فرد الأمريكي وغليونه في فمه وإحدى عينيه نصف مغلقة، والأخرى، زرقاء ناصعة، تحدق في شعلة الكبريت الصفراء الصغيرة: ثمانية عشر. - وإنك محق تماما في ذلك، فالويسكي مشروب رائع، أليس كذلك؟ - لا علم لي! عليك أن توجه هذا السؤال إلى الناس الذين لا يشربونه انطلاقا من يأسهم الكامل مثلي. - لا تقل هذا يا مستر جنكيز. - لماذا لا أقول ذلك ما دمت أعتقده حقا؟ في بلادي، كل شخص يقول ما يراه حقا. تماما. - إن هذا ميزة رائعة. - أوه كلا، إني أفضل ما تسيرون عليه هنا. إنكم تقولون ما لا تعتقدون، ما دام أنه جميل جدا. - إذن ففي بلادك لا تتداولون الحكايات؟ - أوه كلا، على الإطلاق، ما عدا حكايات الإنجيل! - كأس آخر يا مستر جنكيز؟ - أجل، أظن أنني سآخذ كأسا آخر من الويسكي! - برافو! إني أحب ذلك، إنك رجل على استعداد لأن تموت من أجل مبادئك. - كيف هذا؟ - لقد قال صديقي إنك رجل على استعداد للموت. - أجل، لقد فهمت ما قال عن الموت في سبيل المبادئ. كلا، إنني رجل يعيش في سبيل مبادئه. إن الحياة تضطرم في عروقي. أما الموت فلا أهمية له عندي، فسوف أموت حين يشاء الله. - إن المستر جنكيز يريد أن تمطر السماء «ويسكي»! - «كلا، كلا، لماذا؟ حينئذ لن يبيع أحد مظلات بل سيبيعون أقماعا!» ثم أضاف بعد فترة جذب فيها أنفاس غليونه وتنفس في رقة بينما ضحك الآخرون: «إن ذا الوجه الملائكي شاب طيب، ولكنه إذا لم يفعل ما قلت له فلن يغفر له، بل سيقضى عليه بدلا من ذلك».
وفجأة، دخلت البار جماعة من الرجال في صمت. كانوا مجموعة كبيرة لدرجة تعذر معها دخولهم جميعا من الباب مرة واحدة. وبقي معظمهم واقفا لدى الباب أو بين المناضد أو بالقرب من حافة البار. لن يطول مقامهم في البار لذلك فالأمر لا يستحق الجلوس. وصاح رجل قصير نوعا ما، مسن نوعا ما، أصلع نوعا ما، عليه دلائل الصحة نوعا ما، مجنون نوعا ما، غليظ الصوت نوعا ما، قذر نوعا ما: «صمتا!»، ثم بسط إعلانا مطبوعا كبيرا، وعاونه اثنان آخران من تثبيته على إحدى المرايا بالشمع الأسود. أيها المواطنون:
إن مجرد النطق باسم السيد رئيس الجمهورية هو بمثابة إلقاء نور مشاعل السلام على المصالح المقدسة للأمة التي غزت تحت حكمه الحكيم وستظل تغزو - أوجه التقدم في جميع المجالات، والنظام في كل شكل من أشكال التقدم! وبوصفنا مواطنين أحرارا، واعين بالتزامنا بالسهر على مصيرنا (الذي هو مصير الأمة أيضا)، وبوصفنا رجالا نقف في صف الخير ونعادي الفوضوية، فإننا نعلن: إن خير الأمة هو في إعادة انتخاب رئيسنا العظيم ولا شيء غير إعادة انتخابه. إذ لماذا تخاطر بسفينة الحكم في بحار مجهولة، حين يكون قائما على دفتها أكمل رجل دولة في عصرنا، ذلك الذي سيضعه التاريخ عظيما بين العظماء، حكيما بين الحكماء، حرا، مفكرا، ديمقراطيا؟ إن مجرد تصور وجود شخص غيره في هذا المنصب الخطير يصل إلى حد التعرض لمصير الأمة (الذي هو مصيرنا نحن أيضا)، وإن من يجرؤ على ذلك بافتراض وجوده يستحق عزله بوصفه مجنونا خطيرا، فإذا لم يكن مجنونا، فهو يستحق أن يقدم للمحاكمة بوصفه خائنا لوطنه طبقا للقانون! أيها الأخوة المواطنون: إن صناديق الانتخاب تنتظركم.
انتخبوا! مرشحنا! الذي! سيعيد الشعب! انتخابه!
وأثارت قراءة هذا المنشور بصوت عال كثيرا من الحماس العام في البار؛ وانبعثت صيحات وتصفيق. وبناء على طلب الجمهور، نهض رجل لا أثر للعناية في ملابسه، طويل الشعر أسود، جامد العينين، لإلقاء كلمة: «أيها المواطنون: إنني أفكر كشاعر ولكني أتحدث كمواطن وطني! الشاعر هو رجل اخترع سماء، ولذلك يجب عليكم الاستماع إلى خطبة لا نظام فيها من الرجل الذي اخترع ذلك الشيء الجميل الذي لا نفع فيه والذي نسميه «سماء». حين كتب ذلك الألماني الذي لم يفهمه الألمان، كلا إني لا أعني بذلك «جيته» ولا «كانط»، ولا «شوبنهاور»، عن الرجل الخارق (السوبرمان) فإنه كان يتنبأ بلا شك بأنه سيولد في أمريكا، من الأب الكون ومن الطبيعة الأم أول «سوبرمان» حقيقي على الأرض. إنني أتحدث أيها السادة عنه، عمن يفوق الفجر إشراقا، عن الذي خلع الوطن عليه لقب «صاحب الجدارة والاستحقاق»، عن رئيس الحزب وحامي حمى الشباب المجتهد. إن من أتكلم عنه أيها السادة، كما لا شك قد أدركتم، هو رئيس الجمهورية الدستوري، الذي أشير إليه بوصفه «سوبرمان»، المخلوق الخارق الذي كتب عنه «نيتشه» ... إني أقول وأردد ذلك من على هذه المنصة». وحين قال هذه العبارة، دق على نضد البار بقبضة يده. «ولهذا أيها المواطنون، فرغم أنني لست ممن اتخذ السياسة معاشا، فإنني أؤمن إيمانا موضوعيا تاما مخلصا بأنه نظرا لعدم وجود «سوبرمان» أو «سوبر مواطن» آخر بيننا، فإنا نكون مجانين أو عميانا، عميانا أو مجانين على نحو إجرامي، إذا نحن سمحنا بأن تنتقل أعنة الحكم من يد ذلك «السوبر قائد» الذي يقود وطننا الحبيب الآن وإلى الأبد، إلى يد مواطن آخر، مواطن عادي، إلى مواطن، أيها الأخوة المواطنون، حتى لو كان يتمتع بكل الخصال الحميدة على الأرض، فلا بد أنه لا يزال مجرد إنسان. وهناك في قارة أوروبا العتيقة المستنفدة، قضت الديمقراطية على كثير من الأباطرة والملوك، ولكن علينا أن ندرك - وإننا لندرك - أنه وقد انتقلت الديمقراطية إلى قارة أمريكا. فهي: قد حقنت بطعم «السوبرمان»، الذي يكاد يكون إلهيا، وأنها تتبنى شكلا جديدا للحكومة هو «السوبر ديمقراطية». والآن، أيها السادة، سأتشرف بأن أنشد لكم ...».
وصاح صوت: «أنشد أيها الشاعر، ولكن شيئا غير القصيدة!» - «... ليلية»، من «سي مايو»، موجهة إلى «السوبر فريد».
وتبع قطعة الشاعر الرائعة خطب أخرى أكثر حماسة منها، تهدف إلى الهجوم على الحزب الآخر «الشائن»، الذي يساند أمية «سان خوان»، ونظام التعاويذ والسحر وغيرهما من الملطفات الدينية. وأخذ أنف أحد الخطباء ينزف، وصاح عاليا بين الكلمات كيما يحضر له أحدهم «قالب آجر»، منقوع في الماء حتى يشمه ويوقف النزيف بذلك.
قال «مستر جنكيز»: الآن يكون ذو الوجه الملائكي بين الحائط والرئيس. إني أحب الطريقة التي يتحدث بها هذا الشاعر، غير أني أعتقد أن كون المرء شاعرا هو أمر محزن للغاية؛ أما أن يكون المرء محاميا فهو أشد الأمور بعثا للحزن في الدنيا. والآن، سأطلب كأسا آخر من الويسكي. وصاح: «ويسكي آخر لهذا «السوبرمان»!»
وحين كان ذو الوجه الملائكي يغادر مقهى «غامبريناس»، قابل وزير الحربية. - إلى أين أنت ذاهب يا جنرال؟ - لمقابلة السيد الرئيس ... - إذن فلنذهب معا. - أأنت ذاهب إلى هناك أيضا؟ إذن فلننتظر عربتي فلن يطول غيابها. بيني وبينك، لقد كنت الآن لدى إحدى الأرامل . - إني أعرف أنك مغرم بالأرامل الطروبات يا جنرال. - هيه، هيا، دعك من مداعباتك تلك. - لم أكن مداعبا، بل هي ملاحظة بسيطة. - إنها ليست بالبسيطة، بل هي جديرة بالملوك! - حقا؟
وسارت العربة في سكون كما لو كانت مصنوعة من ورق النشاف. كان الحراس مزروعين في أركان الطرقات، وسمعاهم ينقلون الإشارة فيما بينهم: «وزير الحربية»، «وزير الحربية».
Unknown page