al-Suluk fi tabaqat al-ʿulamaʾ wa-l-muluk
السلوك في طبقات العلماء والملوك
Investigator
محمد بن علي بن الحسين الأكوع الحوالي
Edition Number
الثانية
.. بلغت لعشر مَضَت من سنيك ... مَا يبلغ السَّيِّد الأشيب
فهمك فِيهَا جسام الْأُمُور ... وهم أُولَئِكَ أَن يلعبوا ... ثمَّ لما حفظ الْقُرْآن دخل مَدِينَة عدن فَقَرَأَ بهَا علم الْأَدَب وَالْفِقْه وَعلم الْحساب وَمهر فِي جَمِيع ذَلِك ونظم ونثر وَحَازَ فضلا وَاسِعًا وعلما نَافِعًا وعدن إِذْ ذَاك بيد الشَّيْخ بِلَال بن جرير المحمدي مولى السُّلْطَان الدَّاعِي مُحَمَّد بن سبأ بن مُحَمَّد وَكَانَ لَهُ كَاتب توفّي فِي تِلْكَ الْمدَّة والأديب هَذَا قد صَار يذكر بِالْفَضْلِ وَالدّين وَحين توفّي كَاتب بِلَال احْتَاجَ إِلَى طلب غَيره قَالَ عمَارَة فأرشده رائد السَّعَادَة إِلَى هَذَا الأديب فاستدعاه فحين حَضَره أعجبه جماله وسمته ثمَّ فاتحه بالْكلَام فازداد عجبه بِهِ وَعلم أَن الله قد أبدله بِأَفْضَل من كَاتبه الَّذِي ذهب ثمَّ ولاه كِتَابَة يَده وَلما عرف فَضله جعله بِمَنْزِلَة الْوَلَد والصاحب وَالْمُدبر لأموره بِحَيْثُ كَانَ لَا يقطع أمرا دون مُرَاجعَته وَلَقَد سمع مِنْهُ مرّة وَهُوَ يَقُول لَهُ حِين رَاجعه بِالْجَوَابِ لقوم قد وصلوا من نواح شَتَّى وَالْإِجَازَة لآخرين وفدوا يَا مولَايَ الأديب الدولة دولتك وَالْمَال مَالك فأجب وأثب كَيفَ شِئْت وَلمن شِئْت وَكتب مرّة إِلَى بِلَال أَيْضا يشفع لقوم مَا مِثَاله النَّاس سَبَب إِحْسَان الحضرة إِلَيّ وأنعامها عَليّ يَعْتَقِدُونَ أَنِّي عِنْدهَا أشفع وأنفع وَقد تشفع بِي إِلَيْك بِكَذَا فَعَاد جَوَاب بِلَال أَنْت يَا مولَايَ الْمَالِك وقدرك وَالله عِنْدِي أجل أَن تكون شَفِيعًا بل مَبْسُوط اللِّسَان وَالْيَد وَلَيْسَ على أَمرك أَمر
ثمَّ لما وقف الأديب على الْجَواب كتمه تواضعا وتحرزا عَن حسد من حول بِلَال قَالَ عمَارَة فوقفت عَلَيْهِ سرا فحين علم أَنِّي وقفت عَلَيْهِ أحلفني بِاللَّه يَمِينا مُغَلّظَة أَنِّي لَا أعلمت بِهِ أحدا من المكاثرين لِبلَال لَا من أهل السَّيْف وَلَا من أهل الْقَلَم فاعتمدت ذَلِك وَهَذَا من أدل دَلِيل على كَمَال عقله وَشدَّة تواضعه وَلَقَد كَانَ يُبَالغ فِي ذَلِك حَتَّى لَا يكَاد يعرف مَنْزِلَته من الشَّيْخ بِلَال إِلَّا لأفراد من الْخَواص وَكَانَ يجْتَهد على مُرَاعَاة بواطن المكاثرين لِبلَال وَكَانَ تَارِكًا للتظاهر بالجاه والمنصب قَالَ عمَارَة وَلَو لم يكن لهَذَا الْفَقِيه الأديب غير هَذِه الْخصْلَة لكَانَتْ كَافِيَة شافية مغنية عَمَّا سواهَا من المناقب إِذْ فِيهَا قهر النَّفس وصدها وَهُوَ الْجِهَاد الْأَكْبَر كَيفَ لَا وَله مَنَاقِب غَيرهَا كَثِيرَة مِنْهَا أَنه كَانَ مَتى سمع بقدوم قافلة إِلَى عدن لقيها إِلَى الْبَاب وَسَأَلَ عَمَّن فِيهَا من
1 / 371