Tarikh Falasifat Islam
تاريخ فلاسفة الإسلام: دراسة شاملة عن حياتهم وأعمالهم ونقد تحليلي عن آرائهم الفلسفية
Genres
ويظهر مما تقدم أن إسكندر استقل دون من عداه من الشراح برأي يخالفهم، ولكن رأي أرسطو جامع بين الاثنين، وغني عن البيان أن ابن رشد يشارك حكماء العرب في شرح هذه المسألة العويصة، ولكنه امتاز بمبحث عظيم الشأن، وهو ما إذا كان العقل الإنساني أو الهيولي أو المتأثر يستطيع الاندماج في الحياة الدنيوية بالعقل الفعال العام.
فقسم ابن رشد قوى النفس وبين علاقتها ببعضها، ثم أوجب الارتباط بين العقل المنفصل الفعال وبين العقل الهيولي كارتباط المادة بالصور، وقال إن العقل بالملكة يدرك العقل الفعال العام، وإن العكس مستحيل؛ لأن العقل الفعال العام لو أدرك العقل بالملكة أي العقل الإنساني لطرأ عليه حادث، وحيث إن العقل الفعال العام مادة أبدية وليست عرضة للطوارئ، فالعقل الإنساني هو الذي يدرك العقل العام؛ أي إنه يرفع ذاته إلى العقل العام ويتحد به مع كونه قابلا للفناء ومع بقائه كذلك، فيتولد منه استعداد جديد يمكنه من إدراك العقل العام، ومثل العقل العام كالنار والعقل الإنساني هشيم يشتعل ويتحول لهبا بقربه من النار، وهذا هو الاتصال المباشر.
وقد يكون الاتصال بالعقل المستفاد أو المنبثق، وتكلم في إمكان الاتصال بالعقل العام وهو أقصى درجات الكمال، فقال إنه يختلف باختلاف الأفراد، ومرجعه ثلاث قوى: الأولى قوة العقل الهيولي الأصيل وأساسها قوة الخيال، الثانية كمال العقل بالملكة، ويقتضي بذل جهود في التفكير، الثالثة الإلهام وهو معونة ربانية تصدر من فضل الله، جعلها ابن باجه شرطا أساسيا للاتصال، فإذا ما توافرت للفرد تلك المواهب الثلاث وهيأته العناية للوصول، خفيت ذاتية المتصل والعقل الفعال ذاته ينمحي لدى اتصاله بالله الموجود الحق الفرد الذي له الوحدانية المطلقة، وكذلك تنمحي سائر صفات النفس كما تلتهم النار مستصغر اللهب.
ومجمل القول إن الكمال الأعلى يبلغ بالدرس والتفكير والترفع عن الدنايا والشهوات بعد تكميل العقل المفكر، ولا يكفي ما زعمه الصوفيون للاتصال من التأمل العقيم بدون درس، وهذه السعادة العليا لا ينالها الإنسان في هذه الحياة إلا بالدرس والاجتهاد والمثابرة، ومن لا ينالها في هذه الحياة يهلك بالموت ويلحقه العذاب الأليم، ولما كان ابن رشد لم يقل بأن العقل الهيولي مادة فردة، إنما جعله استعدادا بسيطا يوجد ويعدم مع الإنسان الذي يولد ويموت، فلا يرى شيئا خالدا سوى العقل الفعال العام، والإنسان لا يكسب بالاتصال شيئا ينقله من الوجود الدنيوي، أما خلود النفس فخرافة.
والمعلومات العامة التي تصدر عن العقل الفعال العام لا تفنى بأجمعها، وإن كانت العقول التي تتلقاها تفنى. وقد سبق ابن رشد في نظرية العقل المؤثر والعقل المتأثر فيلسوفا جاء بعده بعدة قرون وهو ليبنتز؛ فقد قال ابن رشد بوحدة العقول البشرية، ويمكن للباحث المقارنة بين قول ابن رشد وبين نظرية ليبنتز المعروفة باسم
Monopsychisme
ولابن رشد في هذا فضل على أرسطو لا ينكر، فإن أرسطو قد وصل إليه بأبحاثه ولكنه لم يقل به صراحة.
ومن يقرأ الكتاب الثالث في «الروح» لا يسعه إلا استنتاج مذهب وحدة النفوس نتيجة مباشرة لمذهب أرسطو، ولكن أرسطو لم يقل بها، وأما ابن رشد فقال بها. وما أشبه قول مالبرانش بقول أرسطو في العقل الغير المعين الذي يرشد الخلق جميعا، وبدونه لا يدرك شيء. وقد اتفق مع ابن رشد في الوصول إلى هذه النظرية واستنتاجها من كتب أرسطو جميع الشراح الإغريق الذين تصدوا لشرح أرسطو، أمثال إسكندر فردوسي وتمستيوس دي فليبون وسائر فلاسفة الإسلام، ولما كان لهذه النظرية شأن عظيم فلا بأس من الإلمام بها بإيجاز.
يظهر أن السبب الذي منع أرسطو عن التصريح بها مخالفتها لروح فلسفة المشائين بل غرابتها بتاتا، وهو نفسه في الكتاب الثامن من الطبيعيات يقول بأنها من آراء أناكساغور، ويمكن تلخيص نظرية أرسطو بأن العقل يحتاج في فعله إلى أمرين: الأول أثر خارجي يتلقاه الكائن المفكر بطريق الحس، الثاني رد فعل يصدر عن الداخل بمناسبة حدوث الأثر: فالحس يقدم للفكر مادة التفكير والعقل الصرف يقدم شكل التفكير؛ أي إن الحس والعقل يتضافران في إحداث المعقول، الأول يعطي الموضوع والثاني يعطي الشكل، وهذه النظرية لا تختلف في شيء جوهري عن النظريات الحديثة في المعرفة التي وصل إليها الفلاسفة في القرن التاسع عشر قبل ظهور برجسون في فرنسا.
جاء شراح أرسطو وبسطوا نظرية العقل حسبما تقتضيه آراء المشائين، فأبرزوا لنا خمسة مباحث:
Unknown page