Tarikh Falasifat Islam
تاريخ فلاسفة الإسلام: دراسة شاملة عن حياتهم وأعمالهم ونقد تحليلي عن آرائهم الفلسفية
Genres
وبعد هذه المقدمة التي لم يكن عنها بد، سنترك المجال لابن رشد، وهو خصم الغزالي ونده ومصارعه وصارعه في ميدان الفكر الفلسفي. •••
لابن رشد في كتبه التي وقعت لنا ترتيب وتقسيم وتبويب وطرق تنطبق على أصول العلم الحديث في التأليف.
أما كتاب التهافت الذي نحن بصدده، فقد اتبع فيه طريقة الغزالي في «تهافت الفلاسفة»، فصار يقتبس المتن جملة جملة ويردفها بالرد عليها، وأخذ في ذلك إلى قدر كبير، ثم أدرك أن هذه الطريقة تقتضي تدوين كتابين في كتاب، وفي ذلك من الملل والتطويل ما فيه، فصار يكتفي باقتباس أوائل جمل الغزالي ويختمها بقوله «إلى قوله كذا أو إلى آخر ما قال أبو حامد»، وهذه الطريقة تقتضي وجود الكتابين أمام القارئ ليقرأ كلام الغزالي ورد ابن رشد عليه.
ولكن دون هذه الغاية مصاعب شتى، منها أن ابن رشد لا يشير إلى الصفحات أو النبذ لأنها لم تكن في زمنه معينة بأعداد، ولم تكن النسخ متحدة في الكتابة والشكل حتى ينطبق ما في نسخته على ما في عداها مما يوجد بين أيدي الجمهور، ومنها أن الشخص الشرقي الذي طبع هذين الكتابين جمعهما في مجلد واحد، ولا بد من فصلهما قبل البدء في التمتع بقراءتهما، هذا فضلا عن أن الطمع وعدم الذوق أديا بالناشر إلى «تزيين» هوامش الكتابين بكتاب ثالث تأليف من يدعى «خوجه زاده أو أحد علماء الروم»، وهو لا شك من علماء زمن الانحطاط في الشرق الإسلامي وليس لكتابه قصد أو قيمة.
ولا عجب، فإن هذا العالم الرومي تصدى للتحكيم بين الغزالي وابن رشد فيما اختلفا فيه، وهذه العبارة وحدها كافية للدلالة على قلة فهمه؛ لأن التحكيم والتوفيق بينهما مستحيلان؛ إذ كل منهما في اتجاه من الفكر، والعقيدة، والرأي، والطريقة، يناقض ويخالف اتجاه الآخر.
وبهذا وبذاك أصبح كتاب التهافت، في حاله الحاضرة، عبارة عن مجموعة ملازم مطبوعة على ورق نباتي بحروف سقيمة في صحف متلاصقة مزدحمة، تصد بمنظرها وقطعها أشجع القراء وأشدهم تعلقا بالحكمة. ولا شك في أن المقارنة بين كتب الفلسفة العربية، وبين ما يماثلها من الكتب الإفرنجية كافية للدلالة على مكانة الحكمة من عقولنا وقلوبنا، بل كافية للدلالة على مركزنا العقلي في العالم. •••
على أن لكتاب تهافت التهافت، قيمة خاصة لأنه عبارة عن دفاع فيلسوف عن الفلسفة، وفي نظرنا أنه أعظم دفاع لأعظم فيلسوف عربي مسلم، ضد أعظم مفكر شرعي مسلم.
يظهر ابن رشد في هذا الكتاب بمظهر الواقف على الفلسفة في جميع أدوارها، العالم بما جاء في كتب القدماء والمحدثين من اليونان والعرب، كذلك يظهر بمظهر المدافع الرزين الثابت الجأش، الذي لا يخرجه افتراء الخصم عن حلمه، ولا يحرجه سوء النية فيقول ما لا يليق بالعاقل، ولا تستهويه رغبة الانتصار على خصمه إلى الاستهانة بقدره، ولا يدفعه حب الانتصار لأسلافه من الفلاسفة إلى مظاهرتهم بغير حق.
ويظهر لنا أنه لا يحترم أحدا بعد اليونان، ولا يحترم في اليونان أحدا قبل أرسطو أو بعده. وهو لا يغمط حق ابن سينا والفارابي، ولكنه يتناول مبادئهما بالنقد الصحيح. كذلك لا يندفع في الطعن على الغزالي، بل كثيرا ما يذكره بالعلم والفطنة.
ويقول في مواضع كثيرة «قال أبو حامد رضي الله عنه أو رحمه الله»، ولكنه لا يقبل عثرته في أماكن معينة، فيحمل على طريقته فيقول مثلا عنه: «وهذه المعاندة كما قلنا خبيثة، وهي من مواضع الإبدال المغلظة إن كنت تعلم (للقارئ) كتاب السفسطة.»
Unknown page