100

Sayyid Rais

السيد الرئيس

Genres

وحين دخل القس - تتبعه بعض النسوة من الجيرة من المدمنات حضور مشاهد الاحتضار - انتزع ذو الوجه الملائكي نفسه من رأس السرير الذي تنام عليه كميلة، وبدت وقع خطواته كانتزاع الجذور العميقة من تربتها. وأحضرت صاحبة الحانة كرسيا للقس، ثم انسحب الجميع من الغرفة.

وبدأت تتمتم كلمات الاعتراف الأخير: أنا، الخاطئة، أعترف لله ب ... - باسم الأب والابن والروح القدس ... يا ابنتي، كم مضى عليك منذ أن اعترفت آخر مرة؟ - شهران. - وهل أديت طقوس التوبة؟ - أجل يا أبي ... - اسردي خطاياك ... - أعترف يا أبي، أني كذبت ... - بشأن موضوع خطير؟ - كلا. وإني عصيت والدي، و... «تك، تاك، تك، تاك، تك، تاك.» - وأعترف يا أبي، إنني ... «تك، تاك.» - لم أحضر بعض القداسات ...

وبدا كأن الفتاة المريضة والقس الذي تعترف له يتحادثان في قبو تحت الأرض. كان الشيطان والملاك الحارس والموت حاضرين الاعتراف. وأفرغ الموت نظرته الخاوية في عيني «كميلة»، بينما جلس الشيطان عند رأس السرير يبصق عناكب، وبكى الملاك في أحد الأركان، بنشيج طويل منتحب. - وأعترف يا أبي أنني لم أكن أواظب على تلاوة صلواتي في المساء والصباح، وأنني ... «تك، تاك، تك، تاك.» - ... تشاجرت مع أقراني من الفتيات! - حول أمور تتعلق بسمعتك؟ - كلا ... - يا ابنتي، لقد اقترفت إثما عظيما في حق الله ... - وأعترف يا أبي أنني ركبت الجياد كالرجال. - أكان ذلك أمام الناس، وهل سبب ذلك فضيحة؟ - كلا، لم يكن هناك سوى بعض الهنود. - إذن لقد شعرت أن بوسعك القيام بأي شيء يقوم به الرجال. إن هذا أيضا خطيئة كبرى؛ فإن الله تعالى خلق المرأة كي تكون امرأة، وعليها ألا تحاول أن تغير من طبيعتها وتقلد الرجال، فإن هذا هو السير في طريق الشيطان الذي أراد أن يكون مساويا لله جل شأنه.

وفي الجزء الآخر من الغرفة، أمام النضد الذي غطوه كيما يصبح كمذبح الكنيسة، بما عليه من زجاجات من كل صنف ولون، كان ذو الوجه الملائكي «ولامسكواتا» والجيران ينتظرون، لا ينطقون حرفا بل يتبادلون نظرات مليئة بالخوف والرجاء، ويزفرون سيمفونية من النهدات، ثقيلة بما تحمله من فكرة الموت الخانقة. وأظهر الباب الموارب لمحة من الطريق ساطع النور، وفناء كنيسة «لامرسيد»، وبعض المنازل وحفنة من المارة. وشعر ذو الوجه الملائكي بالألم لرؤية هؤلاء الناس يروحون ويغدون بلا اكتراث رغم أن «كميلة» تحتضر - وهم كحبات رمال ثخينة في غربال شمسي، أشباح تسيطر عليها روح التعقل، مصانع براز متنقلة ...

وجر صوت القس سلاسل صغيرة من الرنين خلال الصمت الذي يسود الحجرة. وسعلت المريضة. وقطع الهواء طبول رئتيها . - أبتاه، إني أعترف بكل الخطايا الصغيرة والكبيرة التي اقترفتها ونسيتها.

وتلا ذلك عبارات الغفران باللاتينية، واختفاء الشيطان مهطعا، وظهور الملاك كهالة من نور كيما ينشر جناحيه الأبيضين فوق «كميلة». وينهي غضب ذي الوجه الملائكي من المارة غير المبالين، ومن كراهيته الصبيانية الممزوجة بالحنان، ويجعله يفكر - إذ إن الرحمة لها دروب خفية - في أن يعمل على إنقاذ رجل يتهدده خطر الموت، فربما يمنحه الله حياة «كميلة» في مقابل ذلك، رغم أن الأمر يبدو مستحيلا من وجهة نظر العلوم الطبية.

وخرج القس في صمت، وتوقف على عتبة الباب ليشعل سيجارة من ورق الذرة ويلملم أطراف مسوحه الكهنوتي؛ فقد كان القانون يلزمه بأن يبقيه مختفيا تحت عباءته ما دام في الطريق. كان يبدو رجلا مسالما وديعا عذبا. وذاعت الأنباء بأنه قد استدعي كيما تعترف له امرأة تحتضر. وغادر الجيران البيت بعده، كما خرج ذو الوجه الملائكي كي ينفذ خطته في إنقاذ رجل. «حارة المسيح»، «الحصان الأبيض»، ثم «ثكنات الكلفاري». وهناك سأل ذو الوجه الملائكي العريف الذي يقوم بالحراسة عن الميجور «فارفان»، فقال له أن ينتظر، ودلف جندي إلى الداخل مناديا: الميجور «فارفان»! الميجور «فارفان»!

ومات صوته في الفناء الرحيب دونما جواب. ولم يرد عليه سوى أصداء صوته التي ترددت وسط المنازل البعيدة: جور فان فان! جور فان فان!

ووقف المحبوب ينتظر على بعد خطوات قليلة من الباب، دون أن يتجاوب مع ما كان يجري حوله. كانت الكلاب والنسور تتشاجر على قطة ميتة ملقاة وسط الطريق. وفي مقابل هذا المشهد مباشرة كانت ثمة نافذة ومن ورائها ضابط يتسلى بمراقبة المعركة الشرسة وهو يفتل طرفي شاربه. وكانت ثمة سيدتان تحتسيان عصير الفاكهة في حانوت صغير يموج فيه الذباب. ومن الباب الخارجي للمنزل التالي خرج خمسة صبية صغار يرتدون ملابس البحارة، يتبعهم سيد شاحب كالكرنبة وسيدة حبلى (بابا وماما). وشق جزار طريقه وسط الصبية وهو يشعل سيجارة؛ كانت ملابسه تغطيها بقع الدماء، وقد شمر عن ساعديه، وحمل ساطوره الحاد بالقرب من صدره. وكان الجنود يروحون ويغدون ، وثمة خيط متعرج من آثار أقدام حافية مبللة فوق القرميد الذي يغطي الصالة الداخلية ثم يختفي في الفناء. وصلصلت مفاتيح الثكنة وهي تصطدم ببندقية الحارس إذ كان واقفا انتباه إلى جوار ضابط الحراسة الذي كان يجلس على مقعد حديدي في وسط حلقة من كتل البصاق.

ودلفت إلى المكان عجوز بيضاء الشعر، تمشي الهوينا كالغزال الصغير، جلدها في لون النحاس المحروق بفعل الشمس وقد غضنته السنون، واتجهت إلى الضابط وغطت رأسها بشالها القطني في احترام وقالت له متضرعة: عفوا يا سيدي، إني أرجوك بحق الرحمة أن تدعني أتحدث مع ابني، وستكافئك العذراء على صنيعك.

Unknown page