وقد أنزل الله نصره على المسلمين، وانهزم الروم هزيمة منكرة، وفتحت للمسلمين مناهج الشام، فقصدوا قصد دمشق.
ومن الرواة من يزعم أن وقعة اليرموك هذه كانت بعد فتح دمشق.
ولكن اختلاف الرواة في تاريخ الوقائع وترتيبها كثير، أكثر من أن يحصى، وأعسر من أن يصل الباحث فيه إلى نظام دقيق.
وليس هذا مقصورا على الشام، ولكنه يتناول حرب الفرس أيضا.
وليس من شأني في هذا الحديث أن أفصل تاريخ الفتوح، ولا أن أرتب تاريخ الوقائع؛ فذلك شيء لم أرد إليه، وهو على كل حال يطول أشد الطول ويعسر أشد العسر.
والمحقق أن المسلمين قد حاصروا دمشق وشددوا عليها الحصار وأطالوه، ولكن خالدا - رحمه الله - لم يكن ينام ولا ينيم؛ كان متنبها دائما لأمر المدينة وما يقع فيها من الأحداث، وقد بلغه ذات ليلة - فيما يزعم الرواة - أن سور المدينة بإزائه قد خلا من حراسه لأمر فصله المؤرخون ولا أطمئن إليه، فاحتال خالد حتى رقى السور مع نفر من أصحابه، ثم نزل ونزل من معه فابتدروا باب المدينة الذي يلي جيش خالد، فقتلوا بوابيه وكبروا، فاندفع إليهم المسلمون من هذه الناحية، واندفع خالد على رأس جيشه إلى وسط المدينة. قال الرواة: وكان أبو عبيدة قد دخل المدينة من باب آخر على صلح، فالتقى جيشان من المسلمين في وسط المدينة: جيش مقاتل، وجيش مصالح. فأمضى أبو عبيدة الصلح على جيش خالد أيضا، واعتبرت دمشق قد فتحت صلحا.
ويقال: إن أبا عبيدة لم يظهر خالدا على أمر عمر بعزله إلا بعد فتح دمشق، ثم كانت للمسلمين بعد ذلك خطوب، أتاح الله لهم فيها النصر على الروم في غير موقعة، حتى فتحت فلسطين كلها وفتح الأردن، ثم فتحت حمص وسائر مدن الشام. وكان هرقل قيصر قسطنطينية مرابطا في أنطاكية يمد جيوشه منها، فلما رأى ما أتيح للمسلمين من النصر في هذه المواطن كلها عاد إلى قسطنطينية وودع سورية وداعا لا لقاء بعده.
ومع أن فلسطين قد فتحت كلها - كما قلت آنفا - فإن مدينة ببيت المقدس قد طاولت جند المسلمين المحاصرين لها، حتى إذا قوي المسلمون عليها وهموا باقتحامها طلب أهل المدينة الصلح، واشترطوا ألا يتم هذا الصلح إلا مع أمير المؤمنين نفسه . وقد أنبئ عمر بذلك فأقبل إلى الشام وأتم الصلح مع بيت المقدس ودخل مظفرا.
والرواة يختلفون في عدد المرات التي دخل فيها عمر الشام في خلافته، ولكن المحقق عندي أنه ثلاث مرات على الأقل، كانت أولاها حين أتم الصلح مع بيت المقدس، وكانت الثانية بعد ذلك حين قصد إلى الشام، فلما بلغ سرغ أنبأه الأمراء بأن الطاعون قد وقع في الشام، وهو الطاعون الذي يعرفه المؤرخون بطاعون عمواس، فاستشار عمر الناس؛ شاور المهاجرين أولا فاختلفوا عليه، قائل يقول: خرجت لوجه فيجب أن تمضي إليه. وقائل يقول: لا تعرض نفسك وأصحابك للتهلكة. وشاور الأنصار فصنعوا صنيع المهاجرين، وأبى عليه أبو عبيدة بن الجراح إلا أن يمضي لوجهه مخاطرا ولا يفر من قدر الله، فأجابه عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة! أفر من قدر الله إلى قدر الله. ثم استشار مهاجرة الفتح فلم يختلفوا عليه، وإنما أشاروا عليه مجمعين بأن يرجع إلى المدينة.
وأقبل عبد الرحمن بن عوف - رحمه الله - وكان غائبا حين استشار عمر الناس، فقال: عندي من ذلك علم: سمعت رسول الله
Unknown page