107

Sinima Wa Falsafa

السينما والفلسفة: ماذا تقدم إحداهما للأخرى

Genres

7

وتفعيل تلك القواعد أمر جوهري؛ فالحياة داخل مجتمع عادل تصب في مصلحتنا، لكن هذا لا يعني أنه من مصلحتنا الشخصية الالتزام دائما بقواعد ذلك المجتمع. إذا كان بوسعنا ممارسة الغش والإفلات بفعلتنا، كما فعل جودا، فإن أقوى مبرراتنا المتعقلة قد توعز لنا بالغش. نحتاج إلى ما هو أكثر من قوانين تحريم القتل في كتب القوانين؛ نحتاج إلى قوة شرطية ولنظام قضائي كفء يدعم تلك القوانين. بعبارة أخرى، نحتاج إلى نظام ردع فعال. ونظام الردع الفعال على نحو مثالي هو نظام يضمن أن يصب اتباع القانون في مصلحة كل فرد، ويتمكن من تحقيق ذلك عبر التأكد من أن المخاطر المتضمنة في مخالفة القانون بالغة الجسامة إلى حد يجعل مخالفة القانون رهانا خاسرا في جميع الأحوال.

8

بالطبع، من الصعوبة بمكان وضع نظام ردع فعال على نحو مثالي. هل سيكون نموذجا جديرا بالاحترام؟ هل سيحل وجوده مشكلة التعارض بين المبررات المتعقلة والمبررات الأخلاقية؟ إن نظاما كهذا لن يمنع الجرائم كافة، ناهيك عن جميع الآثام. وحتى نظام ما قبل الجريمة في فيلم «تقرير الأقلية» أخفق في منع جرائم الشروع في القتل! (راجع الفصل السابع). إن مهمة نظام الردع الفعال المثالي هي ضمان ألا يخالف القانون سوى الحمقى. والحمقى موجودون بوفرة في كل مكان - في الواقع كلنا حمقى بدرجة أو بأخرى - لكن على الأقل يمكننا القول إنه في ظل وجود نظام ردع فعال على نحو مثالي يتصرف منتهكو القانون ضد مصلحتهم الخاصة.

فلنعد إلى نموذج جودا لنرى كيف يمكن تطبيق هذا عمليا. يواجه جودا خيارا صعبا، وبافتراض أنه لا يفكر إلا فيما يحقق مصلحته، كيف ينبغي له الشروع في تقرير ما عليه فعله؟ لقد قرر تأجير قاتل للتخلص من ديلوريز، ويبدو مع نهاية الفيلم أنه أفلت بفعلته. (في القسم التالي من الفصل، نتساءل عما إذا كان قد أفلت حقا بفعلته.) وحتى إذا كان قد أفلت فعليا من العقاب، فإن ذلك لا يعني أنه تصرف تصرفا عقلانيا يصب في مصلحته. ربما كان محظوظا ليس أكثر؛ فقد يحالف الحظ أناسا في غاية الحماقة. كيف إذن نتخذ قرارات عقلانية تتعلق بمصلحتنا الخاصة؟ لن يكفينا تحديد النتيجة التي نرغب فيها من موقف ما ثم السعي وراءها، بل علينا التعامل مع حقيقة عدم يقينية الأحداث، وكوننا عاجزين عن معرفة ما ستتمخض عنه أفعالنا يقينا. ربما انكشف جودا، وألقت قوات الشرطة القبض عليه، ربما أبدى قلقا زائدا بينما يستجوبه المحققون مما أثار شكوكهم. ربما كانت ديلوريز تحتفظ بمذكرات خبأتها في مكان ما. ربما ألقي القبض على القاتل المأجور في جريمة أخرى، وعندها قد يفضح اتفاقه مع شقيق جودا كجزء من صفقة يعقدها مع المدعي العام (وهو ما نراه يحدث في المسلسلات التليفزيونية طوال الوقت). وعلاوة على ذلك، ربما يعجز جودا عن التأقلم نفسيا مع ما ارتكبه. في الفيلم نجده يعاني نفسيا لبعض الوقت ثم يتعافى، لكنه لم يكن يعرف وقتما اتخذ قراره بالتخلص من ديلوريز أن الأمور ستنتهي على هذا النحو. لم يكن لديه ما يضمن عدم إصابته باكتئاب حاد لسنوات؛ ربما كان قراره إيذانا ببدء حياة يملؤها احتقار الذات والشعور بالذنب والندم، ربما كان سيدفعه إلى الانتحار. كيف كان سيتسنى لجودا معرفة معدنه الحقيقي وقتها؟ كيف كان سيتسنى له أن يعرف مسبقا أنه رجل قاس، رجل ذو شخصية ضحلة وطبع متحجر، يملك قدرة كبيرة على خداع الذات والعيش في سعادة بأيد تلطخها الدماء. يختلف جودا عن شخصية الليدي ماكبث. لكن الليدي ماكبث لم تكن تعلم كيف سيكون رد فعلها على تورطها في جريمة قتل. كيف كان جودا سيتحصل على هذه المعرفة؟

التقلب سمة أصيلة للحياة؛ ما يحتم علينا عند السعي خلف مصالحنا إلى الاستعانة بحكمنا حول ما قد يحدث ومدى احتمالية حدوثه، وما قد يقع علينا من ضرر أو نفع حال حدوثه. يرى أنصار نظرية القرار المعاصرة أن السبيل النموذجي لفهم هذه المهمة يتطلب مراعاة ما يطلق عليه النفعية المتوقعة. إليكم كيفية تطبيق هذا على نموذج جودا. يواجه جودا اختيارا ما بين الاعتراف لميريام أو الترتيب لعملية قتل ديلوريز. (فلنفترض، لدواعي التبسيط، أن تلك هي الخيارات الوحيدة المتاحة أمامه.) وعليه استنباط العواقب المحتملة للاعتراف لميريام، ثم تحديد مدى أرجحية كل احتمالية وقدر الضرر الذي قد يلحق به. وبعد ذلك يلخص الموقف بهدف الوقوف على نوع الرهان الذي قد يتضمنه الاعتراف. كانت هذه المهمة ستصبح سهلة لو كان لدى جودا وسيلة لقياس كل من أرجحية النتائج ومدى ما ستجلبه من نفع أو ضرر. (يطلق منظرو القرارات على ما تتمتع به النتائج من نفع أو ضرر «جدوى النتائج».) فيما يلي طريقة تحديد الجدوى المتوقعة من أي فعل: لكل نتيجة محتملة للفعل، عليك بضرب جدوى النتيجة في مدى أرجحيتها. حاصل عمليات الضرب تلك كلها هو الجدوى المتوقعة للفعل. تكمن الفكرة ها هنا في استنباط الجدوى المتوقعة لكل فعل قد تقوم به ثم اختيار الفعل الذي يتمتع بأعلى جدوى متوقعة. بعبارة أخرى، اختر أفضل رهان متاح لك. الحياة لعبة رهان؛ لذا من الطبيعي أن نعتقد بأن الجدوى المتوقعة هي جوهر عملية اتخاذ القرار العقلانية المتمركزة حول المصلحة الذاتية.

كما قلنا سابقا، يصبح الأمر سهلا إذا كان لديك تقدير جيد لكل من الأرجحية والجدوى، لكن في عالم الواقع نادرا ما يتوفر لنا أي من ذلك. إذا اعترف جودا لميريام فقد تتركه. ما مدى أرجحية هذا؟ ما مدى الضرر الذي سيلحق به جراء ذلك؟ لا يسع جودا سوى التكهن بما قد يحدث. ربما تبقى ميريام معه لكنها ستجعل حياته في غاية الصعوبة. ما مدى أرجحية هذا؟ ما مدى الضرر الذي سيلحق به في تلك الحالة؟ ربما تسامحه ميريام وتتعافى علاقتهما من أزمتها، بل وقد تتعمق على مر السنين. ما مدى أرجحية ذلك؟ ما مدى النفع الذي سيعود عليه حينئذ؟ يفترض بجودا تقدير ذلك كله بطريقة ما، وتلخيصه في حكم يحدد مدى نفع أو ضرر رهان الاعتراف لميريام، من وجهة نظره المتمركزة حول مصلحته الذاتية. لكن هذا ليس سوى جزء من عملية اتخاذ القرار. على جودا بجانب ذلك مقارنة هذا الرهان المحتمل برهان آخر بديل. إذا أمر بقتل ديلوريز، ما احتمالات اكتشاف الشرطة لفعلته؟ ما مدى الضرر الذي سيلحق به جراء ذلك؟ (ضرر أكيد.) ما احتمالات معاقبة الله له؟ ما مدى الضرر الذي سيلحق به في هذه الحالة؟ (ضرر بالغ حقا.) لا يؤمن جودا بوجود إله؛ ومن ثم يستبعد احتمالية الانتقام الإلهي. لكن بعدما ارتكب فعلته، بدأت تساوره الشكوك؛ ماذا لو كان مخطئا، ماذا لو كان الله موجودا وشاهدا عليه؟ ربما لم يكن عليه استبعاد فرضية عقاب الله كليا. ما احتمالات كونه مخطئا حيال وجود الله؟ وبعيدا عن هذا كله، من المحتمل أن يعاني جودا من ندم بالغ واحتقار شديد للذات يصل حدا يجعل تعايشه مع نفسه مستحيلا، على غرار الليدي ماكبث. ما احتمالات حدوث ذلك؟ علينا تلخيص ذلك كله كي نصل إلى الجدوى المتوقعة من عملية القتل ثم مقارنة النتيجة بالجدوى المتوقعة من الاعتراف لميريام بالعلاقة الغرامية. أي من الرهانين هو الأفضل؟ كيف بربك يفترض بجودا إجراء تلك الحسابات كلها؟ إنها مهمة بالغة المشقة على أقل تقدير.

9

سوف تئول به الحال إلى تخمين معظم الاحتمالات، دون أن يعرف حقا كيف يقارن الجدوى المتوقعة لكلا الخيارين. إن السعي وراء مصلحتنا الخاصة أصعب بكثير مما قد نظن.

لا يمكن الاعتماد على الناس في اتخاذ قرارات عقلانية، من حيث الجدوى المتوقعة، إلا عندما يرون بوضوح تام مقارنة دقيقة للجدوى المتوقعة. عندئذ يأتي دور نظام الردع الفعال. إذا كانت الشرطة تتمتع بالقدر الكافي من الكفاءة، وكان العقاب الواقع بمنتهكي القانون سيئا بما يكفي، حينئذ تصبح الجدوى المتوقعة من مخالفة القانون منخفضة جدا لدرجة تكاد تمنع وجود أي ظروف تصبح فيها مخالفة القانون أفضل رهان متاح. وعلاوة على ذلك، لا بد أن يكون واضحا تماما للجميع أن مخالفة القانون رهان خاسر في جميع الأحوال تقريبا. لهذا السبب تصبح أنظمة الردع الفعالة عادة أنظمة وحشية؛ فقد تتضمن عقوبات مبالغ في قسوتها (بحيث يحجم أي ذي عقل على مجرد المخاطرة، ولو مخاطرة ضئيلة، بالتعرض لها) أو ربما تتضمن مراقبة شرطية مبالغ في صرامتها (فلا يثق أي ذي عقل باحتمالية الإفلات من العقاب عند مخالفته القانون) أو قد تتضمن كلا الأمرين.

Unknown page