كان الرئيس يذرع حجرة مكتبه بخطوات قصيرة، مرتديا قبعة تغطي جبهته، وياقة سترته مرفوعة إلى أعلى فوق لفاع رقيق، وأزرار صداره مفكوكة. حلة سوداء، قبعة سوداء، حذاء أسود. - كيف حال الجو يا جنرال؟ - بارد يا سيدي الرئيس. وهاك ميغيل بدون معطف! - سيدي الرئيس ... - كلام فارغ. إنك ترتجف، وستقول لي إنك لا تشعر بالبرد. إنك غير حكيم بالمرة. يا جنرال، أرسل أحدهم إلى منزل ميغيل ليحضر له معطفا على الفور.
وخرج وزير الحربية مؤديا التحية العسكرية، وكاد يتعثر في سيفه المتدلي على جانبه، في حين جلس السيد الرئيس على أريكة من الخيزران وقدم لذي الوجه الملائكي مقعدا مجاورا له.
وقال وهو يجلس: «كما ترى يا ميغيل، علي أن أقوم بكل شيء بنفسي وأشرف على كل شيء، لأني أحكم أمة من «أصحاب النوايا». وحين لا أباشر الأمور بنفسي، لا بد أن أعتمد على أصدقائي». وصمت برهة ثم استطرد قائلا: «إني أعني بتعبير «أصحاب النوايا» أولئك الذين ينوون القيام بشيء أو عدم القيام بشيء، ثم لا ينفذون هذا ولا ذاك نتيجة لافتقارهم إلى قوة الإرادة. وهم بهذا لا في العير ولا في النفير. فمثلا، يمضي أصحاب الصناعة عندنا حياتهم مرددين مرارا وتكرارا: إني أنوي بناء مصنع، إني أنوي تركيب آلات جديدة، إني أنوي هذا، إني أنوي ذاك، وهكذا إلى ما لا نهاية. وأصحاب الزراعة يقولون: إني أنوي تجربة وسائل جديدة، إني أنوي تصدير منتجاتي؛ ويقول الكاتب: إني أنوي تأليف كتاب؛ والأستاذ: إني أنوي تأسيس مدرسة؛ وأصحاب الأعمال: إني أنوي القيام بهذه الصفقة أو تلك؛ والصحفيون - أولئك الخنازير ذوو كتل الدهن التي تغرق فيها أرواحهم - إني أنوي تحسين حالة المجتمع. ولكن، كما قلت لك، لا أحد ينفذ شيئا، ولهذا فمن الطبيعي أنه يجب علي أنا - رئيس الجمهورية - أن أقوم بكل شيء، وأتحمل كل لوم إلى جانب ذلك. ولك حتى أن تقول إنه لولاي لما كان هناك حظ ونصيب، إذ إن علي أن أقوم بدور إلهة الحظ في سحب الأرقام الفائزة في اليانصيب ...».
ومر على شاربه بأطراف أصابعه الشفافة الرقيقة النحيلة البنية اللون. واستطرد قائلا في نبرة صوت مختلفة: «وكل هذا يفضي بي إلى القول بأن الظروف تضطرني إلى الاستفادة من خدمات رجال مثلك، من النافع وجودهم إلى جواري، ولكنهم أشد نفعا خارج الجمهورية، حيث مخططات أعدائي ومؤامراتهم وكتاباتهم الدنيئة تهدد حملة إعادة انتخابي بالخطر ...»
وخفض عينيه كأنهما بعوضتان محتقنتان بالدماء، واستطرد يقول: «إنني لا أتحدث عن «كاناليس» وأتباعه، فالموت دائما كان أصدق حلفائي يا ميغيل! إني أتحدث عن الناس التي تحاول التأثير على الرأي العام في أمريكا الشمالية، أملا في إثارة الشبهات حول صورتي في «واشنطون». وحين يبدأ حيوان متوحش سجين في قفص في تبديل شعره، فإن ذلك لا يعني أنه يريد من الآخرين نزع ما تبقى له من شعر بالقوة، أليس كذلك؟ حسنا، إذن؛ هل أنا إنسان عجوز ذو عقل مخمور وقلب كالأبنوس في صلابته، كما يشيعون عني؟ دع السفلة يقولون ما يشاءون! أما أن يقوم الشعب نفسه، لأسباب سياسية، باستغلال ما قمت به كيما أنقذ وطني من مذابح هؤلاء الكلاب، فهذا شيء لا يمكن قبوله! إن إعادة انتخابي في كفة الميزان، وهذا هو السبب الذي أرسلت إليك من أجله يا ميغيل. عليك أن تذهب إلى «واشنطن» وتحضر لي من هناك تقريرا مفصلا عن سحب الكراهية والشكوك تلك، وعن المراسم الجنائزية التي تدور هناك والتي ليس فيها من دور محترم إلا دور الجثمان نفسه، كما يحدث في كل الجنازات».
فقال ذو الوجه الملائكي متلعثما، وهو مشطور بين رغبته في اتباع نصيحة «المستر جنكيز» بإلقاء أوراقه على المائدة، وبين خوفه من أن يفقد - نتيجة أي زلة لسان - فرصة قيامه بسفرة أدرك منذ البداية أنه قد يكون فيها خلاصه: «سيدي الرئيس، إنكم تعلمون أنني تحت أمركم دون قيد ولا شرط لأي غرض كان؛ ومع ذلك، أرجو أن تسمحوا لي بأن أقول كلمتين نظرا لأنني أردت دائما أن أكون أشد خدمكم إخلاصا وتكريسا. ذلك أنني أود - قبل أن أضطلع بهذه المهمة الدقيقة - أن أطلب من السيد الرئيس أن يتعطف - إذا لم ير مانعا - ويأمر بإجراء تحقيق في الاتهامات الباطلة التي ترميني بأنني عدو للسيد الرئيس، والموجهة لي من جانب المدعي العسكري العام من ناحية ...». - ولكن، من ذا الذي يلقي بالا إلى هذه الترهات؟ - إن السيد الرئيس لا يمكن أن يشك في ولائي المطلق لشخصه ولحكومته، بيد أني لا أريده أن يوليني ثقته الكاملة قبل أن يكتشف ما إذا كانت اتهامات المدعي العسكري العام صحيحة أم باطلة. - «إني لم أطلب منك النصيحة فيما يجب أن أفعل يا ميغيل! كفاك هذا! إني أعلم كل شيء عن هذا الموضوع، بل سأمضي قدما وأخبرك أن في مكتبي هذا الاتهام الذي صاغه المدعي العسكري العام ضدك وقت فرار الجنرال «كاناليس»؛ بل وأكثر من ذلك: بوسعي أن أقول لك إن عداوة المدعي العام لك ناتجة عن ظرف ربما تجهله تماما. لقد وضع المدعي العسكري العام، بالاتفاق مع الشرطة، خطة لخطف السيدة التي هي الآن زوجتك لبيعها إلى صاحبة بيت للدعارة، كان قد تلقى منها عشرة آلاف بيزو مقدما ثمنا للتنازل لها عنها. وقد اضطر إلى الاستعاضة عنها بامرأة مسكينة هي الآن علي وشك الجنون من جراء ما تعانيه في ذلك البيت».
وجلس ذو الوجه الملائكي ساكنا تماما، محاذرا أن يظهر أمام سيده أقل تغيير في ملامحه، دافنا مشاعره في أعماق فؤاده وراء حاجز عينيه القطيفتين السوداوين. كان يحاكي كرسيه الخيزراني في شحوبه وبرودته. «إذا سمح لي السيد الرئيس، فإني أفضل البقاء إلى جواره أدافع عنه بدمي». - أتعني أنك لا تقبل ما أعرضه عليك؟ - كلا، إني أقبله قبولا مطلقا يا سيدي الرئيس. - حسنا جدا إذن. كل هذا لا لزوم له أبدا، مجرد كلمات. ستنشر صحف الغد خبر رحيلك الوشيك، ولا يمكنك أن تخذلني. ولدى وزارة الحربية أوامر بإعطائك اليوم ما تحتاج إليه من نقود للاستعداد. وسأرسل إليك نفقات الرحلة والتعليمات في محطة القطار.
وبدأ ذو الوجه الملائكي يشعر بدقات ساعة في باطن الأرض تشير إلى مرور الوقت المحتوم. ومن خلال نافذة مفتوحة على مصراعيها، مدت عيناه، تحت حاجبيه السوداوين، نظرهما ورأتا ركية نيران تتوقد إلى جوار دغل من أشجار السور الخضراء الداكنة وجدرانا من الدخان الأبيض، في وسط فناء شبه مطموس المظهر وسط الظلمة المطبقة. وكانت ثمة مجموعات من الحراس واقفة هناك تحت النجوم البازغة. ووقف أربعة أطياف لقسس في جوانب الفناء، الأربعة يرتدون طحالب كالعرافين الباطنيين، والأربعة ذوو أياد مغطاة بجلد الضفادع الأخضر الصفراوي، والأربعة عيونهم مغلقة في الجانب المشرق من وجوههم، ومفتوحة في جانبه المظلم. وفجأة، دوي قرع طبول: طم طم، طم طم، طم طم، وظهر عدد كبير جدا من الرجال متخفين في صورة حيوانات، يتقافزون في صف يسير الواحد منهم فيه خلف الآخر. ومن وسط عصا الطبول النابضة الملطخة بالدماء، هبطت سرطانات البحر من الهواء الساقط وجرت الديدان من النيران الساقطة. ورقص الرجال، حتى لا يظلوا مزروعين في الرياح، على إيقاع الطبول، وهم يغذون ركية النار بزيوت «التربنتينا» الساقطة من جباههم. ومن وسط الظلال التي لها لون الروث، بزغ رجل ضئيل الحجم ذو وجه يماثل الفاكهة المجففة، ولسانه مدلى بين فكيه، والأشواك على جبهته، وليس له آذان، يرتدي حول سرته حبلا من الصوف تتدلى منه رءوس محاربين وأوراق القرع العسلي. وذهب ينفخ في النيران المتجمعة، وبعث بهجة عمياء في نفوس الرجال الحيوانات إذ تناول بعض النار في فمه ولاكها بين أسنانه كما لو كانت قطعا من اللادن دون أن يحترق. وصدرت صيحة من الظلمة التي تلف الأشجار، وارتفعت من هنا ومن هناك أصوات الحداد من القبائل التي كان رجالهم يتحاربون ويتقاتلون فيما بينهم منذ الميلاد: بأحشائهم، فقد كانوا رجالا حيوانات؛ وبجلودهم، فقد كانوا طيور العطش ؛ وبخوفهم، وبقيئهم، وبحاجاتهم الجسمانية، ضارعين إلى «توهيل» - واهب النار - أن يرد عليهم شعلة النار الموقدة. ووصل «توهيل» ممتطيا نهرا من صدور الحمامات يفيض كاللبن. وهرعت الغزلان إليه حتى لا يتوقف سيل المياه، وكانت قرونها في رقة الأمطار، وسقطت حوافرها الصغيرة على الرمال البهيجة في خفة الهواء. وهرعت الطيور إليه حتى لا يتوقف خيالها السابح على صفحة المياه طيور عظامها أرق من الريش الذي يغطيها. وترددت وقع أقدام من أعماق الأرض: راتبلان ... راتبلان ... راتبلان!
وطلب «توهيل» قرابين بشرية. وعرضت القبائل أمهر صياديها في محضره، وسهامهم مشرعة في الهواء ومقاليعهم معبأة.
وسأل «توهيل»: وهل يصطاد هؤلاء الرجال رجالا آخرين؟
Unknown page