واستدارت كميلة ونظرت إلى ذي الوجه الملائكي. إن تعبير الوجه كثيرا ما يكون أشد إيحاء من الكلمات. بيد أن عينيها تاهتا في عيني المحبوب السوداوين الجامدتين.
وقالت لامسكواتا: «يجب أن تجلسي يا عزيزتي.»
وسحبت لها المقعد الذي كان يجلس عليه «فاسكيز» حين دخل الغريب الذي دفع ثمن شرابه بورقة نقد كبيرة في الحانة لأول مرة.
أكان ذلك المساء منذ سنوات عدة، أم منذ بضع ساعات ليس إلا؟ وحدق المحبوب إلى ابنة الجنرال أولا، ثم إلى نار الشمعة الموقدة أمام صورة العذراء. وتوهجت حدقتاه حين جال بخاطره أن يطفئ الشمعة ويقضي وطره من الفتاة. نفخة واحدة ... وتصبح ملكه إما برغبتها أو رغما عنها. ولكن عينيه تحولتا عن صورة العذراء لتتطلعا إلى كميلة، كانت تهاوت على المقعد وغاصت فيه، وحين رأى وجهها مرصعا بالدموع، وشعرها الأشعث وجسدها الشبيه بجسد الملاك الفتى، تغيرت سيماؤه وتناول القدح من يدها بمظهر أبوي، قائلا: يا فتاتي الصغيرة المسكينة!
وجاءه سعال صاحبة الحانة على نحو حصيف لتنبههما إلى أنها ستتركهما وحدهما، ثم شتائمها اللاذعة حين وجدت فاسكيز يرقد مخمورا تماما في الفناء الصغير الذي يعبق برائحة الورود في أصصها المصفوفة وراء الغرفة الخلفية، وتسبب كل هذا في انفجار كميلة في موجة جديدة من الدموع.
قالت «لامسكواتا» تؤنب فاسكيز: لقد ملأت نفسك حتى التخمة أيها البائس. الشيء الوحيد الذي تجيده هو أن تجعلني أفقد أعصابي! إن ما يقال صحيح تماما، لا يمكنني أن أغلق عيني إلا وتخطف شيئا. ورغم ذلك تدعي أنك تحبني. آه، أجل، لا شك في هذا. ما أكاد أدير رأسي حتى تنقض على الزجاجة. إنها لا تكلفك مليما واحدا، أليس كذلك؟ كل ذلك لأني وثقت بك. اخرج من هنا، أيها اللص، قبل أن ألقي بك إلى الخارج!
ورن صوت الرجل المخمور في نغمة شاكية، بينما اصطك رأسه بالأرض حين بدأت المرأة تجذبه من قدميه. وأغلق الهواء باب الفناء الصغير، وساد الصمت بعد ذلك. وكان ذو الوجه الملائكي يردد في سمع كميلة وهي تبكي : «لقد انتهى كل شيء الآن. إن والدك لم يعد في خطر، وإنك في أمان تام في هذا المخبأ، إنني هنا لكي أحميك. لقد انتهى كل شيء، لا تبكي، فإن بكاءك سيزيد ما تشعرين به من قلق. توقفي عن البكاء وانظري لي وسأشرح لك كل شيء.»
وخبت شهقات كميلة رويدا رويدا. كان ذو الوجه الملائكي يربت على شعرها، وتناول منديلها من يدها وأخذ يجفف به عينيها. وبدأ ضوء الفجر يلون الأفق ويشع بين الأشياء في الحجرة وتحت الأبواب، كأنه ماء الجير الأبيض ممزوجا بطلاء وردي. إن البشر يحسون بوجود بعضهم بعضا قبل أن يتمكنوا من رؤية بعضهم بعضا. وهاجت الأشجار بفعل أول غناء للعصافير ولم تعد تستطيع أن تحك أوراقها. وتثاءبت النوافير من وراء أخرى. وأطرحت السماء جانبا خصلات الليل السوداء، خصلات الموت، وارتدت حلة مذهبة. - «ولكن يجب عليك أن تلزمي الهدوء، وإلا ضعنا. سوف تضيعين نفسك، وتضيعين والدك، وتضيعينني. سوف أعود هذا المساء وأصطحبك إلى منزل عمك. أهم شيء هو كسب الوقت. لا بد أن نتذرع بالصبر. لا يمكن للمرء أن يرتب كل شيء في وقت واحد، فبعض الأشياء أشد صعوبة من أشياء أخرى.» - «أنا لا أشعر بالقلق على نفسي، فأنا أشعر بالأمان بعد ما قلته لي، وإني ممتنة لذلك. إني أدرك أن علي أن أبقى هنا. إنني قلقة على والدي. إنني تواقة لأن أتأكد أنه لن يحدث مكروه لوالدي.» - أعدك أن أحضر لك أنباء عنه. - اليوم؟ - اليوم.
وقبل أن ينصرف ذو الوجه الملائكي، التفت إلى كميلة وربت على خدها في ود. - أأنت أحسن حالا الآن؟
ونظرت إليه ابنة الجنرال كاناليس بعينين قد امتلأتا ثانية بالدموع وقالت: ائتني بالأنباء ...
Unknown page