126

Tarikh Junun

تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا

Genres

قد تتسم حبكتها ببعض الشحوب، ولكن تكمن قيمتها في الوصف الذي تقدمه لهذه الحياة داخل المصحة. في قسم التمريض المتخصص، يوضع المرضى بالطبع في زنازين، ثم يحل موعد زيارة كبير الأطباء بصحبة مساعده وكبير المراقبين واثنين من الممرضين. «يدوي صوت فتح الأقفال، ثم يسمع سؤال: «كيف الحال؟ ما الجديد؟» موجه سؤاله ليس للمريض وإنما للحارس. وبعد انقضاء الوقت المخصص لرد الحارس وتقرير الطبيب المتدرب، يسمع صوت غلق الباب والأقفال. وتستكمل الزيارة بهذا المعدل السريع.»

في الظهيرة، تبدأ «خدمة الطاولات» المخصصة للمرضى في النظام العادي، ويليهم النزلاء من أبناء «الطبقات العليا». تضم مصحة بون سوفور بكاين خمس درجات، وتختص الدرجة الخامسة بمرضى المنطقة. أما الأربع الأخر، فتقدر تكلفة الإقامة وفقا لوجود طاقم للخدمة ومكان إقامة مريح وقوائم طعام متنوعة. ويقدم الطعام لنزلاء الدرجتين الأولى والثانية في حجراتهم، بل في «أجنحتهم». ولا يتناول المرضى الوجبات جماعيا إلا ابتداء من الدرجة الثالثة. «وأيضا تتسم مائدتهم بالوفرة.» بالنسبة إلى الدرجة الرابعة، «تكون وجباتهم وفيرة أيضا ولكن دون تكلف أو مبالغة.» وسنهتم بدراسة ماذا كان يأكل أو ماذا كان من المفترض أن يأكل مرضى الدرجة الخامسة. وتحدد اللائحة الداخلية لعام 1857 بدقة شديدة قوائم الطعام والكميات (والتي تكون قليلة أيام الجمعة والسبت، ودسمة باقي الأيام). نظريا، تبدو الوجبات كافية، خاصة بالمقارنة مع ما كانت تأكله الطبقات العاملة خارج المصحة: في الظهيرة، يقدم طبقان أحدهما به لحم والآخر خضراوات أو بيض أو جبن؛ وفي المساء، حساء أو مرق لحم (يقدم ما يعادل 250 جراما من اللحم يوميا)، وأيضا طبق من الخضراوات الطازجة أو المجففة. وعلى مدار وجبتي الظهيرة والمساء، يقدم الخبز (ما يعادل 600 جرام يوميا) والنبيذ (ما يعادل 0,60 لتر يوميا، ويمكن زيادة الجرعات بنسبة 0,25 لتر للعاملين من الجنسين). وطوال مدة حكم النظام القديم، ظل الخبز واللحم سائدين في نظام التغذية. والأمر كذلك بالنسبة إلى النبيذ الذي كان يقدم بكميات قد تكون مفاجئة (في البلاد المنتجة للكروم، كان يمكن للنزلاء إحضار النبيذ الخاص بهم). ويمكن تفسير هذا التساهل الشديد - على الرغم من أن إدمان الخمور يعد أحد أهم أسباب الاحتجاز داخل مصحات الأمراض العقلية - بأنه في ذلك العصر كان هناك فرق واضح بين النبيذ «كمشروب للطاقة» أو «مشروب صحي» (وقد ينضم إليه الجعة وخمر التفاح في بعض المناطق) الذي يمنح لمرضى الأمراض العقلية المزيد من القوة؛ وبين «المشروبات الكحولية» (القوية) التي تعرف بأضرارها. لم تفند هذه المسألة الخطيرة إلا في النصف الثاني من القرن العشرين. ولكن يجب ألا ننسى أن المياه ذاتها (التي تأتي من الآبار) كانت حينها مشروبا خطيرا لكونها تنقل التيفويد والكوليرا.

يبقى الآن السؤال عما إذا كانت هذه الوجبات المحددة بالجرام كانت تقدم بالفعل للمرضى. يظهر المفتشون العموميون تشككا واضحا إزاء هذا الأمر: «كنا عادة إذا لاحظنا - خلال جولاتنا التفتيشية - عدم كفاية كمية اللحم المقدمة للمرضى، كانوا يجيبوننا بأن المرضى ربما يحصلون على أكثر مما يكفي؛ ولذلك فهم يتركون أو يلقون بعضها. ولكن في الواقع، نادرا ما يحدث هذا إذا كان اللحم من نوعية جيدة ومطهيا ومتبلا جيدا.»

13 (إنها مسألة الإسراف نفسها سواء في الشراء أو «الاستقطاعات» التي تتم داخل المطبخ.) وتنعي جولة تفتيشية أخرى أن ما يتبقى من مائدة المرضى النزلاء يقدم للمرضى الفقراء. كما أنه عادة ما يكون طول المسافة بين المطبخ وصالة الطعام سببا في تناول الطعام فاترا وليس دافئا. ولقد اشتكى بالفعل بعض المرضى من هذا الأمر في مراسلاتهم الخاضعة للرقابة بالطبع. هناك بالتأكيد بعض منها يصل، ولكن تكون نسبتها ضئيلة للغاية كما سبقت الإشارة. وفيها يروي المرضى بشكل خاص مدى تعسف احتجازهم، ولكن ما يهم في هذا الجزء هي التفاصيل التي يروونها حول حياتهم اليومية داخل المصحة. وبالتالي، يصف أحدهم - جرى احتجازه لمدة سبعة وخمسين يوما عام 1902 في مصحة شارنتون قبل اتخاذ قرار باعتباره غير مريض (هناك بالفعل حالات من هذا النوع) - «العار المعتاد» الذي يصم المؤسسة: «دائما ما نجلس في صالة الطعام الكئيبة، حيث تفوح من المطبخ رائحة كريهة تملأ الهواء الخانق. كانت رائحة سيئة وقوية تشبه الغسيل وبقايا طعام محروق. يا للقرف! كم كنت أتمنى أن أهرب منها [...] لا توجد أطباق، ويقدم الطعام في أوان بشعة على هيئة أطباق صغيرة مستديرة لها أطراف عملاقة. كنت أرى أمامي كتلة سوداء تسبح في سائل أبيض مائل للاخضرار، يشبه أنقاض «بازار الصدقة» بعد أن داهمه الحريق. وفي طبق آخر، كانت توجد مكرونة على هيئة شرائط متلاصقة، ذكرتني بمحتويات أواني الصيدلي. وكانت هناك قطعة خبز إلى جانب هذه الأشياء البشعة؛ التي لم أبدأ في تناولها إلا بعد مضي بعض الوقت. إلا أنني كنت أبذل جهدا لمضغ الخبز ولبابه الذي يشبه الصمغ وقشرته المطاطية كالجلد. واحتسيت رشفة من زجاجة نبيذ لها طعم يشبه الحبر الممزوج بالخل [...] كان اللحم قاسيا وله مذاق يصعب وصفه، فمن المستحيل التمييز بين لحم الثور والضأن والعجل. فهذه القطع من الأعصاب والعظام اللزجة تكون مغطاة بخليط أبيض أو بني غامض ذي رائحة ومظهر وطعم يثير التقزز. وحتى الخضراوات، التي عادة ما تكون فاسدة، فإنها تأتي مبللة بمياه لزجة. مرتين في الأسبوع، يكون هناك ثمرة كمثرى أو تفاح فاسدة على سبيل التحلية.»

14

من المستحيل أن يقترب هذا الوصف من القوائم الرسمية المكتوبة.

ويجب أن نأخذ في الاعتبار الجو العام لصالة الطعام ... بالطبع، يكون هناك عدد من المرضى الذين يتسببون في فوضى رهيبة ولا يأكلون حصصهم. بالإضافة إلى المرضى شديدي الهياج أو المصابين بالشلل غير القادرين على المضغ، وبالتالي يجب إرغامهم على شرب اللبن أو الحساء والمرق أو الطعام المهروس ولو حتى بصعوبة. وفي المقابل، يخشى المرضى الشرهون من أن يسرق أحد طعامهم، فنجدهم يبلعونه مرة واحدة لدرجة تجعلهم يقاربون على الاختناق؛ ولذلك، فإنه من المعتاد أن يكون للحارس عصا محنية تسهل له إخراج الطعام الذي يسد التنفس لدى أي مريض. ولكن يستدعي هذا الأمر ملاحظة سريعة؛ ولذلك يكثر وقوع بعض هذه الحوادث المميتة. بينما يرفض بعض المرضى تناول الطعام، إما لاعتقادهم أنه مسمم، وإما لاعتقاد بعضهم أنهم موتى بالفعل، وإما لإصابة بعض المصابين بالهذيان المتعلق بالحواس بانسداد الأمعاء أو إنهاك المعدة، إلى جانب بعض المرضى في حالة من الوهن تعجزهم عن الإمساك بالملعقة ورفعها إلى فمهم. ومن ثم تكون حياتهم في خطر؛ ولذلك يموت الكثير منهم بسبب نقص التغذية على الرغم من المراقبة.

إلا أن كل الوسائل تستخدم لحملهم على تناول الطعام: من توسلات وتهديدات وحتى استخدام القوة في النهاية. في منتصف القرن التاسع عشر، كانت تستخدم «الزجاجة- المكممة» لتجنب استخدام القوة لفتح الفكين بواسطة ما يشبه اللجام. و«الزجاجة-المكممة هذه عبارة عن أداة خشبية تثبت اللسان بقوة وتثبت خلف الرأس بلجام من المطاط.» يوضع المريض عقليا في مغطس مغلق، ويتم إرجاع رأسه إلى الخلف لربط «الزجاجة-المكممة»، «وإذا رفض المريض الشرب مباشرة، يمرر سلك فضي داخل الزجاجة يتيح وصول السائل إلى اللهاة، ثم يسد الأنف ليصبح المريض مجبرا على البلع رغم إرادته.»

15

وينتقد الدكتور بلانش - مدير المشفى الباريسي الشهير وطبيب الأمراض العقلية المعروف - بقسوة هذه الممارسات «الوحشية»،

Unknown page