124

Suhuf Mukhtara

صحف مختارة من الشعر التمثيلي عند اليونان

Genres

انظر إليه في أنتيجونا كيف مثل إرادتها قوية شديدة الحرص على ما صممت عليه من دفن بولينيس لا يصرفها عن ذلك صارف، تلح عليها أختها فتردها ردا عنيفا وتنصح لها الجوقة فلا تحفل بنصحها، وينذرها الملك فتحتقره وتزدريه، ثم يقضي عليها بالموت فتلقى ذلك ثابتة غير مضطربة في رأيها ولا متحولة عنه. وكيف مثل كريون معتزا بسلطان الملك والقانون يريد أن يأمر فيطاع، فقد أزمع ألا يدفن بولينيس وأعلن أن دافنه مقتول، ثم يظهر له أن بولينيس قد دفن وأن بنت أويديبوس هي التي دفنته، وأن أهل المدينة كلهم لهم أنصار وأن ابنه يحبها ويكلف بها ولا يستطيع أن يستمتع بعدها بالحياة فلا يحوله ذلك عما أصدر من أمر. بل انظر إليه يزدري الجوقة حين تنصح له بالقصد ويهين الكاهن حين يعلن إليه أمر الآلهة. كلا الخصمين مصر عنيد وكلاهما يلقى ثمرة إصراره وعناده.

يخيل إلى الجمهور أن الآلهة هم الذين عاقبوا كريون على ما قدم إليهم من إهانة، ولكن المتأمل في القصة يرى أن هذه العقوبة لم تكن إلا نتيجة منطقية لما كان من إصراره وإعراضه عن اللين. يعلن إليه ابنه أنه قاتل نفسه إن قتلت أنتيجونا، فلا يحفل بذلك، ويمضي ابنه يائسا قد أزمع الموت. ثم يندم كريون لأنه لم يسمع لنصيحة الكاهن، فيحاول أن يخلص أنتيجونا ولكن «سبق السيف العذل»، قد ماتت أنتيجونا والتزمها ابنه يعانقها مرة ويقبلها مرة أخرى، ثم يقتل نفسه فيمتزج دمه بدم من أحب، وأبوه شاهد قد ملكه الذهول وكاد يجن جنونا. حتى إذا عاد إلى القصر وجد الخبر قد سبقه إليه ووجد زوجه قد قتلت نفسها بأسا لموت ابنها، فينوء به الحزن ويتركه سوفوكليس أمامنا متولها أبله لا يعرف ماذا يصنع ولا يدري كيف يقول.

تغيير معنى التراجيديا ووجهتها، غير اللذة التي يشعر بها النظارة أو القارئ. فقد كان الحوار عند أيسكولوس يبهرنا بما اشتمل عليه من جلال وضخامة، أما عند سوفوكليس فهو يخلبنا لدقته ولطف مأخذه.

شعورنا وحده هو الذي كان يتأثر في أكثر الأحيان بحوار أيسكولوس. كنا نحس كأن شيئا ضخما يبهظنا. أما عند سوفوكليس فلم يفقد الشعور شيئا من لذته، وقد أخذ العقل من هذه اللذة بنصيب. ليس من سبيل إلى أن ننكر حين تقرأ سوفوكليس أن الكاتب قد كان يتأثر بحياة هذا العصر الذي أخذت تظهر فيه الفلسفة، ولا سيما فلسفة السوفسطائيين. هذه الفلسفة التي كان قوامها الافتنان في المحاورة والاجتهاد في الأخذ بتلابيب المحاور والتضييق عليه من غير أن يظهر في ذلك تعنت أو تكلف.

يشعر قارئ سوفوكليس بأنه يعيش في عصر سقراط، حوار مرن مقنع دقيق، مع أنه يخيل إليك أن الذين يتجاذبونه لا يجهدون أنفسهم ولا يتعمقون في البحث. كل ما بين سقراط وسوفوكليس من الفرق هو أن سوفوكليس لم يكن يتخذ الفلسفة لحواره موضوعا ولم يكن يتكلف لغة الفلاسفة، إنما كان يتخذ موضوعا لحواره ما للنفس الإنسانية من خلق أو هوى، وكان يتكلم هذه اللغة الذي ألفها الجمهور باختلافه إلى ملاعب التمثيل.

أخذت التراجيديا بفضل سوفوكليس صورة جديدة. فقدت شيئا من هذا الجلال الذي كان يميز قصص أيسكولوس، ولكنها بذلك نفسه قرب ما بينها وبين الناس، واكتسبت شيئا - من الدقة والتلطف في تحليل العواطف والميول - لم يكن لها من قبل. وليس من الغلو القول بأن سوفوكليس هو أول من وضع التمثيل البسوكولوجي.

فلم يقصد إلى إظهار سلطان الآلهة وضعف الإنسان، وإنما أراد قبل كل شيء أن يظهر النفس الإنسانية واضحة جلية إبان ما يعترضها في الحياة من خطوب، فتراها مطمئنة هادئة، ثم تراها وقد أخذت تضطرب وتجيش، ثم تراها وقد لقيت الخطب ثابتة مزمعة احتماله، وهي في جميع هذه المواطن تحسن الإعراب عما ينبعث فيها من عاطفة، أو يبعثها على العمل من ميل وهوى.

4

يمكن أن نقول إن أشخاص سوفوكليس يمثلون عصره، ويمكن أن نقول إنهم لا يمثلونه. فقد تأثر سوفوكليس بشيئين متباينين؛ الأول: الشعر القصصي الذي استعار منه موضوعاته والذي كان يمثل عصر الأبطال، والثاني: هذه الحياة الحديثة، حياة القرن الخامس قبل المسيح.

وقد عمل هذان المؤثران معا في تكوين قصصه. ففي أشخاصه شيء غير قليل من جلال الأبطال، ولكنهم خاضعون لما امتاز به أثيني القرن الخامس من رشاقة الحركة وخفة الروح، وشيء من الهزء والسخرية حتى بأشد الأشياء جلالا وأقربها من الدين منزلة. كأن سوفوكليس قد أراد أن يمثل أبناء عصره منزهين من نقائصهم، تزينهم فضائل الأبطال أو كأنه أراد أن يمثل الأبطال تزينهم خصال عصورهم الأولى من غير أن يبعد ما بينهم وبين الناس.

Unknown page