ومن حسن الطالع في ذلك الحين أن كان من بينهم بثيون، وقد ضموه إليهم عند باجي في نهاية الطريق، وربما كان راعيا أو حارق فحم؛ لأنه كان يعرف دروب الجبال النائية عن موطنه، وكان بثيون زميلا ودودا ومرشدا مخلصا، وكانت هذه الرحلة المغامرة الكبرى في حياته، وهو الذي رواها فيما بعد، وأمدنا بالطريق وبأسماء أندوسيديز وفصائله الثلاث، وربما بولغ في القصة أثناء روايتها، وكان بثيون يفخر كثيرا «بتحطيم رمحه في أجساد سبعة من الرجال»، وكان القتال عنيفا فيما يبدو بعد التحاقه بالجيش بفترة ما.
بيد أن كثيرا مما يذكره سقراط من تلك الأيام التي قضاها فوق التلال لا يحسب بثيون - وهو الخبير بالجبال - أنها تستحق الذكر، مثل الساعات التي أنفقها في تسلق الجبال وفي الهبوط منها خلال الأعشاب الشائكة التي تخز الأعقاب، والسير المضطرب وقطع الحجارة التي تترامى عليك ممن يسبقك، وعطش الظهيرة على سفوح الجبال مع ظهور واد صغير في أسفل الجبل كأنه شريط براق، ونسور سوداء تحوم فوق رءوسهم وتتطلع إليهم، وثعالب تصيح في جوف الليل في غابة الصنوبر.
وكانوا دائما في شك مما كان يحدث بأثينا، فيدفعهم الشك إلى الإسراع في الخطى، فكل خطوة تقربهم من الوطن، وفي المساء يحسبون ويعيدون الحساب حول النار الموقدة، كم يستغرق الإسبرطيون ليأتوا خلال الممرات، وإلى أي مدى يسيرون حتى يبلغوا ميغارا ثم إليوسس ثم أثينا؟ ومتى يستطيع الرسول - إن حالفه الحظ - أن يبلغ بركليز في الشمال؟ وكم يستغرق حتى يعود؟ وكل منهم يحسب فرص بركليز حسابا مختلفا، وقل منهم من جرؤ على الاعتقاد بأنهم سيصلون في الميعاد.
وهكذا بلغوا أخيرا القلعة الرمادية عند فايل وأول مشارف الوطن، وبلغت صيحتهم: «هذه أثينا!» آخر الصف وهم يسيرون حول منحنى الجبل، فقد بدت لهم أثينا بعد كل هذه الأيام التي كانت لا تغيب عن مخيلتهم خلالها، ذلك هو الأكروبول بأسواره، وتلك هي السوق في أسفلهم وإلى جوارها مكان الجمعية، ومنازل المدينة المتقاربة، وذلك هو البحر الذي عاشت عليه المدينة، وسلامس حيث دارت المعركة البحرية الكبرى مع الفرس، وهناك في السهل الغربي - كما أشار إليه أحدهم في انفعال نفسي - تستطيع أن تتبين بريق الحراب والتراب الذي يثيره الجيش السائر.
وتبعد فايل عن أثينا نحو أربعة عشر ميلا، ولكن العشرة الأخيرة منها على الطريق المعبد فقطعوها في سرعة فائقة، وقبل أن يرخي الظلام سدوله كانوا واقفين إلى جوار زملائهم من الفصائل السبع الأخرى، بينما كان العدو ينصب خيامه قريبا جدا من مدخل أثينا الأمامي، واستطاع سقراط في ذلك المساء أن يشهد نيران المعسكر من مقر حراسته فوق سور المدينة، وتوقع أن يكون الغد يوما مشئوما، فالكل يعرف أن العدو يتفوق على الأثينيين في العدد بدرجة كبرى.
ولم يحدث قتال في الغد، ولا في اليوم الذي يليه، بل لم يحدث البتة قتال، ولبث الإسبرطيون يوما أو يومين، ثم جمعوا خيامهم وانصرفوا، وتم الأمر في هذه البساطة، وتجمع الأثينيون فوق مرتفع الأكروبول ليرقبوا، وشق عليهم أن يصدقوا ما وقعت عليه أعينهم، ماذا حدث؟
لم تر المدينة يوما كهذا كثر فيه الحديث، وهي المدينة التي تخصصت في الحديث، غير أن بركليز لم ينبس ببنت شفة، وإن لم تبد عليه الدهشة لما حدث، ولم يمض وقت طويل حتى أشيع أن الملك الإسبرطي الذي قاد الجيش قد حوكم في مدينته وحكم عليه بغرامة كبيرة، وأرسل مع قواده إلى المنفى، أما بركليز فقد عرض في نهاية العام - حينما قدم حسابه ليصادق عليه الشعب - بندا كبيرا بغير تعليق نصه: «للنفقات الضرورية عشرة تلنتات (التالنت يساوي 250 جنيها تقريبا).»
وكانت نكتة أثينا عدة سنوات، وبدأ الحديث مرة أخرى، وذكر كل امرئ لأخيه: «إن هذا هو شأن الإسبرطيين، إنهم لا يستطيعون أن يقاوموا الرشوة قط.»
ولبث بثيون في أثينا، واعتاد سقراط أن يلقاه بين الحين والحين، ويروي للمستمعين المعجبين قصة مسير الفصائل الثلاث، القصة التي لم يكن بد من زيادة المبالغة فيها كلما تجددت روايتها، ولما مات فيما بعد (ودفن إلى جوار بوابة حارقي الفحم) نقشت القصة على شاهد مقبرته، وتستطيع اليوم أن تطالعها.
الفصل الخامس
Unknown page