وأما الأسماء البسيطة فقد يكون لها أجزاء لا تدل أصلا، لا من حيث هى جزء، ولا لو انفردت. وأما جزء اللفظ المركب، فإنه يدل على شئ لا حين ما يوجد جزءا من جملة المركب مدلولا بالمركب على ما دل به عليه كقولك ((عبد الملك)) فإنه حينئذ لا يتوقع أن يدل بانفراده، من حيث هو جزء لفظ، حتى يكون إنما يورد ليلتئم به كمال اللفظ فيلتئم كمال الدلالة، بل هذا فى استعمال آخر. وإلحاق التواطؤ بعد قولنا ((لفظة)) قد توهم أنه هذر من القول، فقد يظن أن اللفظ لا يدل إلا أن يكون بالتواطؤ وكذلك قيل إنه كان يجب: أن يقال بدل اللفظ الصوت، فأقول إن هذا باطل فإنه لا يحسن أن يستعمل فى هذا الموضع الصوت فإن الصوت مادة لا جنس والمادة لا تحمل على الشئ المعمول من مادة وصورة إلا بنوع من المجاز أو الجهل، إذ يقال للصنم إنه حجر والكرسى إنه خشب، وأما الحدود الحقيقية فلا يجب أن تستعمل فيها المواد مكان الأجناس. أما الفرق بين الجنس والمادة فمما تشتبه الحال فيه وتشكل، ولكنه سيتبين لك ذلك فى هذه الصناعة من بعد، وكذلك تحقيق ما قلناه من أن المادة لا يجب أن تؤخذ مكان الجنس، بل يكون ذلك كاذبا. وأما أن الصوت مادة فتتحققه فى العلم الطبيعى. بل أعود إلى الغرض فأقول: إن اللفظ قد يكون دالا وقد يكون غير دال، كما قد اعترفوا به، وذلك على وجهين: أحدهما أن يكون مؤلفا من حروف ثم لا يراد بذلك دلالة على أثر فى النفس كقول القائا ((شنقنقتين))، والثانى أن يراد بذلك دلالة على أثر فى النفس، لكن ذلك الأثر لا يستند إلى خارج كقولنا ((العنقاء)). فكون اللفظ غير دال ليس يخرجه عن أن يكون لفظا. فكذلك كونه دالا، ولكن لا بالتواطؤ بل على نوع آخر، فإنه قد يسمع من الناس ألفاظ فتدل على معان على غير سبيل التواطؤ، كمن يقول ((أخ)) فيدل على الوجه ويقول ((أح أح)) عند السعال فيدل على أذى فى الصدر، فليس ذلك على سبيل التواطؤ المحض، حتى يكون الناس قد تواطؤوا على استعمال ذلك عند السعال مستعملين إياه لفهم معنى أذى الصدر. وهذه، وإن كانت أصواتا، فهى أيضا ألفاظ، لأنها مركبات من حروف يركبها الإنسان، وأنها، وإن كانت تدل، لا بالتواطؤ، فليس يجب أن تكون دلالتها لا بالتواطؤ تسلبها من كونها ألفاظا شيئا؛ فإنها ولو لم تدل أصلا، كانت ألفاظا؛ لأنها مؤلفة تأليفا اختياريا عن حروف،وليس دلالتها، من حيث فيها صوت، مانعا عن أن يكون لفظا. فإن الشئ إنما هو لفظ لأنه مؤلف من حروف مقطعة عن أصوات؛ وكونها كذلك ليس يوجب أن تكون مع ذلك دالة أو غير دالة فضلا عن أن يوجب أن تكون غير دالة دلالة بالطبع؛ فإن جزءا منها كالمادة وهو الصوت يلحقه بعض ما يلحق الصوت، لأنه صوت، فلا يؤثر ذلك فى الجملة كما لايؤثر كونها دالة على المصوت، فإذن هذا الاعتراض غير صحيح وادخال التواطؤ فيه واجب. فإن الدال أعم من الدال بالتواطؤ والدال على وجه آخر، اللهم إلا أن يجعل الدال يقع عليهما باشتراك فيكون واقعا على دلالة الاسم وعلى دلالة نغمة الطائر وصياح البهيمة أيضا باشتراك الاسم. فإن كان كونه دالا إنما يقع على ذلك كله بالاشتراك، وكان ذلك يغنى عن تمحل الفصل بين دلالة ودلالة، فإن الفصول فى الحدود والرسوم إنما تطلب بحسب المعانى، لا بحسب الألفاظ. والحال قائمة عندما يجعل بدل اللفظ الصوت، وإن لم يكن ذلك مغنيا، فإنا نحوج إلى إيراد الفصل بين الدلالتين، إذ كنا لما أخذنا اللفظ وكان يكون دالا وغير دال، وقرنا به الدال، لم نقرن دالا إحدى الدلالتين بعينها، بل قرنا دالا عاما كما فعلنا حين أخذنا الصوت، فنحتاج أن ندل على إحدى الخاصيتين. فإن قيل: إنه إذا قيل ((لفظ دال)) علم أنه ليس يعنى بالدال إلا ما اصطلح عليه الناس، فنقول: وكذلك الحال إذا قيل صوت دال وأردف بأنه يدل على زمان أو لا يدل وسائر ذلك؛ فإن الذهن نفسه يسبق إليه أن المراد به هاهنا إنما هو أنه دال بالتواطؤ، وكما يسبق إليه هناك، ولا يعنى ذلك فى الموضعين جميعا عن ذكر التواطؤ؛ إذ ليس ولا فى أحد الموضعين مستفادا من نفس كونه لفظا أو صوتا ولا من نفس كونه دالا مطلقا أو على زمان، بل هو شىء يعرفه الذهن على سبيل الانتقال وينتبه له من خارج لا على سبيل دلالة اللفظ. وقد عرفت الفرق بين الدلالتين. فإن ظن ظان أن المحوج إلى إيراد التواطؤ لم يكن إلا مراعاة الفرق بين الألفاظ وأصوات البهائم، وإذا قيل ((لفظ)) خرج ما كان يشكك ويشتبه، فذلك حسن ظن بالأمر وخديعة للنفس؛ وما الذى أمن هذا الظان أن الحاجة قد قضيت، فعسى أن يكون قد بقى بعد ذلك أيضا اشتباه وتشكك آخر من جنس ما أوردناه محوج إلى مراعاته ؟ وبالجملة لا يجب أن يلتفت فى الحدود إلى ما يشتمل عليه اللفظ فى التحديد اقتصارا على ما يتنبه له الذهن؛ فإن هذا لو كان ملتفتا إليه لقيل فى حد الإنسان إنه حيوان ضحاك واقتصر عليه واستحسن، إذ كان الذهن يلتفت إلى أنه يكون ناطقا، أو قيل إنه جسم ناطق، فإن الذهن يلتفت إلى أنه حيوان ولا يجب أن يكون الالتفات فى الحدود موجها إلى التمييز نفسه فقط، بل إلى ما ستعلمه فى موضعه. فقد بان لإدخال التواطؤ هاهنا معنى، وإن كان المأخوذ فى الحد لفظا لا صوتا؛ فإنه ليس شىء من الأسماء اسما بالطبع؛ أى ليس شىء منها دالا دلالة الاسم، بحيث تكون تلك الدلالة تصدر عنها بالطبع منها أو من الدالين بها. فلا تلك الدلالة أمر طبيعى يلزم الاسم، ولا الطبع منا ينبعث إلى الدلالة على المعنى به فى كثير من الأصوات الدالة بالطبع التى تنبعث الطبائع إلى استعمالها فى ذلك الشأن، سواء كانت دلالة بقصد المصوت أن يقع بها شعور بشأن، كما تفعله البهائم عند دعاء بعضها بعضه أو يكون بغير قصد منه لذلك، لكن سامعه يستدل به على أمر، كالتنحنح واستغاثة العصفور عند القبض عليه.
Page 155