وقد حمي عمر لجهاد الفرس بعد وقعة الجسر هذه، فتهيأ للحرب، وخرج من المدينة فاجتمع إليه الناس، وهم بالمسير إلى العراق على رأس الجيش متوليا بنفسه قتال الفرس.
واستشار الناس في ذلك، فأشار عليه قليل منهم بأن يتمم على ما أراد ويمضي للجهاد، فيكون في مضيه تحريض للمسلمين وتشجيع لهم، ولكن كثيرا من أصحاب النبي أشاروا عليه بألا يفعل وبأن يبقى في المدينة ركنا للمسلمين يمدهم بالعدد والعدة، وألا يعرض نفسه لأخطار الحرب، فإنه إن أصيب فت ذلك في أعضاد المسلمين، فلم ينهضوا للقتال، وتعرضت الأمة لخطر عظيم.
وأشاروا عليه بأن يرسل رجلا من كبار أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم ، وأشدهم بأسا وأمضاهم في الحرب، وسموا له سعد بن أبي وقاص رحمه الله، وكان سعد غائبا عن المدينة في عمل لعمر، فأرسل إليه، فاستخلف على عمله وأقبل، فأمره عمر على الجيش وأوصاه ألا يغامر بالمسلمين، وأن ينزلهم منزلا بين حضر العراق ومدر العرب، وأن ينتظر الإمداد.
ومضى سعد - رحمه الله - بجيشه يستنفر من مر به من القبائل، ويمده عمر ما استطاع إلى إمداده سبيلا، وكان العرب يكرهون لقاء الفرس ويؤثرون الجهاد في الشام، ولكن عمر كان يأبى عليهم إلا العراق، وربما رغب بعضهم بالمال بعد الفتح.
وأقام سعد كما أمره عمر في جيش عظيم من المسلمين قريبا من العراق غير بعيد مع ذلك من بلاد العرب، وأقام هناك ينتظر أمر عمر بالتقدم، وينتظر قدوم الفرس عليه، وكان عمر قد أمره أن يكتب إليه بأمر المسلمين يوما بيوم، وألا ينزل بهم منزلا إلا وصفه عمر كأنه يراه، حتى يكون عمر مع المسلمين بكتب سعد يعلم ما يأتون وما يدعون.
6
وخالف عمر عن سياسة أبي بكر في أمر الشام أيضا، فلم يكد ينهض بأعباء الخلافة حتى كتب إلى جيوش الشام ينعى إليهم أبا بكر رحمه الله، وينبئهم ببيعته، ويعزل خالدا عن إمارة الجيش، ويجعل هذه الإمارة لأبي عبيدة، ويأمره إذا فتح الله على المسلمين أن يوجه من جاء مع خالد من العراق إلى عراقهم؛ ليكونوا مددا لسعد ومن معه من المسلمين، وأن يجعل عليهم عتبة بن أبي وقاص.
ويقول الرواة: إن كتاب عمر وصل إلى أبي عبيدة في ليلة كان المسلمون يتهيأون فيها لمصادفة الروم من غد، فأخفى أبو عبيدة كتاب عمر وأسر ما جاء فيه من عزل خالد وتوليته هو؛ كره - فيما يقول الرواة - أن يثبط المسلمين ويفل من حد خالد، وكانت إليه إمرة الجيش في تلك الموقعة.
وأصبح المسلمون فاصطدموا بالروم، فقاتلوهم أشد قتال وأعنفه وأجرأه، وكانت موقعة لم يعرف المسلمون مثلها من قبل في حربهم للروم.
Unknown page