بقيت ساي في الحالة الحرجة لمدة ثمان وأربعين ساعة لم أفارق خلالها المستشفى ولو لساعة واحدة. كنت هلعا مخافة فقداني لساي، الأنثى الوحيدة التي استطاعت دخول قلبي وحياتي بعد نصف قرن من الحياة، الأنثى الوحيدة التي أردت أن أكمل حياتي معها، كانت ساي الوحيدة التي استطاعت أن تقنعني أن السعادة بسيطة وتأتي من أمور بسيطة، فتذوق وجبة طعام لذيذة كانت سعادة لدى ساي، نهاية سعيدة لرواية تقرؤها كانت سعادة أيضا، أمور بسيطة جدا ولكنها كانت تخلق السعادة لدى ساي على عكسي سابقا حيث لم أشعر بالسعادة إلا بإنجازاتي العظيمة، كنت أعتبر أن السعادة تنبع من الإنجاز فقط؛ لذا عشت حياتي في سباق مع نفسي، كانت ساي على اطلاع بطبيعتي؛ لذا حين رأت ردة فعلي اتجاه الطفل حللتها وفسرتها نفسيا أن كبريائي لن يسمح لي بتقبل طفل مريض يعاني، فساي طبيبة نفسية، وعبثا كانت كل تبريراتي التي أبرر بها لنفسي.
بعد استيقاظها من الغيبوبة باءت كل محاولاتي في مواساتها بالفشل، كانت ترفض سماعي، ترفض حتى الطعام، كانت معنوياتها محطمة خاصة بعد إخبارها بأنهم اضطروا لاستئصال الرحم لإنقاذها، لم يتعامل معها الطبيب بالطريقة التي يتعامل بها مع باقي المرضى، فكر فقط أنها طبيبة مثله بل أيضا طبيبة نفسية، إذن هي قادرة على تلقي الصدمات بشكل أفضل من غيرها، فمهمتها هي إخراج الناس من صدماتهم ومن اكتئابهم، ألن تستطيع إنقاذ نفسها إذن! نسي أنها أنثى، أنها تحتاج لأن تكون أما، نسي أنهم استأصلوا جزءا من كيانها.
استمر الحال لأسبوع مع ساي، لا تنطق بحرف وترفض الطعام؛ لذا قاموا بتركيب المحاليل الغذائية لتصلها عبر الدم مباشرة. كانت ساي تستيقظ وتركز نظرها على جهة معينة، غالبا نحو الحديقة، تغالبها دموعها ثم تعاود النوم. في البداية حاولت التحدث معها لكن وجدت ألا جدوى من المحاولة، كانت كالأطفال تماما، تضع يديها على أذنيها ثم تضع رأسها في حجرها وتبكي بصوت عال كالعويل تماما؛ لذا بعد أربع محاولات في يومين متتاليين توقفت وتركتها على راحتها كما ترغب هي. كنت موجودا معها في المستشفى، ولكني أعتقد أني بالنسبة إليها لست إلا كأي قطعة أثاث في الغرفة، لم تعرني أي انتباه. في نهاية الأسبوع وبعد خمسة أيام من الصمت القاتل بالنسبة إلي، حاولت أخيرا التحدث مع ساي، حاولت أن أكسر جدار الصمت بيننا، في البداية لم تجبني ولم تعطني أي اهتمام ولكن مع إصراري الشديد على محادثتها التفتت إلي قائلة: ألا يكفيك ما حدث؟ ها قد حرمت من الأطفال مدى الحياة، ألم تكن هذه رغبتك منذ البداية؟!
صدمت، توقعت كل شيء إلا أن تأتيني إجابة كهذه، هل هذا حقا تفكير ساي بي الآن؟! أم أنه مجرد تنفيس عن غضبها؟!
لم أستطع الرد عليها بشيء فماذا ستنفع الإجابات والتبريرات والتوضيحات أمام تفكير كهذا! وإن كان مجرد تنفيس عن غضبها فالأفضل أن أنتظرها حتى تهدأ، حتى توقن أنها ليست الضحية وأن الجميع تآمر على طفلها، حتى تدرك أن هذا هو قدرنا معا وليس قدرها وحدها، حتى تدرك أن الطفل هو طفلي أيضا وأنها خسارة لي أيضا، ولكن لن تنفع أي من هذه التفسيرات؛ لذا فضلت الصمت وغادرت الغرفة. كنت أعلم أن ساي ستعاني ولن تتقبل الموضوع أبدا ولكن أن تجعلني المجرم وهي الضحية هذا ما لم أتوقعه ولن أقبله.
ساي
بعد ما حدث معي لم أستطع احتمال الصدمة، قررت الابتعاد عن كل شيء، عن عملي، عن أصدقائي ومجتمعي، والأهم من هذا وذاك قررت الابتعاد عن هيروكي، أخبرته أن كلماته لن تجدي نفعا معي الآن وأني لا أرغب بنظرة شفقة تزيد من تعاستي.
وافقني هيروكي لأنه أيقن أن لا طائل من مناقشتي وجدالي، فبالفعل لم تعد تجدي معي الكلمات نفعا، كان ألمي شديدا، أشد من أن أحتمله مع كل ما احتملته سابقا، وكل ما استطعت تخطيه، إلا أني قررت عدم التخطي هذه المرة. انزويت في ذاك المخبأ الصغير في داخلي وقررت البقاء فيه، لم أعد أرغب في الخروج من ذاك المخبأ؛ فقد كان يمثل منطقة الراحة لي، على الرغم من أني في الأربعينيات إلا أني أحلم كل يوم بالاختباء في حجر والدتي والبكاء عليه، أو الاتكاء على كتف والدي لأبوح له عما في داخلي. كنت أشعر بالوحدة القاتلة على الرغم من أني كنت الإنسانة الأكثر اجتماعية، لكني الآن وصلت لنقطة أعلن فيها أني تعبة من كل شيء ومن اللاشيء. كان أكثر ما يحزنني أني لا أجد كلمات تعبر عن مشاعري، عن ألمي، أنا ساي الطبيبة النفسية التي عالجت أكثر من مائة حالة اكتئاب، أقف الآن أمام نفسي عاجزة عن الأخذ بيدي، أبحث عن كتب تشرح ألمي فلا أرى، أبحث عن أغاني وأشعار تصف حالتي فلا أسمع إلا أغاني وأشعارا عن الأحباء وفراقهم، وكأن ألم الحياة يقتصر على فراق شخصين فقط، ألم يفكروا أن يكتبوا عن الآلام الأخرى!
بقيت على هذه الحال قرابة السنة، يتردد هيروكي في زيارتي مرتين في الأسبوع، يعد لي طعامي، يأكل معي، لا أبادله أي حديث. مع مرور تلك المدة الطويلة التي أمضيتها بالاكتئاب، اكتشفت أن أسهل ما يستطيع الإنسان فعله هو أن يدمر نفسه بنفسه، وها أنا ذا أقوم بذلك منذ سنة وما زالت مستمرة، اكتشفت لم لم ينجح العلاج مع بعض مرضاي، لم لم أستطع إخراجهم مما هم فيه، فربما كانوا في منطقة الراحة لديهم ولا يريدون الخروج منها، بل على العكس كانوا يخافون من الأشخاص الذين يرغبون بمساعدتهم، لأنهم يعتبرون أنهم يريدون إخراجهم من مناطق راحتهم الخاصة.
كانت جميع الأيام متساوية بالنسبة لي، لا أعياد ميلاد تعنيني، لا مناسبات خاصة تهمني، كل الأيام متساوية ما عدا يوما واحدا فقط، هو يوم إجهاضي لطفلي واستئصال الرحم، كان هذا اليوم بالنسبة لي هو الإعلان لهزيمتي بحربي، كنت أعتبر نفسي في معركة أنا وهذا الجنين، وحين خسرته استسلمت، لم يعد هناك شيء لأقاتل من أجله في هذه الحياة، رفعت الراية البيضاء وانزويت في جحري معلنة توقفي عن الحياة، بين الحين والآخر كانت تخطر لي أفكار سوداء عن إنهائي لحياتي ولكني كنت خائفة، لم أكن أمتلك شجاعة الانسحاب، أو ربما في أعماق أعماقي كان هناك ضوء أبيض خافت يحاول بين الحين والآخر انتزاعي مما أنا فيه.
Unknown page