Taqaddumiyya Muqaddima Qasira
الحركة التقدمية في أمريكا: مقدمة قصيرة جدا
Genres
بعبارة أخرى، ينبغي أن يكرس المسيحيون جهودهم لتأسيس مملكة الرب على الأرض، وسيكون من الخطأ «تأجيل الانبعاث الاجتماعي إلى عصر مستقبلي يتدشن بعودة المسيح.» لا تنتظروا حلول الألفية القادمة، افعلوا شيئا الآن.
انتشرت حركة الإنجيل الاجتماعي على نهج راوشنبوش وغيره من القساوسة اللاهوتيين الفصيحي اللسان بين الطوائف البروتستانتية الرئيسية على نطاق واسع. وعندما تأسس المجلس الفيدرالي للكنائس (تغير اسمه إلى المجلس الوطني للكنائس فيما بعد) عام 1910، غلبت عليه روح حركة الإنجيل الاجتماعي؛ ومن ثم الروح التقدمية. كانت حركة الإنجيل الاجتماعي شهيرة للغاية حتى إنها أضفت على الحركة التقدمية نفسها صبغة بروتستانتية، وبذلت جهودا كبيرة في سبيل الترويج للإصلاح بين البروتستانت، وخاصة أولئك المنتمين إلى الطبقة الوسطى العليا. كان اليهود والكاثوليك في الولايات المتحدة على الأرجح إما مهاجرين وإما من المنتمين إلى الطبقة العاملة، لكن بعضهم ضارع دعاة حركة الإنجيل الاجتماعي. من بين هؤلاء الحاخام إيميل جي هيرش من شيكاجو، المنتمي إلى الحركة الإصلاحية اليهودية، والذي دعا للحاجة إلى التغيير الاجتماعي وحث جوليوس روزنفالد - مالك شركة سيرز آند روباك الذي كان يحضر مواعظ هيرش بمعبد سيناء - على أن يصير من رواد مجال العمل الخيري. وأيضا جون إيه راين، وهو قس نشأ في مزرعة بمينيسوتا لأبوين من المهاجرين الأيرلنديين، كان من رواد الإصلاح الاجتماعي الكاثوليكي من خلال كتبه «أجر الكفاف» (1906)، و«العدالة التوزيعية: الصواب والخطأ في توزيع الثروة بعصرنا» (1916)، و«برنامج الأساقفة لإعادة البناء الاجتماعي» (1919)، الذي يعد وثيقة العدالة الاجتماعية الرسمية للكنيسة الكاثوليكية الأمريكية. عكست حياة راين مسيرته الإصلاحية المستمرة؛ ففي شبابه كان شعبويا، وفي منتصف حياته صار تقدميا، وفي أواخر سنوات عمره أصبح مؤيدا صريحا لبرنامج «الصفقة الجديدة» لفرانكلين روزفلت.
من ناحية أخرى، لم يكن جميع البروتستانت مؤيدين لحركة الإنجيل الاجتماعي. في عام 1910، وهو العام نفسه الذي شهد تأسيس المجلس الفيدرالي للكنائس، ظهر البيان الرسمي للبروتستانت المحافظين الذي عرف باسم «الأصول». تألف البيان من عدة أجزاء تؤكد الولادة العذرية للمسيح، والقيامة الجسدية للمسيح، وبصفة عامة أكثر، فكرة أن الإثم فردي وليس اجتماعيا. وإذا كان أتباع حركة الإنجيل الاجتماعي أقلية بين الطوائف البروتستانتية، فقد كان الأصوليون أقلية أصغر في البداية، ولكن في العقود التالية استطاعت الحركة الأصولية، وليس حركة الإنجيل الاجتماعي، اكتساب دعم ونفوذ سياسي أكبر. وفي أوائل القرن العشرين، تذبذب التوازن بين الإثم كمسئولية فردية والإثم كمسئولية اجتماعية على نحو غريب؛ بحيث إن كلا الدربين اللاهوتيين أسهما في دعم التشريعات المنظمة لسلوكيات الناس، التي من أبرزها حظر الكحوليات والمخدرات. شكلت حركة الإنجيل الاجتماعي زخما كبيرا أسهم في تطور الحركة التقدمية، لكنها كانت تعكس أيضا، بنحو مختلف، المسيحية الفردية والتقليدية.
ضاهت حركة مراكز التكافل الاجتماعي حركة الإنجيل الاجتماعي لكن على مستوى علماني بصورة أساسية. كانت تقام تلك المنشآت في الأحياء الحضرية الأكثر فقرا، وهي في الغالب وبنحو رئيسي الأحياء الخاصة بالمهاجرين، وكان من أوليات تلك المنشآت وأذيعها صيتا هال-هاوس في منطقة الجانب الغربي بشيكاجو، وأسستها جين آدمز وإيلين جيتس ستار عام 1889. وكان مركزا التكافل الاجتماعي هنري ستريت - الموجود بالجانب الشرقي الأدنى بنيويورك، والذي أسسته ليليان فالد عام 1893 - وبراونسن هاوس، الذي أسسته ماري جوليا ووركمان بلوس أنجلوس (1901)، من النماذج الهامة الأخرى. لم يسهم مركز التكافل الاجتماعي التابع لجامعة شيكاجو الذي أسسته ماري ماكدويل في منطقة حظائر الماشية في تحسين الأوضاع المعيشية للأيرلنديين والبولنديين والليتوانيين وغيرهم من المهاجرين هناك فحسب، لكنه ساعدهم أيضا في إنشاء نقابات محلية. درس مركز هال-هاوس وغيره من مراكز التكافل الاجتماعي للمهاجرين مجموعة واسعة من المواد بدءا من اللغة الإنجليزية إلى تجليد الكتب، ووفرت خدمة رعاية الأطفال للأمهات العاملات وأماكن لانعقاد اجتماعات النقابات ومنظمات الأحياء، ونشرت تقارير عن أوضاع السكن والعمالة، وناضلت من أجل إصدار قوانين تقدمية على مستوى المدن والولايات والمستوى الفيدرالي في النهاية. تأسست تلك المراكز في الغالب الأعم وأديرت من قبل نساء، بعضهن استطاع تحطيم الحواجز التعليمية. على الجانب الآخر، اضطلع الرجال - في الغالب رجال أعمال ومهنيون يتمتعون بوعي اجتماعي - بأدوار نشطة أيضا. أيد الكثير منهم بحماسة منح النساء حق الانتخاب والقوانين الهادفة إلى إنهاء استغلال النساء والأطفال في العمل بالمصانع.
اكتسب أتباع حركتي الإنجيل الاجتماعي ومراكز التكافل الاجتماعي قوة متزايدة شيئا فشيئا خلال تسعينيات القرن التاسع عشر وإبان عهد روزفلت، على الرغم من أن روزفلت لم يسهم بالكثير في دعم الحركتين. كذلك لم ترق له الصحافة الاستقصائية كثيرا، والتي ظهرت بداية من عام 1902. كما أتاحت تقنيات مثل ماكينات الطباعة التنضيدية (1884) وماكينات الطباعة الدوارة العالية السرعة إصدار صحف زهيدة الثمن وواسعة التداول ومجلات أيضا. دعمت المجلات الدورية ونشرت استقصاءات مثل استقصاء إيدا تاربيل عن مكائد شركة ستاندرد أويل (مجلة «ماكلورز»، 1902)، واستقصاء لينكولن ستيفنز عن التواطؤ بين الشركات وحكومات المدن في قضايا فساد بعنوان «عار المدن» (مجلة «ماكلورز»، 1903-1904) وأيضا استقصاء دافيد جراهام فيليبس الذي فضح فيه السيناتور نيلسون ألدريتش بعنوان «خيانة مجلس الشيوخ» (مجلة «كوزموبوليتان»، 1906). وقد كانت الكتب أيضا وسيلة مهمة للتوجه الإصلاحي القائم على كشف الفضائح. ظهر في البداية كتاب لويد «الثروة مقابل الكومنولث» الذي أدان فيه الممارسات الاحتكارية لشركة ستاندرد أويل (1894)، ثم الروايتان اللتان انتشرتا على نطاق واسع: «الغابة» (1906) لأبتون سينكلير، التي تناولت الأوضاع القذرة والخطيرة في حظائر الماشية بشيكاجو، و«الأخطبوط» (1901) لفرانك نوريس التي تحدث فيها عن فساد ممارسة السلطة من جانب شركة ساذرن باسيفيك ريلرود. تملك روزفلت الغضب في وقت من الأوقات حيال موجات القلق التي يتسبب فيها هؤلاء الصحفيون، فأطلق عليهم «المنظفين»، على غرار الرجل الذي ورد ذكره في كتاب جون بنيان «رحلة الحاج» وكان دائما ينظف الروث. ارتبط ذلك اللقب بهم، حتى مع ترحيب روزفلت وقطاع كبير من الناس بكثير من الوقائع الخطيرة التي كشفوا فيها الحقائق بموضوعية وشجاعة.
أسهمت جميع هذه التحركات من جانب الكنائس ومراكز التكافل الاجتماعي والصحافة والعمل الاجتماعي في نمو الروح الساعية للإصلاح وزيادة الضغط من أجل إحداثه، وقلما اتسمت بالتطرف. لم يرض المحافظون عن تلك التحركات، لكنها حفزت الطبقات الوسطى في الحضر والريف على حد سواء، فقد أثبتت أن التغيير يمكن أن يأتي دون إسقاط النظام السياسي والاقتصادي، عن طريق الإصلاح وليس الثورة، فيمكن كبح جماح الشركات، ومعالجة الفقر وعدم العدالة في توزيع الثروة دون السقوط في هاوية الاشتراكية.
شرعت حكومات الولايات والحكومات المحلية في اتخاذ إجراءات إصلاحية في تسعينيات القرن التاسع عشر ووسعت من جهودها بعد عام 1900. وكثيرا ما أطلق المؤرخون عليها مختبرات الإصلاح؛ وذلك لأنه كلما حققت الجهود المحلية وفي نطاق الولايات نجاحا أكبر، أصبحت نماذج تتأسى بها القوانين على المستوى الفيدرالي في العقد الأول من القرن العشرين. سنعرض لبضعة أمثلة، من بين أمثلة عديدة من مختلف أنحاء البلاد، لتوضيح هذا الأمر.
كانت ولاية ويسكونسن من أوليات الولايات الرائدة في الإصلاح، خاصة عندما كان روبرت إم لافوليت حاكما لها. أطلق على برامجه إجمالا «سياسة ويسكونسن»، وقد قام جزء كبير منها على الاستقصاءات الاقتصادية والاجتماعية التي أجراها ريتشارد إيلي، وتلميذه وخليفته جون آر كومنز، وغيرهما بجامعة الولاية بماديسون. انتخب لافوليت ممثلا عن الحزب الجمهوري لمجلس النواب الأمريكي ثلاث مرات (1885-1891)، وثلاث مرات حاكما لولاية ويسكونسن (1901-1906)، وأربع مرات عضوا بمجلس الشيوخ (1906-1925). حظي لافوليت بمؤازرة زوجته بيل الدائمة ونصحها الحكيم، وقد كانت أول امرأة تحصل على شهادة في القانون من جامعة ويسكونسن وكانت صحفية ومصلحة عن جدارة. استطاع لافوليت وزوجته معا وضع وتأييد وتطبيق قوانين وسياسات بهدف تحسين أحوال العمال والمزارعين، والأمريكيين السود والمهاجرين، كما دعما حصول المرأة على حق الانتخاب، وبصفتهما داعيين للسلام، عارضا دخول أمريكا الحرب العالمية الأولى. بدأ لافوليت الذي عرف عنه فصاحة اللسان والشراسة ولقب ب «بوب المناضل» مسيرته السياسية كعضو تقليدي بالحزب الجمهوري، لكنه انفصل عن الحرس القديم بالحزب في تسعينيات القرن التاسع عشر، وأضحى مصلحا حقيقيا عندما تولى منصب الحاكم بولاية ويسكونسن. وبعد عقود كرمه مجلس الشيوخ الأمريكي معتبرا إياه واحدا من بين أبرز خمسة أعضاء في تاريخ المجلس.
شن لافوليت في تسعينيات القرن التاسع عشر حملة ضد نفوذ الشركات داخل حزبه، ومن أجل سن قوانين تنظيمية أقوى على شركات السكك الحديدية، ومن أجل تمتع «الشعب» بسيطرة أكبر على الحكومة. تضمنت «سياسة ويسكونسن»، التي كانت السمة المميزة لسنوات تولي لافوليت منصب الحاكم، قائمة طويلة من الإصلاحات: لجانا خاصة بتنظيم السكك الحديدية، والخدمة المدنية، والنظام الضريبي، وإدارة الغابات، ووسائل النقل، واستخدام الانتخابات الأولية المباشرة بدلا من المؤتمرات الحزبية لاختيار المرشحين للمناصب العامة ، ومدارس حكومية أكثر مركزية في المناطق الريفية، وإنهاء تبرعات الشركات في الحملات السياسية. لم تتحول بالطبع كل هذه الإصلاحات إلى قوانين، لكن سواء تحولت لقوانين أم لا؛ فقد أضحت نداءات معتادة بالمظاهرات، واكتسبت دعما كبيرا من خطابات لافوليت العامة وتأييده لها. ناصر لافوليت حق النساء في الانتخاب والانتخابات المباشرة لأعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي بالتصويت الشعبي بدلا من الهيئات التشريعية للولايات (من المفارقة مع ذلك أنه كان آخر من انتخب على هذا النحو في ولاية ويسكونسن عام 1905)، وهما الإجراءان اللذان أدخلا فيما بعد كتعديلات تقدمية بالدستور الأمريكي، وبعد أن وصل إلى واشنطن كعضو بمجلس الشيوخ، مرر أتباعه أول قانون لتعويضات العمال في ولاية أمريكية. وأضحت سياسة ويسكونسن نموذجا يقتدي به الإصلاحيون في الولايات الأخرى؛ في إجراءاته الخاصة واعتماده على الخبراء الأكاديميين والباحثين عن الحقائق لبناء المقترحات على أساس واقعي راسخ.
شكل 3-4: السيناتور روبرت إم لافوليت (واقفا)، برفقة زوجته، بيل كيس لافوليت، وأطفالهما: بوب الابن، وفيل، وماري؛ ودكتور فيليب فوكس لافوليت، بمزرعة مابل بلف بالقرب من مدينة ماديسون، بولاية ويسكونسن، عام 1909.
Unknown page