مقدمة
1 - حول مفهوم البرودة
2 - اللمسيات (حاسة اللمس)
3 - الأثر النفسي والصحي للحرارة والبرودة على الإنسان
4 - تطور صناعة التبريد وطرائقها
5 - التهوية والتكييف بوساطة الملاقف
6 - التهوية بوساطة المراوح
7 - طرائق ومواد العزل الحراري للأبنية
الملاحق
المراجع والمصادر
Unknown page
مقدمة
1 - حول مفهوم البرودة
2 - اللمسيات (حاسة اللمس)
3 - الأثر النفسي والصحي للحرارة والبرودة على الإنسان
4 - تطور صناعة التبريد وطرائقها
5 - التهوية والتكييف بوساطة الملاقف
6 - التهوية بوساطة المراوح
7 - طرائق ومواد العزل الحراري للأبنية
الملاحق
المراجع والمصادر
Unknown page
التبريد في التراث العلمي العربي
التبريد في التراث العلمي العربي
تأليف
سائر بصمه جي
مراحل تطور مفاهيم البرودة وتطبيقاتها وإسهامات العلماء العرب والمسلمين فيها مع تحقيق بعض المخطوطات العلمية المتعلقة بالموضوع
مقدمة
يعد تاريخ العلم تاريخ أعمال الإنسان الحضارية، وهو في الوقت نفسه تاريخ العمل على ديمقراطية المعرفة الإيجابية،
1
وقد تلمس الباحث توماس كوهن
Th. Kuhn
Unknown page
دور تاريخ العلم فقال: «إذا كان العلم هو مجموع الوقائع - النظريات والمناهج المجتمعة في المؤلفات الشائعة - فالعلماء هم الرجال الذين جهدوا بنجاح، أو بدون نجاح، لإضافة هذا العنصر أو ذاك إلى هذا المجموع الخاص. والتطور العلمي يصبح السياق المجزأ الذي أضيفت بواسطته هذه العناصر، منفصلة أو ممتزجة، إلى الأساس المشترك الذي يشكل في نمو مستمر التقنية والمعرفة العلميتين. وتاريخ العلم يصبح قواعد الضبط التي ترسم من جديد وبوقت واحد هذه الإسهامات المتعاقبة والعوائق التي أخرت تراكمها.»
2
لذلك استطاع أن يحدد لمؤرخ العلم مهمتين:
3
الأولى تحديد الشخص الذي توصل للنظرية أو القانون، واللحظة التي اكتشف فيها (أي تحديد الزمان والإنسان)، والثانية هي وصف وتفسير كتل الأخطاء والأساطير والخرافات التي كبحت تراكم العناصر المكونة للمذهب العلمي العصري (أي تحديد المعيقات التي منعته من الوصول لما وصلنا إليه).
وهذا ما دأبنا عليه في كتابتنا لتاريخ الفيزياء في الحضارة العربية والإسلامية؛ فنحن نبذل كل جهدنا لتحديد العلماء العرب والمسلمين الذين أسهموا في كل علم من العلوم الفيزيائية، ثم نحاول أن نبحث في المعيقات التي منعت استمرار تطور الفيزياء في البلاد العربية والإسلامية.
ويأتي كتابنا هذا (التبريد في التراث العلمي العربي) مكملا للمشروع الذي بدأناه منذ عام 2005م، وهو أن نوثق ونحلل ونقارن كل الإسهامات العلمية العربية والإسلامية في مجال الفيزياء.
وكما هي الحال في نشأة العلوم، فإن علم البرودة لم ينشأ وترس قواعده بسرعة، بل استغرق الأمر آلاف السنين حتى وصل إلى الحال التي نعرفها عليه اليوم، بل ونتج عنه فروع معرفية أخرى تغوص في أعماق درجات الحرارة المنخفضة، وهو ما نجده في علم التقريس
Cryogenics
الذي يدرس «درجات الحرارة الشديدة الانخفاض، ويشمل تطوير أساليب التوصل إلى تلك الدرجات، والحفاظ عليها، واستخدامها في الأبحاث العلمية والصناعية»،
Unknown page
4
والذي يرتكز عليه علم فيزياء الناقلية الفائق وتطبيقاته في مجالات الطاقة.
والأسئلة التي نطرحها في كل مرة: هل كان للعلماء العرب والمسلمين أي إسهام في هذا العلم؟ وإلى أي مدى خرجوا عن التقليد اليوناني في هذا المجال؟ وما تأثير أفكارهم الجديدة على الفكر العلمي الأوروبي لاحقا؟
أما بشأن الإجابات عن تلك الأسئلة فإن القارئ سيجدها في كل فصل من فصول تاريخ علم البرودة؛ فقد كان للعلماء العرب والمسلمين إسهامات فيه، وسيجد أن تلك الإسهامات كانت غائبة لزمن طويل، وأنه سيكون من الإجحاف أن نقفز في تاريخ علم البرودة وغيره من العلوم من التاريخ اليوناني إلى النهضة الأوروبية، دون المرور على ما قدمه العلماء العرب في هذا المجال.
يغطي العمل توثيقا لما قدمته البشرية في مجال البرودة والتبريد منذ أقدم العصور حتى نهاية القرن التاسع عشر.
إنني أرجو أن أكون قد وفقت في تحقيق أهدافنا من هذا العمل؛ بأن نسلط الضوء على كل ما وصلنا إليه من إسهامات علمية عربية وإسلامية في علم البرودة وتطبيقاته.
والله ولي التوفيق.
د. سائر بصمه جي
حلب، 2020
الفصل الأول
Unknown page
حول مفهوم البرودة
مقدمة
لطالما تلازمت ظاهرة البرودة مع الحرارة، وما إن بدأ العلم يفرق بين كمية الحرارة ودرجة الحرارة في القرن الثامن عشر بشكل واضح، حتى بدأ مصطلح «البرودة» يختفي من لغة الفلاسفة الطبيعيين في القرن التاسع عشر.
1
لقد بددت النار الظلمة وقضت على البرد؛ مع إزالة العتمة أصبح الإنسان سيد نصف اليوم، ومع القضاء على البرد قهرت جميع البيئات الجغرافية ذات المناخ القاسي.
2
البرودة هي وجود درجة حرارة منخفضة، وخصوصا في الغلاف الجوي؛ حيث إننا نشعر كأننا نرتجف في كل أوصالنا. ولا شك أن ظاهرة البرودة شعر بها الناس منذ أن ظهروا على وجه البسيطة؛ فالبشر، بخلاف الكثير من الكائنات الحية، لا يدثر جلودها فراء يحميها من الحر والقر؛ لذلك كان لا بد من اللباس، وعندما كان لا يكفي اللباس كان لا بد من المسكن، وعندما كان لا يكفي المسكن فكان لا بد من النار للتدفئة بها.
ولعل أحدث اختراق توصل إليه العلماء في مفهوم التجمد هو تمكنهم من تجميد الماء عند درجة الغليان؛ فقد اكتشف باحثون من معهد ماساتشوستس للتقنية الأميركي في عام 2016م أن الماء المحصور داخل أنابيب كربون نانوية بإمكانه فعليا التجمد عند درجة حرارة عالية تتسبب في الوضع الطبيعي بوصوله إلى حالة الغليان. تشبه أنابيب الكربون النانوية في بنيتها الأنابيب المعتادة، لكن قطرها يقاس بالنانومتر الذي يعادل جزءا من مليون جزء من الميليمتر، أو أصغر بنحو مائة ألف مرة من قطر شعرة الإنسان. إن أنابيب الكربون النانوية التي استخدمت خلال تجارب معهد ماساتشوستس قطرها أكبر قليلا فقط من عرض عدد قليل من جزيئات الماء. ولأن الماء المحصور ضمن أنابيب الكربون النانوية يمكنه الوصول إلى حالة تجمد صلبة في درجة حرارة أعلى بكثير من الأوعية الأخرى، فإن هذا الاكتشاف قد يقود إلى ابتكارات مثل أسلاك مليئة بالجليد توجد ضمن درجة حرارة الغرفة. وقد نشرت نتائج البحث في دورية «نيتشر نانوتكنولوجي».
3
سنتعرف في هذا الفصل على إسهامات العلماء والفلاسفة من كل الحضارات في محاولاتهم لتفسير وفهم ظاهرة البرودة في الطبيعة.
Unknown page
المبحث الأول: اليونانيون
لفتت ظاهرة البرودة انتباه العلماء اليونانيين، وشعروا بضرورة دراستها كما شعروا ببرودتها. وقد بحث في مفهوم البرودة كل من أرسطو وأبولونيوس البرجاوي وجالينوس وبرقليس ومفيدروس. وقد كانت لهم آراء متباينة في تحديد مفهوم البرودة. كما عرف كل من اليونانيين والرومان القدماء أن الماء المغلي مسبقا سيبرد بسرعة أكبر من الماء المعتاد غير المغلي، لكن لم يعرفوا لماذا.
4 (1) أرسطو (القرن 4ق.م.)
حاول أرسطو أيضا أن يفسر سبب حدوث التجمد في المادة اعتمادا على نظريته في العناصر الأربعة؛ فالحرارة والبرودة عنصران فاعلان في المادة، والعنصران الآخران اليبوسة والرطوبة منفعلان، لكنه يشير إلى أن زيادة أو نقصان العنصرين الأخيرين تتحكم في مدى تأثير العنصرين الأولين، ويضرب لذلك مثالا هو: عندما نريد شواء مادة ما فإن نسبة الرطوبة فيها تعيق من تأثير الحرارة أو البرودة عليها.
قال: «إن علة انفعال الهيولى هي اثنتان؛ الفاعل المحرك، والفاعل الحاصل عنه في المنفعل الذي هو صورة المنفعل نفسها. ولما كان ها هنا إنما هو الحر أو البرد، وذلك أن البرد يعرض للهيولى إذا فقدت الحر، وكان ظاهرا من أمر هذا الفعل الذي هو الجمود أنه يبس ما، فقد يجب أن نبتدئ بذكر اليبس؛ أعني كيف يكون عن هاتين القوتين الفاعلتين؛ أعني الحرارة والبرودة وما الأشياء التي تلقى هذا العرض منها، فأقول: إن كل جسد منفعل فإنه لا يخلو من غلبة اليابس عليه أو الرطب اللذين هما الأرض والماء. ولما كان هذان الأسطقسان باردين، وجب أن يكون كل كون فيه من القوى الفاعلة القوة الباردة، والباردة تفعل في المكونات، إما بالذات ففسادا، وإما بالعرض فقد تعين على الكون، مثل منعه من الاشتواء وتجميده الجسد الرطب بعد انقضاء الطبخ. والفساد يفعله في المكونات بجهتين أيضا؛ إما بالعرض، وذلك بأن يجمع الحرارة في عمق الشيء حتى يحرقه ويشتت أجزاءه؛ وإما بالذات، وذلك بأن يفسد الحرارة الغريزية التي في الشيء فيعرض من ذلك انتقاص اتصال أجزاء المكون بخروج الرطوبة الطبيعية عن الشيء لمكان زوال الحرارة الطبيعية.»
5
وقد حاول أرسطو أن يفسر أيضا عملية التجفيف التي تحدث بسبب البرودة، كما هو حدوثها عند الحرارة، فالبرودة تحيط بالجسم فتحبس الحرارة الداخلية فيه وتجعله يتخلص من رطوبته، وهو ما يلاحظ في حالة جفاف الثوب في الأيام الباردة: «والأشياء الرطبة تجف إما من البرد وإما من الحر. أما جفوفها من البرد فمن أجل أن البرد يحصر الحرارة في باطن الشيء فيعمل في الرطوبة التي فيه فيجف ذلك الشيء، كما يعرض للثوب الذي يجف من البرد؛ وذلك أن الشيء ذا الرطوبة اليسيرة إذا صعدت البرودة فيه إلى الحرارة الموجودة قويت فجففته. وأيضا فإنه يعرض للحرارة عندما تضاده البرودة فتتحلل من الشيء وتطلب المكان الخاص بها، وعند تحللها من ذلك الشيء تتحلل الرطوبة الموجودة فيه؛ فأما الجفوف الذي يكون من قبل الحر فبالذات، وذلك كالأشياء التي تجف من حرارة النار المحيطة بها.»
6
كتب أرسطو عن أثر مبيمبا
Mpemba’s Effect (أي تجمد الماء الحار أسرع من الماء البارد) قبل أن يصفها كل من جيوفاني مارلياني
Unknown page
G. Marliani (توفي 1483م) وفرنسيس بيكون
F. Bacon (توفي 1626م) ورينيه ديكارت
R. Descartes (توفي 1650م)، ولم تكن مطروحة في المجتمع العلمي الحديث في القرن العشرين إلى أن جاء تلميذ تانزاني من المدرسة الثانوية في عام 1969م يدعى مبيمبا وأعاد طرحها من جديد على الباحثين.
7
طبعا الظاهرة كانت معروفة، ويستخدمها المصريون القدماء والهنود وغيرهم من الشعوب من أجل الحصول على ماء بارد أو الجليد في أثناء الصيف.
قال أرسطو لدى محاولة تفسيره لسبب تشكل البرد «وأما السبب الثاني عنده فهو أن الهواء الذي تتكون منه الأمطار في أوقات البرد هو هواء أحر من الذي تتكون منه في زمان الشتاء، فيكون الماء الذي يتولد عنه ساخنا، والماء الساخن أسرع للجمود وقبول البرد من الماء البارد. ويستشهد على ذلك أنه متى سخن أحد الماء ثم وضعه في موضع بارد كان قبوله للبرد أسرع. والسبب في ذلك عنده أن الضد يقوى فعله عند حضور ضده، فإذا سخن الماء وأدني من الجسم البارد قوي فعل الجسم البارد فيه لمضادة الحرارة له.»
8
وقد عزا أرسطو السبب في تجمد الماء بأشكاله كافة إلى برودة المكان الذي يقع فيه، وإلى الوقت البارد؛ حيث إن الثلج والجليد يتشكلان شتاء وليلا من ناحية الوقت، وسبب تشكل كل منهما هو قرب الشمس وبعدها عن الأرض. ويرى أرسطو أن الثلج يختلف عن الجليد بسبب اختلاف حالة المادة الأولية لكل منهما؛ فالأول ينتج عن الماء المتجمد والثاني عن البخار المتجمد.
قال أرسطو: «والماء لا يجمد إلا في الموضع الذي فيه يتكون السحاب، وهذا الموضع يهبط منه ثلاثة أجسام تكوينها وقوامها بالبرد: الماء والثلج والبرد. والموضع الذي دونه يهبط منه جسمان أيضا، كما قلنا، وهما الجليد والندى، وعلتهما وعلة الثلاثة التي تهبط من المكان الذي فوق هذا علة واحدة وهي البرد، وإنما يختلفان في ذلك بالأقل والأكثر في العلة والمعلول؛ وذلك أن على كليهما الزمان البارد والمكان البارد، وأما المطر والثلج فزمان الشتاء، وأما الندى والجليد فزمان الليل، وعلة كليهما قرب الشمس وبعدها. وأما اختلافها في المعلول، أما مخالفة المطر للندى فبالكثرة والقلة، وأما مخالفة الثلج للجليد فمن قبل الهيولى؛ وذلك أن الثلج هو ماء جامد، وأما الجليد فهو بخار جامد. والدليل على هذا سخافة هذا وكثافة ذلك، وأن السخافة إنما تكون مخالطة الحرارة أجزاء البخار الذي كان من شأنه أن يتكاثف حتى يصير ماء، فتمنعه تلك الأجزاء الحارة الهوائية التي فيه من أن يصلب كما يصلب الثلج.»
9
Unknown page
ويستنتج أرسطو من ذلك مدى تأثير الحرارة والبرودة على حالات الأجسام؛ فمن آثار البرودة الأخرى مساهمتها في تشكل المواد الأخرى مثل المعادن، كما أنها تساعد في عملية هضم الطعام في فصل الشتاء بشكل أفضل من فصل الصيف. «وقد يدل أيضا دلالة عظيمة على أن الحرارة والبرودة فاعلتان؛ فكل واحدة منهما توجد سببا لكون الأجسام وفسادها ... وأما البرودة فتتولد عنها المعادن، ويفسد بها النبات إذا عرض له الذبول، والحيوان إذا شاخ ... والبرودة تسخن بالعرض؛ ولذلك نجد الاستمراء والانهضام في الشتاء أجود وأقوى.»
10 (2) أبولونيوس التياني (القرن 1م)
بحث بليناس أو أبولونيوس التياني
Apollonius of Tyana (توفي 100م) في سبب حدوث الاعتدال في حرارة الجسم عندما يختلط الحار مع البارد، حيث يأخذ كل واحد منهما من الآخر ويؤثر كل منهما في الآخر حتى يصلا إلى حالة التوازن في الحرارة. «وأقول أيضا إن الحر إذا أصاب البرد أسخنه، فسخن البرد وبرد الحر فبرد؛ فإذا برد الحر وسخن البرد اعتدلا، فامتزجا وضعفا جميعا وانقلب كل واحد منهما عن كيانه.»
11
كما بحث أبولونيوس في أسباب تشكل الثلج والجليد بطريقة تختلف عن طريقة أرسطو، حيث إن بخار الهواء يرتفع من باطن الأرض نحو الأعلى بسبب وجود الحرارة بداخله، لكنه ما إن يصل فإنه يخسر تلك الحرارة؛ عندها يتكاثف ويمكن أن يعود بهيئة مطر، لكن إذا ازدادت درجة البرودة تجمد ذلك الماء وأصبح ثلجا.
الأمر نفسه ينطبق على الجليد؛ حيث تصل البرودة إلى عمق الماء فتحيله إلى الجليد، حيث قال: «إذا صعد البخار من أسفل الأرض فصار إلى العلو عرض له البرد في الهواء، فانسل الحر منه وهو الذي طيره إلى العلو، ولم يعرض له الرياح فتعصره فيرجع ماء، لكنه ثقل لخروج الحر منه فرجع بخارا مجتمعا قد لصق بعضه ببعض فأفرط عليه البرد من الهواء، فجمده فانحدر سائلا، وسمي ذلك الجامد ثلجا. وكذلك أقول على الجليد؛ إذا أفرط البرد في الهواء اتصل بالماء لأنه من شكله؛ فإذا وصل البرد إلى عمق الماء بطنت الحرارة المستجنة في الماء، وكانت هي التي تذيبه وتمنعه من أن يجمد فيصير حجرا، فإذا وصل إليه البرد العارض من الهواء بطنت الحرارة فيه واشتدت برودته، فجمد الماء وسمي ذلك الجامد جليدا.»
12 (3) جالينوس (القرن 2م)
ميز كلاوديوس جالينوس
K. Galen (توفي 200م) بين الجسمين الحار والبارد حسب غلبة الكيفية التي بداخله؛ فإذا كانت كيفية البرودة هي الغالبة نقول عندها إن الجسم بارد والعكس صحيح. هذه الفكرة تستند في أساسها على نظرية أرسطو في العناصر الأربعة ولم تخرج عنها بجديد؛ فقد جاء في كتاب «جوامع الإسكندرانيين لكتاب جالينوس في العناصر» أن جالينوس قال: «اسم الحار واسم البارد يجريان على معنيين؛ أحدهما كيفية الحرارة والبرودة بمنزلة ما يقول إن هذا الجسم حاله حال حارة أو حال باردة، والآخر الجسم الذي فيه تلك الكيفية؛ إلا أن هذا الجسم إما أن يكون فيه تلك الكيفية التي يوصف بها وحده، وإما أن يكون يخالطها فيه ضدها، وإما وحدها؛ فبمنزلة الحرارة في النار التي ليس معها برودة، وبمنزلة البرودة في الماء التي ليس معها حرارة، وما كان من الأجسام على هذا فيقال إنه في غاية الحرارة أو البرودة؛ وذاك أن كل شيء خالص محض لا يخالطه ضده فهو الغاية، وأما الكيفية التي يخالطها ضدها فبمنزلة ما في جميع الأقسام المركبة، وكل واحد من هذه يوصف بالحرارة والبرودة على أحد وجهين؛ إما بالأغلب، وإما بالمقايسة بينه وبين آخر من جهة الأغلب. وإذا كانت الحرارة فيه أكثر من البرودة فيقال من هذا الوجه حار، وإذا كانت البرودة عليه أغلب فيقال من هذا الوجه إنه بارد. أما من جهة المقايسة فإذا قيس بجسم آخر فوجد أشد حرارة منه فقيل من هذا الوجه إنه حار، أو وجد أنه أشد حرارة من هذا الوجه إنه حار، أو وجد أنه أشد برودة منه فقيل إنه بارد.»
Unknown page
13 (4) برقليس (القرن 5م)
في المسائل الطبيعية التي ناقشها برقليس
(توفي 485م) طرح تساؤل عن الدليل على أن الحرارة والبرودة قوتان فاعلتان، والرطوبة واليبوسة مفعولان بهما، فأجاب بمثال تطبيقي: «إنا إذا وضعنا أيدينا على جسم حار يؤلمنا حره، وكذلك إذا وضعنا أيدينا على جسم بارد آذانا برده. وأما الجسم المفرط اليبس إذا وضعنا أيدينا عليه لم يؤلمنا، وذلك كحجر إذا وضعنا أيدينا عليه لم يؤلمنا يبسه كما يؤلمنا حرارة النار وبرودة الثلج. وكذلك الشيء الندي الرطب إذا نحن وضعنا أيدينا عليه لم يؤثر فينا كأثر الحر والبرد؛ فإن قال قائل: ما بال العفص قد يخشن اليد ويقبضها؟ فنقول: إنه إنما يفعل ذلك فينا ويقوى لمكان البرد، ولولا ذلك لم يظهر منه هذا الفعل.»
14
ثم ناقش في مسألة أخرى حالة التنافر والتضاد التي نجدها بين الحرارة والبرودة، وهي الحالة التي لا تظهر بين الرطوبة واليبوسة، ويعود السبب في ذلك حسب رأيه إلى قوة وجود الحرارة والبرودة في النار والماء، في حين لم تكن الرطوبة واليبوسة بهذه القوة؛ لذلك لم تكن حالة التنافر بين الأخيرتين مماثلة لحالة الحرارة والبرودة. ويحدث أن يتنافر الهواء والأرض إذا وجدت قوة تدعم أحدهما وتقويه على الآخر.
قال: «ما بال الماء والنار إذا هما تلاقيا تنافرا وتضادا، والهواء والأرض قد يماس أحدهما صاحبه ولا يتنافران بينهما ولا يتضادان إذ هما متضادان؛ وذلك أن الهواء حار رطب والأرض باردة يابسة؟ فنقول: إن النار إذا لاقت الماء أو ماسته نافرته منافرة شديدة، ولا يخلو إما أن يقهرها وإما أن تقهره. وأما الهواء والأرض وإن اختلفا وتضادا فإنهما لا يتنافران؛ لأن الحرارة التي في النار قوة فاعلة، والبرد في الماء قوة فاعلة أيضا، واليبس في النار قوة مفعولة، والرطوبة في الماء قوة مفعولة أيضا؛ فإذا تلاقى الماء والنار نافرت النار الماء لقوة الحرارة الفاعلة فيهما، ولأن القوتين الفاعلتين - أعني الحرارة والبرودة - أقوى في النار والماء من القوة بين المنفعلتين - أعني الرطوبة واليبس اللتين في النار والماء - لذلك كانت منافرتهما ومضادتهما شديدتين، ولأن القوتين المفعولتين في الهواء والأرض أكثر من القوتين الفاعلتين، أعني الحر والبرد، لذلك لم تكن منافرتهما كمنافرة النار والماء اللذين فيهما القوتان الفاعلتان أغلب. ونقول أيضا إن الهواء والأرض قد يتضادان في مكان ما؛ لما فيهما من القوتين الفاعلتين؛ أعني الحر والبرد، ولكن لأن هاتين القوتين اللتين في الهواء ليستا بكثيرتين؛ لذلك لم تظهر منافرتهما كمنافرة النار والماء. وقد يتنافر الهواء والأرض، والأرض والهواء، إذا حركهما محرك من خارج فأضاف قوة فعله إلى فعلهما، فإذا أضيفت قوة الفاعل الذي في الهواء والأرض تنازعا وتضادا؛ وذلك لأن الهواء إذا دفعه دافع سمع له صوت أزال الحجر، وكذلك الحجر إذا وقع في الهواء أثر في الهواء فعلا قويا وهرب كل واحد منهما من صاحبه.»
15 (5) المفيدروس (القرن 5م)
كرر المفيدروس الألديري
Olympiodorus the Elder (كان حيا في القرن 5م) مقولة من سبقه لدى المقارنة بين الحرارة والبرودة فقال: «الحرارة والبرودة من الكيفيات الأول فاعلة قوية، والرطوبة واليبوسة ضعيفة منفعلة، بمنزلة المادة لتلك. وعلى هذا المثال توجد إذا قرنت اثنين مع اثنين، وواحدة مع واحدة؛ فالحرارة من الكيفيتين الفاعلتين أكثر فعلا، والبرودة أقل. ومن الكيفيتين المنفعلتين فاليبوسة أكثر انفعالا وأشبه بالمادة، والرطوبة أقل.»
16
Unknown page
لكن لدى المقارنة بين الحرارة والبرودة من ناحية القوة والشدة فإن الحرارة أقوى؛ لأنها تستطيع أن تجمع أجزاء المادة المتجانسة كالذهب الخالص، أو تفرق أجزاء المادة المختلفة مثل مزيج الذهب والفضة، بينما البرودة يمكنها أن تجمع بين المواد سواء كانت متجانسة الأجزاء أو غير متجانسة.
قال في ذلك: «إن الحرارة أقوى من البرودة، إن الحرارة يمكن فيها أن تصل وتفرق. وأما الاتصال فالأشياء المتساوية في النوع بمنزلة الذهب مفردا على حدته والفضة على حدتها. وأما التفرقة ففي الأشياء المختلفة في النوع؛ وذلك أن الذهب الذي خالطته الفضة إذا خلص بهر وصار إبريزا واعتزلت الفضة في ناحية. وأما البرودة فيمكن فيها أن تصل بين المتساوية في النوع والمختلفة، ويدل على ذلك أن الضفادع تجمد مع الماء في كون الجليد، وأما أن تفرق فليس يمكن فيها.»
17
و«للحرارة والبرودة أيضا أن كل واحدة منهما تقبل وتحيل، وتجفف وترطب، وتصلب وتلين.»
18
واتفق مع من سبقه على أن قدرة الحرارة والبرودة وفاعليتهما لها تأثيرها على كل ما هو موجود في الحياة، «إن الحرارة والبرودة فاعلتان؛ لأن كل واحدة منهما توجد سببا لكون الأجسام وفسادها؛ ذلك لأن الحرارة يتولد عنها الحيوان ويغتذي، والأجسام التي فيها تهيؤ للاحتراق تحترق. وأما البرودة فتتولد عنها المعادن، ويفسد بها النبات إذا عرض له الذبول، والحيوان إذا شاخ. والحرارة أيضا تبرد بالعرض؛ ولهذا نجد الاستمراء والنضج في الصيف أقل. والبرودة تسخن بالعرض؛ ولذلك نجد الاستمراء والانهضام في الشتاء أجود وأقوى.»
19
وكان المقصود بمصطلح النهوءة عند المفيدروس الأثر الذي تحدثه البرودة: «أما النضج ففعل الحرارة، وأما النهوءة ففعل البرودة. وكل واحد من هذين يكون على جهات شتى؛ إما لحفظ الشيء القابل له مع نوعه، وإما لعدم نوعه.»
20
و«النهوءة إنما تكون مع استحالة نوع الشيء القابل لها، كالذي يعرض في الأشياء التي تحمص، وإما مع حفظ نوعه، وذلك يكون إما للأجسام النامية، كالذي يوجد في ثمار الأشجار التي لا تنضج، وإما للأجسام غير النامية. وهذا الصنف أيضا إما أن يكون للنهوءة، وحدوثه متى غلبت الحرارة على المادة؛ وإما متى عدم الشيء، وحدوثه يكون إذا لم تقهر الحرارة المادة.»
Unknown page
21
وقد تناول المفيدروس حالة الجمود أو التجمد الذي يعرض لحالة المادة، فيكون إما بسبب تحول المادة الرطبة إلى جليد أو بسبب تأثير كيفية الرطوبة التي توجد في المواد. وقد يكون هذا التجمد ناجما عن اختلاف نسب الكيفيات الأخرى في المواد، كأن تزداد نسبة الحرارة مع اليبوسة أو تزداد نسبة البرودة لوحدها أو اليبوسة لوحدها.
قال المفيدروس: «أما أسباب الجمود التي من جهة المادة فاثنان؛ وذلك أن الجمود يظهر بعرض؛ إما للأشياء الرطبة بمنزلة الماء إذا صار جليدا، وإما بمنزلة الأشياء التي فيها رطوبة بمنزلة المعدنيات. وأما الأسباب فثلاثة؛ أحدها الحرارة مع اليبوسة، والثاني البرودة وحدها مفردة، والثالث اليبوسة وحدها مفردة.»
22
ثم يشرحه من خلال مثال الفخار: «إن جمود الفخار في ابتداء الأمر بالبرودة ثم يجمد بآخره بالحرارة؛ ولهذه العلة لا يتحلل؛ وذلك لسببين؛ أحدهما أن جموده منه لما كان من كيفيتين متضادتين قويتين لا يمكن فيه أن ينحل ولا واحدة منهما ... والسبب الثاني أن جمود الفخار ليس عن البرودة والحرارة معا فقط، لكن بسبب تبخر الرطوبة وانفشاشها عنه أيضا؛ ولهذه العلة نجد المنافذ التي تنجذب فيها هذه الرطوبة لطافا رقاقا لا يمكن أن ينفذ فيها لغلظه؛ ولذلك لا ينحل به الفخار.»
23
المبحث الثاني: العلماء العرب والمسلمون
حفل المعجم العربي بمختلف أنواع الألفاظ التي تصف البرد والبرودة التي تعرض لها العربي في مختلف البيئات التي عاشها؛ فقد جاء في أول معجم عربي (كتاب العين) للفراهيدي (توفي 170ه/786م): «برد يبرد برودة، وبردت الخبز بالماء: صببته عليه فبللته، واسم ذلك الخبز المبلول البريد والمبرود، تطعمه النساء للسمنة، وتقول: اسقني شربة أبرد بها كبدي. وبرد القر وأبردوا: صاروا في وقت القر آخر النهار. وبردت الماء تبريدا. وبرد عليه حق كذا وكذا درهما؛ أي لزمه ذلك. والبرود: كحل تبرد به العين من الحر.»
24
وعند أبي هلال العسكري (توفي 395ه/1005م): «البرد والقر سواء. والقر البارد. والسبرة شدة البرد . غداة سبرة: شديدة البرد. وفي الحديث: إسباغ الوضوء في السبرات. وشيبان وملحان شهرا قماح، وهما اللذان يقال لهما كانون وكانون. وسميا بذلك لبياض فيهما من الصقيع. وسميا شهرا قماح لأن الإبل إذا وضعت رءوسها فيهما للشرب آذاها برد الماء فقمحت؛ أي رفعت رءوسها. ومنه قوله تعالى:
Unknown page
فهم مقمحون .»
25
وقد فصل لنا الثعالبي (توفي 429ه/1038م) في كتابه «فقه اللغة وسر العربية» مختلف الحالات التي تتعلق بمفهوم البرودة فقال: «القفقفة لمن يجد البرد الشديد.»
26 «فإذا انحدر من بلاد البرد إلى بلاد الحر قيل: قطع قطوعا وقطاعا، ويقال: كان ذلك عند قطاع الطير.»
27
و«في تفصيل الرياح: فإذا كانت باردة فهي الحرجف والصرصر والعرية، فإذا كان مع بردها ندى فهي البليل، فإذا كانت حارة فهي الحرور والسموم، فإذا كانت حارة وأتت من قبل اليمن فهي الهيف، فإذا كانت باردة شديدة تخرق الثوب فهي الخريق، فإذا ضعفت وجرت فويق الأرض فهي المسفسفة، فإذا لم تلقح شجرا ولم تحمل مطرا فهي العقيم، وقد نطق بها القرآن.»
28
و«في تفصيل كمية المياه وكيفيتها عن الأئمة إذا كان الماء باردا منتنا، فهو غساق بتشديد السين وتخفيفها، وقد نطق به القرآن؛ فإذا كان حارا فهو سخن، فإذا كان شديد الحرارة فهو حميم، فإذا كان مسخنا فهو موغر، فإذا كان بين الحار والبارد فهو فاتر، فإذا كان باردا فهو قار، ثم خصر ثم شنان.»
29
أخيرا يقال من باب الاستعارة «دبت عقارب البرد»؛
Unknown page
30
ولذلك يقال في العامة العربية «لسعه البرد» وكأن البرد عقرب يلسع، أو «كسر سم الماء» وكأن الماء الشديد البرودة مسموم، وينكسر سمه بإضافة ماء دافئ له.
أما في تكملة المعاجم العربية لدوزي: «برد: أصابه البرد، هبطت حرارته (بوشر)، وصار باردا (بوشر). وتبرد (بوشر) وبرد (مجازا): خدر (بوشر). وبردت همته: فترت وخمدت وقل عزمه (بوشر). وبرد عليه الضرب: هدأ عليه ألم الضرب (ألف ليلة 2: 226).
برد على: تكلم بما لا طائل تحته (فوك).
برد (بالتضعيف) همته: أخمدها وفترها، وفل من عزمه أيضا (بوشر). وبرد الخلق: هدأهم وأزال غضبهم (بوشر). وتبرد (الكالا)، ومطر البرد، نزل البرد (بوشر)، وتكلم بما لا طائل تحته (فوك). وبرد الملك: ثبته، وبرد عنه: أهمله (محيط المحيط).
بارد له: أساء استقباله وقابله بفتور، وكلح في وجهه (بوشر).
أبرد: برد (فوك). ابرد إلى فلان، به: أرسله إليه بالبريد. ففي مملوك (2: 37): أبرد إلى ابن هشام بالكتاب، وأبرد إلى فلان شيئا: أثقل عليه وكلفه ما لا طاقة له به، ففي ابن عباد (2: 160، وانظر 3: 220): أبرد إلى ما ناء أي أثقلني بما ينوء بحمله الإنسان، وفرض علي من المال ما أدى بي إلى الخراب. وأبرد: قال شيئا باردا (المقري 1: 609 مع تعليق فليشر على المقري ص204).
تبرد: ذكرها فوك بمعنى صار باردا.
وتبرد عليه: قال شيئا باردا (فوك). تبارد: تكلف البرودة، وفعل وقال سخفا. وتبارد على فلان: قال له كلاما تافها أو باردا وعبث به باللغو من الكلام. وتبارد على الناس: تناولهم بالسخرية والعبث (بوشر).
انبرد: سحل بالمبرد (فوك).
Unknown page
استبرد: طلب البرد (تاريخ البربر 1: 153). واستبرد فلانا: استحمقه ووجده باردا (معجم الإسبانية 66).»
31
كم الألفاظ والعبارات العربية الواصفة للبرودة ومختلف حالاتها لا تقارن بنظيرتها في الحرارة؛ فالعربي الأصيل الذي أنجب لغته عاش في حر بيئته أكثر مما عاش في بردها؛ لذلك جاءت أوصافه للحر أكثر مما كانت للبرد.
على العموم سنجد للعلماء آراء تختلف عن اللغويين في ظاهرة البرودة؛ فقد حاولوا تفسيرها ومعرفة الأسباب الناجمة عنها. ويرى الباحث زكي نجيب محمود أن العلم القديم كله - سواء عند اليونانيين أم في العصور الوسطى عند العرب - كان علما كيفيا؛ أي على خلاف العلم الحديث الذي يزيد اهتمامه بالجانب الكمي؛ فقد كانت البرودة حقيقة مستقلة عن الحرارة؛ وذلك لأنهما مختلفتان في الكيف، أما في العلم المعاصر فتعتبر البرودة درجة من درجات الحرارة، ولا اختلاف بين الطرفين إلا من الناحية الكمية.
32 (1) جابر بن حيان (القرن 3ه/9م)
عرف جابر بن حيان (توفي 199ه/815م) الحرارة بأنها غليان المادة وانتشارها في كل الجهات، كأنها انتقال من المركز إلى المحيط، أما البرودة فهي بحسب جابر: «حركة الهيولى من محيطها إلى مركزها.»
33
وهكذا تتعاكس حركة المادة المبردة بعكس حركة المادة المسخنة، ولو كان في مصطلحات جابر «الدرجة» لذكر لنا بأن البرودة هي درجة من درجات الحرارة التي تختلف بكم الوحدة لا أكثر، لكنه أراد أن يبين الفارق بين الحرارة والبرودة من ناحية الحركة؛ فالحركة من المحيط إلى المركز في المادة تعني الانكماش والتقلص، في حين أن الحركة من المركز إلى المحيط وفي كل الجهات تفيد معنى التمدد.
ثم يحاول جابر أن يعمم بطريقة استقرائية فيعرفنا بعلم البرودة
Cold science
Unknown page
بأنه: «العلم بجوهرها وأثرها وما تأثرت به على التفصيل، وبأثرها على الجملة.»
34
ولعل هذا أول وأقدم تعريف موثق لعلم البرودة يحدد من خلاله جابر ما يقوم عليه؛ فهو يتطلب:
فهم حقيقة البرودة وسبب حدوثها.
معرفة أثر البرودة على الأجسام جملة وتفصيلا.
من ناحية أخرى يمثل وضع هذا التعريف أولى خطوات الخروج على الفكر الأرسطي؛ إذ نجد جابر لا يقحم أي دور لنظرية العناصر أو الكيفيات الأربع في تأسيس علم البرودة، وإنما أراده علما قائما بشكل خاص على السببية والأثر والنتيجة. (2) إبراهيم النظام (القرن 3ه/9م)
طبق إبراهيم بن سيار النظام (توفي 231ه/845م) نظريته في الطفرة (أي حركة القفز مع الارتفاع وتجاوز المراحل بين بداية الحركة ونهايتها) على عدد من الظواهر الطبيعية ليثبت صحتها وعمومية أثرها. ومن الظواهر التي طبقها عليها البرودة؛ فإذا أخذنا شيئا باردا وقمنا بإتلافه لدرجة أننا لم نعد نشعر ببرودته التي كان عليها سابقا، عندها نفترض أن هذه البرودة قد اتحدت بوساطة الطفرة مع البرودة الموجودة في الأرض. ولكن باعتبار البرودة عرضا من الأعراض الذي يمكن أن يزول بطبيعة الحال، فلا يمكن أن يزول بالطفرة على أنه شيء متحرك. وقد رد النظام على ذلك بأنه لا يعرف إلا عرضا واحدا هو الحركة، بينما كافة المظاهر الأخرى في الشيء فهي أجسام؛ أي لونه ورائحته وسخونته وبرودته وخفته وثقله ولينه أو خشونته، وكذلك أبعاده الثلاثة؛ فهي كلها أجسام؛ وعلى ذلك فإن مفهوم السخونة ليس شيئا يمكن إبداله بضده؛ أي البرودة؛ فجميع الصفات إنما هي أخلاط جسمية في جوهر واحد لا يمكن إبدالها بغيرها، وإنما هي قائمة بكاملها في الوقت نفسه. وقد يبدو لنا ظاهريا وجود أشياء ساخنة فقط أو باردة فقط ، إلا أن هذه الظاهرة يمكن تفسيرها بأن الصفات المضادة إنما هي مستترة أو كامنة في هذا الجوهر؛ وعلى هذا فإن صفة «البرودة» موجودة في العنصر على أنها جسم، ولكنها تداخلت مع بقية الأخلاط وتمازجت معها لدرجة لم نشعر بها بحواسنا.
35 (3) الكندي (القرن 3ه/9م)
يعرف الكندي (توفي256ه/873م) البرودة بأنها «هي علة جمع الأشياء من جواهر مختلفة، وتفريق الأشياء التي من جوهر واحد.»
36
Unknown page
وهو كما نلاحظ تعريف معدل من تعريف المفيدروس الذي سبق ووضع عليه مثال الذهب والفضة. (4) الفارابي (القرن 4ه/10م)
يعرف أبو نصر الفارابي (توفي339ه/950م) الجسم البارد أنه: «ما يركب إليه جسم بارد ويخلطه به، أو أن يبرده الهواء أو الثلج.»
37
وهذا يعني أن البرودة صفة مكتسبة للجسم وليست متأصلة فيه كما يقول النظام، لكنه لا يشرح مفهوم البرودة بحد ذاته؛ ثم يؤكد على فكرة البرودة المكتسبة من خلال مصطلح «التعديل»؛ فهو: «كسر حرارة الحار بأن يبرد قليلا ويخالط حرارته برودة، فتحصل من ذلك حرارة بمقدار ما من كيفيته، ومن شدته وضعفه.»
38 (5) ابن بشرون (القرن 4ه/10م)
حاول أبو بكر بن بشرون (كان حيا عام 390ه/1000م) أن يشرح طبيعة العلاقة القائمة بين الحركة والحرارة والبرودة، طبعا بالاعتماد على النظرية الأرسطية، ليستنتج أن السبب الرئيس لتولد الحرارة هو الحركة، وهذا يعني أن البرودة تعني بشكلها الظاهري عدم الحركة.
فقال: «واعلم أن البارد من الطبائع هو ييبس الأشياء ويعقد رطوبتها، والحار منها يظهر رطوبتها ويعقد يبسها، وإنما أفردت الحر والبرد لأنهما فاعلان، والرطوبة واليبس منفعلان، وعلى انفعال كل واحد منهما لصاحبه تحدث الأجسام وتتكون، وإن كان الحر أكثر فعلا في ذلك من البرد؛ لأن البرد ليس له نقل الأشياء ولا تحريكها، والحر هو علة الحركة. ومتى ضعفت علة الكون، وهو الحرارة، لم يتم منها شيء أبدا، كما أنه إذا أفرطت الحرارة على شيء ولم يكن ثم برد أحرقته وأهلكته.»
39 (6) إخوان الصفا (القرن 4ه/10م)
حاول إخوان الصفا تقديم رؤية جديدة بعيدة عن نظرية أرسطو في العناصر؛ حيث إن وجود الحرارة في بعض الأجسام ناجم عن تحرك أجزاء مادتها، كما أن سبب البرودة هو سكون تلك الأجزاء المادية. وهو تفسير معقول ومقبول منطقيا لكونه يستند إلى النظرية الذرية التي كان يعارضها أرسطو. يقول إخوان الصفا: «وأما الحرارة في بعض الأجسام، فهي من أجل غليان أجزاء الهيولى وفورانها بالحركة الخفيفة، وأما البرودة في بعضها فهي من أجل سكون تلك الأجزاء، أو جمود ذلك الغليان.»
40
Unknown page
من ناحية أخرى يتقارب فهم وتفسير إخوان الصفا من فهم جابر لظاهرة البرودة، لكنهم لا يضعون جهة تأثير البرودة على الجسم كما وضعها جابر بأنها من المحيط إلى المركز. (7) ابن سينا (القرن 5ه/11م)
يعرف ابن سينا (توفي 427ه/1037م) البرودة - وفق المفهوم الأرسطي - بأنها: «كيفية فعلية تفعل جمعا بين المتجانسات وغير المتجانسات لحصرها الأجسام بتكثيفها وعقدها اللذين من باب الكيف.»
41
ثم يعيد ابن سينا قول أرسطو في البرودة وتأثيرها على الأجسام؛ فالبرودة كيفية فعلية تؤثر في جميع الأجسام المتجانسة وغير المتجانسة، حيث تقوم بتكثيفها وعقدها إلى بعضها بعضا.
42
قال ابن سينا: «الكيفيات الملموسة الأولى هي هذه الأربعة؛ اثنتان منها فاعلتان، وهما الحرارة والبرودة، ولكونهما فاعلتين ما تحدان بالفعل بأن يقال إن الحرارة هي التي تفرق بين المختلفات وتجمع بين المتشاكلات، كما تفعله النار؛ والبرودة هي التي تجمع بين المتشاكلات وغير المتشاكلات كما يفعل الماء. واثنتان منفعلتان، وهما الرطوبة واليبوسة، ولكونهما منفعلتين ما تحدان بالانفعال فقط.»
43
ويشير من ناحية أخرى إلى أن ظاهرتي الحرارة والبرودة تلازمان ظاهرتي الخفة والثقل؛ فالجسم الذي يسخن يكتسب الحرارة ويصبح أخف، وبالعكس فإن الجسم إذا تبرد يصبح أثقل؛ إذن «الحرارة والبرودة لازمتان منعكستان على الخفة والثقل؛ فالمادة إذا أمعن فيها التسخين خفت، فإذا خفت سخنت؛ فلا خفيف إلا وهو حار، ويعرض لها إذا بردت بشدة أن تثقل، وإذا ثقلت بشدة أن تبرد؛ فلا ثقيل إلا وهو بارد، فيكون الحر والبرد منعكسين على الثقل والخفة، كالإشفاف وغير ذلك مما يوجد في الثقيل والخفيف.»
44
ويرى ابن سينا أن الجسم نفسه قد يكون باردا أو ساخنا ذاتيا، فيبرد أو يسخن نفسه وما يحيط به؛ «الجسم الذي له طبيعة مبردة أو مسخنة، فإنه يبرد ذاته أو يسخنها بطبيعته، ويبرد أيضا ما يجاوره ويتصل به أو يسخنه.»
Unknown page
45
وفي المقابل لا يمكن أن يكون الجسم نفسه حارا وباردا في الوقت نفسه؛ لأن «الحرارة والبرودة ليستا من الكيفيات التي بها يستعد الجوهر لانفعال ما ... وذلك لأن الحر ليس استعداده للبرد لأنه حار، كيف والبرد يبطل الحر؟ وما دام هو حارا فيمتنع أن يصير باردا؛ فالحر يمنع وجود البرد، لا أن يعد له المادة، بل المادة مستعدة بنفسها لقبول البرد المعدوم فيها، لكنه يتفق أن يقارن تلك الحالة وجود الحر الذي يضاد البرد ويمانعه ويستحيل وجوده معه.»
46
وفي حديثه عن مفهوم «النهوءة» الذي سبق وتحدث عنه المفيدروس وكيف أن الجسم الرطب يكون مستعدا لتتحقق فيه حالة النهوءة حيث تقف حائلا أمام تأثير الحرارة، يقول ابن سينا: «فإن تبقى الرطوبة غير مبلوغ بها الغاية المقصودة، مع أنها لا تكون قد استحالت إلى كيفية منافية للغاية المقصودة، مثل أن تبقى الثمرة نية، أو يبقى الغذاء بحالة لا يستحيل إلى مشاكلة المغتذي، ولا أيضا يتغير، أو يبقى الخلط بحاله لا يستحيل إلى موافقة الاندفاع، ولا أيضا يفسد فسادا آخر؛ فإن استحالت الرطوبة هيئة رديئة تزيل صلوحها للانتفاع بها في الغاية المقصودة، فذلك هو العفونة. والنهوءة يفعلها بالعرض مانع فعل الحر، ومانع فعل الحر هو البرودة.»
47
إذن «النهوءة مادتها جسم رطب، وفاعلها برد أو عدم حر، وصورتها بقاء الرطوبة غير مسلوك بها إلى الغاية الطبيعية؛ فصورتها عدم النضج، وغايتها الغاية العرضية التي تسمى الباطل.»
48
كذلك فقد عاد ابن سينا وناقش حالة الجمود أو التجمد التي تعرض للمادة التي سبق وأن ناقشها المفيدروس، لكن بشيء من التفصيل والتوضيح وفق مفاهيم الحركة والسكون والتمدد والتقلص ؛ فإذا كان حجم المادة يعتريه الزيادة في حال تعرضه للحرارة، فإن حجم المادة سيقل لدى التعرض للبرودة، وما بين التمدد والتقلص تتعرض المادة للتكاثف والتخلخل.
قال ابن سينا: «قد قيل إن اللهيب والغليان لما كان كل واحد منهما إفراط حرارة، وكان الجمود إفراط برد، وكان الجمود خاصة البارد والرطب، فكذلك اللهيب والغليان خاصة الحار اليابس ... وذلك لأن الغليان ليس لإفراط حر، بل إن كان ولا بد فهو حركة تعرض للرطب عن الحر المفرط؛ ولا اللهيب إفراط الحر، بل إضاءة تعرض عن إفراط الحر في الدخان؛ فإن سمي اشتداد الحر لهيبا فلا مضايقة فيه. والجمود ليس إفراط برد، بل أثر يعرض من إفراط البرد لا في كل جسم بل في الرطب. ولا الجمود ضد الغليان؛ لأن الغليان حركة إلى فوق، وتضادها الحركة إلى أسفل إذا كانت تضعه، فأما الجمود فليس هو حركة؛ فلعل الواجب أن يجعل الجمود اجتماع المادة إلى حجم صغير مع عصيان على الحاصر المشكل، والغليان انبساطها إلى حجم كبير مع ترقق وطاعة لحصر المشكل؛ فإن كان كذلك الخلاف بينهما ما بين التكاثف والتخلخل.»
49
Unknown page
ثم ينتقل بنا ابن سينا في كتابه «الإشارات والتنبيهات» إلى مرحلة جديدة، وهي تدوين جملة من الملاحظات الرصدية الخاصة بظاهرتي الحرارة والبرودة، وسيساعدنا أحد أتباعه - وهو نصير الدين الطوسي (توفي 672ه/1274م) - في شرح وتحديد مقصده من كل ملاحظة دونها. (أ) الحالات الحدية للمادة
يضع لنا ابن سينا أربع حالات حدية يمكن أن تبلغها المادة حسب تعرضها للحرارة والبرودة.
قال ابن سينا إن «الجسم البالغ في الحرارة بطبعه هو النار، والبالغ في البرودة بطبعه هو الماء، والبالغ في الميعان هو الهواء، والبالغ في الجمود هو الأرض.»
50
وقد علق نصير الدين الطوسي على هذه العبارة بقوله إن ابن سينا «بدأ بالنار، فنبه بقوله «البالغ في الحرارة» على كون الحرارة كيفية تشتد وتضعف، لا صورة تقوم بجوهرها الذي لا يختلف. وأشار بقوله «بطبعه» إلى مصدر تلك الحرارة؛ أعني الصورة النوعية. وأورد القضية في صيغة تدل على مساواة طرفيها ليعلم أن هذا القول مميز للنار عما سواها، ومعرف لماهيتها.»
51
ويتابع الطوسي شرحه فيما يتعلق بالبرودة فيقول: «وأما برودة الماء فقد ذهب قوم كثير - منهم الشيخ أبو البركات
52
من المتأخرين - إلى أن الأرض أبرد من الماء لأنها أكثف، وإن كان الإحساس ببرودة الماء لفرط وصوله إلى المسام والتصاقه بالأعضاء أشد، كما أن النار أسخن من النحاس المذاب، مع أن الإحساس به أشد.»
53 (ب) الحالات النسبية
Unknown page