مكانكم أيها الفتيان والفتيات في جبهة الحياة وفي خط النار؛ لأن الحياة كانت سخية عليكم حين وفرت لكم أسلحة العلم، ولأننا اليوم يجب أن نعيش في حالة طوارئ من عمل وتفكير.
أما الذين يؤثرون النزهات على كورنيش العيش، ويؤثرون أنس المجالس ورفاهيتها، فلتمش بهم خطاهم نحو نهر البارد، لعلهم ينظرون إلى خيام اللاجئين ويعتبرون. إن أول واجباتكم هو العمل؛ فالجيل الذي تقدمكم جعل فضيلتين مزيفتين من نقيصتين معيبتين؛ الأولى: أنه لا يشتغل بيديه، والثانية: أنه لا يقاتل بيديه. ولقد ذهبت به الأنانية فاغتصب مركزا مفضلا في المجتمع بسبب منطق جشع مغلوط، كان من نتيجته قبول الناس بنظرية هدامة؛ وهي أن الذين ظفروا بالشهادات هم أرفع منزلة في المجتمع الذي حرم سواهم ويسر لهم هذه الشهادات؛ لذلك أمسى هذا الشعب فرقتين: (أساتذة - وغير أساتذة). إني أفهم أن ينادى معلم المدرسة أو المحامي بيا أستاذ. أما سواهما، فالأستاذ هو المواطن صاحب المكانة واللقب المزيف الممتاز.
إن أول حاجاتنا هو العمل: العمل الجريء، والعمل الجريء يبدأ بالتفكير الجريء، بل إن الجرأة هي أحد عناصر الفكر؛ فالذي يشد عقله إلى عقال من قيود التقاليد خائفا من التفلت منها لا يستطيع الانطلاق في فضاء الفكر الحر. كثيرون بيننا - وأغلبيتهم أساتذة - من يرسلون الآراء رصاصات تطلق في الفضاء؛ رصاصات لا تفتك برذيلة، بل كل فضيلتها أنها تدوي موهمة الناس أن مطلقها من أبطال التحرر والتبصر. هؤلاء ما هم برجال فكر، بل قبضايات آراء. إن نظام السير الذي ليس له من مزية إلا أنه يعرقل السير، ويسبب الاصطدام تلو الاصطدام، يجب أن ينسف من أساسه أو يبدل. ونحن منذ أربعمائة سنة نستبدل شرطيا بشرطي خائفين أن نفعل الفعل الكبير، وهذا الفعل الكبير يبدأ بالنطق الكبير، وهو القول إن نظامنا وتفكيرنا ومحاولاتنا كلها مغلوطة من أساسها. إن السير فوضى، والاصطدامات كثيرة، وأكثرنا أساتذة يزيدون البلبلة بالتزمير.
إن العمل الجريء يثب بكم حالا من ملاجئ العيش الآمنة إلى جبهة الحياة وخط النار. هناك ينتظركم الاضطهاد والحرمان. هناك تتجهم لكم الوجوه الباسمة. هناك تتساقط حولكم الحجارة وتتفجر القنابل. هناك ينتشر حولكم ضباب من غازات الإشاعات السامة، ولكن لا تخافوا؛ إذ إنكم هناك، وإذ ذاك تستشعرون في نفوسكم ضياء من الإيمان يطرد عنكم الخوف والوحشة.
قلت إن العمل هو أول الواجبات. عمل ماذا؟ ولمن؟ وما هو الحافز على العمل؟
متى عرفنا الحافز فهمنا لماذا يجب أن نعمل، وعرفنا لمن نعمل، وما الذي يجب أن نعمل.
إن العلم يفسر سلوك الإنسان والثقافة توجهه. إن الإنسان حين يخلق نظاما يحاول أن يبدع وسيلة تحميه. لقد جربنا هنا النظام الطائفي، فتذابحنا طوائف، وتباعدنا شيعا، وجربنا النظام الفردي فكان الإقطاعي المستعبد الثري، وكان الخانع الفقير زلمة الإقطاعي. وازدهر الفرد الذي تحفزه إلى العمل كلمة «أنا» يغني نفسه على حساب سواه، ويحتل مكانا يقذف عنه مواطنه أو مواطنيه، ولا يهمه على جثة من يمشي، ومصلحة من يدوس حتى ينفذ مآربه. إن النكبات التي حلت بنا ومظاهر الانحلال التي تغمرنا أكثر سببها أننا لم نفهم أن الحياة هي وحدة، وأن الولاء يجب أن يكون لا لمدينة ولا لمنطقة ولا لطائفة ولا لفرد، بل يجب أن يكون للأمة، ومتى أعطينا هذا الولاء المطلق للأمة أولا وأخيرا استقامت أمور المدينة والطائفة والمنطقة والفرد، ولم يعد بيننا ظالمون ومظلومون، ولا مفضلون ومضطهدون، وقمنا بالعمل الكبير حين نستعيد الحلم الكبير. هنا أقف خوفا من أن أتهم نفسي بأنني أستاذ يزمر، فيما يرى السير معرقلا، فأتوجه بالكلام البسيط إلى الفتيان والفتيات الذين نحتفل بفوزهم فأختصر القول:
إن المجتمع الذي سهل لكم سبيل الثقافة فيما هو حرم سواكم، له عليكم دين كبير يجب وفاؤه.
إن أكثرنا لا يشعر أو لا يريد أن يشعر بوجود النار حتى تحرقه. أما أنتم فعليكم أن تعترفوا بالمخاطر التي تحيق بنا، وتهدد كياننا، وتتجندوا حالا لقتالها.
حذار أن تصبحوا أساتذة. إن الخطر والفساد والتفكك توحي بالصراع، والصراع يفرض النظام، فيجب أن يكون لنا دستور واضح يقيد أعمالنا وينظمها ويضبطها. والنظام يفرض الانتظام.
Unknown page