وقد أشرت آنفا إلى أن عكرمة بن أبي جهل قد تعجل حرب مسيلمة قبل أن يأتيه المدد فلم ينجح، بل اضطر إلى الهزيمة، وغضب عليه أبو بكر في ذلك.
وقد حاول قائد آخر من قواد أبي بكر قتال مسيلمة فلم ينجح أيضا، وهو شرحبيل بن حسنة، فلما رأى أبو بكر قوة مسيلمة وجه خالدا إليه في جيشه، وجعل له الإمرة على جيش شرحبيل، وأمده بجمع صالح من المهاجرين والأنصار.
وقصد خالد قصد اليمامة فلقي جماعة من أهلها، فأخذهم على غرة، ثم أمر بقتلهم فقتلوا إلا رجلا واحدا منهم هو مجاعة بن مرارة استبقاه أسيرا، ووضعه في الحديد، وجعله عند زوجه أم تميم، وهي التي تزوجها بعد أن قتل زوجها مالكا.
قال الرواة: فالتقى خالد بمسيلمة وأصحابه، فاشتد القتال وبلغ من الشدة ما لم يعرف العرب في حروب الردة مثله، وجال المسلمون جولة، وتبعهم أصحاب مسيلمة حتى دخلوا فسطاط خالد وهموا بقتل أم تميم، فأجارها مجاعة، وقال: نعمت الحرة هي! ثم تنادى المسلمون في أثناء ذلك، فكروا على القوم، واشتد القتال بينهم مرة أخرى حتى انتصر المسلمون، والتجأ مسيلمة وأصحابه إلى حديقة سماها المؤرخون بحديقة الموت، فتبعهم المسلمون حتى اقتحموا عليهم الحديقة بعد خطوب، وقتلوهم فيها شر قتلة، وقتل في الحديقة مسيلمة.
ثم عرض مجاعة بن مرارة - أسير خالد - الصلح عليه عمن كان في حصون اليمامة من قومه، فصالحه على ما في اليمامة من ذهب وفضة وسلاح، وعلى نصف السبي، وعلى حديقة ومزرعة في كل قرية. ولما أمضى الصلح قال خالد لمجاعة: زوجني ابنتك. فقال مجاعة: إنك قاصم ظهري وظهرك عند صاحبك - يريد أبا بكر - قال خالد ملحا: أيها الرجل، زوجني ابنتك! فزوجه ابنته، وبلغ النصر أبا بكر، وبلغه أيضا أن خالدا تزوج بنت مجاعة بن مرارة، فكتب إليه يعنفه: لعمري يابن أم خالد إنك لفارغ؛ تنكح النساء وبفنائك ألف ومائتان من المسلمين لم يجف دمهم بعد!
قال الرواة: فلما نظر خالد في الكتاب قال: هذا عمل الأعيسر، يريد عمر، وكان أعسر.
14
وسترى من عنف خالد في القتال وإسرافه في القتل شيئا كثيرا، حين يبلغ العراق لحرب من فيه من العرب والفرس جميعا، ولم أرد إلى وصف شيء من حروب الردة، ولم أذكر ما ذكرت من حرب مسيلمة إلا لأبين هذه الناحية من أخلاق خالد رحمه الله، ولأبين أنها كانت مصدرا لخلاف شديد بين الشيخين، لم ينقض بوفاة أحدهما، وهو أبو بكر رحمه الله، وإنما اتصل بعد ذلك حتى عزل خالد وأبعد عن الحرب، وعاش عيشة السلم حتى أدركه الموت، فقال في مرضه الذي مات فيه: والله ما أعرف موضعا من جسمي إلا وفيه أثر من سيف أو رمح أو سهم، وهأنذا اليوم أموت على فراشي.
كان أبو بكر معجبا بقوة خالد وبأسه وحسن بلائه وبراعته الرائعة في الحرب، وكان خالد يصدق ظن أبي بكر به في كل موطن من مواطن الشدة والبأس، فهو قد فض جمع طليحة ورد من بقي من بني حنيفة إلى الإسلام، وأبلى في هذين الموطنين أعظم بلاء أبلاه أحد من قواد أبي بكر في حرب الردة، وهو قد أتى بالأعاجيب في فتح العراق كما سنرى، ولولا أن أبا بكر كان يكفكفه عن القتال لتعجل بعض المواقع التي كانت أيام عمر بين المسلمين والفرس. ومن يدري؟! لعله كان يسبق سعد بن أبي وقاص إلى فتح المدائن عاصمة الأكاسرة.
ولكن أبا بكر كان يعرف حدته، وكان يؤثر الأناة؛ فكان يشدد على خالد ويضطره إلى الوقوف حين كان المضي في الحرب أحب شيء إليه لو ملك أمره.
Unknown page