Tarikh Falasifat Islam
تاريخ فلاسفة الإسلام: دراسة شاملة عن حياتهم وأعمالهم ونقد تحليلي عن آرائهم الفلسفية
Genres
ونظن إحجام العرب عن الشعر القصصي والتأليف التمثيلي راجع إلى جهلهم بآداب اليونان واكتفائهم بدرس فلسفة أرسطو، على أن أرسطو نفسه لم يبدأ بتدوين الفلسفة إلا بعد أن أتقن آداب قومه. وفي مؤلفاته من الأمثال والشواهد والاقتباس ما يدل على ذلك، ويجوز أن إعراض العرب عن القصص والتمثيل نشأ عن الظن بأنهما خاليان من الجد والجلال القائمين بالفلسفة، وحسبوا أن الإسلام دين جد وخشونة، فنشئوا عليهما وبعدوا عن عوامل الاستهواء والتخدير، وخطأ هذا الرأي ظاهر. (30) أسلوب ابن رشد
أسلوب ابن رشد يشوبه الجفاف، وله العذر؛ فإن الفيلسوف لا يملك أن يصوغ تعاليمه في أسلوب رقيق جميل إلا إذا توافرت له شروط كثيرة لم تتوافر لابن رشد، منها سهولة اللغة وغناها وتهذيبها بأقلام العشرات بل المئات من الشعراء والكتاب، بحيث تصبح في يد الفيلسوف أداة سهلة تمكنه من التعبير عن أدق المعاني والأفكار وأبعد العواطف غورا، ومنها أن يكون الفيلسوف نفسه كاتبا بارعا في فنون الأدب، ولا نذكر أن هذين الشرطين اجتمعا لأحد اجتماعهما لنيتشه في ألمانيا، وبرجسون في فرنسا. وكثيرون من الفلاسفة الإفرنج يشبهون ابن رشد في أسلوبه، ونخص منهم بالذكر أوجست كومت، على أن الواقع يدعو إلى التسامح؛ لأن مؤلفات ابن رشد التي تمكن القارئ من الحكم على أسلوبه لصدورها عن قلمه مباشرة نادرة جدا، وهي في العربية لا تتجاوز ثلاثة أو أربعة سيأتي الكلام عليها تفصيلا.
وذلك لأن معظم كتبه التي كانت موضع الثقة من الطلاب في أوروبا هي باللاتينية ومنقولة عن العبرية.
وسلسلة تأليفه من حيث تعدد الأساليب كثيرة الحلقات؛ فإن أرسطو كتب باليونانية ونقلت كتبه منها إلى السريانية، وترجمها العرب إلى العربية، فقرأها ابن رشد وشرحها، ونقلت شروحها، ونقلت شروحه إلى العبرية فاللاتينية.
ويستخلص من أسلوب ابن رشد في كتبه شغفه بذكر الرجال وتمحيص آرائهم، فأولهم أرسطو ثم شراح فلسفته من اليونان أمثال إسكندر فردوسي فنمستيوس فنيقولا الدمشقي، ومن العرب ابن سينا والغزالي، وقد يشتد في مجادلتهما لأغراض مختلفة، فهو يحارب الغزالي حربا خارجية لأنه يدافع فيها عن الفلسفة والفلاسفة. أما حربه مع ابن سينا فحرب داخلية أهلية سببها النزاع في تأييد المذاهب ونقضها، وجداله مع إسكندر ونمستيوس قوامه انتقاد شرحيهما وتخطئة فهمهما، وقد ظهر عليهما وبان الحق في جانبه، وإذا ذكر ابن باجه فإنما للثناء عليه وتزكيته، ويسميه والد الفلسفة بالأندلس.
وهو في معظم كتبه حاد المناقشة قاسي اللهجة شديد المراس على خصومه، وقد يسمو به القلم إلى أعلى درجات الكمال الفكري.
ويمتاز أسلوبه بوضوح شخصيته سواء أكان موجزا أم مسهبا، فإن أسهب واستطرد كان لطيف العبارة لين القول مقبول الإشارة، ولا تفوته الغاية بالتطويل ولا تغيب عن نظره نتيجة البحث، وله على نفسه سلطان يقفه في الوقت الملائم عند حده.
وقيمة كتبه في وقتنا هذا تاريخية محضة، ومن يتناول البحث في كتب ابن رشد وأفكاره فإنما يفعل ذلك بوصف كونها حلقة شريفة من سلسلة الفكر البشري لا مصدرا موثوقا به لتعاليم أرسطو ، فإن فلسفة أرسطو ظهرت باكتشاف كتبه بأصولها ونصوصها اليونانية في وسط القرن الخامس عشر، ونقلت إلى اللاتينية وسائر لغات أوروبا الحية، ولكنها لم تنقل بجملتها إلى الآن بالعربية. أما تمجيد ابن رشد لأرسطو فلا حد له فيكاد يؤلهه، وقد وضع له أوصافا تجعله فوق درجات الكمال الإنساني عقلا وفضلا، ولو كان ابن رشد يقول بتعدد الآلهة لجعل أرسطو رب الأرباب، والذي يملؤنا إعجابا وفخارا بابن رشد أنه بالرغم من تقديس أستاذه بما يفوق العبادة، فهو لا يتنحى عن الجهر برأيه وإن اختلفا. وله في ذلك طريقة ظريفة فلا يعارض المعلم الأول ولا يعترض عليه، بل يلفت نظر القارئ إلى رأي نفسه ويتخلى عن نتائج رأي أستاذه، لا سيما إذا كان يشتم من هذا الرأي مخالفة للدين والعقائد المنزلة، مثل ذلك ما جاء في الشرح الوسط للطبيعيات قال إنه يقصد إلى شرح المشائين دون ذكر رأيه بذاته، وإنه في ذلك يقتدي بالإمام الغزالي في شرح آراء الفلاسفة في كتابه «مقاصد الفلاسفة» ليتمكن من الرد عليها بحقيقتها.
كذلك عند كلامه على اتصال العقل المفارق بالإنسان فقد تنحى عن نتائج الاسترسال فيه، ولم يكن ابن رشد مبتكر هذه الطريقة، فقد سبقه إليها ابن سينا والغزالي وابن طفيل، وسبب هذا الحذر العجيب خوفهم من تهمة الإلحاد، على أن هذا التأدب الشديد في حق الدين لم يق ابن رشد شر تهمة التعطيل؛ لأن الفلاسفة إذا انقلبوا أئمة أو كرادلة فلا يجديهم ذلك نفعا في نظر أعداء الفلسفة.
شرح ابن رشد مؤلفات أرسطو بثلاث طرق: شرح صغير وشرح وسط وشرح كبير، ففي الكبير اقتباس لكل نبذة من أرسطو مع تحديدها بقوله: «قال أرسطو.» ثم يبدأ الشرح بالإسهاب والتعمق والاستطراد، وهذا الشرح الكبير أشبه شيء بتفسير القرآن من حيث التمييز المطلق بين المتن والشرح، وقد امتاز ابن رشد بهذه الطريقة على الفارابي وابن سينا، فقد كانا يمزجان نصوص أرسطو بشروحهما، أما الشرح الوسط فيقتبس الكلمات الأولى من متن أرسطو، ثم يسير على طريقة الفارابي، والشرح الصغير عبارة عن تحليل وجيز وهو من قبيل نثر المنظوم، فالمتكلم فيه ابن رشد ذاته، ويسير فيه على الطريقة التي ترضيه في الاقتباس والاستشهاد، والناظر في هذا الشرح يعتقد أنه تفسير قائم بذاته. والثابت أن ابن رشد وضع الشرح الكبير بعد الصغير والوسط، ودليلنا على ذلك أنه في آخر الشرح الكبير للطبيعيات الذي أتمه في الستين من عمره أشار إلى شرح أوجز منه، صنفه في مقتبل العمر، وكذلك في الشرح الوسط أعطى على نفسه عهدا بوضع الشرح الكبير. (31) في أسباب عدم اشتهاره عند المسلمين وسرعة انحلال الفلسفة بعده
Unknown page