كان ظفر أثينا في رد غارة الفرس عن بلاد اليونان أول عصر جديد لها في الحياة السياسية. فقد عرف اليونان لها الزعامة كما قدمنا. وما أسرع ما ألفت مع جزر بحر إيجيا وكثير من المستعمرات اليونانية في تراقيا جماعة متحالفة على حرب الفرس، متناصرة على تحرير البحر وحماية التجارة اليونانية وإنقاذ سكان آسيا اليونان من سطوة الملك الأعظم. وأصبحت أثينا عاصمة لهذا التحالف؛ فكانت بهذا ملتقى للوفود اليونانية من جميع الشعوب على اختلاف أجناسها وملكاتها. وكل الناس يعرف أثر هذا الاختلاط بين الأجناس في الحياة العقلية والأدبية. فليس من شك في أن أثينا مدينة له بشيء غير قليل من نهضتها العامة التي بلغت أقصى ما كان يمكن أن تبلغه في القرن الخامس.
أضف إلى هذا أن أثينا أصبحت بعد الحروب الفارسية أعظم دولة بحرية، وأخذت أساطيلها تنتشر في معظم البحر الأبيض المتوسط. فكانت تزور مصر وشواطئ آسيا الصغرى، وكانت تزور البحر الأسود إلى أقصاه، ولم تقف عند هذا الحد، بل زاحمت أهل إيطاليا وصقليا فزارت أساطيلها القسم الغربي من البحر الأبيض. ومن الواضح أثر هذه السياحات البحرية والمعاملات التي كانت تصل بينها وبين غيرها من أمم الشرق والغرب المجاورة للبحر. فقد كانت تقفها من العلم على شيء كثير في فنون مختلفة، كانت تعلمها المواقع الجغرافية لهذه البلاد وترشدها إلى ما لأهلها من نظم اجتماعية وسياسية ودينية واقتصادية.
وكانت تطلع الباحثين من أهلها على ما كان لهؤلاء الناس من حظ علمي قليل أو كثير، وكان التجار والبحارة لا يكادون يعودون إلى أثينا حتى يتحدثوا بما شهدوا معجبين الإعجاب كله. وكان فوز التجارة وامتداد السلطان السياسي يؤيد هذا الإعجاب ويضاعف تأثيره، فتشتد الرغبة في السياحة وزيارة الأقطار المختلفة. ولولا ما كان يشغل الأثينيين في ذلك الوقت من حرب أو استعداد لحرب ومن أعمال سياسية في المدينة يقتضيها النظام الديمقراطي ولا سيما إذا أحبه الشعب وشغف به لأصبح الأثينيون وكلهم سندباد بحري.
5
هذا الفوز السياسي الذي أظهر أثينا وأعلى مكانتها بين أمم اليونان بعث في نفوس الأثينيين شيئا غير قليل من الثقة بأنفسهم والإكبار لمكانتهم، فما كان يشك هذا الأثيني الذي انتصر على الملك الأعظم فهزم جيوشه ودمر أسطوله ورده إلى آسيا تعسا ذليلا، وحرر من ربقته شعوب اليونان الآسيوية، أنه يقصر عن شيء أو أن في هذه الحياة ما يعجزه ويفوته.
ومتى نزلت هذه الثقة بالنفس من قلب الشعب منزلة حسنة من غير أن يفسدها الإسراف والغلو، أو يحمل الإعجاب بها على الركون إليها والقعود عن العمل والإخلاد إلى الاستمتاع بها، أقول متى نزلت هذه الثقة من قلب الشعب منزلة حسنة كانت مصدرا لأنواع من الفوز والظفر لم يكن الشعب لينتظرها أو يطمع فيها. ولقد كان الشعب الأثيني في هذا العصر على شدة ثقته بنفسه وشعوره بقوته مقدرا لهما حق التقدير غير مسرف في ذلك ولا مغرق، يجرؤ ولكن بعد أن يتروى، ويقدم ولكن بعد أن يتدبر. فكان هذا سبيله إلى إتمام ما بدأ من فوز وغلب. فأصبحت له السيطرة على تجارة البحر وعلى معظم جزره، وأصبحت تجبى إليه أموال هذه الجزر فينفقها في تقوية أسطوله وبسط سلطان الجماعة المتحالفة.
هذه الثقة بالنفس لم تقتصر على الجهة السياسية والاقتصادية، بل تجاوزتها إلى الجهة الأدبية والفنية والعقلية. فإذا كانت أثينا وطنا لأيسكولوس وسوفكليس وأوروبيديس من الشعراء الممثلين، ولفدياس زعيم الفن الجميل ولسقراط مؤسس الفلسفة؛ فهي مدينة بهذا لذلك المجد المؤثل الذي ملأ نفوس أبنائها ثقة وإقداما فاعتقدوا أنهم قادرون على كل شيء ونظروا إلى ما حولهم من آثار الأدب والفن والفلسفة والسياسة، فرأوا أنه من الضعف والوهن ومن القدم وطول العهد بحيث لم يكن بد من إزالته وإقامة الجديد مقامه.
وقد حاولوا ذلك في السياسة فظفروا كل الظفر وحاولوه في غيرها فأفلحوا الفلاح كله، ولولا هذه الثقة وهذا الإقدام لكان من الممكن ألا يفوز الأدب والعلم والفن بما وضع له الأثينيون من دعامة ثابتة وأساس متين.
6
لم يكن بد من إيجاز ما قدمنا من الحياة الأثينية لنفهم كيف نشأ التمثيل فيها وارتقى، وكيف استحال وانتقل من طور إلى طور حتى بلغ أقصى ما قدر له من الرقي في القرن الخامس قبل المسيح.
Unknown page