، واضعا إياها إلى جانب حالات الحزن العنيف والعواطف الممتدة لدى الأشخاص الذين لديهم نزوع طبيعي يزيد من «قابليتهم للإصابة» أو بسبب عوامل وراثية. كما دحض الفكرة الثابتة القائلة بوجود هستيريا خاصة بالنساء، على الرغم من أن نسبة المصابين كانت رجلا لكل عشرين امرأة. كانت الطريق مفتوحة أمام أعمال شاركو وبيرنهيم وفرويد ...
كان جان مارتن شاركو (1825-1893) هو من اهتم - على وجه الخصوص - بتحديد الاضطرابات «الوظيفية» للهستيريا. عين عام 1862 في مستشفى سالبيتريير، وهو - على حد قوله - «يشبه المتحف الباثولوجي الحي الضخم الموارد.» في عام 1872، نال الأستاذية في التشريح الباثولوجي، قبل أن يجري استحداث أول كرسي أستاذية في العالم في الطب الإكلينيكي للأمراض العصبية عام 1882، بناء على رغبته. واستطاع شاركو - بتطبيق طريقة التشريح الإكلينيكي للطبيب لايناك على إصابات الجهاز العصبي - أن يجمع ملاحظات دقيقة من سلسلة من المرضى، ووضع رسما مبدئيا (كان في الحقيقة رساما بارعا) للتقسيمات دون استثناءات، محددا أنماطا مصحوبة بوصف لها وبأدلة تشريحية لدعمها. ويشهد هذا المتحف التشريحي والورشة الفوتوغرافية (حيث تطورت الصور الفوتوغرافية القيمة الخاصة بمشفى سالبيتريير) بالحس الابتكاري لشاركو، الذي كانت محاضراته الإكلينيكية تجذب الأطباء من فرنسا وخارجها، بل وأيضا شخصيات من عالم السياسة والأدب والفن. كذلك كانت أمسياته كل ثلاثاء التي يقيمها في 217 شارع سان جيرمان (منزل أمريكا اللاتينية الحالي). وفيما يتعلق بالهستيريا، فلقد كان له العديد من المطبوعات في علم الأعصاب جعلت له شأنا في هذا المجال. في عام 1870، عهدت إليه إدارة المشفى بخدمة إضافية؛ وهي «رعاية مرضى حالات الصرع البسيطة»، والتي تتضمن مرضى الصرع غير المختلين ومرضى الهستيريا. وسرعان ما نما لدى شاركو - الذي كان قد قرأ ودرس أعمال بريكيه عن الهستيريا - ولع بهذا المجال الجديد للبحث. «ترك المجال الذي يعرفه جيدا - الإصابات العضوية للجهاز العصبي - ليغامر باستكشاف مجال خطير للغاية. وأدخل شاركو الهستيريا لنفس المجال، فكانت حتى ذلك الوقت تندرج تحت الحالات التي تصيب الإنسان فتجعله كائنا مريضا، غريبا غير منظم، كائنا غير مفهوم، له مظاهر متعددة وخادعة. فكيف نتناولها إذن لتقليل هذه الحالة من عدم الخضوع؟ وكيف نجبره على الانصياع لقواعد محددة وعلى الدخول في نظام مشدد والالتزام بالسلوك الجيد؟» (إي تريا).
شرع شاركو في وضع قواعد الهجوم الكبير للهستيريا «يمكن تطبيقها في كل العصور وفي كل البلاد وعلى كافة الأجناس» بمراحلها الأربع المتتالية: الأورة، وهي الحالة السابقة للنوبة، وفيها يبدأ المريض في الاضطراب دون أن يشعر؛ ثم المرحلة الخاصة بالصرع نفسه ويصاحبها شحوب وصراخ وفقدان وعي؛ ثم مرحلة التشنجات - المعروفة ب «المضحكة» - ويصاحبها حالات انفعالية؛ ثم المرحلة النهائية والتي تتميز بالبكاء والضحك، بل والهذيان. وفي ذات الوقت، صاغ شاركو قوانين «للتنويم المغناطيسي البسيط»، وهي حالة من التنويم تساهم في تسهيل التمييز بين الوعي واللاوعي، وأيضا تلك الخاصة «بالتنويم الطويل»؛ وهي حالة أعمق من التنويم يمكن بها عن طريق الإيحاء إعادة تمثيل الأعراض الهستيرية. ابتداء من عام 1878 أدخل شاركو التنويم المغناطيسي كوسيلة علاجية، وإن لم يكن يمارسه بنفسه، تاركا تلك المهمة لمساعديه أو تلاميذه الذين يتمثل دورهم في أن يرووا «للمدير» ما يريد أن يعرفه اعتمادا على مجموعة من مريضات الهستيريا «النجمات» أو على بعض ممثلات العروض العامة. وبعد فترة، كانت الواحدة منهن تتفاخر: «لقد عملت مع شاركو.»
كان دوديه ، الأب والابن، قد حضرا هذه الجلسات الواسعة الشهرة. ويصف لنا الأب دوديه جلسة داريت - إحدى مريضات الهستيريا اللاتي يعملن مع شاركو: «كانت فتاة طويلة في الثلاثينيات من عمرها، لها رأس صغير وشعر مموج، وكانت شاحبة ونحيفة [...] كانت في مصحة سالبيتريير، مرتدية سترة المجانين ووشاحا على رقبتها. ثم أمر الأستاذ: «قوموا بتنويمها!» فوضع المساعد الواقف وراءها يديه للحظة على عينيها [...] وفجأة، نامت. كانت نائمة وهي واقفة بصلابة. كان جسدها التعس يتخذ كافة الأوضاع التي يؤمر بها، فإذا مددنا ذراعها تبقى ممددة، وكأن كل عضلة تمس تحرك الواحدة تلو الأخرى، بما فيها أصابع اليد التي ظلت مفتوحة وساكنة. كانت تشبه تماثيل العرض في المحال ولكنها الأكثر طوعا ومرونة على الإطلاق. ويؤكد شاركو: «لا توجد وسيلة لخداعنا، فيجب أن تكون هي أيضا على دراية بالتشريح مثلنا.» كانت تشبه الآلي البشري البائس واقفة في منتصف الدائرة التي رصت حولها مقاعدنا، وكانت خاضعة لأي أمر، وتتغير تعبيرات وجهها باختلاف الحركة التي نفرضها عليها! فتضع أصابعها على فمها وكأنها تقبل أحدا، وتبتسم شفتاها ويضيء وجهها، ثم تغلق كفها بتشنج وكأنها تهدد أحدا، فتقطب جبينها وينفث أنفها بغضب مرتعش. «يمكن أن نفعل هذا أيضا ...» يقول الأستاذ وهو يرفع قبضتها كمن يتهيأ للضرب ويربت في ذات الوقت على يدها اليمنى بحنان. وعندها يتحرك الجسد كله يهزه شعوران مختلفان؛ أحدهما غاضب والآخر رقيق، وكأنه قناع طفولي يضحك باكيا [...] ثم يقول شاركو: «يجب عدم إرهاقها ، هيا أحضروا بالمان.» ولكن عاد المساعد بمفرده؛ لأن بالمان رفضت المجيء، بعد أن غضبت لاستدعاء داريت قبلها. فبين هاتين النجمتين المريضتين بالتصلب - اللتين كانتا أول من استخدمهما شاركو في مصحة سالبيتريير - تستقر غيرة شديدة، بل وأحيانا شجارات ومشاحنات داخل غرفة الغسيل حيث كانتا تتبادلان بعض التعبيرات القاسية؛ متسببتين في حالة هياج عامة داخل المهجع.»
16
أما ليون دوديه، فينتقد بقسوة الأستاذ ومساعديه. ويبدأ بالأستاذ: «كان وصول المدير كل صباح «حدثا بسيطا»، أمرا يشبه - على أقل تقدير - دخول نابليون لصالونات البلاط في حفل مسائي: «أيها السادة! الإمبراطور !» وكان لشاركو بالفعل - بوجهه الرائع شديد الانتظام والحزم المخلوق لنيل الميداليات والتحلي بالنياشين - هذا النوع من المهابة التي تسمى النفوذ. فكان يمد إصبعين لمدير العيادة، وإصبعا واحدة للأطباء المتدربين، ملقيا نظرات ازدراء للمساعدين، محاولا رسم ابتسامة غامضة أثناء حديثه مع زملائه الأتراك والأرمن والألمان والإنجليز واليابانيين الذين يقدمونهم إليه.»
17
Unknown page