محدودة بآجالهم، فإذا اختارهم الله لجواره تمت المساواة بين الناس ولم يميز أحد من أحد، ولم يفضل إنسان على إنسان.
ذلك كله لو حافظ الخلفاء بعد عمر على سياسته وعلى النظام الذي وضعه، فكيف ولم ينقض على وفاة عمر إلا قليل من الوقت حتى ظهرت الأثرة، واستبق الناس إلى الغنى، وفضل بعضهم على بعض في منازلهم من الخلفاء، ورأى الخلفاء أن من حقهم أن يأخذوا من بيت المال ما شاءوا، يؤثرون به أنفسهم ويحبون به أحب الناس إليهم؟!
وقد أنكر شيء من ذلك على عثمان نفسه رحمه الله؛ أعطى مروان بن الحكم مرة فأسرف، وبلغ ذلك عبد الرحمن بن عوف فلم يقره، وإنما وثب فأخذ هذا المال من مروان وقسمه بين الفقراء في المدينة، فلما جاء معاوية ظن أنه خليفة الله في الأرض، وأن مال الله ماله يصنع به ما يشاء، ويضعه حيث أحب، وقد حارب عليا - رحمه الله - بالمال، فكان يشتري بعض أصحابه بالجوائز الضخمة. ومعاوية قد لقي النبي وصحبه، فكيف بمن جاء بعده من الخلفاء الذين لم يلقوا النبي ولم يصحبوه؟! أولئك هم الذين ميزوا بعض الناس من بعض، وفضلوا بعض الناس على بعض، وجعلوا الناس طبقات. فأما عمر فلم يفكر في شيء من ذلك ولم يمل إليه؛ كانت طبيعته تأبى عليه ذلك؛ لأنه كان أحرص الناس على الاقتداء بالنبي
صلى الله عليه وسلم
ما استطاع إلى الاقتداء به سبيلا، وكان أخوف الناس لله وأشدهم خشية لحسابه ، وكان من أجل ذلك يكثر أن يقول: وددت لو أني خرجت منها كفافا لا علي ولا لي. فأخذ صفو الدنيا وترك كدرها، كما كان يقول الحسن البصري رحمه الله.
12
ولم يكتف عمر بما فرض للمسلمين من العطاء وما ضمن لهم من الأمن على حياتهم، ولكن المسلمين لم يعرفوا في عصر من عصورهم راعيا كان أرفق برعيته من عمر؛ فقد كان حريصا على ألا يكفل لهم الأمن وحده، وإنما يكفل لهم مع ذلك الدعة والراحة ما استطاع إلى ذلك سبيلا. كان يعد الخيل والإبل ليحمل عليها في سبيل الله، كان يحمل الناس إلى الشام وإلى العراق ليلحقوا بالجند، أو ليكتسبوا حياتهم هناك، وكان يحمل الحاج إلى مكة، وكان إذا أراد أن يحمل رجلا على راحلة أعد له أداة سفره، فلم يعطه الراحلة وحدها وإنما أعطاه كل ما يحتاج إليه. كان يفعل ذلك مما كان يبقى له من أموال الصدقة بعد أن يرد أكثرها على فقراء العرب، ومما كان يرد إليه من أخماس الغنائم؛ إنفاذا لآية الصدقات من سورة التوبة ولآية الغنائم من سورة الأنفال.
وكان لا يقف عند ذلك، وإنما كان يتفقد الناس في المدينة وما حولها، يقوم بحاجة ذوي الحاجات منهم، يفعل ذلك بنفسه في النهار وفي الليل، ويأمر عماله أن يفعلوا ذلك، ويخاف كل الخوف أن يقصر العمال في إنفاذ أمره، ولم يكن يخشى شيئا كما كان يخشى أن يكون لأحد من أهل الأمصار حاجة لا يقوم بها عماله ولا يستطيع صاحب الحاجة أن يصل إليه ليقوم بها وأن يسأله الله عن ذلك، وكان يقول: لو أن جملا هلك ضياعا على شاطئ الفرات لخشيت أن يسألني الله عنه. وكان إذا أصاب الجرب بعيرا من إبل الصدقة وضع يده على موضع الداء منه وقال: إني لأخشى أن يسألني الله عما بك. وكان يعد إبل الصدقة بنفسه، ورآه مرة من رآه وقد وقف في حر الشمس يعد هذه الإبل، ومعه علي وعثمان؛ يقول لعلي، ويملي علي على عثمان، فيكتب عثمان ما يملى عليه؛ فقال علي لعثمان: إن هذا لكما؛ قالت بنت شعيب لأبيها في موسى:
يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين .
ويقول الرواة: إن عمر أول من عس في المدينة ليلا، فكان إذا تقدم الليل خرج فطوف في المدينة مرة وحده، ومرة مع أحد مواليه، وله في هذا العسس طرائف تثير الابتسام وتثير الإعجاب معا؛ كان يعس ليلة فسمع امرأة تقول:
Unknown page