Tarikh Falasifat Islam
تاريخ فلاسفة الإسلام: دراسة شاملة عن حياتهم وأعمالهم ونقد تحليلي عن آرائهم الفلسفية
Genres
وكان ابن الهيثم من مواليد نصف المائة الرابعة، فإنه ولد في سنة 354ه وتوفي في سنة 430ه.
وبعد أن خرج من منصبه في البصرة سافر إلى مصر، وهي ما زالت ملجأ كل عالم وأديب من قديم الزمان إلى وقتنا هذا، فأقام بالقاهرة في الجامع الأزهر، وكان يعيش من نسخ «إقليدس» و«المجسطي» ويبيعهما وبقي كذلك إلى آخر عمره.
ولما كان في مصر بلغ الحاكم بأمر الله وهو سلطانها إذ ذاك خبر ابن الهيثم، وكان الحاكم بأمر الله الفاطمي العلوي الذي وصفه بعض المؤرخين بالجنون وكفره البعض الآخر وحار الجميع في كيفية اختفائه قبل موته، يميل إلى الحكمة، فلما سمع بابن الهيثم وما هو عليه من الحذق والبراعة والإتقان في الفلسفة والرياضة والهندسة تاقت نفسه إلى رؤيته.
ومما زاد شوق الحاكم إلى ابن الهيثم أنه سمع نقلا عن ذلك المهندس البصري أنه قال قبل أن يقدم إلى الديار المصرية: «لو كنت بمصر لعملت في نيلها عملا يحصل به النفع في كل حالة من حالاته من زيادة ونقص، فقد بلغني أنه ينحدر من موضع عال هو في طرف الإقليم المصري.»
وهنا يعلل جمال الدين أبو الحسن بن القفطي في كتابه (تراجم الحكماء)، ويؤيده ابن أبي أصيبعة سبب تظاهر ابن الهيثم بالجنون في البصرة وسعيه في التخلي عن وظيفته في وطنه. وإن ذلك لم يكن لأجل الانقطاع للفلسفة حسب، لأن الحاكم بأمر الله لما نقلت إليه عبارة الهيثم الخاصة بمشروع هندسة الري في الأراضي المصرية، ازداد شوقا إلى رؤية «ويلكوكس» ذاك الزمان، وسير إليه سرا جملة من المال قبل أن تخلق المصارف، ورغبه في الحضور.
فسار ابن الهيثم إلى مصر بعد أن مهد لرحلته السبيل بادعاء الجنون، فلما بلغ مصر خرج الحاكم بأمر الله للقائه والتقيا بقرية على باب القاهرة اسمها الخندق وموضعها الآن الضاحية المعروفة باسم (كوبري القبة)، وأمر الحاكم بإنزاله وإكرامه واحترامه، فأقام ابن الهثيم في تلك الضيافة الملكية ريثما استراح من وعثاء السفر.
ثم طالبه الحاكم بإنجاز ما وعد به من أمر النيل.
ولم يكن ابن الهيثم يقصد سوى صنع خزان في موضع (خزان أسوان)، قبل أن يفكر فيه المهندسون المصريون والغربيون، لا سيما الإنجليز منهم، بعشرة قرون. فسافر ابن الهيثم ومعه جماعة من أهل فن العمارة ليستعين بهم على هندسته التي خطرت له.
ولما سار إلى الإقليم بطوله ورأى آثار من تقدم من ساكنيه من الأمم الخالية، وهي على غاية من إحكام الصنعة وجودة الهندسة، وما اشتملت عليه من أشكال سماوية ومثل هندسية وتصوير معجز؛ تحقق أن الذي كان يقصده ليس بممكن، فإن من تقدمه في العصور الخالية لم يعزب عن عقولهم علم ما علمه، ولو أمكن لفعلوه، فانكسرت همته ووقف خاطره ووصل إلى الموضع المعروف بالجنادل قبلي مدينة (أسوان)، وهو موضع مرتفع ينحدر منه ماء النيل، فعاينه وباشره واختبره من جانبيه، فوجد أمره لا يسير على موافقة مراده، وتحقق الخطأ والغلبة عما وعد به وعاد خجلا ومنخذلا ، واعتذر للحاكم بأمر الله فقبل الحاكم عذره وولاه ديوانا فتولاه رهبة لا رغبة.
وعندنا أن ابن الهيثم لم يشعر بالخيبة بسبب ما رآه من آثار المصريين القدماء، فإن جمال تلك الآثار وجلالها وإتقان صنعتها لا دخل له في مشروع هندسي، ولا نظن أن خبر تلك الآثار ووصفها كان يخفى على ابن الهيثم في وطنه، ولكن السبب الحقيقي الذي قعد بهمة ابن الهيثم عن الشروع في هذا العمل الجليل هو ما عاينه بنفسه من صعوبة مباشرته وكثرة نفقاته، وعدد ما ينبغي له من الأيدي العاملة والآلات المعدنية الضرورية للحفر والبناء في مجرى النهر، وما يقتضيه ذلك من تحطيم الصخر في الموضع المعروف بالجنادل.
Unknown page