ولم يلتفت أحد إلى احتجاجات العميان. أما ملاحظة «الذبابة» فلم يكد يسمعها أحد. ومن ذا الذي يهمه الترهات التي يرددها: «أنا الذي قضيت طفولتي في معسكر المدفعية، وقد صنعت أقدام البغال ورفسات الضباط مني رجلا. رجلا يستطيع أن يعمل كالحصان، وهذا ما نفعني حين اضطررت إلى أن أجر آلة الموسيقى في الشوارع؛ أنا الذي فقدت بصري في إحدى الحانات، ولا أعلم كيف، وساقي اليمنى في حانة أخرى، ولا أعلم متى، وساقي الأخرى في حانة ثالثة، ضحية سيارة، ولا أعلم أين»!
وذاع بين سكان الحي على لسان الشحاذين أن الأبله يفقد صوابه إذا ذكر أحد أمه أمامه، وكان هذا التعس يطوف الشوارع والميادين والساحات والأسواق محاولا الهرب من الدهماء الذين يصيحون به هنا وهناك بكلمة «أماه»، كأنما هي لعنة من لعنات السماء. وكان يدلف إلى المنازل محاولا الاحتماء فيها، ولكنه يعود إلى الطريق حين يطرده منها الكلاب تارة والخدم تارة أخرى. كانوا يطردونه من الكنائس، ومن الحوانيت ، ومن كل الأنحاء، دون اعتبار للتعب الذي يأخذ بخناقه، ولا لعينيه اللتين كانتا تتضرعان دونما شعور طلبا للمغفرة.
وأخذت المدينة الكبيرة، التي كانت تزداد كبرا بالنسبة إلى شدة تعبه، تتضاءل وتتضاءل أمام ما يشعر به من يأس. كانت ليال من الفزع تتتابع بعد أيام من الاضطهاد، حيث كان يطارده أناس لا يكتفون بالصياح في وجهه: «سوف تتزوج أمك يوم الأحد القادم أيها الأبله الصغير ... أمك العجوز ... ها ... ها ... ها!» ولكنهم كانوا يضربونه أيضا ويمزقون ملابسه. وحين يطارده الأطفال كان يلتجئ إلى الأحياء الفقيرة ... ولكن مصيره فيها لم يكن أقل سوءا. كان الناس هناك يعيشون في وهدة من الفقر المدقع، ولم يكتفوا بقذفه بالإهانات، ولكنهم كانوا يرجمونه أيضا بالحجارة وبالفئران الميتة وبعلب الصفيح الفارغة، بينما هو يجري أمامهم في رعب وفزع.
وفي يوم من الأيام، عاد من تجواله في الضواحي إلى «رواق الرب» حين كان جرس صلاة الظهيرة يدق، وكان عاري الرأس جريح الجبهة، يجر خلفه ذيل قطة ربطوه إلى قدمه للسخرية منه. كان كل شيء يثير فيه الفزع: ظلال الجدران، الكلاب التي تجري، الأوراق التي تتساقط من الأشجار، ضجيج عجلات السيارات. وحين وصل إلى الرواق، كان الظلام قد انسدل، وكان الشحاذون يجلسون ووجوههم إلى الحائط يحصون مكاسبهم. كان «ذو القدم المسطوحة» يتشاجر مع «الذبابة»، بينما الصماء البكماء تتحسس بطنها المتكور، والعمياء معلقة في أحلامها من الخطاف يغطيها الذباب كأنها قطعة من اللحم في حانوت الجزار. وسقط الأبله على الأرض كأنه قد مات. لم يكن قد أغلق عينيه منذ عدة ليال، ولا أراح قدميه أياما. كان الشحاذون يهرشون مكان لدغات القمل في صمت، ولكن لم يكن في استطاعتهم النوم. كانوا ينصتون إلى خطوات رجال الشرطة يذهبون هنا وهناك في الميدان الذي تشوبه الظلمة، وأصوات رجال الدوريات وهم يتبادلون السلاح ويقفون وقفة انتباه كأنهم الأشباح في عباءاتهم المخططة أمام نوافذ الثكنات المجاورة، وهم يقومون بنوبة حراستهم الليلية في خدمة رئيس الجمهورية. لم يكن أحد يعرف أين هو، فقد كان يشغل عدة منازل خارج المدينة في نفس الوقت؛ ولم يكن أحد يعرف كيف ينام، فقد قال البعض إنه ينام إلى جوار الهاتف يحمل سوطا في يده، كما لم يكن أحد يعرف متى ينام؛ فقد كان أصدقاؤه يزعمون أنه لا ينام على الإطلاق.
وتقدم شبح شخص إلى «رواق الرب». وأقعى الشحاذون على أنفسهم مثل الديدان، وأجاب على صرير الأحذية العسكرية نعيق طائر مشئوم في ظلام الليل الساري العميق.
وفتح ذو القدم المسطوحة عينيه. كان ثمة خطر ماثل يهدد بنهاية العالم. وقال للبومة: «ها ... ها ... افعلي ما تشائين. إني لا أريد بك خيرا ولا شرا. ولكن فلتذهبي إلى الشيطان رغم هذا.»
وتحسس «الذبابة» وجهه بيديه. كان الهواء ثقيلا كأنما ثمة زلزال على وشك أن يقع. ورسم «فيودا» علامة الصليب وهو يجلس وسط العميان. وكان الأبله هو الوحيد الذي يغط في نوم عميق.
وتوقف الشبح، وارتسمت ابتسامة على وجهه. وسار نحو الأبله على أطراف أصابعه، ثم صاح فيه برنة مزاح: «أماه». ولم ينبس ببنت شفة بعد ذلك، فقد نهض الأبله من على الأرض بفعل ذلك النداء ووثب فوق الشبح دون أن يعطيه أي فرصة يستخدم فيها سلاحه، ودفع أصابعه في عينيه وهشم أنفه بعضاته، ورفسه أسفل بطنه بركبتيه إلى أن تركه جثة هامدة بلا حراك.
وأغلق الشحاذون أعينهم في رعب. وعبرت البومة المكان مرة أخرى، وهرب الأبله عبر الطرقات التي يلفها الضباب وقد أعماه الخوف والجنون. كانت قوة عمياء قد انتزعت لتوها الحياة من الكولونيل «خوسيه بيراليس سونرينتي». الذي يكنى «الرجل ذا البغل الصغير». وكان هو الرجل الذي قتله الأبله في سورة غضبه وجنونه.
وكان الفجر يقترب.
Unknown page