بعد حادثة مزهرة الغسيل أصبحت شار مشهورة؛ أخذت تشارك في الأعمال المسرحية التي تنظمها جمعية مسرح الهواة وجمعية أوراتوريو، مع أنها لم تمتلك قط موهبة ممثلة أو مغنية. ودائما ما كانت تقوم بدور البطلة الباردة والجميلة في المسرحيات، أو سيدة المجتمع العصبية الفاتنة. تعلمت التدخين، وذلك بسبب اضطرارها للقيام بذلك على خشبة المسرح. في مسرحية لن تنساها إت أبدا، لعبت دور تمثال، أو بمعنى أدق، لعبت دور فتاة مضطرة للتظاهر بأنها تمثال، بحيث يقع شاب معين في حبها، ثم يكتشف في وقت لاحق، مما يصيبه بالحيرة وربما خيبة الأمل، أنها إنسان. كان على شار أن تقف مدة ثماني دقائق ساكنة تماما على خشبة المسرح، ملتحفة بملاءة بيضاء، تطل على الجمهور بسحنة جميلة لا تنقل أي مشاعر. وقد تعجب الجميع من قدرتها على أداء هذا الدور .
والذي شجعها على الانضمام إلى جمعية مسرح الهواة وجمعية أوراتوريو كان آرثر كومبر، المدرس في المدرسة الثانوية الوافد حديثا إلى موك هيل، الذي كان يدرس التاريخ لإت في سنتها النهائية. كان الجميع يقولون إنه يعطيها درجة الامتياز لأنه يحب شقيقتها، ولكن إت كانت تعلم أن ذلك مرده إلى استذكارها بجد أكثر من أي وقت مضى؛ إذ تعلمت تاريخ أمريكا الشمالية كأن لم تتعلم شيئا آخر في حياتها. لم تنس قط تسوية ميسوري ورحلة ماكينزي إلى المحيط الهادي عام 1793.
كان آرثر كومبر يناهز الثلاثين من العمر أو نحو ذلك، يتميز بجبهة عالية صلعاء، ووجه أحمر مع أنه لم يقرب الشراب (اعترى وجهه الشحوب في وقت لاحق)، وسلوك أخرق أهوج؛ فقد أوقع بزجاجة الحبر من على مكتبه ولطخ أرضية حجرة التاريخ بعلامة لن تزول. «يا إلهي! يا إلهي!» قالها وهو يخر على الأرض متتبعا أثر الحبر المنتشر، ليمسحه بمنديله. أخذت إت تقلده، قائلة: «يا إلهي! يا إلهي!» وكل صيحاته الهوجاء وإيماءاته المشوشة. ثم، عندما أخذ مقالها عند الباب، ولمع وجهه الأحمر بإشراقة تنم عن اللهفة، ورحب بعملها وبها هي نفسها أيما ترحيب، شعرت بالأسف. وقد رأت إت أن هذا هو السبب الذي دفعها للعمل بجد؛ حتى تكفر عن سخريتها منه.
كان لديه عباءة أكاديمية سوداء يرتديها على بدلته وهو يلقي الدروس. حتى عندما لم يكن يرتديها، كان بمقدور إت أن تراها عليه. وعندما كان يهرول بطول الشارع إلى إحدى مهامه العديدة التي يؤديها بكل سرور، مسرعا إلى مطربي أوراتوريو، قافزا على خشبة المسرح - التي كانت ترتج تحت قدميه - ليري شيئا للممثلين في مسرحية، بدا لها وهو يقوم بذلك وكأنه يمتلك أجنحة الغراب الطويلة المضحكة تلك ترف من ورائه، الأمر الذي يجعله مختلفا عن غيره من الرجال، سخيفا ولكنه مثير للاهتمام، كقس متخرج في كلية هولي كروس. أقنعته شار بالتخلي عن العباءة تماما، وذلك بعد زواجهما؛ فقد سمعت أنه تعثر بها وهو يرتقي درجات سلم المدرسة فانبطح أرضا. وكانت تلك نهاية أمر العباءة التي مزقتها إربا. «خشيت أن يأتي يوم تتأذى منها حقا.»
لكن آرثر قال لها: «آه. لعلك اعتقدت أنني أبدو فيها أخرق.»
لم تنكر شار ذلك، مع أن عينيه الناظرتين إليها وابتسامته العريضة كانت تستجديها أن تنكره؛ إذ التوت شفتاها عند الزوايا رغما عنها، تعبيرا عن الازدراء والغضب. رأت إت - كلاهما رأيا - موجة جارفة هائلة من هذا الشعور تجتاحها قبل أن تتمكن من أن تبتسم في وجهه وتقول: «لا تكن سخيفا.» ثم حاولت جاهدة أن تبقي ابتسامتها وعينيها مثبتتين عليه، في محاولة للتشبث بصلاحه (الذي رأته، كما رآه الجميع، ولكنه لم يؤد في النهاية إلا إلى إثارة ثائرتها، في رأي إت، شأنه شأن أي شيء آخر فيه، مثل جبهته المتعرقة وتفاؤله الزائد عن الحد)، قبل أن تعاودها موجة الغليان مرة أخرى وتجتاحها تماما.
تعرضت شار للإجهاض خلال السنة الأولى من زواجها، وظلت بعدها مريضة فترة طويلة، ولم تحمل بعدها قط. في ذلك الحين لم تكن إت تعيش في المنزل؛ إذ كانت تقطن في سكن خاص في الساحة، ولكنها كانت تحضر للمنزل مرة واحدة في يوم الغسيل، لمساعدة شار في تعليق الملاءات على حبل الغسيل. حينها كان والداهما قد توفيا - توفيت أمهما قبل الزفاف أما أبوهما فتوفي بعدها - ولكن بدا لإت أن الملاءات تخص سريرين. «هذا يجعلك تغسلين كما هائلا.» «ما هذا؟» «تغيير الملاءات بطريقتك تلك.»
كثيرا ما كانت إت تذهب هناك مساء لتلعب الريمية بأوراق اللعب مع آرثر بينما تعزف شار على البيانو في الظلام في غرفة أخرى. أو تتحدث إلى شار وتقرأ من كتب المكتبة معها، بينما يعلم آرثر أوراقه. كان آرثر يوصلها إلى منزلها. فوبخها ذات مرة قائلا: «ما الذي يدعوك إلى مغادرتنا والعيش بمفردك؟ يجب أن تعودي وتعيشي معنا.» «ثلاثة معا عدد كبير.» «هذا لن يدوم طويلا؛ فلا بد أن أحدهم سيأتي يوما ويقع على رقبته.» «إذا كان هو من الحماقة لأن يقع على رقبته، فلن أقع أنا من أجله أبدا في المقابل، ومن ثم نعود من حيث بدأنا.» «لقد كنت أحمق ووقعت على رقبتي من أجل شار، وانتهى بها الأمر بالفوز بي.»
الطريقة التي نطق بها اسمها توحي بأن شار فوق وخارج كل الاعتبارات التقليدية؛ أعجوبة ولغز لا يمكن لأحد أن يأمل في حله، وأنهما محظوظان لمجرد السماح لهما بالتفكير فيها. كانت إت على وشك أن تقول: «لقد ابتلعت فاتنتك مزهرة الغسيل ذات مرة حزنا على رجل لم يكن لها»، ولكنها فكرت في أنه سيكون لذلك تأثير إيجابي عليه؛ إذ ستبدو شار أكثر روعة في عينيه، مثل بطلة بإحدى مسرحيات شكسبير. اعتصر آرثر خصر إت كما لو كان يؤكد على الإبهام الذي يكتنف علاقتهما الودية، وإكباره اللاإرادي لها، أمام أختها. شعرت بعد ذلك بشدة ضغطة أصابعه كما لو أنها قد تركت خدوشا حيث تربط تنورتها. بدا كما لو أن شخصا شارد الذهن يجرب الضغط على مفاتيح البيانو. •••
اشتغلت إت بمهنة تفصيل الملابس. كانت تمتلك غرفة ضيقة تطل على الساحة، كانت متجرا ذات يوم؛ حيث تقص القماش وتخيطه وتقيس الملابس وتكويها، أما النوم والطبخ فكانت تتدبر أمرهما خلف ستارة في نفس الغرفة. كانت تستلقي في فراشها وتحدق في مربعات القصدير المضغوط في سقف غرفتها، وشكل الورود الذي تتخذه. كل ذلك ملكها وحدها. لم يكن آرثر يحب حديثها عن تفصيل الملابس؛ لأنه يعتقد أنها أذكى من ذلك العمل. كل الجهد الشاق الذي بذلته في دراسة التاريخ أعطاه فكرة مبالغا فيها عن ذكائها. وقالت له: «إن قص القماش وقياس الملابس، إذا فعلته بالطريقة الصائبة، يتطلب من الذكاء أكثر مما يتطلبه تدريس حرب 1812؛ لأنك ما إن تدرسها حتى تعرف أحداثها وينتهي الأمر دون أن تغير فيك تلك المعرفة شيئا. أما كل قطعة ملابس جديدة فتمثل منتجا جديدا تماما.»
Unknown page