بعد إذن سيدي الرئيس!
هل هم جاهزون يا جنرال؟ - أجل يا سيدي الرئيس! - اذهب أنت بنفسك معهم، قدم تعازي إلى أرملته وسلم لها هذه الثلاثمائة بيزو باسم رئيس الجمهورية، لمساعدتها في نفقات الجنازة.
وقام الجنرال الذي كان يقف بانتباه وقبعته العسكرية في يده، دون أن تطرف عيناه ويكاد لا يتنفس، بالانحناء إلى الأمام وتناول النقود من على المائدة، وأدار كعبيه، ثم رؤي بعد ذلك بدقائق يرحل في عربة تحمل النعش الذي يضم جثمان «ذلك الحيوان».
وسارع ذو الوجه الملائكي يشرح موقفه: لقد فكرت أن أذهب إلى المستشفى مع الرجل الجريح، ولكني قلت لنفسي: إنهم سيعتنون به على نحو أفضل إذا أنا أحضرت أمرا من السيد الرئيس. ولما كنت متوجها لمقابلتكم، ولكي أنقل إليكم أيضا مرة أخرى هول ما أحس به من جراء المصرع الغادر لضابطنا «باراليس سونرينتي». - سأصدر أوامري. - إن هذا هو ما ينتظره المرء من رجل يقولون إنه ينبغي ألا يحكم هذا البلد. - من يقول هذا؟ - أنا يا سيدي الرئيس. فأنا أول من يؤمن أن رجلا مثلكم ينبغي أن يحكم بلدا مثل فرنسا، أو سويسرا الحرة، أو بلجيكا المجيدة، أو الدانمرك الرائعة؛ وإنما فرنسا، فرنسا فوق كل شيء. إنكم الشخص المثالي لقيادة أقدار مثل هذا الشعب العريق الذي أنجب «غامبيتا» و«فيكتور هيجو».
ولاحت ابتسامة شبه خفية تحت شارب الرئيس، بينما كان ينظف نظارته بمنديل حريري أبيض دون أن يحول عينيه عن وجه صديقه. وبعد فترة صمت قصيرة، أخذ يتحدث في موضوع جديد. - لقد طلبت منك الحضور يا ميغيل من أجل مسألة أريد أن أنهيها الليلة. لقد أصدرت السلطات المختصة أمرا بإلقاء القبض على ذلك الوغد الجنرال «أيوسيبيو كاناليس»، وسوف يتم ذلك في منزله مع إشراقة شمس الغد. ولأسباب خاصة، ورغم أنه واحد من قتلة «باراليس سونرينتي»، فإن الحكومة ترى من غير اللائق بها أن تضعه في السجن، ولذلك يلزم أن يقوم بالهرب فورا. فاذهب وقابله، وقل له ما تعرف من معلومات، وانصحه بأن يهرب الليلة، كأنما هي فكرة من بنات أفكارك. وقد يتعين عليك أن تساعده على الهرب، لأنه، كأي جندي محترف، يؤمن بالشرف ويفضل أن يموت على أن يهرب. وإذا قبضوا عليه غدا فإنه سيعدم. ويجب ألا يعرف شيئا عن حديثنا هذا، فهذا بيني بينك فحسب. وحاذر أن تعلم الشرطة شيئا عن قيامك بزيارته. رتب الأمر بحيث لا تثير الشبهة وحتى يتمكن ذلك الوغد من الهرب. بإمكانك أن تنصرف الآن.
وانصرف محبوب الرئيس وقد أخفى وجهه خلف لفاعه (لقد كان جميلا وشريرا كإبليس). وحياه الضباط القائمون على حراسة غرفة طعام سيدهم تحية عسكرية بدافع السليقة، أو ربما بدافع علمهم أنه يحمل مصير جنرال في يديه. وكان ثمة سبعون شخصا جالسين في حجرة الانتظار يتثاءبون، ينتظرون أن يفرغ الرئيس من مهامه حتى يقابلوه. وكانت الطرق المحيطة بالقصر وبمنزل الرئيس مغطاة بالزهور، وثمة عدد من الجنود يقومون بتزيين واجهة الثكنات المجاورة بالمصابيح وبالأعلام الصغيرة وبالشرائط الورقية الزرقاء والبيضاء، بتعليمات من رؤسائهم .
ولم يكد ذو الوجه الملائكي ليلحظ أيا من تلك الزينات، فقد كان عليه أن يقابل الجنرال ويدبر أمر فراره. وبدا كل شيء يسيرا، إلى أن بدأت الكلاب تنبحه في الغابة الهائلة التي تفصل الرئيس عن أعدائه، وهي غابة قوامها أشجار ذات آذان تستجيب لأدنى صوت فتعصف أوراقها كأنما تهب عليها عاصفة مدمرة. ولم يكن أقل ضجيج على بعد أميال ليهرب من نهم تلك الملايين من الأغشية النباتية. ومضت الكلاب في نباحها. كانت ثمة شبكة ذات خيوط فضية، أكثر خفاء من أسلاك البرق، تصل ما بين كل ورقة وبين الرئيس، مما يمكنه من مراقبة أشد أفكار أهل الشغب سرية وخفاء!
وفكر ذو الوجه الملائكي: آه لو أمكن عقد اتفاق مع الشيطان، يبيعه فيه روحه على شرط أن تنخدع الشرطة ويتمكن الجنرال من الهرب! بيد أن الشيطان لا يدخل في أي صفقة وراءها خير. رغم أن كل شيء تقريبا يتهدده الخطر في هذه العملية الغريبة. رأس الجنرال، وشيء آخر. ونطق بالعبارة كأنما هو حقيقة يحمل بين يديه رأس الجنرال، وشيئا آخر.
ووصل إلى بيت الجنرال كاناليس في حي «لامرسيد». كان بيتا كبيرا يقع على ناصية الطريق، عمره حوالي المائة عام؛ وكانت شرفاته الثماني الواقعة في واجهته، ومدخل العربات الكبير الواقع خلفه، يخلعان عليه شيئا من المظهر الفخيم، كأنه عملية نقدية قديمة. وقرر المحبوب أن يصغي خارج الباب ثم يطرقه للاستئذان في الدخول إذا سمع أي حركة في الداخل. بيد أن وجود رجال الشرطة يمرون على الإفريز المقابل أجبره على أن يتخلى عن هذه الخطة. وبدلا من ذلك، سار بسرعة عبر واجهة المنزل وهو يتطلع إلى الشرفات ليرى ما إذا كان هناك من شخص يستطيع أن يومئ إليه. ولكنه لم ير أحدا. وكان من المستحيل أن يقف على الإفريز دون أن يثير الشكوك. وكان في ناصية الطريق المواجه للمنزل حانة صغيرة سيئة السمعة، فرأى أن أسلم طريقة للبقاء في الحي هو الذهاب إليها وتناول مشروب هناك. زجاجة من البيرة. وتبادل بضع كلمات مع المرأة التي قدمت له الشراب، ثم حول رأسه وكوب البيرة في يده ليرى من يجلس على المقعد المواجه للحائط. وكان عند دخوله الحانة قد لمح رجلا هناك من طرف عينه. كان الرجل قد أسدل قبعته على جبهته حتى كادت تلامس عينيه، وربط منديلا حول عنقه، ورفع ياقة معطفه؛ وكان يرتدي بنطالا واسعا وحذاء بساق عالية وأشرطته غير معقودة، مصنوعا من المطاط والجلد الأصفر وقماش بلون القهوة. ورفع المحبوب عينه شارد الذهن وتطلع إلى الزجاجات المصفوفة على الرفوف، وحرف «س» المكتوب على مصابيح النور الكهربائي، وإعلان عن الأنبذة الإسبانية (باخوس إله الخمر يجلس فوق برميل وسط رهبان منتفخي البطون ونسوة عاريات)، وصوت للرئيس أعيد إليه فيها شبابه على نحو بشع، وعلى كتفيه شرائط بالقصب كأنها أشرطة السكك الحديدية، وملائكة صغار تتوج هامته بأكاليل الغار. صورة ذات ذوق رائع! وبين الفينة والفينة، كان المحبوب يلتفت ويتطلع إلى منزل الجنرال. سيكون الأمر خطيرا إذا كانت ثمة علاقة تربط الرجل الجالس على المقعد وصاحبة الحانة أكثر من علاقة الصداقة إذ سيثيران المشاكل له. وفك أزرار سترته ووضع في نفس الوقت ساقا فوق أخرى، مرتكزا بمرفقه على حافة البار كما لو لم يكن في عجلة من أمره. ولنفرض أنه طلب كوبا أخرى من البيرة؟ وطلبها وناول صاحبة الحانة ورقة مالية بمائة بيزو حتى يكسب الوقت، فربما لا يكون لديها فكة. وفتحت المرأة درج الخوان في ضيق ظاهر، وفتشت بين أوراق النقد التي فيه ثم أغلقته بعنف. لم يكن لديها أي فكة. نفس الشيء دائما! عليها أن تخرج وتبحث عن فكة. وألقت بميدعتها فوق ذراعيها العاريين وخرجت إلى الطريق، بعد أن ألقت نظرة على الرجل الجالس على المقعد، كأنما تحذره بأن عليه أن يراقب زبونها الآخر: أن يتأكد أنه لن يسرق شيئا. وكان ذلك ترتيبا لا نفع يرجى منه؛ لأنه في نفس تلك اللحظة، خرجت فتاة من منزل الجنرال كأنما قد سقطت من السماء ، وقفز ذو الوجه الملائكي إلى الخارج في لمح البصر.
قال وهو يسير إلى جوار الفتاة: يا آنسة، هل لك أن تخبري سيد المنزل الذي خرجت منه توا أن لدي شيئا عاجلا للغاية أود أن أقوله له؟ - والدي؟ - هل أنت ابنة الجنرال؟ - أجل. - إذن، لا تتوقفي، كلا، كلا، استمري في السير، لا بد أن نواصل المسير، هاك بطاقتي. أرجوك أن تخبريه أنني سوف أنتظره في منزلي في أقرب وقت ممكن، وأنني ذاهب إلى هناك مباشرة وسوف أنتظره، وأن حياته في خطر. أجل، أجل، في منزلي في أسرع وقت ممكن.
Unknown page