Tarikh Falasifat Islam
تاريخ فلاسفة الإسلام: دراسة شاملة عن حياتهم وأعمالهم ونقد تحليلي عن آرائهم الفلسفية
Genres
والثاني:
القول بأن الاجتماع الإنساني خاضع لقوانين وقواعد تدخله في حيز العلوم المنتظمة، وسبق أوجست كومت أيضا في طريقته؛ فإنه بنى علم الحكيم الاجتماعي بالعالم على شيئين: الأول مشاهدة الأمم واختبارها، والثاني تصور القوانين السائدة على الاجتماع واكتشافها بفضل التجارب العقلية والاستنتاج الفكري، ولم يقل أوجست كومت بأكثر من هذا عندما شرح طريقتي «الستاتستيك والديناميك»، فإن الخبرة والعلم يكشفان لنا عن الحقائق، والعقل يكشف لنا عن الأسباب والعلل.
وكذلك كان ابن خلدون أول من اكتشف معنى كون التاريخ علما ما دامت غايته جمع الحقائق وتنظيمها وتنسيقها لاكتشاف أسبابها ونتائجها. وبهذا الاختبار يمكن الوصول إلى القول بأن كل حادثة معينة لدى حدوثها تقتضي فرض وجود شروط أو ظروف معينة، وبعبارة أخرى أنه كلما اجتمعت طائفة من ظروف معينة في مدنية من المدنيات حدثت حوادث معينة، وأي شيء أكثر من هذا قاله مونتسكيو أو أوجست كومت أو من جاء بعدهما من علماء الاجتماع؟ وقد وصل ابن خلدون من هذا إلى القول بأن الحاضر دليل على الماضي، والمستقبل شبيه بالحاضر. ثم إن ابن خلدون قال بأن غاية التاريخ درس العمران أو الحياة الاجتماعية.
ذكرنا أن للحياة الاجتماعية ثلاثة أشكال متتالية هي: حالة البداوة وحالة الحرب أو الفتح ثم حالة الحضارة. (الفصل الثاني وما بعده ص73 من طبع 1311 بالمطبعة الأزهرية بمصر). وقد تعقب ابن خلدون حياة الجماعة منذ البداوة إلى الحضارة التي تنشأ في حضنها وبطبيعتها أسباب الفساد والفناء، وقد رد هذه الأسباب إلى عدم المساواة من حيث الغنى والفقر، وذهاب فضيلة الشجاعة من قلوب البدو إذا تحضروا، ثم إلى انغماس تلك القبائل الحديثة العهد بالمدنية في أنواع الملاذ وصنوف الترف.
وإن من يقرأ مقدمته الجليلة لا يرتاب لحظة عين في أنه تعقب سير المدنية العربية في غرب أفريقيا وجنوب أوروبا منذ البداية إلى النهاية، ولا يوجد أدل على ذلك من كلامه في العصبية (ص79 من الطبعة المذكورة) وبحثه في أن نهاية الحسب والمجد والعظمة الإنسانية في العقب الواحد أربعة آباد؛ أي إن الجيل الرابع هو نهاية المجد واعتبار الأربعة في رأيه: بان وهو الجيل الأول، ومباشر وهو الجيل الثاني، ومقلد وهو الجيل الثالث، وهادم وهو الجيل الرابع (ص82).
ولا ننسى أن ابن خلدون سبق كل علماء الاجتماع في أوروبا في القرون الوسطى والحديثة ببحثه في أثر الهواء في أخلاق البشر واختلاف أحوالهم في الخصب والجوع (ص52 وما بعدها). وهو كذلك أول من بحث في قسط العمران من الأرض، وتكلم على أثر الأقاليم في الأخلاق والتمدين، وهذه مسائل قد حام حولها بعض فلاسفة اليونان، ولكن ابن خلدون أول من وفاها حقها من البحث والاستقصاء على قدر ما وصل إليه علمه الجغرافي في ذلك الزمان، وأهمية هذه الأبحاث غنية عن البيان لأنها تدلنا على رغبة هذا الحكيم العربي في رد ظواهر الحياة الاجتماعية إلى العوامل الطبيعية المعلومة لنا والواقعة بالفعل تحت مشاهدتنا.
وما أشدنا ألمنا عند قول ابن خلدون إنه لم يف كل بحث حقه، ولم يستوعب كل ما ينبغي استيعابه وتدوينه، إنما ألم بأطراف المسائل وأحاط ببعضها عجزا منه عن الإحاطة بكلها، وإنه يترك ما بقي لمن يجيء بعده من العلماء الأعلام! يشتد ألمنا لأن هذا النداء لم يجبه أحد في العالم العربي ولا في العالم الإسلامي منذ وفاة ابن خلدون في أواسط القرن الخامس عشر للآن، ولكن يسرنا أن أجابه الكثيرون من علماء أوروبا، ويسرنا أن كثيرين منهم لم ينسوا فضل هذا الحكيم العربي الشرقي. ونحن لا نرتاب في أن أوجست كومت وقف على مؤلف هذا الحكيم، وإن كان لم يذكره بكلمة واحدة في كتابه واكتفى بذكر كوندروسيه ومونتسكيو، ولا يمكن أن يجهل أوجست كومت فضل ابن خلدون، وقد كتب عنه شولز مقالة في المجلة الآسيوية في عام 1825، أي قبل ظهور فلسفة أوجست كومت بسبع سنين، وكان كومت إذ ذاك في السابعة والعشرين من عمره. والمجلة المذكورة تنشر في باريس وطنه. (3) معارضة (مقارنة) بين ابن خلدون وتلميذه نيقولا مكيافيلي
نيقولا مكيافيلي فيلسوف اجتماعي سياسي من أهل فلورنسا، ولد سنة 1469م، وتوفي سنة 1527م. تقلب في عدة مناصب سياسية في جمهورية فلورنسا في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر. فتولى سكرتيرية ديوان القضاة العشرة فيها أربعة عشر عاما وبعض العام، قام في أثنائها بثلاث وعشرين مهمة سياسية في الأقطار الخارجية، وإيطاليا يومئذ في أحرج المواقف تتنازع السيادة عليها ألمانيا وفرنسا والبابا، يعتركون في مدنها وإماراتها، ويتخطفونها تخطف اللصوص بالدهاء أو السيف. غير ما انتشب من الخصام بين حكومة البابا والناهضين للإصلاح ومقاومة تعاليم الكنيسة، وكانت أسرة مديتشي تحارب حزب الشعب تحت طي الخفاء .
عاصر مكيافيلي هذه الحوادث فاكتسب الحنكة، واعتبر بما رآه وعلمه بالاختبار فوضع علما أو فلسفة في السياسة العملية عرفت باسمه، وألف في التاريخ والسياسة والتمثيل والأدب ونظم الشعر، وكتب في فنون الحرب، وأشهر مؤلفاته كتاب (الأمير) ألفه للأمير «لورنزودي مديتشي» الكبير.
واختلف العلماء في قيمة ما حواه كتاب الأمير من الحقائق العمرانية والسياسية، وهم بين قائل بأن قواعده السياسية ضارة لأنها مبنية على الاستبداد والغدر والخيانة وغيرها من الوسائل الدنيئة، وبين من يزعم أنها قواعد صحيحة لا بد منها لقيام الدولة.
Unknown page