وكذلك كانت حياته أيام أبي بكر، كان دائما شديدا في الحق أو فيما يرى أنه الحق، على أنه كان يذعن لنهي النبي حين ينهاه عن الشدة والعنف، ولا يفكر في أن يستأنفهما إن كان الأمر له؛ لأنه كان يؤمن بأن النبي حين يأمر أو ينهى إنما كان يصدر عن أمر السماء، ولا كذلك أيام أبي بكر، فقد كان يشير عليه عمر بالشدة في أمر خالد بن الوليد مثلا، فإذا أبى عليه أبو بكر راجعه وألح عليه، فإذا امتنع أبو بكر عليه بعد المراجعة والإلحاح سكت.
ولكنه حين استخلف لم يتردد في إنفاذ الرأي الذي أشار به على أبي بكر، وإن كان أبو بكر قد خالفه فيه أشد الخلاف؛ ذلك أن عمر كان يعلم أن الصديق لم يكن يصدر عن أمر السماء، وإنما كان يصدر عن السياسة وعن رأيه في النصح للمسلمين. كان أبو بكر يجتهد رأيه، وكان عمر يجتهد رأيه أيضا، فليس عليه بأس أن يخالف عن مذهب أبي بكر في سياسة السلم والحرب جميعا، على حين أنه كان يرى الإثم كل الإثم في المخالفة عن أمر النبي أو نهيه.
3
على أن استخلاف عمر ونهوضه بأعباء الحكم، ومواجهته لمشكلات السلم والحرب؛ كل ذلك أظهر خلقا من أخلاق عمر لم تظهره الأحداث قبل ذلك؛ لأنه قبل أن يستخلف كان سيفا من سيوف النبي
صلى الله عليه وسلم
يسله إن شاء ، ويغمده إن أحب، وكان أيام أبي بكر سيفا من سيوف الخليفة إن شاء سله وإن شاء أغمده، كان عليه أن يسمع ويطيع، وأن يشير بما يرى فيه المصلحة، ولم يكن له أن يزيد على ذلك أو يعدوه، فلما ألقيت عليه أعباء الخلافة أحس ثقل التبعة كما لم يحسها خليفة أو ملك فيما نعلم، فكان يحاسب نفسه على صغير الأمر وكبيره، وكان ضميره يراقبه في كل ما يأتي وفي كل ما يدع، لا يعفيه من هذه المراقبة ساعة من نهار أو ساعة من ليل، وربما ذاد النوم عن عينيه فكلفه من الأرق ألوانا.
كان قبل كل شيء يرى نفسه أصغر من المهمة التي كلف أداءها، وربما كان يسخر من نفسه أحيانا، فيقول - كما سمعه بعض أصحابه يحدث نفسه من وراء جدار: عمر بن الخطاب أمير المؤمنين! بخ بخ يابن الخطاب، والله لتطيعن الله أو ليعذبنك.
ولم يكن يخاف شيئا كما كان يخاف أن يراه الله مؤثرا لنفسه بشيء من دون عامة المسلمين؛ فكان يضع نفسه لا موضع أمثاله من كبار أصحاب النبي، ولا موضع أوساط الناس، بل موضع الفقراء وذوي الحاجة منهم.
وكان يأخذ نفسه بأن يعيش كما كان هؤلاء الناس يعيشون، وبأن يجد مثل ما كان هؤلاء الناس يجدون، حين تشتد الحياة عليهم وحين تلين الحياة لهم.
وكان يرى أن ذلك هو الذي يمكنه من أن يعرف حاجات الناس ويقدر رضاهم حين يرضون، وسخطهم حين يسخطون، وألمهم حين يجدون الألم، ولذتهم حين تتاح لهم اللذة.
Unknown page